|
صور ورموز الأسطورة مرآة العالم، الأقدم بين مراياه. مازلنا
نرى فيها ملامح تكوين المجتمعات البشرية
الأولى، ولا نزال نرى فيها بعض ملامح وجوهنا
اليوم. هل يرجع السبب إلى براعة الصقل البدئي؟
أم إلى صفاء سريرة البشر الأوائل؟ أم إلى
أسباب أخرى نجهلها، وتأبى مرايا الأساطير أن
تعلنها؟ لكن وضوح
الأساطير يخفي غموضًا عجيبًا؛ وثمة في غموضها
إشارات تضيء أكثر من جانب. فكأن ما تشير إليه
كونٌ كامل، ندرك ما تصل إليه حواسُنا منه،
ويبقى الكثير الكثير منه غير محدود؛ ومن
ثَمَّ فهو أبعد من أن تطاله حواسُنا التي فقدت
الكثير من حساسيتها الأولى، وغَشِيَها
العقلُ، بفلسفاته وعلومه ومعادلاته المنطقية
وسَفْسَطاته، فصارت على قدر كبير من البلادة،
وخرجتْ من جنَّة عَدَنِها الأولى، التي صارت
حلمًا، بعد أن كانت حقيقة نعيشها ونمارس على
أرضها الخصيبة عباداتنا وسحرنا وطقوسنا. كانت المعرفة
حياة يعيشها الجسد بكلِّ قواه الحسية
والغرائزية؛ وصارت مجرَّدات جافة تفصلها عن
الحياة سُتورٌ وجدران، فيها ثقوب وكُوى لا
تطلُّ على رحابة الكون، بل على نقاط منه تُضاء
اصطناعًا وتُظلَّل اصطناعًا. حتى المشاعر
صارت اصطناعية، وصرنا نصطنع الودَّ والشوق
والاحترام والإعجاب، حتى صار غير المصطنَع
يبدو من أغرب المصطنعات! وحُوِّلتْ
الصورُ والرموز والطقوس من وسائل حية
لاستعادة الماضي الجميل والمجيد إلى مؤشرات
معرفية تقرأ الماضي على اعتباره ماضيًا نوغل
في الابتعاد عنه، موقنين بأنه لن يعود أبدًا؛
واتسعت هاوية الزمن القائمة بين الماضي
والحاضر، وفقدتْ صورُ العالم السحرية
ورموزُه بريقَها، وفقدتْ قداستَها، وخسر
الإنسان جزءًا لا يُعوَّض من سعادته، وانفصمت
– أو كادت تنفصم – عرى وحدة الكائنات التي
تساهم كلُّها في صنع لوحة الكون، وصرنا نعرف
الكثير عن الأجزاء، وخسرنا الكثير من معرفة
الكل. *** عنوان الكتاب
الذي نقدَّم فيما يلي نبذة عنه هو صور ورموز
للباحث الكبير المرموق في ميدان الأساطير
والأديان ميرسيا إيلياد [يُلفَظ مِرتشا
إليادِه]؛ وقد ترجمه المترجم المعروف حسيب
كاسوحة، وصدر عن وزارة الثقافة في دمشق،
حاملاً الرقم 36 من سلسلة "دراسات فكرية"
التي تصدرها الوزارة.
يقدِّم على
الكتاب العالِم الكبير جورج دوميزيل. وهو
هنا، ككلِّ العلماء، يتكلَّم باقتضاب وعمق:
"إننا نميل إلى التخفيف من نصيب العقل في
الشأن الديني من أجل زيادة رصيد الرمز. وأما
إيلياد فيقف في الوسط تمامًا، بفضل لجوئه إلى
فقه لغوي دقيق ومحكم. وبوسعنا القول إن أبحاثه
لا تصدر عن نظرية، بل تستند إلى الملاحظة."
وفي "صفحات قليلة، ومن خلال طائفة من
الأمثلة المنسجمة مع سياق النص، يعرض إيلياد
منوعات عديدة، تدور حول هذين الموضوعين ["المركز"
و"الرباط"] وتُبرِز وحدتهما بجلاء" (ص
4). و"من دواعي السرور والغبطة أن يتاح
لجمهور واسع الاطلاع، من خلال هذا الكتاب،
على مدخل إلى إحدى الدراسات الأكثر أصالة، في
زماننا، التي لا تدع المرء، أبدًا، ينسى أن
صاحبها كان أولاً، ومازال، كاتبًا وشاعرًا"
(ص 5). * وتأتي مقدمة
ميرسيا إيلياد بحثًا يستهلُّه بـ"إعادة
اكتشاف الرمزية"؛ إذ أصبحت بعض الكلمات
الأساسية، بعد رواج علم النفس، "نقدًا
متداولاً". ومن هذه الكلمات الأساسية: "الصورة"،
و"الرمز" و"الرمزية". فالرمز شكل
"خاص من أشكال المعرفة"؛ والارتداد "إلى
النزاعات الرمزية المختلفة ليس "اكتشافًا"
لم يعرفه أحد من قبل، ولا هو امتياز يخصُّ
العالم الحديث" (ص 7). واجتياح الرمزية
أوروبا الغربية "تَرافَق مع إقبال آسيا على
أفق التاريخ" (ص 8). والمدهش أن "العوالم
الخارجة عن النطاق الأوروبي" لا تهتم إلا
برسالتين من الروحانيات الأوروبية الحديثة،
وهما المسيحية والشيوعية؛ فهما، كدعوتين
للخلاص، "تتعاملان مع "الرموز" ومع
"الأساطير" على مستوى لا نرى مثيلاً له
إلا عند الإنسانية الخارجة عن الإطار
الأوروبي". وقد صارت أوروبا مضطرة إلى "الاعتماد
على طرائق أخرى للمعرفة، وإلى الاستعانة
بسلَّم قيم يختلف عن قيمها" (ص 9). لقد بقيت "أسطورة
الفردوس الأرضي"، إلى أيامنا، تحت شكلها
المتمثِّل في "فردوس البحر المحيط"؛
فهناك "يمضي الوجود، وتتلاحق أحداثُه خارج
الزمان، وخارج نطاق التاريخ. فيه يتمتع
الإنسان بالغبطة والسعادة، وبالحرية" (ص 11). إن الفكر
الرمزي "يلازم جوهر الكائن الإنساني،
ويسبق امتلاك اللغة ومرحلة المحاكمة
الاستدلالية"؛ وكلُّ إنسان "يحيا في
أحضان التاريخ، إنما يحمل في ذاته قسطًا
وافرًا من إنسانية ما قبل التاريخ" (ص 12).
والمرء يسترجع، "بالصور والرموز التي
يطلقها، مرحلة فردوسية تعود إلى الإنسان
الأولي"؛ واللاوعي "يفوق في الشاعرية"،
وإلى حدٍّ بعيد، الحياة الواعية، ويفوقها،
أيضًا، في المجالين الفلسفي والأسطوري (ص 13).
ولم يكن بمقدور فرويد أن يدرك أن "الحياة
الجنسية ما كانت، في يوم من الأيام، "خالصة"،
لا علاقة لها بسواها، بل كان لها، دائمًا، وفي
كلِّ مكان، وظيفة متعددة الأغراض" (ص 14).
والصور تضم "كلَّ التلميحات الدالة على
الواقع المشخَّص"؛ وثمة فارق بين الصورة
"وبين الواقع ذاته، الغني والزاخر بالحياة"
(ص 15). إن الصورة،
"باعتبارها صورة، وبوصفها حزمة من
الدلالات، هي الحقيقة" (ص 16). وتبقى
الميثولوجيا تعمل "تحت الوعي عند الإنسان
الحديث. وإنها لميثولوجيا ذات خصوصية
روحانية، ولا ترقى إليها، حسب رأينا، حياتُه
الواعية". والرموز "لا تختفي، على
الإطلاق، من الفعالية النفسية. يمكن أن
تبدِّل مظهرها، لكن وظيفتها تبقى بدون تغيير"
(ص 17). والحنين إلى الماضي البعيد يكشف عن
الرغبة في "شيء مختلف تمامًا عما يوجد في
اللحظة الحاضرة"؛ هو شيء "يتعذر بلوغه":
إنه "الفردوس" (ص 18). وقد أدى "انتزاع
القداسة، عند الإنسان الحديث، إلى تشويه
محتوى حياته الروحية" (ص 19)؛ والصور "الفاقدة
لمنزلتها السابقة تقدِّم نقطة الانطلاق
الممكنة لتجديد الإنسان الحديث تجديدًا
روحيًّا" (ص 20). فالفصل بين "الجدِّي في
الحياة" وبين الأحلام لا مقابل له في
الواقع؛ إذ إن "القضاء على الأساطير ما هو
إلا ضرب من الوهم" (ص 21). لقد أظهر
علماء النفس – وفي مقدمتهم كارل غ. يونغ – "إلى
أية درجة تصدر مآسي العالم الحديث عن فقدان
التوازن العميق في النفس – الفردية
والجماعية على حدٍّ سواء – ويتأتى جانب هام
من تلك المآسي عن قحط متعاظم في المخيِّلة".
وامتلاك مخيِّلة يعني: "أن ينعم المرء
بثراء باطني، وبمدٍّ عفوي من الصور، لا ينقطع"
(ص 22)؛ وامتلاك مخيِّلة يعني "امتلاك رؤية
للعالم في مجموعه" (ص 23). إن المسألة
المركزية الشائكة أكثر من سواها تبقى،
بالطبع، مسألة التفسير؛ وإن "إطلاق فاعلية
الرمز لا يجري بصورة آلية، لأنها على علاقة
بتوترات تصيب الحياة الاجتماعية. وهي، في
المحصلة، محكومة بالإيقاعات الكونية" (ص 28). * في الفصل
الأول يتكلَّم المؤلِّف على "رمزية المركز".
وهو يبدأ بتناول علم النفس وتاريخ الأديان.
فمؤرِّخ الأديان مغبوط لأنه يخالِط "كبار
المتصوفين من كلِّ الأديان"، و"يعيش وسط
الرموز والأسرار"، ويفهم "أساطير الأمم
قاطبة" (ص 31). إلا أن "النزاهة العلمية
المفرطة في نتاجه انتهت به إلى عزله عن جمهوره
المثقف..." (ص 32). وتاريخ
الأديان، "مع رغبته الشديدة في حيازة منزلة
"العلم"، كان، بدوره، عرضة إلى كلِّ
الأزمات التي أصابت الفكر العلمي الحديث" (ص
33). لقد تحقق تقدم هائل في "مجال الإعلام على
حساب تخصُّص مؤرِّخي الأديان الشديد...".
وقد انصرف معظمهم إلى الاستشراق، أو إلى علم
الأجناس§ (ص 34). وقد نصب علماء النفس أنفسهم محلَّ
مؤرِّخي الأديان، وقدَّموا فرضيات "ذات
طابع إجمالي، في أغلب الأحيان" (ص 35). إن الظواهر
الدينية ظواهر تاريخية؛ ولا وجود لـ"حَدَثٍ
ديني "محض" خارج نطاق التاريخ، وخارج
نطاق الزمان". فالإنسان كائن تاريخي يتحقق
وجودُه في التاريخ، "في الزمان، في زمانه
المختلف عن زمان أبيه" (ص 38). والإنسان، "في
العمومية، ليس سوى تجريد..." (ص 39)؛ لكنه عرف
مواقف أخرى، إضافة إلى المواقف المحكومة
بشرطه التاريخي: عرف الأحلام وأحلام اليقظة
والكتابة والاستمتاع بالجمال؛ كما عرف "مجموعة
من الإيقاعات الزمنية، ولم يقتصر على الزمان
التاريخي...". فهو يلتحق أحيانًا بـ"الحاضر
الأبدي الذي يحيا فيه العُشَّاق وأرباب
الشعائر الدينية" (ص 40). أما الأساطير
فهي "إبداعات صادرة عن تجمعات ثقافية محددة
تحديدًا جيدًا..."؛ ثم انتشرت، و"تمثَّلتْها
شعوب ومجتمعات ما كانت لتعرفها بوسائلها
الخاصة" (ص 41). وقد يكون بوسع تاريخ الأديان
أن "يولِّد من الإنسان الحديث إنسانًا
جديدًا، يمتلك مزيدًا من الوجود الصحيح
والوجود التام". فالأساطير تشير إلى "موقف إن دراسة
تاريخ الأديان تلقي الضوء على "وجود منطق
للرمز". ويتساءل إيلياد: هل مناطق اللاوعي
محكومة بالعقل؟ (ص 45) السؤال تصعب الإجابة عنه
ولسنا "إلا في البداية". فلقد تصورت
المجتمعات القديمة العالم المحيط بها وكأنه
"عالم صغير منظم..."، عند حدوده يبدأ
المجهول (ص 46). وتدمير النظام القائم يعادل "الارتداد
إلى الفوضى والشواش، والعودة إلى ما قبل وجود
الهيئة والشكل" (ص 47). و"أغلب الظن أن
الحصون المقامة للدفاع عن الأماكن المسكونة،
وعن المدن، كانت تؤدي في البداية وظيفة سحرية..."؛
فهي تحول دون "اجتياح الأرواح الخبيثة
للمعمورة" (ص 48). ثم إن "كلاً
من العالم الصغير والإقليم الذي يعمره البشر
يمتلك ما يمكن تسميته "مركزًا"، أي
مكانًا كلِّي القداسة"، يظهر فيه المقدس
بتمامه؛ وكلُّ مركز من هذه المراكز يُعتبَر،
في الوقت ذاته، "مركز العالم". فنكون "أمام
جغرافية مقدسة، وأسطورية، هي، وحدها،
الواقعية بالفعل" (ص 49). ومن هنا رمز دعامة
العالم، ورمز الشجرة الكونية، إلخ (ص 50). كان
المركز في بابل يشكِّل "الرابطة بين السماء
والأرض"؛ وكان المعبد عند الرومان يؤلِّف
"نطاق تقاطع العوالم العليا (الإلهية) مع
كلٍّ من العالم الأرضي والعالم السفلي" (ص
52). وتشهد "تسميات
الأبراج والهياكل المقدسة على مُمَاثَلتها
للجبل الكوني، أي لمركز العالم" (ص 53).
والطبقات السبع في الزقورة "تمثل السموات
السبع، وعندما يصعد إليها الكاهن، إنما كان
يبلغ من الكون قمته" (ص 54)؛ ونلمح الرمزية
ذاتها في الهند القديمة وفي فارس، حيث يؤلِّف
الفردوس "سُرَّة الأرض" (ص 55)، و"الشجرة
الكونية هي البديل الأوسع انتشارًا لرمزية
المركز، وتوجد في وسط الكون..."، وتسند
العوالم الثلاثة: السماء والأرض والجحيم (ص 56)؛
وعليها يتم الصعود إلى حيث الخلود. والشجرة
الشامانية "صورة عن شجرة العالم التي تنتصب
في وسط الكون" (ص 59). ورمزية المركز، على
الأرجح، قد تأثرت بأفكار عامة متصلة بخلق
الكون، آتية من الهند وإيران ومستمدة، في
النتيجة، من بلاد الرافدين؛ وهذه الرمزية "قديمة
كلَّ القِدَم" (ص 60). وعندما يصعد
الإنسان المطَّلع على الأسرار "السلَّم
الشعائري إنما يعبر، بالفعل، السموات السبع"،
كما "يصعد إليها الكاهن عبر طبقات الزقورة".
واطلاع الفتى على أسرار القبيلة يعني "موته
وانبعاثه" (ص 63). ويلعب "السلَّم والصعود
دورًا هائلاً في الطقوس وفي الأساطير الخاصة
بتنسيب الفتيان إلى الجماعة، وعلى حدٍّ سواء،
في الشعائر الجنائزية..." (ص 65). وبناء المركز
كان "بمثابة خلق للعالم"، لأن خلق العالم
ابتدأ "من مركز"؛ وكان الهيكل هو ذاته
"عالمًا مصغرًا، وصورة عن العالم" (ص 67).
وكلُّ كائن بشري "يتَّجه، وإنْ من حيث لا
يعي، نحو المركز، نحو مركزه الخاص الذي يمنحه
الواقعية والقداسة" (ص 71). والسؤال المركزي
هو: "أين يوجد الواقع الحق، الواقع
المتميِّز، المقدس، مركز الحياة، مبعث
البقاء والخلود؟" إن الترابط قائم "بين
أوجُه الحياة الكونية وبين خلاص الإنسان".
ويكفي أن نطرح على أنفسنا "مشكلة الخلاص"،
"المشكلة الأساسية"، "حتى تنبعث
الحياة في الكون انبعاثًا أبديًّا" (ص 74). * عنوان الفصل
الثاني هو "رمزيات الزمان والأبدية عند
الهنود"، حيث يبدأ إيلياد بالكلام على
وظيفة الأساطير في الهند. فالأساطير الهندية
يمكن مقارنتها بأية مجموعة من "الأساطير
التراثية¨...".
والعلاقات متينة بين الزمان وبين الأسطورة،
باعتبارها "شكلاً أوليًّا من أشكال الفكر"؛
فهي تروي أحداثًا "حصلت في البدء"، "في
برهة أولية خارجة عن نطاق الزمان، في فسحة من
الزمان المقدس" (ص 75). وعند رواية الأسطورة،
يسترجع المرءُ "راهِنية الزمان المقدس
ويستحضر الأحداث الأولية" (ص 76). فهي "تستلزم
إجراء قطيعة مع الزمان..."، وتفتح نافذة
للمرء "تتيح له الولوج إلى الزمان الكبير،
الزمان المقدس" (ص 77). وبعض الأساطير
الهندية تُبرِز بأسلوب بارع للغاية تلك
الوظيفة الرئيسة التي تؤدِّيها، والمتمثِّلة
في "كَسْرِ الزمان" الفردي والتاريخي،
في استحضار الزمان الكبير، و"استرجاع
فعالية زمان الأساطير" (ص 79). والزمان
الأسطوري هو "الينبوع الحقيقي لكلِّ وجود
ولكلِّ حَدَثٍ ذي أبعاد كونية" (ص 83). إن
العصر الحقيقي الكامل هو "العصر الذهبي،
مانح الخير والبهجة، فيه تسود العدالة،
وتعمُّ السعادة، وفيه ينعم الناس بالرخاء
والبحبوحة" (ص 84). والعصر التالي يشير إلى
"حالة ارتداد وتراجع". ثم يليه عصر
تتضاعف فيه "الرذيلة ويعمُّ الفساد" و"تتناقص
أعمار الناس". ثم يأتي "العصر الرديء"؛
وفيه "يبلغ الإنسانُ والمجتمعُ الحدَّ
النهائي من الانحلال والفساد"؛ وفي ذلك
الزمان: "الملكية وحدها تمنح صاحبها
المنزلة الاجتماعية، والثروة تغدو المصدر
الوحيد للفضائل" (ص 85). الأدوار
الكونية في الفكر الهندي لقد عمل الفكر
الهندي على "تقديم تصورات جديدة عن الـيوجا،© وعلى مدِّ إيقاعاتها الأولية (الخلق –
الدمار – الخلق) إلى أبعاد زمنية لامتناهية..."
(ص 87). وهذا الدهر الهائل من حياة براهما
"لا يرقى إلى استنفاد الزمان ولا يطمح إلى
استيعابه". فالزمان الكوني "يتكرَّر وفق
إيقاعات معينة"، وله "خاصية دورية" (ص
88)؛ ولا يمكن للإنسان أن يتخلَّص من هذه
الدورة الكونية، التي "لا بداية ولا نهاية
لها"، إلا بفعل من "الحرية الروحية" (ص
89). والزمان "غير محدود، سواء عند البوذيين
أو في المذاهب الإيرانية جميعها...".
والإمكانية الوحيدة للخروج من الزمان "تكمن
في إلغاء الشرط البشري، وفي حيازة الـنيرفانا"
(ص 90). "من منظور
الزمان الكبير، كلُّ وجود هو مؤقت، وهمي زائل".
فالحياة الإنسانية والتاريخ يبدوان زائلين
وغير واقعيين؛ بل إن "الكون ذاته هو مفرغ من
الواقع". والوجود في الزمان "ليس وجودًا
واقعيًّا من الناحية الأنطولوجية" (ص 91). من
هنا فإن كلَّ "منزلة" يشغلها المرء، مهما
عَلَتْ، هي باطلة، ولو كانت منزلة "ملك
الآلهة" (ص 93)؛ وينبغي أن يكون سلوك المرء
متوازنًا، فلا يتوقف "عند حدود الزهد
والتقشف، ولا يذهل عن أداء العمل وتحقيق
الواجب"، مع استبعاد الكبرياء والغرور
والجاه (ص 94). ومن الملفت
للانتباه أن "أقْدَم الأساطير الخاصة
بالطوفان تتحدث عن بنية قمرية وعن أصل قمري.
كان جدٌّ أسطوري، بعد كلِّ طوفان، يؤمِّن
الولادة لإنسانية جديدة. ويصدف، في أغلب
الأحيان، أن يأخذ ذلك الجدُّ شكل حيوان قمري".
ورمزية القمر، "المتمثِّلة بالولادة–الموت–الانبعاث،
تتجلَّى من خلال عدد كبير من الأساطير
والطقوس" (ص 98). والإنقاذ من هذا العالم ذاته
وحيازة السلام "يوازي الإنقاذ من الزمان
الكوني" (ص 99). ويرى الهنود
أن "الزمان أوْجَدَ كلَّ ما كان، وسيأتي
بكلِّ ما سيكون في مقبِل الأيام". وبراهما،
الروح الكلِّي، "يتعالى على الزمان وهو، في
الآن عينه، مصدر وأساس كلِّ ما يتجلَّى في
الزمان"؛ إنه "اليوم والغد"، وهو "من
زمان ومن دون زمان" (ص 100). والزمان والأبدية
"وجهان لمبدأ واحد"؛ وتعبير "ما يسبق
شروق الشمس" يعني الرجوع إلى المرحلة
السابقة للخلق، حيث "لا وجود للديمومة في
الليالي الكونية الكبرى"؛ وقد "يمت بصلة
إلى الخلاص والفداء". والشمس، إذ تشرق، "تظل
ثابتة لا تتحرك، بعد أن تشرق، وتصير في السمت
في كبد السماء. ولن تشرق من بعد، وستمكث وحيدة
في الوسط" (ص 101). إن "إشراق الذهن والفهم
ليحقِّقان معجزة الخروج من الزمان". والسمت
هو "قمة العالم"، و"يعبِّر، أصدق
تعبير، عن "المركز"، وعن النقطة،
المتناهية في الصغر، التي يمرُّ فيها المحور
الكوني" (ص 102). وخروج الصوص
من البيضة رمز إلى تحطيم قشرة الجهالة؛ إنه
ولادة "فائقة الطبيعة". والإله في التراث
البراهماني يخرج من "البيضة الكونية"؛
وهي، من حيث شكلها، "تماثل السَّنَة: ثمة
إذن تقابل وتماثل بين الزمان والمكان في هذا
المجال. إن السنة هي التعبير عن الزمان
الكوني، الذي هو صورة أخرى عن الديمومة
الدائرية" (ص 105). وكَسْرُ غلاف البيضة يضاهي
"كَسْرَ الزمان الكوني الذي يدور فيه دولاب
الحيوات، أي يوازي، على حدٍّ سواء، فعل تعالي
المكان الكوني، وتعالي الزمان الدائري" (ص
106). "الزمان،
عند البوذيين، يتألف من تدفُّق مستمر (سَمْتانا).
