|
الآداب غير العربية
في سورية الجزء
الأول وأتأمَّل،
بادئ ذي بدء، في مفهوم الحضارة، فأجد أنها
– كالحياة – حالة
استمرارية وصراع دائم من أجل البقاء، من جهة،
وحالة تجدد وتفاعل وتنوع، من جهة أخرى. أتأمل
فيها في بلاد وأرض كانت، كما يعترف الجميع،
مهدًا أساسيًّا لها. فمنطقة الشرق الأدنى وما
بين النهرين هي منطقة جغرافية لا فواصل
مصطنعة بينها؛ حيث ليس بوسعنا التحدث عن
حضارة عراقية أو لبنانية أو سورية منفصلة، بل
عن حضارة منطقة بكاملها، تمتد بكاملها من
المتوسط إلى شطِّ العرب، لأنه لا وجود فعلي
للحدود التي رسمتْها الدول السائدة. فكلُّ
الحضارات المتتالية لهذه المنطقة هي حضارات
نشأت وتفاعلت مع الحضارات السائدة فيها ومن
حولها، فطورتْها وضخَّتْ فيها دمًا جديدًا
لصالح الإنسان عمومًا. من الحضارات التي نشأت هنا في
الماضي حضارة البابليين والآكاديين
والآشوريين، والحضارة الآرامية والفينيقية،
بالإضافة إلى الفارسية واليونانية، التي كان
لها فضل كبير في تقدم الطبِّ وعلم اللغة
والأبجدية والقانون ومبادئ الحساب وعلوم
الطبيعة. وهذه الحضارات الغابرة المتواصلة هي
التي أعطت المعارف العلمية والمعمارية التي
استوعبها السكان ونقلوها، من بعدُ، إلى
أوروبا العصر الوسيط، فأيقظتْها ومكَّنتْها
من نهضتها. وأتأمل في دجلة والفرات اللذين
مازالا اليوم، كما في الأمس، شريانين حيويين
لهذه المنطقة – شريانين ينطلقان من الأناضول
ليرويا سهوبها ووديانها، ثم يخترقان سورية
والعراق ويصلان بينهما، ويرويان أراضيهما
اليوم، كما روَّيا بالأمس سومر وآكاد وغذَّيا
حدائق بابل المعلقة، ما جعل من هذه المنطقة
وحدة متكاملة. وأتأمل بلدي سورية التي كانت –
ولم تزل – حجر الزاوية لهذه المنطقة؛ هذه
التي، بحكم موقعها الجغرافي، تقع عند ملتقى
ثلاث قارات. مما جعل منها، تحديدًا وبشكلٍ
أساسي، مركزًا حضاريًّا هامًا. وبغضِّ النظر
عن شكل السلطة السائدة وطبيعتها فإن كون هذه
المنطقة عمومًا، والجزء السوري منها خاصةً،
معبرًا وممرًّا بريًّا وبحريًّا لقوافل
التجار وللرحلات الاستكشافية من الشرق إلى
الغرب وبالعكس، وطريقًا للقوافل التي مرَّتْ
عبرها حاملةً التوابل والحرير، ناقلةً مختلف
أنواع البضائع، قد جعل منها منطقة وسطية في
العالم آنذاك؛ وهي لم تزل كذلك حتى الآن –
الأمر الذي انعكس على حضارة شعوبها التي
امتازت دائمًا بتراكم الأفكار والآداب
والاكتشافات من كلِّ حدب وصوب. لذلك نجد في
هذه البلاد، اليوم كما في الأمس، خليطًا
عجيبًا من الثقافات والأفكار، وتنوعًا
كبيرًا في المذاهب والمعتقدات، قلما نجد له
مثيلاً في مكان آخر في العالم. وأؤكد هنا على سورية التي، بحكم
واقع الاستقرار الذي هو خير مناخ لنموِّ
الأفكار المتعددة، ترسِّخ واقع التعددية
الثقافية لهذا البلد الذي ضمَّ في الماضي
شعوبًا متعددة وثقافات متنوعة. وهذا التمايز
والوحدة إن دلاَّ على شيء فإنما يدلاَّن على
صحة المجتمع وحيويته. من هنا – من هذا الواقع
المميَّز لهذا البلد – حاولت تقديم عرض موجز
للآداب غير العربية التي نشأت وترعرعت على
الأرض السورية خلال القرن العشرين، ما كُتِبَ
ونُشِرَ منها بالفرنسية والأرمنية
والسريانية، مشيرةً أني سأبحث في ما كُتِبَ
بلغات أخرى في حلقة أخرى من البحث. 1 الآداب
الفرنسية في سورية سوف أتحدث هنا بإيجاز عن أولئك
السوريين الذين كتبوا باللغة الفرنسية – تلك
اللغة التي امتازت دائمًا بمكانتها
العالمية، والتي كانت، على مرِّ العصور، لغة
الأدب والشعر والمسرح والغزل – مؤكِّدة على
أن هذه اللغة لم تكن مقتصرة على أبنائها، إنما
استخدمها كلُّ متذوِّقي الأدب في مختلف أنحاء
العالم؛ تلك اللغة التي كانت في القرون
الماضية، قبل أن تأتي اللغة الإنكليزية وتحتل
مكانتها وتزيحها عن صدارة اللغات
المستعمَلة، لغة الملوك وأهل البلاط. وأفكر أن أسباب انتشار اللغة
الفرنسية كثيرة، منها: قوة فرنسا في العصور
والقرون الماضية. وما أقصده هنا بقوة فرنسا
ليس قوتها العسكرية إنما المعنوية تحديدًا؛
فهي البلد التي ألهمتْ الشعوب وأعطت العالم
أفكارًا غيَّرتْ وَجْهَ العالم، مستوحاة من
الثورة الفرنسية، وأبدعتْ في مجالات الأدب
والرسم، بالإضافة إلى أنها استعمرت عددًا
كبيرًا من دول العالم لفترات طويلة. ففي فترة الانتداب على سورية،
مثلاً، فرضتْ الدولة الفرنسية تدريس المناهج
الفرنسية في المدارس والجامعات، بالإضافة
إلى استعمال اللغة الفرنسية في الدوائر
الحكومية؛ مما ساهم في إنشاء فئة خاصة من
المجتمع تملك إمكانية التعامل بلغة فرنسية
متينة وقوية؛ حيث نجد الرعيل السابق يتكلَّم
لغتين بطلاقة: اللغة الأم، أي العربية،
واللغة السائدة، أي الفرنسية. واستمرت هذه الحال بعد
الاستقلال من خلال تطور العلاقات العلمية
والثقافية بين سوريا وفرنسا. وأيضًا كانت
هنالك فئة أخرى أتقنت اللغة الفرنسية، هي فئة
الطلاب الذين عادوا من فرنسا بعد الدراسة
والتحصيل العلمي فيها. فهؤلاء الذين حملوا
الألقاب العلمية، عادوا إلى الوطن بلغة
وثقافة فرنسية منفتحة، حاول بعضهم نقلها إلى
الآخرين بأساليب أدبية مختلفة، شأنهم في ذلك
شأن أولئك المثقفين الذين سافروا إلى باريس –
مركز العالم آنذاك – وعادوا محمَّلين بما
أنتجتْه الثورة الفرنسية والأدب الفرنسي
والصحافة الفرنسية الحرة، محاولين نقل
النموذج الفرنسي واللغة الفرنسية إلى سورية.
