أمَّة من رهائن لدى المتطرِّفين

 

حسونة المصباحي

 

حتى في العهود الأشد حلكة وتأزُّمًا، لم تعرف الشعوب العربية أوضاعًا سيئة كهذه الأوضاع التي تمرُّ بها راهنًا، وعلى جميع المستويات – السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية. ولأن لا شيء في الأفق يدلُّ على أن مثل هذه الأوضاع يمكن أن تعرف، في المستقبل القريب أو البعيد، تحسُّنًا، حتى ولو كان ضئيلاً، فإن الشعوب العربية، بجميع فئاتها وطبقاتها، أمست تعيش تحت وطأة الإحباط واليأس والعجز، وبها إحساس أنها لم تعد صالحة حتى للحياة نفسها!

وما أظن أن انعدام الديمقراطية، وكلِّ ما يتصل بها، هو السبب الوحيد في ذلك، وإنما أيضًا لأن الشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، باتت تشعر أنها رهينة لدى جماعات من المتطرفين، باسمها يتكلمون ويتحركون، وباسمها يرتكبون المجازر الأفظع، وباسمها أيضًا يشوِّهون صورتها وصورة الدين الذي تدين به الأغلبية الساحقة منها – أعني بذلك الإسلام.

وخلال السنوات الأخيرة ازدادت مثل هذه الممارسات استفحالاً، مغيِّبةً بصفة شبه كاملة الملايين من العرب، مُبْقِيَة في المشهد هذه الجماعات السوداء التي باتت تعتقد أن مصير الجميع، الحكومات كما الشعوب والنُّخَب، بات في يدها. فهي تغسل أدمغة الفتيان والفتيات، لترسل بهم إلى الموت باسم «الشهادة في سبيل الله»، وتجنِّد طلبة مجدِّين لارتكاب مجازر باسم الإسلام والمسلمين، بينما عائلاتهم وذووهم صامتون وعاجزون عن أن يفعلوا شيئًا لإيقاف هذا العمل الإجرامي الخطير. وهي تدفع مبالغ طائلة بهدف القيام بعمليات إرهابية هنا وهناك، غالبًا ما يذهب ضحيتها الأبرياءُ من المدنيين، مُفاخِرة بأن ذلك نصر للإسلام والمسلمين – في حين أن النتيجة لا تكون في النهاية غير تجريم كلِّ عربي ليصبح، في كلِّ مكان يحلُّ فيه أو يذهب إليه، مكروهًا ومحتقَرًا ومطارَدًا ومُهانًا. وهي تنشر عبر أدبياتها أفكارًا هدَّامة وجدَّ خطيرة، على الناشئة بالخصوص؛ وهي تحرِّض على العنف وعلى الجريمة وعلى كُرْهِ الآخر، مسمِّية ذلك «دفاعًا عن الإسلام وأصوله»؛ وهي تحارب النساء والمثقفين بشتى الطرق، بما في ذلك القتل والتصفيات الجسدية والتشويه، مدَّعية أن هذه الكائنات – أي النساء والمثقفين – غير جديرة بالحياة، لأنها لا تفعل شيئًا آخر غير نشر الرذيلة والفساد في المجتمع؛ وهي تنشر الحقد والكراهية في كلِّ مكان، لأن الحبَّ والصداقة والضحك وكلَّ ما يجعل الحياة سعيدة وجميلة وهانئة وخالية من المنغِّصات، هو، في نظرها، من المحرَّمات. وهي تفعل كلَّ هذا الشر، بينما الشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، ساكنة، صماء، بكماء، لا تقاوم ولا تثور ولا ترفع صوتها لتستنكر ذلك، ولا تقول حتى كلمة واحدة لشجب مثل هذا السلوك وهذه الجرائم الفظيعة التي تُرتكَب باسمها في واضحة النهار.

والعالم لم يعد يهتم اليوم بما يقوله هذا الحاكم العربي أو ذاك، وإنما بما يقدِّمه زعماءُ الجماعات الأصولية المتطرفة حول علاقة الشرق بالغرب، وحول علاقة الإسلام بالأديان الأخرى، وحول الصراع العربي–الإسرائيلي، وحول الوضع في العراق أو فلسطين والجزائر أو أفغانستان، وحول العديد من القضايا الأخرى. لكأن الأنظمة والحكومات العربية باتت عاجزة عن الإدلاء برأيها في مثل هذه القضايا وهذه المواضيع؛ أو لكأن رأيها لم يعد جديرًا بأن يؤخذ بعين الاعتبار.

