|
الحكيم العربي محيي الدين بن عربي إنَّه الحكيم العربي الذي أحدَثَ تكاملاً
حقيقيًّا ولقاءً جوهريًّا بين تنوُّعات أهل
العرفان وسائر العقائد والمذاهب العالمية
التي دَعَتْ إلى "الواحدية التأليفية"
أو "الواحدية الوجودية" للحقيقة
المعروفة بـ"وحدة الوجود" في دين الحبِّ
والمحبة. توطئة البحث في حكمة
ابن عربي، والتعمُّق في معرفة ينابيع أو
مصادر أو قَرابات هذه الحكمة، قضية تتطلب
جهدًا كبيرًا، وفهمًا شاملاً ومعمَّقًا،
لجميع التيارات الفكرية والعقائدية. لذا
أعتبر مقالي هذا مجرَّد "إلماعات" عابرة
تجذب انتباه الباحث أو الدارس إلى إدراكٍ
أوسع، يتخطَّى الشروح والتفاسير والتعليقات
الخاصة أو العائدة إلى منهج معين. يُعَدُّ هذا
البحث مدخلاً متواضعًا إلى النطاق الأوسع
الذي تتألق فيه حكمة ابن عربي، وحافزًا إلى
المزيد من التساؤل والفهم المعمَّق وإعادة
النظر في العديد من الطروحات السابقة. وإذا
كنت قد ألمعتُ إلى مضامين حكمته برمزية تكاد
تعادل رمزيةَ كتاباته فلأنني أسعى إلى بلوغ
سرَّانية حكمته من خلال هذه الرمزية. والحق أن
الحوار – وليس الجدل والنقاش المتحيِّز –
كفيل بتوضيح الصعوبة الكامنة التي تكتنف
أحكام هذا الحكيم وتجربته الصوفية التأليفية
الأصيلة التي تشير إلى "الواحدية الوجودية". مقدمة أحب أن أبدأ
القسم الأول من مقالي بتصوري لحكمة ابن عربي،
منوِّهًا إلى المصادر التي استقى منها حكمته،
أو مدارس الحكمة الأخرى التي تتصل بفكره أو
تتوافق، على نحو مقاربة، مع وجهة نظره
التأويلية. وفي تصوري هذا أعبِّر عن موقفي من
إجمال حكمته في إيجاز يبلغ تخوم الغموض
والتساؤل. ويُعَدُّ هذا التصور مقدمة للبحث
تقوم مقام النتيجة والخلاصة. وسوف أعمد، في
القسم الثاني من هذا المقال، إلى التحدث،
بأسلوب تقليدي، عن حياة هذا الحكيم العربي
المبدع وصوفيَّته العميقة. في محاضرة
ألقيتُها سابقًا، تحدثت عن "المادة والوعي
في تنوعات الحكمة الشرقية". ولما كان "الشرق"،
وفق المفهوم التقليدي للمصطلح، يشتمل على
منطقتنا العربية ويمتد إلى الشرق الأقصى، فقد
عمدت إلى اختيار فلاسفة–حكماء يمتُّون
بِصِلَة إلى مدارس الحكمة اليابانية
والصينية والهندوسية والعربية.[1]
والحق أنني لم أجد بين الفلاسفة–الحكماء
العرب المسلمين من هو أجدر من ابن عربي، أكتشف
فيه مفهوم أو تصور المادة والوعي أو العالم
والوعي. وفي هذا السياق، أقتطف من محاضرتي
السابقة جزءًا من الحديث عن هذا الحكيم
المستنير. في تلك
المحاضرة ذكرت ما يلي: نجد تصور أو مفهوم
المادة والوعي في الشرق عند العديد من
الفلسفات المعروفة والمرموقة. وفي سبيل
الوضوح، أذكر اثنتين منها: 1.
حكمة ابن
عربي؛ 2.