وكان إتقان اللغة الفرنسية وحسن التعبير بها،
شفهيًّا وكتابيًا، هو أحد وسائل تعبير هذه
النماذج البشرية، المتنوعة ثقافيًّا
والمختلفة طبقيًّا. أما النموذج الثالث فهم
الأشخاص الذين تملَّكتهم روح المغامرة وحبُّ
السفر، بالإضافة إلى التجارة؛ فكانت فرنسا
ذات النشاط الاقتصادي المتعدد والقوي محطَّ
أنظارهم. وقد عادوا محمَّلين بأفكار اقتصادية
وسياسية منفتحة. وكان التعبير الأول لهؤلاء
من خلال الصحافة – وإن كانت هذه الوسيلة
تلاشت في سورية بعد سنوات قليلة من الاستقلال. وأتوقف قليلاً أمام هذه
الصحافة السورية–الفرنسية التي بدأت مع
بدايات القرن العشرين، أي في زمن الانتداب،
فأستعرض بإيجاز ثلاث صحف: أولها صحيفة Chronique، لصاحبها من
عائلة القدسي، التي كان مدير تحريرها السيد أندريه
كعيكاتي. وتلك الصحيفة كانت يومية
سياسية مؤلَّفة من أربع صفحات. أتصفَّح أحد
أعدادها الصادر في 8-11-1939، فأجد مقالاً
افتتاحيًّا بعنوان "حول الاحتفال بالثورة
الحمراء في الاتحاد السوفييتي"، ومقالاً
آخر حول إسقاط الطائرات الفرنسية للطائرات
الألمانية، ومقالاً ثالثًا بعنوان "نحو
حلٍّ للمشكلة الفلسطينية"، ورابعًا يناقش
قبول مفتي الديار السورية الاقتراحات
البريطانية كأساس للمحادثات في حينه. وأجد في
الصفحة الثالثة أخبارًا محلية، كوصول عشرين
ألف طن من الرز كمساعدة إلى سورية، ومحاكمة
شخص بجريمة قتل شقيقته، وتهديد قطَّاع الطرق
للأمن في محافظة حمص. أما الصفحة الرابعة التي
كانت بعنوان "آخر ساعة" فأجد فيها دراسة
حول قادة كبار، كالجنرال جورج. وانتقل إلى صحيفة ثانية هي Les échos de Damas،
التي عرَّف بها صاحبُها السيد
جورج فارس بأنها "الصحيفة السياسية
السورية الدمشقية الوحيدة الناطقة باللغة
الفرنسية"؛ وهي أيضًا مؤلَّفة من أربع
صفحات. أنتقي منها العدد الصادر في 5-2-1931، حيث
أجد مقالاً افتتاحيًّا حول المؤتمر الوطني
بتوقيع A.S.،
ومقالاً آخر يذم الرِّهان. أما في الصفحة
الثانية التي عنوانها "أصداء المدينة"
ففيها مجموعة من الأخبار المحلِّية، كخروج
الحيوانات البرية من أوكارها نتيجة للبرد،
ومقال آخر حول الرياضة، ومقال ثالث يتحدث عن
علم خطوط اليد. وفي الصفحة الثالثة التي هي
رسائل من المدن السورية، هناك رسالة من حلب
تتحدث عن إنارة شوارع المدينة. أما الصفحة
الأخيرة فتتضمَّن دعايات لمنتجات محلِّية أو
مستوردة وأفلام ومسرحيات حديثة وتتمَّات
لمقالات سابقة. والصحيفة الثالثة التي استطعتُ
الحصول عليها من المكتبة الوطنية (أي مكتبة
الأسد) هي La
Syrie؛ وهي أيضًا مؤلَّفة من أربع
صفحات، كباقي الجرائد الأخرى. والملفت
للانتباه أن هذه الجريدة لم تكن سورية فقط،
إنما سورية–لبنانية. وأنتقي العدد الصادر في
2-7-1930، الذي كُتِبَ في صدر صفحته الأولى "الصحيفة
الفرنسية اليومية الكبرى" و"الصحيفة
الفرنسية الفريدة في المشرق". على صفحتها
الأولى مقال يتحدث عن أولاد الملوك وما جرى
لهم بعنوان "لعبة غير مسلية"، وآخر يتحدث
عن العلاقات الفرنسية–الإيطالية، وآخر حول
شاب لبناني انتحر في سبيل الحب. أما الصفحة
الثانية فتتضمن عناوين اقتصادية وسياسية
عالمية تتحدث عن أحداث الهند الصينية،
والاتحاد الأوربي الجمركي، وفقرة تحتوي على
مقالات عن أحداث منوعة حول البريد المحلِّي
وعالم السيارات. وفي الصفحة الثالثة مقال
كبير حول الموضة، ومقالات منقولة من جرائد
فرنسية أخرى. أما الصفحة الأخيرة فتحتوي على
تتمة المقالات ومجموعة من الدعايات. من خلال هذا العرض للدوريات
الثلاث، أسجِّل أن صحيفة سورية كانت أقرب
إلى سلطات الانتداب من الصحف الأخرى. فكلُّ
مقالاتها واضحة المغزى والارتباط، تنقل
أخبار الدولة الفرنسية للشعب العربي
اللبناني–السوري بهدف زيادة الارتباط بها.