وفي بلد مثل الجزائر، تمكَّنتْ الجماعات الأصولية المتطرفة من صرف اهتمام الحكومة عن الكثير من مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لينصبَّ على ملاحقتها ومطاردتها والحدِّ من الأضرار الجسيمة التي تُلحِقها بالبلاد والعباد. واليوم هي تصرف مبالغ هائلة في سبيل ذلك، في حين تتراكم المشاكل والأزمات الخانقة المتصلة بالسكن والبطالة، بين الشباب بالخصوص، وبوضع المرأة وبالتربية والتعليم وبالزراعة وبالصحة وغير ذلك.

وفي السودان، جرَّتْ الجماعات الإسلامية المتطرفة ويلاتٍ على البلاد، وأثقلتْ كاهلَها بحرب أهلية من أطول الحروب في تاريخ البشرية ومن أكثرها دمارًا. والآن لا تناقش الحكومة السودانية مشاكل الجوع الذي يضرب مئات الآلاف من أبناء شعبها، ولا القضايا الخطيرة الأخرى التي تواجهها على جميع المستويات، بل أطروحات الجماعات المتطرفة التي لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بواقع بلد متعدِّد الجنسيات والأديان، قد عاش على هذا النحو قرونًا طويلة في ظلِّ التسامح والوئام، إلى أن جاءت هي، فأشاعت الخراب والدمار والأحقاد القاتلة في كلِّ مكان.

وفي فلسطين عمدت الجماعات المتطرفة، المتمثلة في منظَّمتي «حماس» و«الجهاد»، إلى جرِّ السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمَّته إلى معركة غير متكافئة مع إسرائيل المسلَّح بأحدث الأسلحة وبأشدها فتكًا ودمارًا؛ فكانت النتيجة كارثة حقيقية على جميع المستويات: فقد دُمِّرَتِ البنى التحتية، وهُدِمَتْ مساكنُ الآلاف من الفلسطينيين وخُرِّبَتْ مزارعُهم، وازدادت الأوضاع سوءًا على المستوى المعيشي، وفقدت السلطة الفلسطينية مصداقيتها لدى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وأيضًا لدى الكثيرين من دعاة السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

حتى النخب الفكرية والثقافية هي أيضًا رهينة لدى الجماعات الأصولية المتطرفة: فنحن لا نرى لها حركة، ولا نسمع لها صوتًا – إلا فيما ندر. وهي لا تقاوم عنف الجماعات المذكورة ولا تطرُّفها إلا بكلمات ومقولات لا وَقْع لها في قلوب الناس، بل أحيانًا هي تبدو وكأنها تبارك هذا العنف وهذا التطرف الأعمى. ولا أحد من رموزها الكبيرة تجرَّأ على أن يقول، بصوت عالٍ، ما قاله ألبير كامو أيام حرب التحرير الجزائرية بأنه مهما كانت القضية التي ندافع عنها، فإنها تصبح مشوهة إلى الأبد بسبب مجزرة عمياء لأناس أبرياء يعرف القاتل مسبقًا أنه سوف يصيب المرأة أو الطفل اللذين بينهم. ولا أحد منهم أدان، بطريقة صادقة وصريحة، العنف الذي يردُّ على العنف في هذيان محموم، يزداد حدة يومًا بعد يوم، ويجعل لغة العقل شيئًا مستحيلاً.

وأمام ما ترتكبه الجماعات الأصولية المتطرفة في حقِّ الثقافة والفنِّ، من حرق للكتب ومن ترهيب للمبدعين، بمختلف أصنافهم، ومن تجريم لبعض المفكرين بسبب كتاباتهم وأطروحاتهم، ومن اعتداء على التراث العربي القديم، نحن لا نعاين لدى النخب المثقفة ما يدل على أنها قادرة على الردِّ المُفحِم على هذه التجاوزات التعسفية الخطيرة في حقِّ الثقافة والفكر والأدب والفنِّ عمومًا، وعلى محاربتها والقضاء عليها قضاءً تامًّا ونهائيًّا. لا نرى أمامنا غير مثقفين هامدين، منهزمين، لا يستهويهم غير اللعب الفارغ بالكلمات والأفكار، وتمجيد عبقريتهم، والتغنِّي بأناهم المريضة.

*** *** ***

عن الشرق الأوسط، الجمعة 22 تشرين الثاني 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود