|
النقاش الكبير
حول النظرية الكوانتية* فرانكو
سيلِّري، مؤلِّف هذا الكتاب القيِّم، أستاذ
الفيزياء في جامعة باري، وعضو في أكاديمية
العلوم في نيويورك، وعضو في الهيئة الإدارية
لمؤسَّسة لوي دُهْ بروي
العلمية. ويتوجَّه الكتاب إلى القارئ المختص
وإلى فلاسفة العلوم؛ ويناقش فيه المؤلِّف تلك
المشكلات الناجمة عن الفيزياء الكوانتية،
ويبحث في أصلها وفي حلولها الممكنة. لقد وُضِعَتْ أسُس
الفيزياء الكوانتية في العام 1927. ويشكِّل
مبدآ عدم اليقين Uncertainty
(أو الريبة) لهايزنبرغ Heisenberg
والتتامِّية Complementarity
(أو التكامُلية) لبوهر Bohr،
الأساسَ النهائي للصرح الرياضي لهذه
النظرية، الذي منه قام العلماء بتعميم
النظرية وتوسيعها. وقد لاقت النظرية
الكوانتية نجاحًا منقطع النظير، لم تحظَ به
أية نظرية أخرى. وقد وُلِدَتْ الفيزياء
الكوانتية عن الفيزياء الذرية؛ وهي تختص
بدراسة الذرات الفردية وتجمعاتها، أي دراسة
خواص المادة كلِّها. وللفيزياء الكوانتية
صعوباتُها أيضًا، كمسألة التباعد (أي ببساطة
الحصول على رقم لانهائي لدى جمع طاقات
القُسَيْمات). وقد وُجِدَ حلٌّ رياضي مصطنع
لهذه المشكلة (عملية التسوية). أما الصعوبة
الثانية فهي تكمن في ذلك العدد الهائل من
القُسَيْمات "البسيطة" التي تمَّ
اكتشافها حتى يومنا هذا. وما يثير في النظرية
الكوانتية هو الضوء الجديد الذي تلقيه على
مفهومي الحقيقة والواقع Reality. لهذا، منذ أن
ظهرت النظرية الكوانتية إلى حيِّز الوجود،
دار نقاشٌ حادٌّ بين مؤسِّسيها أنفسهم؛ وكان
من نتائجه الدرامية المباعَدة بين علماء
كانوا أصدقاء تشاركوا في أعمال علمية. ويمكن
تلخيص النزاع في ثلاثة أسئلة أساسية: 1.
هل الكينونات
الأساسية في الفيزياء، كالإلكترونات
والفوتونات والذرات، موجودة في صورة مستقلة
عن الكائنات الحية وعن رَصْدِهم لها؟ (مشكلة
الحقيقة) 2.
في حال كان
الردُّ إيجابيًّا على السؤال الأول، هل من
الممكن أن نفهم بنية الأشياء والسيرورات
الذرية وتطورها، بمعنى أن نتمكِّن من بناء
نماذج نظرية تتوافق مع الحقيقة؟ (مشكلة الفهم) 3.
هل من الممكن أن
نصوغ قوانين الفيزياء بحيث يمكننا تقديم سبب
على الأقل لكلِّ ظاهرة مرصودة؟ (مشكلة
السببية) وقد انقسم علماء
الفيزياء إلى فريقين كبيرين، تبعًا لموقفهم
حيال هذه الأسئلة. ومن معارضي الفيزياء
الكوانتية – وهو الفريق الذي يجيب بالإيجاب
عن الأسئلة السابقة – نجد بلانك،
إهرنفست، أينشتاين، شرودنغر ودُهْ بروي. أما
الفريق الثاني فنجد فيه سومِّرفلد، بورن،
بوهر، باولي، هايزنبرغ، جوردان وديراك. لا شكَّ في أن أسباب
هذا الانقسام تُعزى، في الغالب، لدى أعضاء
الفريقين، إلى المواقف والآراء الفلسفية
التي يتبنَّاها العلماء. والسؤال الملحُّ هو:
هل العلم محض انعكاس للحقيقة الموضوعية، أم
أننا نجد فيه عناصر اختيارية ناتجة عن
المعتقدات الفلسفية؟ هذا ما يحاول تبيُّنه
مؤلِّف الكتاب، خاصةً فيما يتعلق بالفيزياء. أعضاء الفريق الأول
يرون أن الفيزياء الكوانتية هي نظرية غير
كاملة. فمع أن الحسابات والتوقعات الناتجة
عنها صحيحة، فهي تقدِّم وصفًا غير كامل
للحقيقة؛ إذ إنها لا تأخذ في الحسبان
متحوِّلات – غير معروفة بعد – تسمح
بإعطاء صورة معقولة عن القُسَيْمات، كمعرفة
موضعها وعزمها في الوقت ذاته مثلاً. ما كان من فون نويمان von
Neumann إلا أن صاغ نظرية
رياضية بيَّن فيها أن ادِّعاء الفريق الأول
في إمكانية وجود متحوِّلات غير معروفة هو أمر
مستحيل. ولكنْ تبيَّن مؤخرًا أن نظريته تخصُّ
نوعًا محددًا من المتحوِّلات، وليس كلَّها. مشكلة أخرى وقع
الجدال حولها هي ازدواج المظهرين
الجُّسَيْمي والموجي في كلِّ كينونة فيزيقية.