حكمة تشو تسُه، أعظم فيلسوف–حكيم
صيني للكونفوشية المحدثة. ومن العبث
القول إن تقديمي لهما ينحصر، بالضرورة، في
خلاصة موجزة وبسيطة. القرابة
الفكرية القائمة بين الحكيمين تتمثل أولى
هاتين الحكمتين – وهي الحكمة الداعية إلى "الواحدية
الوجودية" – بابن عربي، الحكيم العربي
المسلم الذائع الصيت. وقد عُرِفَتْ حكمتُه بـ"وحدة
الوجود". وكما يشير هذا التعريف، يقتضي
الأمر إعادة بناء الرؤية أو المنظور الذي
تبنَّاه "الغنوص" العرفاني للحقيقة التي
يدعوها ابن عربي "الوجود". فبهذا المصطلح
يقصد ابن عربي الطاقة الكونية الحية التي
تُواصِل الفيض أو الإبداع المعروف بالتكوين
عبر سيرورة ظهورات وتجلِّيات ذاتية
أونطولوجية تدريجية تنكشف في بنية تراتبية
هرمية لكلِّ أشكال الوجود أو الكينونة، بدءًا
بالصور الميتافيزيائية وانتهاءً بالعالم
المادي. أكد ابن عربي
– وهو مستيقن مما انكشف له في خبراته
التأملية الخاصة – أن العدم، أي "اللاشيء
الميتافيزيائي"، حيٌّ يتميز بإرادة أكيدة
تحثه، على الدوام، على الكشف عن ذاته في مراحل
أو مستويات متسلسلة من الفيض أو الإبداع
والتكوين. وتُدعى المرحلة الأولى لهذا الفيض
أو الإبداع الذاتي للكشف بـ"الواحدية
الوجودية" أو "الواحدية التأليفية"
للكائن. وفي هذا الفيض أو الإبداع يتحول
الوجود–العدم إلى وجود–وعي، هو وعي كوني
لاظاهراتي، يوحِّده ابن عربي، بوصفه حكيمًا
عربيًّا مسلمًا، مع الوعي الإلهي أو الوعي
الذاتي للإله. تتميِّز حكمة
ابن عربي باعترافها بأن الوجود–الوعي، حتى
ولو ظلَّ في خارجه واحدًا وغير منقسم، يكون في
داخله، على نحو وجود بالقوة، متنوعًا إلى
صور أو أنماط أولية، مثالية أصلية، أطلق
عليها تسمية "الأعيان الثابتة". وفي هذا
المنظور، نعلم أن ابن عربي واحديٌّ في صميمه،
وحكيم يؤمن بـ "الواحدية التأليفية"
للحقيقة، ويعدُّ كلَّ تنوع من التنوعات
الكامنة والممكنة للوجود مثالاً أو نمطًا
أصليًّا، يعيِّن مسبقًا لذاته بأنه سيكون
النطاق الخاص الذي سوف يتجلَّى فيه بأشكال
واقعية وملموسة. وبتعبير آخر، نقول: يتابع
الوجود، وهو يتنوع إلى هذا الطور أو المرحلة
في الأشكال الداخلية للوعي الإلهي، تطوُّرَه
الأونطولوجي حتى المرحلة الأخيرة، حيث ينتشر
أو ينبثُّ في آلاف مؤلَّفة من الظاهرات، بما
فيها المادة والوعي المأخوذين بمعناهما
العاديين. يرى ابن عربي
أن "المادة" التي احتلت موضعها عند
المستوى الأدنى من البنيان التراتبي الهرمي
للوجود، المتدرِّج على نحو متصل، وتشكَّلتْ
من العناصر الأولية – وهي النار والماء
والهواء والتراب – ليست "مادية" بالمعنى
الحرفي للكلمة؛ إذ هي روحية في جوهرها،
حتى لو اتخذت شكلاً، يجدر بي أن
أقارن، بإيجاز بالغ، الأونطولوجيا العرفانية
لابن عربي مع أونطولوجيا عرفانية كونفوشية،
هي أونطولوجيا الـين والـينغ
لمؤلِّفها تشو تسُه (1130-1200)، أعظم فيلسوف–حكيم
صيني للكونفوشية المحدثة. انطلق تشو
تسُه من النقطة ذاتها التي انطلق منها ابن
عربي. وهذا يعني أن الحقيقة الميتافيزيائية
أو المطلقة هي الحدُّ النهائي للتنوع
الأونطولوجي الملازم للمادة والوعي، والفائض
أو المبدع باتجاههما؛ أي الحدُّ الذي يوجد
فيه الوعي في مرحلة تطوره الأونطولوجي
الأخيرة، وقد "تَمَيْدَدَ"، بمعنى أنه
صار "مادة". أسمح لنفسي أن
أقول: تلك هي القَرابة الفكرية القائمة بين
حكمة ابن عربي والحكمة الصينية بخاصة
والهندية بعامة. وقد ارتاب بعضهم بهذه
القَرابة لجهلهم بحقيقة حكمة ابن عربي
التأليفية الشاملة. القَرابات
الفكرية الأخرى ثمة قرابة
أخرى نجدها قائمة بين حكمة ابن عربي وحكمة القبالة[2]
الممثَّلة بالصوفية الإسرائيلية،[3]
المتجاوزة للحرفية التوراتية والتلمودية،
والمضمونة في التأويل لدى الفيلسوف فيلون.
وتُعَدُّ هذه الصوفية الحكمة العرفانية التي
رفضتْها اليهودية ولم تأخذ بها. عندما نتعمق
في فهم مراتب الوجود المعروفة بـ"الفيوض"
ندرك أنها تتماثل أو تتوافق مع تدرُّجات
المستويات المتتابعة والمتصلة، بدءًا من
الحقيقة السامية والمطلقة وانتهاءً بالعالم
المادي. عندما يزداد
تعمُّقنا في فهم حكمة ابن عربي، ندرك أنها
ترتكز، في منطلقها، على العرفان، أي
الغنوص gnosis. ولما كان الغنوص يوطِّد مبدأه الأول على
المعرفة، التي يتأسَّس عليها الإيمان، فقد
جعلت الإيمانَ الحقيقي حصيلةَ العرفان. فبقدر
ما تزداد المعرفة وتتعمَّق يزداد الإيمان
ويقوى. وبالطريقة ذاتها، تتأصَّل حكمةُ ابن
عربي في الغنوص–العرفان. وهكذا يتمثَّل وجود
الإنسان في معرفة الحقيقة الأزلية. وفي هذا
السياق تتصل حكمتُه بالأفلاطونية المحدثة،
الأفلوطينية، المتمثِّلة في تاسوعات
أفلوطين الثلاثية التكوين. يُعَدُّ ابن
عربي نصيرًا لمدرسة التأويل القائم في
العرفان. وإننا نجد التأويل – وليس
التفسير – في المبادئ السرَّانية كافة. والحق
أننا نجد التأويل الناتج عن العرفان في
القبالة التي هي الحكمة المتجاوزة للحرفية
التوراتية والتلمودية. وهكذا يشير التأويل
إلى باطن الحقيقة المتجاوزة لظاهرها الحرفي؛
وأعني بقولي هذا معرفة الظاهر في جوهر وجوده
– هذا لأن الظاهر يتجسَّد في الصورة تمامًا
كما يتمثَّل الباطن في الطاقة، وكما يتمثَّل
الوعي أو الفهم في عمق المعنى، وليس في ظاهر
الكلمة. تُعَدُّ
القبالة حكمةً فيثاغورية معدَّلة وكلدانية
مؤوَّلة من وجهة نظر العدد والحرف. لقد سَعَتْ
القبالة إلى تبرير اعتمادها على العلاقة
القائمة بين الحرف والعدد، والممثَّلة في
انسجام النِّسَب، فعمدت إلى إظهار هذه
العلاقة، تمامًا كما في الحكمة الفيثاغورية
التي أشارت إلى أن العالم عدد ونغم، هو انسجام
هندسي. وبالفعل، تشير القبالة إلى توافق
العدد مع الحرف، بحيث نستطيع أن نعاين المعنى
المتضمَّن في الكلام، وندرك الرمز الذي يشير
إلى السرَّانية والجوهر الروحي. وهذا ما نجده
في حكمة ابن عربي أيضًا. ثمة قَرابة
أخيرة نجدها قائمة بين حكمة ابن عربي
واللاهوت المسيحي الذي تبنَّى ثلاثيات الفيض[4]
أو الإبداع، بدءًا من الألوهة وانتهاءً
بالعالم المادي. وفي هذه القَرابة، نجد الصلة
الفكرية الملازمة للفيثاغورية والقبالة
والغنوصية والمسيحية الأولى. وتتجسَّد هذه
القرابة في ثلاثيات الفيوض والإبداعات. ولما
كنَّا في معرض الكلام على الحرف والعدد فإننا
نركز تصورنا على التثليث كمثال حيٍّ
نعتمده في كتابات ابن عربي. وعلى الرغم من كون
ابن عربي حكيمًا مسلمًا لكننا نجده يعترف بأن
أهل التثليث موحِّدون. يستمد ابن
عربي العلَّة الميتافيزيائية لهذا الرأي –
التثليث، أي القول بنوع من العلاقة الثلاثية
في الوحدة الإلهية، أي وجود التثليث في
الأقانيم واستبعاده في الذات الإلهية[5]
– من الحكمة الفيثاغورية ومن حكمة القبالة
اللتين تشيران إلى أن العدد "ثلاثة" هو
الأصل في الأعداد الفردية. فالعدد "واحد"،
في نظر ابن عربي، ليس وحده في ذاته عددًا، ولا
يفسِّر الكثرة في العالم. فمن "الواحد"
لا يصدر إلاَّ "الواحد". لذا يكون عدد "ثلاثة"
أبسط الأعداد في داخل الكثرة. وهذا يعني أن
العدد "ثلاثة" هو التعيُّن الأول للوجود
كلِّه، وما من شيء يتشكل إلاَّ منه وبه وفيه. في الفتوحات
كتب ابن عربي ما يلي:[6] اعلم
أن "الواحد" لا يكون عنه شيء البتة، وأن
أول الأعداد إنما هو "الاثنان". ولا يكون
عن الاثنين شيء أصلاً ما لم يكن "ثالث"
يزوِّجهما ويربط بينهما ببعض. فـ"الثلاثة"
"أول الأفراد". وفي الكتاب
ذاته أضاف: إن
الموجود الأول، وإن كان واحد العين من حيث
ذاته، فإن له حُكْم نسبة إلى ما ظهر من العالم
عنه؛ فهو ذات وجودية ونسبة. ولا بدَّ من ربط
معقول بين الذات والنسبة حتى تقبل الذات هذه
النسبة. فظهرت "الفردية" بمعقولية
الرابط؛ فكانت "الثلاثة" أول الأفراد.