أما الصحيفتان الأخريان فالمقالات المنشورة
فيهما هي ذات نَفَس حيادي؛ أي أنها تعرض الحدث
دون المساس بمشاعر ومواقف أيِّ طرف من
الأطراف. والمقالات السياسية فيهما قليلة في
العدد الواحد وغير موقَّعة كباقي المقالات
إلا بالأحرف الأولى. والمسيطر عليها هو
النَّفَس الاجتماعي ومجموعة المنوعات
المسلِّية. ولو قمنا بتجربة ترجمة أحد
أعدادها لوجدنا أنها مثل باقي الجرائد
السورية المكتوبة باللغة العربية، وأنها
ليست جريدة "متعاونة" مع الاستعمار أو
يُشَكُّ في إخلاص أصحابها الذين امتازوا
بحبِّهم وولعهم بالصحافة. كانت اللغة
الفرنسية بالنسبة لهم مجرَّد وسيلة اتصال مع
جمهور يجيد الفرنسية. لكن تبقى هذه الجرائد،
نسبيًّا وبالمقارنة، أكثر تطورًا وانفتاحًا
على الأفكار الجديدة، كدعوة المرأة إلى
التطور والتعلُّم والمطالبة بالمساواة.[1] وأسجِّل أخيرًا، في هذا
المجال، أن الصحافة الفرنسية احتلت حيزًا
ضعيفًا نسبيًّا على الساحة الأدبية، مقارنةً
مع الأدب المكتوب باللغة الفرنسية الذي كانت
له مكانة كبيرة. وكانت بدايات هذا الأدب في
فجر هذا القرن مترافقةً مع انحسار النفوذ
التركي المتداعي وظهور الأفكار الجديدة
القادمة من الغرب – وتحديدًا من فرنسا، حيث
انعقد المؤتمر العربي الأول. فنتيجة للهجرات
وعلاقات العمل والتحصيل العلمي العالي، جرى
تداول الكتب الفرنسية غير المترجمة إلى
العربية أو التركية؛ ما ولَّد أدبًا فرنسي
اللغة في أكثر من بلد عربي، كلبنان وسورية
ومصر والمغرب العربي. وقد كانت السيدة مريانا
مرَّاش والسيد قسطاكي
الحمصي في حلب من روَّاد النهضة
الفكرية والأدبية في سورية في مطلع هذا
القرن، وأول من استعمل اللغة الفرنسية في
صالونهما الأدبي، كتعبير ودلالة على
الاستقلال الفكري عن الإمبراطورية العثمانية.
وأسجِّل هنا أن ظاهرة الأدباء السوريين الذين
أبدعوا أدبًا متميِّزًا مكتوبًا باللغة
الفرنسية هي ظاهرة نادرة الحدوث في الغرب.[2]
لكن هذا التفرُّد هو دلالة على الغنى الروحي
لأشخاص جمعوا بين الحضارتين العربية
والفرنسية في أدب واحد. كانت الدكتورة لوريس
ماهر من أوائل الذين نشروا بالفرنسية.
ففي العام 1939 نشرت كتابًا هامًّا حول أمراض
الأطفال والرضَّع، طُبِعَتْ منه 500 نسخة. فهي
كانت أول طبيبة سورية تابعت دراسة الطب في
فرنسا. وقد حدَّثتْني حين التقيت بها عن
ذكرياتها إبان الحرب ومساهمتها في العناية
بالجرحى في أثناء معارك الاستقلال. وأيضًا،
كانت السيدة سلمى الحفار
الكزبري من أديباتنا المتميزات
اللواتي كتبن، في جملة ما كتبن، باللغة
الفرنسية. ففي العام 1958 أصدرت ديوان شعر
بالفرنسية بعنوان الردة المنفردة؛ وفي
العام 1966 أصدرت ديوانًا آخر بعنوان عبير
الأمس. وجدير بالذكر أن السيدة سلمى الحفار
لها مساهمات ونشاطات أدبية متنوعة. ولكن
تجربتها في الكتابة باللغة الفرنسية كانت
محدودة؛ ومعظم أعمالها بشكل عام كان باللغة
العربية. وللسيدة منيرة
العظم الخياط ديوان شعر بالفرنسية،
طُبِعَ في حينه على نفقة معرض باريس للعام 1937.
وكذلك كان حال الأديبة السورية كوليت
سهيل الخوري التي كانت باكورة نتاجها
الأدبي باللغة الفرنسية. ففي العام 1957 أصدرت
ديوان شعر بعنوان عشرون عامًا، وفي العام
1960 ديوانًا آخر بعنوان رعشة. وكما هو
معلوم فإن السيدة كوليت تابعتْ إصدار نتاجها
الأدبي باللغة العربية. وللسيدة ديزي
كامل موصلي رواية فرنسية عنوانها رجال
للبيع. كما أن للسيدة ناديا
عبد النور ديوان شعر بعنوان أحلام
أمام الموقد، حيث تقول في إحدى القصائد
بعنوان "دموع"، كتبتْها في العام 1948: عطر ضوء ارتعاشة روح هذا هو جمال الحياة ومصدر دفئها غرفة دون ورود تشبه سماءً قاتمة خاليةً من النجوم ويجتاحها
الظلام من يرينا من خلال الابتسامة
الشعور الهادئ بالسعادة أنتم أيضًا رائعون ومليئة
بالانفعال دموع الفرح من خلال نظرة سريعة نلقيها على
تلك الأسماء الأدبية النسائية نجد أن نتاجها
كان، في معظمه، مُتَمَحْوِرًا حول الشعر
والقصة. وهذه نقطة تدعو للتأمل في أسباب ظهور
هذا الأدب النسائي الرومانسي الفرنسي؛ حيث قد
يكون التعبير باللغة الفرنسية ليس فقط سببه
سهولة تعاملهنَّ مع اللغة التي درسنها في
المدرسة، بل نتيجة كون المحيط الاجتماعي
متأثرًا بالثقافة الفرنسية. أما الرجال الذين كتبوا
بالفرنسية فقد كان معظم نتاجهم إما رسائل
دكتوراه قُدِّمَتْ في حينه في فرنسا، ثم
أضيفت على هذه الرسائل فقرات ونُقِّحَتْ من
بعدُ لتصدر فيما بعد في كتاب، كما هي حال
السيد نظيم بن إبراهيم
الموصلي الذي صدر له في العام 1949 كتاب
بعنوان دراسة جغرافية عن منطقة الجزيرة
العربية (وتلك، كما هو واضح، رسالة دكتوراه)،
أو كان نتاجهم ضمن مجال ما نطلق عليه اليوم
مجازًا اسم "الأدب السياحي". وقد كان هذا
بسبب كون أولئك المؤلِّفين يحتلون مراكز لها
علاقة بالآثار والمتاحف، إضافة إلى كونهم قد
درسوا أو أكملوا علومهم في فرنسا، مما قوَّى
ملَكتهم باللغة الفرنسية، بحيث كتبوا ما
كتبوه من متنوع الأدب الذي ساهم في التعريف
بحضارة سورية وتاريخها. ولهذا الجانب من
الأدب الفرنسي الصادر في سورية حيِّز كبير،
لما كان له من مردود مادي يهم عددًا كبيرًا من
الكتاب، من جهة، إضافة لما أمَّنه من شهرة
لصاحبه، وساهم في تنشيط الحياة الاقتصادية.
ونعدِّد من هؤلاء الكتاب هنا: -
عبد الرحمن حميدة،
الذي له كتابان بعنوان منطقة حلب (1954) وحلب. -
بشير زهدي،
الذي له كتاب بعنوان زجاج الموزاييك
الملفبوري في المتحف الوطني. -
جوزيف سبع،
الذي له كتاب بعنوان النقوش القديمة في
حوران وجبل الدروز. -
الطبيب الشاعر
الرسام كوستي أوغلو،
الذي كان من الشخصيات الأدبية المتميِّزة في
دمشق؛ وله مؤلَّفات في مجال التاريخ
والفلسفة، بالإضافة إلى كتابه بعنوان دمشق
القديمة التي تختفي، يتحدث فيه عن مشاهد
دمشقية في العام 1930، كالعادات والتقاليد
والأعياد وصنوف الطعام والباعة الجوالين.[3] -
طه
عبيد، الذي له كتاب بعنوان أهلاً بكم في تدمر. -
جبرائيل
سعادة، وله كتاب بعنوان أوغاريت: آثار سومرية
(1954). -
صبحي
صواف، الذي له عدة كتب تتناول تاريخ حلب قبل
الإسلام، فضلاً عن كتابه حول آثار حلب (1955). -
غالب
زيد العامر، الذي له نشرة سياحية عن مدينة السويداء
(1964). -
سليم
عبد الحق، الذي له عدة مؤلفات سياحية حول دمشق؛
ومن عناوين كتبه مشاهد دمشق الأثرية والرموز
في الفن اليوناني (1943). -
نهاد رضا،
الذي كتب الكثير؛ ومن أهم كتاباته ملحمة
العهد المعاصر التي تتألف من سبعة أجزاء
هي، على التوالي: إشراقات درويش مولوي، بيان
الأزمنة الإنسانية، صعود الفرسان الجدد،
نداء المدينة المفتوحة، في ظلال الحكمة،
حديقة الأنوار، ورحلات الفكر. وتتألف
هذه الملحمة الأخيرة من 21 فصلاً و24 نشيدًا
وعشرة آلاف بيت، حيث يقول فيها: لقد اجتزت اختبار الحجب السبعة وتلألأتْ في السماء نجمة جديدة... لقد أزهرت المعرفة في نفسك والأزهار تبشِّر بالخير هل أنت مهتم حقًّا بمصير
الإنسان هل تشعر في قرارة نفسك بأنك
مستعد لمسيرة جديدة مسيرة مع الآخرين مسيرة نحو الآخرين... وأيضًا كان هناك من أصدر كتبًا
جامعية بالفرنسية، كالسيد بدر
الدين قاسم الرفاعي، الذي أصدر كتابًا
بعنوان المدخل إلى الفكر الكلاسيكي الغربي
(1964)، من إصدارات جامعة دمشق.[4] وأيضًا كان هناك من أصدر كتبًا
سياسية هامة، عكست الصورة الحقيقية لوضع
سورية الداخلي والخارجي السياسي والاقتصادي.
ومن أهم هؤلاء الكتاب السيد إدمون
رباط الذي أغنى المكتبة السورية آنذاك
بمؤلَّفاته العديدة التي منها: التطور
السياسي، والوحدة السورية، والاتحاد
العربي، وتطور الفكرة الدستورية في
الإسلام. وهنالك أيضًا المحامي عبد
الإله الخاني الذي له نظرية الدستور،
والمهندس خير الدين الحقي
الذي له كتاب حول وعد بلفور، وشكيب
الجابري الذي له كتاب بعنوان سورية
تحت الانتداب (1938). ومن الكتب الهامة المكتوبة
باللغة الفرنسية التي تطرقت إلى مواضيع نادرة
كتاب لأديب سوري هو السيد نقولا
السيوفي الذي عمل في السلك الدبلوماسي
الفرنسي في العراق؛ وهو عبارة عن دراسة هامة
جدًا عن "الصابئة"، يتحدث فيه عن
مفاهيمهم حول العادات والتقاليد والكهنوت
وخلق العالم، وحول حياة يهوه وموته وخلافته،
وحول الصلاة والصوم، وحول الأصل الكلداني
للغتهم الشبيهة بالعربية.[5]
وقد خصَّتْ مجلة Arabica
للعام 1952 الكاتب بفقرة تقول فيها عنه: كاتب من أصل
سوري، ولد في نهاية القرن التاسع عشر، وعمل في
أوساط المستشرقين، وعُرِفَ بفضوله كباحث ترك
عدة أعمال مكتوبة. والطريف اليوم أن هذا النتاج
الأدبي السوري المكتوب باللغة الفرنسية
مازال مستمرًا إلى الآن؛ ما يؤكد مدى غنى
وتنوع التركيبة الاجتماعية والثقافية
لمجتمعنا. من الكتَّاب السوريين الفرانكوفون
نذكر: الروائية مريام أنطاكي،
السيدة مريام عبد النور، والسيد موسى
خليل، وخاصةً الأديب السيد أفاديس
أبكار تاميزيان، ابن رأس العين. وهذا
الأخير شاعر وطني عروبي مخلص؛ له العديد من
الدواوين الشعرية الفرنسية، وتمتاز قصائده
بجمالها وعذوبتها. ومن قصيدته "سورية"
اخترت ما يلي: زخرفة روحي أجنحة موسيقاي العميقة نوافذ ليالي أشعر بك مثل طفل جاء يومًا من
أفق جريح سورية بلد طفولتي وحبِّي الأول أحبك أحبك أحبك وأدب أفاديس يقودنا إلى أدب آخر
ازدهر وترعرع أيضًا في سورية هو... 2 الأدب
الأرمني... حيث يحتل الشعب الأرمني في
سورية مركزًا مرموقًا. فهو من الشعوب التي
مرَّتْ على المنطقة واستقرَّت بها وأثَّرتْ
فيها. وحضور الأرمن قوي في حلب وفي منطقة
اللواء، حيث كانوا يشكِّلون خمس السكان، أي 43
ألف مواطن من أصل 240 ألفًا في نهاية القرن. لكن
الهجرة الكبرى للأرمن إلى سورية كانت في
بداية هذا القرن بعد المذابح التي تعرضوا لها
في تركيا، وتحديدًا في العام 1915، وهروبهم إلى
الشمال والشمال الشرقي منها. وقد قدَّم لهم
السوريون خير ملجأ وأفضل حماية.[6]
وقد مارس الأرمن الذين تأقلموا وعاشوا في
سورية مختلف المهن، ووصلوا إلى أعلى المراتب
والمناصب الحكومية نتيجة ارتباطهم بهذا
البلد الذي رعاهم.[7]
وكانت حلب من أهم مدن المهجر بالنسبة للأرمن
ولغيرهم، لما امتازت به من استقرار وأمن؛ مما
شجع الأقليات المختلفة على التعايش فيها
جنبًا إلى جنب. فمنذ 5 قرون تأسَّست في حلب أول
مدرسة أرمنية؛ ومازالت إلى الآن مدرسة
ابتدائية. بدأ الأرمن أولاً بإرسال
نتاجهم الصحفي إلى صحف استنبول وإزمير، لأنها
كانت تصدر باللغات الثلاث التركية والعربية
والأرمنية. بعد ذلك، ونتيجة انتشار الصحافة
الأرمنية في أماكن وجودهم، قام المثقفون
الأرمن بنشر نتاجهم في الصحف "المحلِّية"،
إن جاز التعبير. ففي حلب، مثلاً، كانت هناك
صحيفة الفرات الصادرة قبل الحرب العالمية
الأولى التي استمرت حتى الستينات؛ وكانت تصدر
أولاً باللغات الثلاث. وهي جريدة عائدة
لبلدية حلب، كتب فيها الأرمن الذين كان
نتاجهم الصحفي يتراوح بين المقالات والأخبار
السياسية والأخبار الأدبية، من شعر وقصة إلخ.
