|
الريحاني المخترق
عصره إلى عصرنا* بين الكاتب الذي
يكتب مَرضاةً للقوم والكاتب الذي يكتب
مَرضاةً للحقيقة يشبِّه أمين الريحاني الأول
بالثمر من البلح، والثاني بالنواة. ويستطرد
قائلاً: "فكُلِ الأول هنيئًا ولكن اعلم –
رعاك الله – بأن النواة التي تنبذها خارجًا
تخرق الأرض وتتوارى في التراب إلى حين. ثم
يسوق الله إليها سحابًا فيسيل ماءٌ فيحييها
بعد موتها فتبزغ وتنمو ويكثر ظلُّها ويأكل من
ثمارها أعقابُك وأحفادُك وبنوك." مرَّ على صدور هذه
الكلمة من الريحاني مائة عام. وقعتُ عليها في
أثناء جولة طويلة وممتعة في أدب الريحاني،
كنت خلالها أشعر بتواصل حقيقي وآسر مع كلِّ ما
قال وكتب. ولكن الشعور الأهم الذي لازَمَني في
صحبة نصوصه هو أن الريحاني يخاطبنا الآن، عن
بُعد قرن من الزمان، بالدرجة نفسها التي خاطب
فيها أبناء عصره – بل هو أقرب إلينا منهم.
أمين الريحاني يوجد، من وجهة نظري،
سببان لهذا الشعور بأن الريحاني فيما هو يكتب
عن عصره يكتب عن عصرنا: 1.
أحدهما يتصل
بظاهرة لا تقتصر على الريحاني وحده، بل تكاد
تلازم كلَّ الأعمال المبدعة التي يؤديها
أفراد مميَّزون في جميع حقول الحياة، وخصوصًا
في حقول الأدب والفن. فمن خصائص هذه الأعمال
أن درجة أصالتها وصدقها في التعبير عن هموم
عصرها (وهي هموم متغيرة ومتجوِّلة) تَصِلُها
بما هو أبعد من عصرها، أي بما هو ثابت
ومتجدِّد من هموم الكائن الإنساني وحاجاته
المتجددة للحبِّ والعدل والحرية، ومن أسئلته
الخالدة عن الإنسان والكون والوجود. كلُّ نص يتحدث عما هو
عابر وزائل من أحداث الحياة وهمومها يغدو
نصًّا عابرًا وزائلاً – ما لم يتصل، بدرجة أو
بأخرى، بنار الأسئلة الخالدة. وهذا الاتصال
هو الذي ينقل النصَّ من درجة التقرير، ومن
حدود الزمان والمكان، إلى ما يتجاوزهما في
استحضار "تلك الرعشة الإنسانية السحرية
التي نقصِّر عنها حتى الدموع"، كما في
تعبير الشاعر الإنكليزي ووردزوورث. وفي شعر
أمين الريحاني وأدبه الخالص ما يجعلنا على
مقربة من ذلك الإحساس الغامر بنشوة الاتصال
بالينابيع السرِّية العميقة، لنفتح أسئلة
الوجود والحرية. وميزة أمين الريحاني
أنه ليس في شعره وأدبه الخالص فحسب، بل في
نصوصه الأخرى، اجتماعية كانت أو سياسية أو
نقدية، تظل الصلة قائمة ولا ينقطع الخيط الذي
يصلها بما هو حيٌّ ومتجدد من أسئلة الحياة
والوجود التي لا تتصل بزمان ومكان ولا تنفد
بنفاد الأزمنة والأمكنة العابرة. 2.
وثمة سبب آخر
لتوليد الشعور بأن الريحاني، فيما هو يكتب من
عصره وعنه، يكتب من عصرنا وعنه أيضًا. وهذا
السبب لا يتصل بالريحاني خاصة، ولكنه يتصل
بمفارقة تخصُّ تاريخنا الحديث السياسي
والاجتماعي، بين عصر النهضة في أواخر القرن
التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (والريحاني
أحد أبرز أعلامها) وبين اللحظة الراهنة
الواقعة في مطلع القرن الحادي والعشرين.