ولا رابع في الأصل؛ فـ"الثلاثة" أول
الأفراد في العدد، وإلى ما لا يتناهى. أخيرًا، أود
أن أنوِّه إلى أن دراستي لحكمة ابن عربي
وعلاقتها بالمصادر الأخرى، التي ذكرتُها في
هذا المقال الوجيز، تشير إلى أن حكمته لم تكن
واحدية بقدر ما كانت محايثة. والحق أن
الفرق بين الواحدية والمحايثة فرق بسيط
يتجاوز حدود الملاحظة العادية. ففي المحايثة توجد
الحقيقة السامية في العالم وخارج العالم في
آنٍ واحد، على نحو توفيق بين الحلول
والتعالي، وبلغة ابن عربي، بين "التشبيه"
و"التنزيه". فكما ينعكس ضوء القمر في
الماء ويضيء هذا الماء بنوره، كذلك توجد
الحقيقة السامية في العالم وخارج العالم في
آنٍ واحد. هكذا تجمع المحايثة بين الحلولية
والتسامي (أو التعالي) في تأليف واحد. لقد
تبنَّى ابن عربي وحدة الوجود القابلة للترجمة
إلى محايثة عبر "الواحدية التأليفية"،
المعبَّر عنها بالفيوض أو الإبداعات الصادرة
عن الألوهة إلى العالم المادي. *** ننتقل الآن
إلى القسم الثاني من الموضوع المتصل بحياة
ابن عربي، وصوفيته، ووحدة وجوده. حياته ولد في
الأندلس عام 560 هـ، الموافق للعام 1160 م، في بيت
علم وفضيلة. انتقل إلى إشبيلية في سنِّ
الثامنة، وتلقَّى، إبان عشرين عامًا، علوم
الحديث والفقه والكلام، واطَّلع على المذاهب
الفلسفية والعلوم السائدة المعروفة في عصره.
أمَّ تونس والمغرب، واتصل بأشهر علمائها.
وكما يعتقد بعضهم، فقد اقتفى آثار مدرسة ابن
مسرَّة القرطبي، الصوفي الأندلسي، وتأثر
بالطريقة الشاذلية وجماعة "المتنوِّرين".[7]
وفي العام 598 هـ/1201 م ارتحل إلى المشرق حاجًّا،
ولم يعد إلى المغرب. زار مكة، وانتقل إلى
الموصل، وبلغ بغداد وحلب والأناضول، حتى
انتهى به الطواف إلى دمشق، حيث أقام إلى أن
توفي في العام 683 هـ/1240 م، ودُفِنَ في سفح جبل
قاسيون. مؤلَّفاته أذكر ثلاثة
منها: -
الفتوحات المكية -
فصوص الحكم -
ترجمان
الأشواق يحتوي ترجمان
الأشواق على أحسن شعر ابن عربي؛ وفيه نجد
القصيدة التي مطلعها:[8] إني عجبتُ لظبي من محاسنه * يختال ما بين
أزهار وبستان وفيها يقول،
وقد غيَّر وزن القصيدة:[9] لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي * إذا لم يكن
ديني إلى دينه دان لقد
صـار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى لغزلان
وديـر لرهبان وبيت لأوثـان وكـعبة طائـف * وألواح
تـوراة ومصحف قرآن أدين بديـن الحب أنَّى توجَّهتْ *
ركائبُه، فالحب ديـني وإيمـاني صوفيَّته تُعَدُّ صوفية
ابن عربي حصيلة اختبار شخصي، تمثَّل في
نظريته عن "البقاء" و"الفناء". وقد
تكلَّم ابن عربي على الحب، فوصَفَه بأنه حالة
لا يمكن وصفُها. وتكلَّم على الحب الإلهي،
فقال: رأيت
في نفسي من عجائب المحبة ما لا يبلغه وصف
واصف؛ والحب على قدر التجلِّي، والتجلِّي على
قدر المعرفة. هكذا يدعو ابن
عربي إلى المعرفة من خلال التجلِّي. وينوِّه
ابن عربي إلى أن الحب، إذا ما بلغ حدَّ
الاستنارة، جعلَ المُحِبَّ يتلاشى في محبوبه
ويفنى فيه. ولما كان الحب الإلهي هو الأسمى
فإنه يستغرق الطاقة الإنسانية برمَّتها. يُعَدُّ ابن
عربي واحدًا من العارفين. أليس هو القائل: خُصِـصْـتُ بعلم لم يُخَـصَّ بمثله * سواي
من الرحمن والعرش والكرسي وفي قوله هذا
دليل على تفرُّد خبرته الصوفية والروحية
والعرفانية. يخلص دارسُ
ابن عربي إلى حقيقة هي أنه بلغ من علوم التصوف
والعرفان مرتبة لم يبلغها سواه. يقول: الله يعـلم والدلائـلُ تشـهد * أنِّـي
إمـام العـالمين محـمد ويضيف قائلاً: لكلِّ زمـان واحـد هـو عينه * وإني ذاك
الشخص في العصر أوحد في هذا القول
يؤكد ابن عربي بأنه "أوحد" عصره. ويشير ابن
عربي إلى أن معرفته لم تتحقق عن طريق العقل
والبحث، بل عن طريق الوحي الإلهي الذي هو
عِلْمٌ بالحقيقة السرَّانية. يقول: قلمي ولوحي في الوجود يُمِدُّه * قـلمُ
الإلـه ولوحُه المحفوظ إذن فعلمُه
الحقيقي علمُ فيض ووحي وتجلٍّ إلهي؛ والله هو
معلِّمه الحقيقي لسبب هو أن قلم الله ولوحُه
يُمِدَّان قلمَه ولوحَه بالمعرفة. يقول في الفتوحات
مثنِّيًا على النصِّ القرآني: خلق
الإنسان وعلَّمه البيان؛ ويؤتي الحكمة من
يشاء. ويصرح في
الباب 373 من الفتوحات المكية بما يلي: جميع
ما كتبتُه وأكتبه في هذا الباب إنما هو من
إملاء إلهي وإلقاء ربَّاني أو نفث روحاني في
روح كياني وكلِّه، بحكم الإرث للأنبياء
والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال. يشير هذا
الاعتراف الأخير إلى أن ابن عربي ظل متمسكًا
بالشريعة، لكنه حاول تفسيرها بمضمونها
وروحها وباطنها بحسب ما تلقَّاه من إملاء
إلهي وإلقاء ربَّاني؛ ويشير أيضًا إلى
اعترافه بالأنبياء وتفسير حقيقة كيانهم
بالتأويل.[10] وحدة
الوجود يتحدث ابن
عربي عن الفناء، فيقول: وألطف
ما في الحبِّ ما وجدته، وهو أن تجد عشقًا
مفرطًا وهوى وشوقًا مقلقًا [...] ثم ذهول وذهاب
وفناء [...] ثم تجلٍّ وفيض ولذة لا توصف. على الرغم من
قوله هذا، يؤكد ابن عربي أن التقرب إلى الله