وأيضًا، في كتابه تاريخ الصحافة الأرمنية
يذكر المؤلِّف هاكوب
جولاكيان أنه ما بين 1918 و1978 صدرت في حلب
115 صحيفة ناطقة باللغة الأرمنية، تتضمن صفحات
سياسية وأدبية رياضية علمية وللأطفال، أهمها بورستان
– "حديقة الأطفال" – التي استمرت في
الصدور من العام 1950 وحتى 1957؛ وقد كانت صحيفة
شهرية تصدر عن اتحاد المعلِّمين الأرمن.
وأيضًا كانت الصحف الصادرة إما يومية أو
أسبوعية أو شهرية؛ استمرت منها لغاية
الستينات ثلاث صحف هي: الفرات، سورية،
وأريفيلك. أما حاليًّا فهناك صحيفة رسمية
متنوعة. والاتجاه العام لهذه النشرة وطني
سوري لا غبار عليه. أما جريدة نايري
العلمية التي صدرت في العشرينات لصاحبها
أنترانيك تزاروكيان فقد هاجرت إلى لبنان مع
هجرة قسم منهم إليه. إن الشعب الذي أصدر حوالى 100
صحيفة خلال 80 عامًا، وأقام عددًا من المسارح
وفرق الكورال، جدير بأن ينجب العديد من
الأدباء والشعراء. ونتيجة للوجود الأرمني في
حلب فقد كانوا هناك أكثر ظهورًا، تليها كسب ثم
دمشق. من كتَّابهم: -
أرمين أنوش،
الذي أصدر كتابًا بعنوان حكاية مدينة
محترقة، وهي رواية تتكلَّم عن مدينة الرها. -
سيمون
سيمونيان، الذي أصدر كتابًا يتضمن مجموعة قصص باسم
أوهان الحمَّال، تُرْجِمَ من بعدُ إلى
العربية. -
طوروس
طورانيان، الذي له رنات صامتة، حيث يتكلَّم عن
حياة طبيب. -
هايك
باريكيان، الذي له: تاريخ المطابع الأرمنية
(1973) وديوان بعنوان القطاف (1962)، تُرْجِمَ
إلى العربية ونُشِرَ في جريدة الجماهير
المحلِّية. -
أنترانيك
زاروكيان، الذي له رواية بعنوان أناس بلا طفولة،
يتحدث فيها عن وصول الأرمن إلى حلب. لكن – وبقليل من التفصيل –
استنادًا إلى كتاب كاتبات سوريات، سأتحدث
بعض الشيء عن السيدة لوسي
سلاحيان، من مواليد حلب، التي كتبت
الشعر بالفرنسية. فهي غارقة في الأدب حتى
أذنيها، تحاور الأدباء العرب والسوريين
لتنشر هذه المحاورات في الدوريات الأرمنية.
لها مجموعتان قصصيتان: الأولى بالعربية
والثانية بالأرمنية، حب وبعده حب.
امتازت قصصها بالرومانسية والمعاناة
العاطفية والنفسية. تقول في إحدى قصصها
بعنوان "على عتبة جهنم": ... أين أنت أيها النسيان؟ أين
أنت أيها الانسحاب من الواقع، النكوص من فوق
مرتفعات الجبال، الانسلال من أعماق البحار؟
أين أنت أيها السلام الذي يخيِّم على
الأحزان؟ ما الفرق بين أن يموت المرء أو أن
يفقد شعوره؟ والواقع أن اللقاءات التي كانت
ترتِّبها السيدة سلاحيان بين الكتَّاب العرب
والأرمن قد أسهمت في تلاقح الأدبين وتعميق
التبادل بينهما. ومن جملة نشاطات هذه الأديبة
المتميزة إنشاء صالون أدبي باسم "سيفاك"،
تيمنًا بالشاعر الأرمني سيفاك؛ وفيه كان
يلتقي الأدباء العرب والأرمن. ومن الملاحظ أن
هذه الكاتبة هي المرأة الوحيدة في الأدب
الأرمني السوري. وأيضًا، من الشخصيات الهامة
ذات المكانة الثقافية والأدبية والاجتماعية
المرحوم الدكتور كيفورك
تاميزيان، الذي له عدة دواوين شعرية.
وقد تُرْجِمَتْ بعض قصائده إلى العربية وصدرت
في كتاب بعنوان سيريناد؛ ويعود تاريخ بعض
القصائد فيه إلى العام 1967. وهو يقول في قصيدة
قديمة بعنوان "أن تكون": أن تكون تكون وتعيش هذه العبودية الطويلة أن تكون هذا الشائك اليائس هذه الخلايا المكبَّلة وتنحلَّ حلقة إثر حلقة وتغدو مسكينًا ألاَّ تكون أن تكون أن تعيش هذه العبودية دخانًا أن تحبَّ قيودها أن تنسج هذا السجن المشمس
وتغنِّيه فقط كي تكون. ومن الكتب الهامة كتاب سنوي صدر
لأول مرة في حلب في العام 1975 باسم كيغارت؛
وله هيئة تحرير، ويستعرض نشاط الأرمن
الاقتصادي والرياضي والأدبي، بالإضافة إلى
عدد من الكتب الطبية والموسيقية. أما النقطة الأخيرة التي
سأتعرض لها ههنا فهي موضوع الترجمة بين
اللغتين العربية والأرمنية، حيث قامت وزارة
الثقافة بنشر وترجمة بعض النتاج لتعريف كلِّ
شعب بثقافة الآخر وفكره. وقد بدأت هذه الحملة
منذ بداية هذا القرن واستمرت إلى الآن.
وأخيرًا، وبشهادة أصحاب القضية، فإن الأرمن
في سورية مروا بفترة ركود من الناحية الأدبية
والصحفية، استمرت حتى فترة السبعينات،
ولكنهم عاودوا من بعدُ ليتابعوا نشاطهم
بغزارة. 3 الأدب
السرياني السريان من أقدم الشعوب في
المنطقة. لهم حضارتهم العريقة وتاريخهم
الطويل ومساهماتهم المتعددة في بناء الحضارة
العالمية القديمة. وهذه المساهمة متعددة
الفروع قي مجالات السياسة والاجتماع
والقانون والأدب والفلسفة والفن وغيرها. وقد
حافظ السريان على لغتهم، لفظًا وكتابةً، منذ
آلاف السنين والى الآن. قسم منهم من الآراميين
الذي اعتنق الدين المسيحي الجديد وسُمُّوا بـ"السريان".[8]
اشتهر السريان بحفاظهم على تراثهم ونقله
شفهيًّا إلى الأجيال اللاحقة. يقع مركزهم في
الشمال الشرقي من سورية. اهتموا بالزراعة،
كغيرهم من الشعوب التي عاشت في مناطق ذات مياه
وفيرة. وأيضًا، لم تكن مساهمة السريان في بناء
سورية قديمة فقط، بل مازالوا يساهمون، جنبًا
إلى جنب مع باقي أفراد الشعب السوري، في بناء
هذا الوطن الصغير. ونشير هنا إلى أن النشاط
الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي الذي عاشه
السريان بعد تعرضهم للقتل والتهجير في بداية
هذا القرن ساهم في إنتاج صحافة وأدب امتازا
بالغنى والتفرد والارتباط بالجذور. وقد نشر
السريان السوريون كافة نتاجهم في سورية آنذاك
لتوفر المطابع (توجد حاليًّا ثلاث مطابع في
حلب والقامشلي)، مما ساهم في حفظ ونقل هذه
اللغة إلى الأجيال اللاحقة. أما الصحافة السريانية فهي لم
تحتل ما احتله الأدب من شهرة وديمومة، نتيجة
للتنقلات المستمرة بين المناطق التي يعيش
فيها السريان. لكن من أهم الدوريات الصادرة في
منتصف هذا القرن النشرة السريانية الحلبية
التي بدأت بالصدور في العام 1944 واستمرت حتى 1950؛
وهي تتألف من 100 صفحة ذات قطع صغير، كانت تُصدر
أحيانًا أعدادًا مزدوجة أو ثلاثية حسب الظروف.
وهي تبحث في مواضيع متنوعة، ثقافية واجتماعية
ودينية، وتتابع كلَّ جديد. وننتقل الآن إلى عامودا، حيث
كانت تصدر نشرة غير دورية باسم صوت الجزيرة،
باللغتين العربية والسريانية، ويتراوح عدد
صفحاتها من 15 إلى 40. وقد كتب في صدر صفحتها
الأولى "نشرة عربية سريانية إصلاحية". أما في القامشلي، فقد صدرت في
العام 1949 واستمرت حتى 1951 نشرة يومية غير
دورية، حصرًا بالسريانية، عن ثانوية النهضة.
وقد شارك في تحريرها نخبة من الطلبة
المتفوقين باللغة السريانية منهم: برهان
إيليا، اسحق إبراهيم،
د. غبرييل دودش، سليم
داوود ملكي، أفرام
غريب. وهذه النشرة تربوية توجيهية
ثقافية، يتراوح عدد صفحاتها بين 2-4. وأيضًا،
بالإضافة إلى ما سبق، هناك العديد من النشرات
الصادرة عن الطائفة السريانية في المحافظات
تبحث في أمور الدين والتراث والاجتماع، كـالمجلة
البطريركية الصادرة في دمشق. أما الأدب السرياني، من خلال
المصادر القليلة الشخصية التي استطعت الحصول
عليها، فهو أدب ديني أولاً، ومدرسي ثانيًا.
وسبب ذلك، ربما، لأن الطقوس الدينية مازالت
تمارَس باللغة السريانية. فكانت النتيجة ظهور
أدب ديني وأناشيد دينية كثيرة متنوعة،
بالإضافة إلى موسيقى سريانية غنية يجري الآن
إحياؤها من خلال بعض التسجيلات. وقد أردت فقط ذكر هذه النقطة،
دون التوسع فيها، لأن الأدب السرياني بحر
كبير؛ ما يفترض أن نتركه لأصحاب الاختصاص كي
يغوصوا فيه. وهذا الأدب هو أدب عريق قديم،
فلسفي وحكمي؛ وحديثه في معظمه ديني روحي. ولقد
تأثر، كغيره من الآداب، بالزمان وبالمكان.
فالقافية، مثلاً، عرفها السريان في القرن
التاسع الميلادي، مقتبسينها من جيرانهم
العرب. ولشعرهم أوزان، منها الوزن "السروجي"
والوزن "الأفرامي". وقد تنوعت مواضيع الأدب
السرياني الحديث وتعددت، كالكتابة عن
الطبيعة والحبِّ والجمال والقومية وسواها.
وأيضًا، بالإضافة إلى الشعر المقفَّى، هنالك
الشعر العامي الذي ظهرتْ بواكيرُه مؤخرًا،
ولمعت فيه بعض الأقلام الشابة، مثل ساكه
دقرباشي. ونشير هنا إلى أن مآسي السريان
في أثناء الحرب العالمية الأولى (سفر برلك)
أنتجت أدبًا يرشح أسًى ودماء؛ عبَّر عنه يوسف
شاهين وكلو شابو
ونعمات إيدين. ومازال
هذا الأدب يتابع نشاطه، حيث تجري سنويًّا في
القامشلي مسابقة رسمية أدبية باللغة
السريانية، كان شعارها في العام 1999 "الأدب
السرياني، ماضيًا وحاضرًا"، وشاركت فيها
فرق كورال لإحياء التراث الموسيقي، القديم
والحديث، ووُزِّعَتْ فيه الجوائز على
الفائزين في الشعر الفصيح للسيدين يونان
يونان والياس أفرام،
وفي الشعر العامي للسادة حبيب
روهام ويعقوب لحدو
وسمعان عيسى؛ كما فازت
بالدرجة الثانية في الترجمة الأستاذة أحلام
كورية. إن استمرار هذه المسابقة
السنوية على التوالي دليل، ربما، على صحة
المناخ الأدبي في سورية حاليًّا. لذلك فإني، قبل التوسع قليلاً
في عرض هذا الأدب، لا بدَّ من الإشارة إلى أن
الكثير من المثقفين والأدباء السريان قد
اهتموا، قبل كلِّ شيء، بناحية هامة في مجال
اللغة؛ تتعلق بتأليف وطبع الكتب المدرسية
لتسهيل تعلم لغتهم والحفاظ عليها، بالإضافة
إلى نشر القواميس باللغتين السريانية
والعربية. وقد طُبِعَتْ هذه كلها في سورية.
لذلك فإني لن أذكر هنا النتاج التعليمي
للأدباء السريان في أثناء ذكري لمجمل أعمالهم. وأبدأ بالرعيل الأول من أدباء
هذا القرن: -
السيد نعوم فائق
(1868-1930)، الذي ولد في ديار بكر، وله نشاطاته
الصحفية. أصدر جريدة كوكب الشرق حوالى
العام 1908، ثم أنشأ في المهجر صحيفة بين
النهرين في العام 1916 باللغات السريانية
والعربية والتركية. وقد كان شاعرًا رقيقًا؛
له ديوان صغير يغلب على مواضيعه الحنين إلى
الوطن والدعوة إلى اليقظة ومحبة الكنيسة
والعلم والافتخار بتراث الأجداد. من أشهر
أعماله ترجمته رباعيات الخيام إلى
السريانية. بلغ عدد مؤلفاته الـ34، موزعة بين
قواميس وترجمات وسِيَر. هذا ويذكر في أحد كتبه
أن مجموع الألفاظ السريانية في اللغة العربية
حوالى 1537 لفظة شائعة. -
كلو شابو من
القامشلي. وقد أجاد السريانية إجادة تامة. له
قصيدة طويلة في وصف آلام الشعب السرياني في
أثناء الحرب العالمية الأولى؛ وله كتب عديدة
في النحو والحسابات والأعياد وكتب دينية. -
يوحنا دولباني،
المتوفى في العام 1969. من آثاره الأناشيد
السريانية الحديثة التي طبعت في حلب في
العام 1952، ومجموعة مقالات متناثرة. -
الياس
إشعيا، الذي من أهم أعماله ترجمته لقصة جنفياف
إلى السريانية، وكتاب عن حروب طهماسب خان
الفارس، بالإضافة إلى ديوان شعر صغير صدر في
العام 1962. -
أنطون دبوس،
من مواليد قرية فيروزة في حمص في العام 1916. وقد
مارس التعليم. ومن اشهر قصائده لامية العجم؛
وهي في الأصل للإمام مؤيد الدين الطغراني. وقد
ترجم أيضًا عن الفرنسية السيد لكورنيي
وقصائد لطاغور صدرت بعنوان غيوم وأمواج. -
كبريال أسعد.
من سكان القامشلي. تجلَّى نشاطه في تلحين
الأناشيد السريانية وكتابة أناشيد جديدة. له
كتاب طُبِعَ في حلب في العام 1953، فيه 16 نشيدًا
لمجموعة من الشعراء، كـيشوع
صاموئيل، الذي ولد في قرية حلو شمال
سوريا في العام 1907. اهتم بتأليف الكتب
المدرسية، التي منها سلسلة مرشد المبتدئ
إلى اللغة الآرامية؛ وله أيضًا ترجمات
عديدة من السريانية إلى الإنكليزية والعربية. -
سليمان حنا الأركحي،
الذي من أهم قصائده، بالسريانية طبعًا، قصيدة
عن شاب صمَّم على السفر إلى الغرب، فَرَجَتْه
أمُّه ألا يفعل؛ إلا أنها فشلت في مسعاها
وماتت في ضيعتها وقلبها كسير. يقول في هذه
القصيدة: ... يا ابني الحبيب، سمعتُ خبرًا أحزنني كثيرًا ومن الكآبة التي أحاطت بي أصبحت مضطربة ومشوَّشة... ويتابع
في القصيدة تصوير حياة آلاف الشبان الذين
هاجروا من أرض الجدود إلى الغرب ومعاناة أمه
في الوطن. -
يوحنون قاشيشو،
الذي له سلسلة قصص بالسريانية لمنفعة
الشبيبة، منها: قصص من الشرق، وحمورابي،
وقصص للأطفال. وقد نُشِرَتْ قصائده في النشرة
السريانية الحلبية وفي الجرائد والمجلات
في حلب والقامشلي. -
وفي حلب هناك أيضًا برصوم
أيوب الذي اهتم بالتدريس، وعُيِّنَ
أستاذًا محاضرًا للغة السريانية في جامعة حلب.
وله مؤلَّفات عديدة، منها ترجمته لكتاب المواكب
لجبران. -
أوكين برصوم،
من مواليد حمص في العام 1928. وقد نشر أول أعماله
في العام 1978. كان رئيس ديوان غرفة التجارة
والصناعة. من مؤلَّفاته المطبوعة ديوان شعر
بعنوان أوراق الربيع وتاريخ الصحافة
السريانية وأضواء على أدبنا السرياني،
الذي استقيت منه معلومات هذا الفصل. -
أما جورج صليبا
فهو من مواليد العام 1945 في القامشلي. وله،
بالإضافة إلى مؤلَّفاته السبعة المنشورة،
تلك الـ12 المنشورة بين القامشلي وبيروت. وأهم
أعماله، برأيي، ترجمته لـميثاق حقوق
الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة إلى
السريانية. يقول في إحدى قصائده: قل لي أيها النهر إلى أين
المسير؟ أإلى الفرات أو إلى دجلة؟ أإلى ما بين النهرين تراب
الأجداد ومرقد الآباء السريان الأمجاد؟ أما أهم ثلاثة أدباء معاصرين،
بشهادة الباحثين في الأدب السرياني، فهم:
السادة غطاس مقدسي الياس، وحنا سلمان، وفولوس
كبريال، وذلك لتنوع مواهبهم في مجالات الأدب
والصحافة والترجمة، بالإضافة إلى تبوئهم
مراكز إدارية في حياتهم. لذلك أُطلِقَ عليهم
لقب "فرسان الأدب السرياني". -
ونبدأ بـغطاس مقدسي
الياس: من مواليد العام 1911. تخرَّج من
الليسيه الفرنسي في العام 1932. مارس التعليم
لفترة قليلة، ثم عُيِّنَ في الجمارك السورية
وتقاعد في العام 1962. من آثاره الأدبية في مجال
الترجمة أنه ساهم، مع آخرين، في ترجمة رواية بول
وفرجيني. وفي مجال الصحافة كان المسؤول
الثقافي في النشرة الثقافية في العام 1944.
كما نشر عددًا كبيرًا من المقالات النثرية
البليغة في النشرات المحلِّية والعالمية. وله
باع طويل في نظم الأناشيد المدرسية، حيث له
أكثر من 40 قصيدة منشورة في كتاب أضواء على
أدبنا السرياني. امتاز شعره بالعذوبة ونثره
برونقه الخاص. خاض عباب اللغة السريانية،
فأخرج أثمن اللآلئ. هذا ما قيل عنه في الكتاب
الآنف الذكر. وهو يقول في إحدى قصائده بعنوان
"مرسال": يا عصفور الجنائن اهدِ قلبي
لحبيبتي خذ لها اشتياق قلبي الولهان ودموعًا ساخنة من عينيَّ
الساهرتين وغنِّ لها بصوت شجي القصيدة
طويلة؛ وقد اخترت هذه الأبيات من المقدمة. أما
في قصيدة أخرى ذات طابع غزلي فيقول: كم تبدو سيدتي الحبيبة جميلة
وطاهرة لعين ناظرها عندما ترمي السلام -
أما فولوس كبريال،
المتوفى في العام 1971، فهو "الفارس"
الثاني من فرسان الأدب السرياني المعاصر. ذو
مزايا إدارية تعليمية وأدبية. في أوائل
الستينات أصدر سلسلة من الكتب تتعلق بآداب
اللغة السريانية وأشهر أدبائها. وفي مجال
الصحافة له مقالات متناثرة في حلب وبيروت
ونيويورك. أما شعره، مع الأسف، فمازال ينتظر
الطبع. وقد قيل فيه إن أسلوبه جميل؛ حين تقرأ
واحدة من قصائده تشعر بأنك أمام شاعر فياض
القريحة، شائق اللفظ. مزج في كتاباته الشرق
والغرب، فأبدع وأجاد. لكن، نتيجة للظلم الذي
وقع عليه، فإن الحزن يخيِّم على معظم ما كتب. -
وأخيرًا، هناك حنا سلمان،
المتوفى في العام 1981. هو "الفارس" الثالث
الذي تجلَّتْ مواهبه الإدارية بإدارته لعدة
مدارس لفترات طويلة. ثم انتقل للعمل في إدارة
مؤسَّسة كهرباء القامشلي الشعبية المساهمة،
التي أُمِّمَتْ فيما بعد. عمل في مجال
الصحافة، حيث شارك زميليه سعيد أبو الحسن
ويعقوب شلمي في إصدار مجلة الخابور
الزراعية. امتاز بموهبة لم يجارِه فيها أحد،
ألا وهي الخطابة. حيث يقال إن حنا سلمان خطب
أمام أول رئيس لجمهورية سورية المستقلة
حديثًا في العام 1946، السيد شكري بك القوتلي،
يوم زار الجزيرة لأول مرة؛ فأعجب الرئيس
بالخطيب الشاب – وكان هو نفسه خطيبًا شهيرًا
– فتوطدت الصداقة بين الاثنين. ورغم مشاغله
الكثيرة، فقد كان يجد وقتا للكتابة، نثرًا
وشعرًا. له أكثر من 100 قصيدة أثبت فيها أنه من
حملة ألوية البيان الشعري السرياني في القرن
العشرين. مخزونه الأدبي والصحفي لم يُجمَع،
مع الأسف، وقسم كبير منه لم يُنشَر. يقول في
إحدى قصائده: هل هناك خجل أكبر من الجهل
المنبوذ؟ إن اقتنينا غنى العالم ولم نحصل
على العلم فنُحسَب جهَّالاً نشبه بذلك
الحيوانات لماذا نتأخر هكذا في عصر النور
والاختراعات؟ فلنقرأ ونتعلَّم ونتشبَّه
بالأجداد كما لاحظتم، لم تكن مساهمة
السريان بالقليلة في رفد الأدب السوري. فهم،
كغيرهم من الأدباء السوريين، أثبتوا أن اللغة
وسيلة للتواصل مع الماضي والحاضر ومع
الآخرين، وأنهم كانوا جسرًا من جسور هذا
العالم المتعدد. لكن – وهذه كلمة حق تقال – إن
التقصير في جمع ونشر وترجمة هذا الأدب أعطى
فكرة خاطئة مفادها أن الأدب السرياني كان فقط
أدبًا دينيًّا. وقد تبيَّن لي أن هذه النظرة
غير دقيقة؛ فباقي فروع الأدب لا تقل أهمية عن
الأدب الديني. لذلك نتمنَّى ترجمة هذا الأدب
ونشره ليتعرَّف عليه الآخرون. ملاحظات توضيحية إضافية: هناك أشياء مشتركة بين هذه الآداب
الثلاثة، لا بدَّ من ذكرها أيضًا: -
كافة الإصدارات التي استشهدت بها هي
إصدارات سورية، أي طُبِعَتْ ونُشِرَتْ في
سورية، ووضعها أدباء سوريين. -
موضوع المجازر
التي تعرَّض لها الشعبان الأرمني والسرياني
من قبل الاحتلال العثماني أنتج أدبًا يحتاج
وحده إلى محاضرة كاملة لغناه وصدقه. -
في مجال
الصحافة السريانية والأرمنية استشهادي بثلاث
صحف لا يعني عدم توفُّر صحف أخرى. -
هناك الكثير
من الأسماء الأدبية التي لم تَرِدْ في
المحاضرة، ليس لقلة أهميتها، بل لأن ذكرها
يحتاج إلى مزيد من الوقت. 4 الخاتمة هذه الفسيفساء الجميلة هي
سورية. وهذا الأدب، العريق في قدمه والحديث في
أساليبه، هو أدب سوري. فكلُّ بيت شعر يقال
وكلُّ قصة تُكتَب تساهم في رفع قدر سورية أكثر
فأكثر. فلنحافظ على تراثنا، لنزداد تقاربًا،
ولنبدع أشكالاً جديدة، بلغات متعددة. لا يهم
إن كانت بالعربية أو بالأرمنية، بالكردية أم
بالفرنسية؛ فالكل يصبُّ، في النهاية، في صالح
الإنسان. *** *** *** [1]
مع الأسف لم
أستطع الحصول على تواريخ صدور هذه الجرائد
وتوقفها بدقة نظرًا لقلة الأعداد المتوفرة
منها في المكتبة. هناك مثلاً جريدة يوجد
منها عددٌ واحد في المكتبة، هو العدد الذي
استشهدت به. [2]
من النادر،
على سبيل المثال، أن تجد أديبًا فرنسيًّا
كتب باللغة الألمانية في أثناء الحرب
الثانية. [3]
صدرت الطبعة
الثانية من هذا الكتاب في العام 1988 عن دار
طلاس. [4]
أسجِّل هنا
أني في الواقع استشهدت فقط بهذا المثال لأن
مجال المؤلَّفات الجامعية وإصدارات
الجامعة السورية كثيرة، لا مجال للبحث فيها
كلها؛ إنما أعطيت مثالاً للتذكير بهذا
النوع من الأدب. [5]
تحتفظ المكتبة
الوطنية في باريس بالنسخة الوحيدة
المتبقية من كتابه آثار شرقية ووصفية. [6]
هنالك الكثير
من القصص التي تروي عن استضافة بدو الجزيرة
للأرمن المهاجرين وإعطائهم الحماية
والأمان والتزاوج معهم لإعطاء نوع من
الشرعية لبقائهم. [7]
أشير هنا إلى
أني لن أبحث دور الأرمن ومساهمتهم
الاجتماعية والاقتصادية في سورية، بل
سأكتفي بإلقاء نظرة سريعة على نتاجهم
الصحفي والأدبي. [8]
يقال إن لفظ
كلمة "سورية" تعني السريان، وهي مشتقة
من اسمهم.
|
|
|