والمفارقة التي أشرت إليها هي أن أسئلة عصر
النهضة وتحدياته مازالت هي هي أسئلتنا
والتحديات التي تواجهنا – سواء منها ما يتعلق
برؤيتنا للعلاقة مع الذات والتراث، أو
برؤيتنا للعلاقة مع الغرب، أو بإشكاليات
الدين والدولة، أو بأسئلة الوحدة والتعدد،
وغيرها من الإشكالات والأسئلة المطروحة، على
الأقل، من أواخر القرن التاسع عشر – بما
يفترض أن مائة عام من الثورات والتحولات
الجذرية في عالمنا كانت كفيلة لتمثُّل أسئلة
النهضة وتجاوزها إلى أسئلة جديدة. لكأننا
عنصر الثبات الوحيد في هذا العالم المتحوِّل! بين الأدبيات التي
عالجتْ وقدَّمتْ رؤًى وتصوراتٍ لإشكالية
العلاقة بين الشرق والغرب في عصر أمين
الريحاني لم أجد مفكرًا عربيًّا، على الأقل،
كأمين الريحاني استطاع أن يأخذ هذه الإشكالية
من دائرة التداول السِّجالي القاصر، بين رفض
كامل للغرب وقبول مطلق له وبين نزعة حسابية في
الانتقاء بين ما نأخذ وما نرفض، إلى دائرة حية
ذات نزعة نقدية، تجلَّى فيها، من بين ما
تجلَّى، تمثُّل أمين الريحاني العميق لجوهر
الحضارات وللأسُس المشتركة التي تحتِّم
علاقة الحوار والتكامل بينهما. في وسع قارئ الريحاني
اليوم أن يقدِّم من نصوصه سيلاً من الأمثلة
لرؤيته التي اخترقتْ عصرَه، وصولاً إلى
عصرنا، بما يجعل قراءة الريحاني، في تقديري،
شرطًا عضويًّا من شروط تمثُّل الثقافة والوعي
الضروريين لإنتاج قاعدة وأفق لأيِّ مشروع
نهضة أو تحول تاريخي، سواء على مستوى الأمة أو
على مستوى لبنان الوطن. فكم سيكون فكر النهضة،
على مستوى الوطن العربي، فادحًا إذا غاب عنه
كتاب أمين الريحاني الموسوعي المسمَّى بـملوك
العرب؛ وكم سيكون فادحًا ومخجلاً أن لا
يكون كتاب أمين الريحاني قلب لبنان في
أساس أية حركة نهوض شاملة يتطلَّع إليها
اللبنانيون من أجل وطن يليق بآمالهم
وطموحاتهم. من بين الكثير الذي
استوقفني في فكر الريحاني وأدبه أشير إلى
محاضرة ألقاها في نيويورك في احتفال لجمعية
الشبان المارونيين تحت عنوان "التساهل
الديني" في العام 1900، لم أجد أبلغ منها في
الدعوة إلى التسامح الديني وفي التمييز بين
ما هو في جوهر الدين وبين ما هو غريب عنه، عالق
فيه، من مصالح البشر وأهوائهم ونزوعهم إلى
الاستئثار والاستبداد. لكأنَّ أمين
الريحاني، العازف عن متع الحياة وأمجادها
الزائلة، مغرِقًا أيامه في الكتابة والسفر
والتأمل والبحث المضني، يريد أن يقول لنا –
الآن – أنه لم يكن زاهدًا بنعمة الحياة. كان
أكثر احتفاءً بها، فلم يرضَ بحياة واحدة، بل
راح يدأب في صنع النواة، بل أراد لنفسه أن
تكون النواة التي تحدث عنها قائلاً: "إنها
تخرق الأرض وتتوارى في التراب إلى حين. ثم
يسوق الله إليها سحابًا فيسيل ماء فيحييها
بعد موتها فتبزغ وتنمو ويكبر ظلُّها ويأكل من
ثمارها أعقابُك وأحفادُك وبنوك." *** *** *** عن
النهار، الخميس 6 تشرين الثاني 2003 * ألقيت
هذه الكلمة في ندوة حول أمين الريحاني دعت
إليها "صادر للفن". |
|
|