والمشاهدة لا ينتجان إلا عن فيض المعرفة. يقول: من
تقرَّب إلى ربِّه فأحبَّه، أفاضَ عليه أنوار
المعرفة، وانكشفتْ له الحقائق، فرأى كلَّ شيء
بنور المعرفة. هكذا يثبت ابن
عربي في المعرفة ويرفض التسليم بالحلول. يقول: أنت
أنت، وهو هو. فإياك أن تقول كما قال العاشق:
"أنا من أهوى ومن أهوى أنا." يُعَدُّ قوله
هذا دليلاً على أنه كان محايثًا أكثر منه
حلوليًّا. وعلى هذا الأساس، نجده ينفي الحلول
ووحدة الوجود والاتحاد أحيانًا، وذلك لكي
يتجنب لوم اللائمين. لكننا، إذا ما تعمقنا في
مضامين حكمته، وجدنا نصوصًا أخرى تدل أنه كان
يعتقد بوحدة الوجود وحلول روح الله فيه، وفق
ما تحدث عن "الواحدية التأليفية". فقد
قال في شجرة الكون ما يلي:[11] إني
نظرت إلى الكون وتكوينه، فرأيت الكون كلَّه
شجرة وأصل نورها من حبة "كُنْ": فقد
لُقِّحَتْ "كُنْ" الكونية بلقاح حبة "نحن
خلقناكم". وإننا نجد في القشور الظاهرة
والستور البارزة ما يعود إلى عالم المُلْك،
وفي قلوبها الباطنة ولباب معانيها الخافية ما
يعود إلى الملكوت. وقد جاء في
إحدى رسائله ما يلي:[12] فلا
يقع بصرٌ إلا عليه، ولا يخرج خارج إلا منه،
ولا ينتهي قاصد إلا إليه. فيا أولي الألباب:
أين الغيبة والحجاب؟ ألا يمكننا أن
نقول بأن ابن عربي يؤمن بالحلول والتعالي
والمحايثة، ويحاول التوفيق بينها في حكمته
الممثَّلة بـ"الواحدية الوجودية" أو "الواحدية
التأليفية"؟ نستنتج أن ابن
عربي مؤمن بوحدة الوجود وبحلول روحي: فهو
يعتبر جميع ما في الكون حيًّا يسبِّح الله بـ"النَّفَس
الإلهي والقول الربَّاني". وفي هذا السياق،
أقتطف، بمثابة خاتمة، من الفتوحات مقطعًا
يدل على أن جميع ما في الكون حي. يقول: فاعلم
أن في الخبز والماء، وجميع المطاعم والمشارب،
والملابس، والمواكب والمجالس، والزهر
والثمر، أرواحًا لطيفة غريبة، فيها استجابة
مودعة لما يُراد منها هي سرُّ حياتها؛ وفيها
تجلٍّ من حبِّ الله لعبده وعلوِّ منزلته، حتى
سخَّر له ما فيه السعادة والعلم والبقاء. وتلك
الأرواح أمانة عند تلك الأشياء، محبوسة في
تلك الصور، تؤدِّيها إلى هذه الروح الإنسانية
التي قُدِّرَت لها. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1] راجع محاضرات
العلماء والفلاسفة في مؤتمر قرطبة التي
جُمِعَت في كتاب بعنوان: Science et Conscience. [2] هاكم بعض ما ذُكِرَ عن القبالة:
أ. تكوَّن الوجود عن طريق الفيض أو الإبداع،
وليس عن طريق الخلق؛ والعالم هو التجلِّي
الإلهي من العدم الذي هو الوجود المحض؛ ب.
المبدأ السائد في الكون هو المبدأ الأنثوي؛
ج. مبدأ المحبة والرحمة؛ د. التأويل
الذي يتجاوز التفسير الحرفي إلى سرَّانية
العمق؛ هـ. توافُق العدد والحرف. [3] تُعَدُّ القبالة
الحكمة التي اقتبسَها حكماءُ بني إسرائيل
من الأمم في أثناء سبيهم إلى بابل وفارس
ونزوحهم إلى مصر. فقد اقتبس أولئك الحكماء،
في أثناء غربتهم وتشتتهم، مبادئ حكمتهم من
حكمة الكلدانيين والمصريين والفرس.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد اقتبسوا من مبادئ
الحكمة الفيثاغورية المؤوَّلة
والأفلاطونية المحدثة والأفلوطينية
المعدَّلة، وتبنوها. والحق أن اليهود، من
توراتيين حرفيين وتلموديين عنصريين، رفضوا
صوفية القبالة لسبب هو أنهم عزلوا أنفسهم
عن سائر الشعوب، بعامة، وشعوب منطقة الشرق
الأوسط، بخاصة، ورفضوا التفاعل مع آرائهم
ومبادئهم. [4] تتكلَّم القبالة
على فيوض أو إبداعات تسعة، ثلاثية التكوين،
تصدر أو تنبثق بالتدرُّج من الله وتنتهي في
العالم المادي. وفي منظورها يتمثَّل الفيض