فبالنسبة إلى الفريق الأول، يرافق كلُّ
جُسَيْم موجةٌ؛ أما الفريق الثاني (الآخذ
بمبدأ التكامُلية) فهو يعتقد أن المظهرين لا
يتواجدان سوية في الوقت ذاته: فنحن أمام كائن،
إما أن "نقيسه" كموجة وإما كجسيم. وطبعًا
تتضافر اليوم اختباراتٌ عدة لتحسم بين
الرؤيتين، من دون حلٍّ قاطع حتى الآن. أما موضوع الجدل
الأعسر فهو يتعلق بما عُرِفَ باسم "محيِّرة
أينشتاين–بودولسكي–روزِن" EPR،
التي يمكن أن نلخِّصها بالتجربة العقلية
التالية: ليكن جسمان صغيران،
أحدهما على الأرض والآخر على بعد سنة ضوئية
مثلاً من الأول. فهل يطرأ أيُّ تبدل في خواص
الجسم الواقع على الأرض إذا وقع تفاعل ما
للجسم البعيد مع جسم ثالث (مبدأ اللاانفصالية non-separateness)؟
هذا ما تذهب إليه النظرية الكوانتية، وما
عارضه الفريق الأول. فإما أن يكون الفضاء
وهميًّا، لا وجود حقيقيًّا له، وإما أن
تتمكِّن المعلومات من الانتقال عبر الزمان (من
الحاضر إلى الماضي أو المستقبل، وبالعكس). فقد
بيَّنتْ كلُّ التجارب الحديثة التي أجرِيَتْ
– ما عدا واحدة منها – أن كلَّ
شيء يتم وكأن القُسَيْمات على اتصال آنيٍّ
ودائم بعضها مع بعض، تمامًا كما تنبأت
النظرية الكوانتية. فما هي الحلول الممكنة
لهذه المعضلة؟ في رأي الفيزيائي
فيجييه Vigier، يجب افتراض
وجود قُسَيْمات صلبة ومنتشرة، تتحرك في سرعة
تفوق سرعة الضوء (خلافًا لنسبية أينشتاين) في
فراغ خاص تنتشر فيه الموجات، تمامًا كالإثارة
الفيزيقية الجماعية. لكن هذا الحلُّ يلاقي
مشكلات عويصة تخصُّ فاعلية هذه الموجات بعد
انتقالها مسافات شاسعة في سرعة أكبر من الضوء. أما الحلُّ الثاني
فهو نظرية دايفيد بوهم Bohm في الكلِّ الذي
لا يتجزأ. وتُفضي هذه النظرية إلى أن كلَّ ما
في عالمنا، وإنْ كان منفصلاً في الخارج، فإنه
في الباطن على اتصال (أو اتحاد) مع كلِّ
العناصر الأخرى. وهذه النظرة هي أهم حلٍّ
حالي؛ لكن بوهم لم ينتهِ من صياغتها رياضيًّا
وتطويرها قبل وفاته. ثم هناك نظرية
أوليفييه كوستا دُهْ بورغار Costa
de Beauregard، التي
تقول إن الارتباط بين القُسَيْمات يتمُّ عبر
الزمان. فالمعلومات تنتقل من الحاضر إلى
الماضي أو المستقبل، في سرعة الضوء، لتعود
إلى الحاضر، فتبدو كأنها آنية الانتشار. ويشرح المؤلِّف كلَّ
هذه المواقف المعقدة، ويفسِّر طويلاً كلَّ
التجارب المخبرية التي قام بها العلماء،
ويعرض اختبارات حاسمة قد يتمُّ إجراؤها في
المستقبل القريب. من هذا العرض
الملخَّص، نستنتج أنه، في الأساس، لم تكن
الفيزياء الكوانتية حيادية فلسفيًّا، وإن
كانت المعادلات الرياضية حَجَبَتْ هذه
الحقيقة. ثم لا شكَّ في أن حقيقة عالمنا مذهلة
أكثر مما كان يتوقَّعه الفريقان السابقان
سوية؛ ولا شكَّ في أن كلَّ ما ابتدعه الإنسان
من مذاهب مثالية ومادية عاجز عن الإحاطة بها. وُفِّقَ المؤلِّف في
هذا الكتاب الصعب في بسط الموضوع في ركائزه
الرياضية والمخبرية والفلسفية – ولو أنه بدا
منحازًا إلى الفريق الأول بعض الشيء. ***
*** *** *
Franco Selleri, Le grand débat de la théorie
quantique, collection « Nouvelle bibliothèque scientifique »,
Flammarion, Paris ; 1986, 228 pp.
|
|
|