الأخير – وهو الفيض العاشر – في العالم
المادي. أما الفيوض التسعة فهي ثلاثية
التكوين، تتمثَّل في تاسوعة أفلوطين
وفيوض فيثاغوراس. فالفيض الأول ثلاثي في
تكوينه، يليه فيضٌ ثانٍ ثلاثي التكوين،
وفيضٌ ثالث ثلاثي التكوين ينبثق عنه العالم
المادي. والحق أن نظرية الخلق تتصل بانبثاق
الفيض العاشر عن الفيض التاسع. [5] تُعَدُّ الثلاثية
الأولى الصدورَ أو الانبثاق الأول للفيض أو
الإبداع الأول من الألوهة. وعلى الرغم من
كونه فيضًا أولاً من الله، لكنه يُعتبَر
"روح القدس" الأول الذي تكوَّن على نحو
يكون مضمونًا في الله ومستبعَدًا عنه في
آنٍ واحد. [6] راجع تاريخ
الفلسفة العربية لمؤلِّفه حنا فاخوري. [7] يؤسفني أن أقول إن
الباحثين أو الدارسين لحكمة ابن عربي لم
يسْعوا، بما فيه الكفاية، إلى معرفة مضامين
المبادئ التي تشتمل عليها تعاليم ابن
مسرَّة وجماعة "المتنوِّرين". [8] نشير هنا إلى أن ابن عربي
تعرَّف في مكة إلى امرأة شابة مثقفة تدعى
"نظام"، ونظم فيها، بعد عودته إليها في
العام 611 هـ/1214 م، قصائد غزلية شرحها على
الطريقة الصوفية. [9] في هذه الأبيات
الثلاثة يتكلَّم ابن عربي عن قلبه الذي
امتلأ بكلِّ صورة، أي بكلِّ الصور التي
وجدت لها مكانًا هادئًا ومُحبًّا في عقله
وروحه. ويتمثَّل هذا الامتلاء بالصور
العديدة والمتنوعة التي ألَّف بينها في
اتحاد متكامل، متوافق ومنسجم في ألوانه؛
وأعني في مبادئه وعقائده وآرائه ووجهات
نظره. والحق أن الصورة الموحَّدة – وهي رمز
لتوحيد جميع الصور – تتمثَّل في "دين
الحب" الذي يتألق بإيمان حقيقي، لا أثر
فيه للتعصب أو للتحيُّز أو للكراهية أو
لضيق الأفق الفكري أو للاعتقاد الزائف
بامتلاك الحقيقة المطلقة، وحرمان الصور
الفكرية أو الروحية أو العقلية أو المبدئية
أو العقائدية الأخرى من معناها وقيمتها
وحقيقتها. تتألف الوحدة الجامعة لهذه الصور
في دين الحب والمحبة من: أ.
"مرعى
لغزلان": القوة أو الطاقة الكامنة، أو
الحياة الفاعلة في الطبيعة، أو الروح
المحيية لكلِّ مادة أو كتلة أو شكل. ب.
"دير لرهبان": الرمز الذي يشير إلى
المسيحية. ت.
"بيت
لأوثان": الاعتراف بالوثنية، التي
أُدينَت أو اتُّهِمَتْ بالشِّرك أو بإعلاء
شأن الفكر الفلسفي أو الأسطوري، والإقرار
بأنها لا تخرج عن نطاق الحقيقة الروحية
والإلهية. ث.
"كعبة
طائف": الكعبة أو المحجة التي يطوف حولها
الإنسان الساعي إلى الاستنارة ويبحث عن
الحقيقة، تمامًا كما تسعى الفراشة إلى
البحث عن مصدر الضوء الذي تدور حوله. وينطبق
هذا القول على كلِّ إنسان مستنير. ج.
"ألواح
توراة": الألواح الحقيقية المحفوظة التي
تُعتبَر الرمز الذي يشير إلى السرِّ
المكنون في الصوفية العرفانية المنسوبة
إلى موسى. ويُعتقَد أن هذه الصوفية
العرفانية السرَّانية قد انتهت بانكسار
لَوْحَي الناموس اللذين أوحِي بمضمونهما
إلى موسى يوم كان يتأمل على قمة الجبل. ح.
"مصحف
قرآن": القرآن الكريم الذي أمدَّه
بالقدرة والوعي والإيمان لمعرفة الحكمة
المكنونة فيه، والحكمة المضمونة في الصور
العقلية أو الروحية الأخرى. اعتنق
ابن عربي دين الحب أو المحبة بعد أن امتلأ
قلبُه بجميع الصور؛ وفي هذا الامتلاء
استطاع أن يعاين الحقيقة الواحدة في تنوعات
الحقائق، والوجودَ الواحد في تنوعات
المنظورات التي اعتنقتْ مبدأ "الواحدية
الوجودية" أو "الواحدية التأليفية"،
ووحدة الألوهة في التأليف الذي يشتمل على
الحلولية والتعالي والمحايثة، والإنسان
الواحد في أنواعه، والجمال الواحد في
تنوعاته، والضوء الواحد في ألوان تشتُّته.
وفي هذا المنظور، أسقط محيي الدين بن عربي
التعصب وضيق الأفق الفكري والتنكُّر
للآخر، وبرهن أن جميع المبادئ والعقائد
تمثَّلت الحقيقة الواحدة في تنوعات
التعبير. لقد اعترف ابن عربي بـ"الآخر"،
وآمن بمبدأ التنوع الذي جعلتْه الحقيقة
السامية مبدأ طبيعيًّا وإنسانيًّا
وكونيًّا. [10] لا يشير العلم
الحاصل عن فيض إلهي أو عن وحي إلهي – وهو
كشف للحقيقة المستترة ومعرفتها – إلى
تناقض مع العرفان؛ هذا لأن المستغرق في
غيبوبة الوحي والمنقطع عن حواسه يعجز عن
التعبير عن هذا الوحي أو الفيض بالبيان ما
لم يكن متميِّزًا بعقل ممتلئ بالمعرفة؛
وإلا فتكون حالتُه شبيهة بحالة الطفل الذي
يرى مَشاهد ويعجز عن إدراكها بعقله، فتبقى
صورًا مستعصية على التعبير اللفظي. إذن
فدور العرفان يكمن في "فهم" مضامين
سرَّانيةِ أو روحانية الوحي أو الفيض. وفي
الاستغراق الروحي يكون العقل قابلاً
للامتلاء بالوحي؛ وفي اليقظة، يكون العقل
الممتلئ بالمعرفة قادرًا على التعبير
والصياغة والشرح. وفي هذا المنظور، نستطيع
أن نفهم حقيقة التأويل. [11] عندما تأملت الحكمة
الخفية في "شجرة الكون" أدركتُ، كما
ذكرتُ في أحد مؤلَّفاتي، أن جذور هذه
الشجرة ضاربة عميقًا في الأرض، وأغصانها
ممتدة إلى أعماق الفضاء الكوني، منتشرة فيه.
وعندما تأملت هذه الشجرة الأرضية–الكونية
في الإنسان، تمثَّلتُها على النحو التالي:
يشير جذع الشجرة إلى العمود الفقري، وتشير
أغصانها إلى الأعصاب الممتدة إلى الجسد
كلِّه والمنتشرة فيه. بالمقارنة، أدركت أن
الأغصان تتمثَّل الضوء من الأعلى، أي من
الفضاء الكوني الممتلئ بالحياة، وتحصل على
الغذاء أو الطاقة التي تُمِدُّها بها الأرض
على نحو حياة أيضًا. وهكذا تتماثل الحياة
الكونية مع الحياة الأرضية في وجود يتآلف
فيه ما هو كوني مع ما هو أرضي. وينطبق هذا
الأمر على الشجرة الإنسانية. [12] عندما تأملت مفهوم
"الحجاب" أدركت أنه البرقع المتمثل في
كلِّ ما يحجب عن الإنسان القدرةَ على معرفة
الحقيقة أو معاينتها؛ هذا لأن الحجاب هو
كلُّ ما يحول دون تحقيق المعرفة. عندئذٍ،
أدركت أن الجهل، والوهم، والتعصب الفكري
والعقائدي، والاعتقاد بامتلاك الحقيقة
المطلقة وحرمان الآخر منها، والأنانية،
وضيق الأفق الفكري، والتكبُّر،
والاستغلال، والظلم، والقسوة، والكراهية،
إلخ، هي الخيوط التي يُحاك منها نسيج
الحجاب. والحق أن ابن عربي، وغيره من أهل
العرفان، دَعَوْا إلى اختراق الحجاب أو
الحُجُب العديدة التي تعزل الإنسان
وتُقصيه عن معرفة حقيقته الأرضية والكونية.
وتُظهِر حكمتُه أن العرفان المتمثِّل في
"الواحدية الوجودية" أو "الواحدية
التأليفية"، المعبَّر عنها بلغة العلم
بـ"الاتصالية الكونية" وتوحيد جميع
القوانين الفيزيائية في قانون واحد، كفيل
بإزالة الحجاب أو الحُجُب التي تطيح
بمَلَكَة البصيرة وتُبقي العقل تائهًا في
ظلمة الجهل. |
|
|