وبفعل تلك السيولة ذاتها، كلُّ شكل يظهر في
الزمان لا يكون قابلاً للفناء وحسب، بل يكون،
من الوجهة الأنطولوجية، لا واقعيًّا."
والوجود واللاوجود "ليسا مظاهر مختلفة
لشيء من الأشياء، بل هما الشيء في ذاته".
وطبيعة كلِّ موجود "تتمثل في آنيته الخاصة.
والآنية تتشكل من عدد هائل من حالات الوجود
الثابت ومن الدمار والتلف" (ص 107). وانطلاق
اللحظات واندفاعها "لا يكون متقطعًا،
منفصلاً" (ص 108). لذا فإن مَن يكون فكرُه "راسخًا
ثابتًا، ويتوقف، عنده، جريان الزمان إنما
يعيش في حاضر أبدي، في اللحظة الراهنة
الساكنة" (ص 110). وفي اللحظة المواتية، يصير
بمقدور المرء "الخروج من الزمان"؛ ومن
هنا يجب "عدم إضاعة اللحظة المواتية، لأن
الذين يفقدونها سيتألمون وسيحزنون" (ص 111). إن صور "الخروج
من الزمان" يمكن التعبير بوساطتها عن "الانتقال
من الجهالة إلى الإشراق" أو "من الموت
إلى الحياة" (ص 112). وتُستعمَل تعبيرات مثل
"العبور الشاق" ورمز حدِّ السكين
للدلالة على "أهوال الطريق المؤدية إلى
المعرفة المطلقة" (ص 113). ولا يمكن العبور
إلا "على الفور، وفي اللحظة، والآن". إذ
يحصل "تطابق وتوافق" بين الأضداد (ص 114). ولنتذكر أن
أيَّ موضوع "يتحوَّل، بالمفارقة، إلى مجال
للقداسة، أو إلى وعاء للقداسة، مع متابعة
مشاركته في وسطه الكوني المحيط به".
والقفزة إلى "خارج الزمان" تحصل عقب "مجاهدة
متواصلة" (ص 115). وتقتضي "موقفًا
فلسفيًّا، واعتماد طريقة صوفية". وإذا ما
رغبنا في التعرف على الفكر الهندي، من
الضروري، دائمًا، استعمال كلمة "النظام"
المفتاحية الذي تندرج فيه رياضات اليوغا (ص
116). "1. إن
اليوغاني يبدأ عمله بإدخال جسمه وحياته
النفسية–الذهنية في النظام الكوني؛ 2.
بالإيقاع التنفسي يفلح اليوغاني في إدماج
ذاته، عن إرادة ووعي، في مختلف إيقاعات
الزمان الذي يحيا أوقاته." والمريد من
جماعة اليوغا "مدعو إلى إيجاد تماثُل بين
نوبات تنفسه الخاص وبين إيقاعات الزمان
الكوني الكبير"؛ وإذ يستردُّ الماضي فإنه
"يعود إلى الوراء، ليحيا من جديد حيواته
السابقة" (ص 118-119). وهو يتعالى "على الكون
المخلوق، وعلى الزمان الذي يحكم مسيرة ذلك
الكون". إن التعالي "على الليل وعلى
النهار" يعني "التعالي على الأضداد" (ص
121). وكانت
المجتمعات الموغلة في القدم، "عند انقضاء
دورة زمنية منتظمة، تدمِّر العالم تدميرًا
رمزيًّا وطقسيًّا"، حتى تتيسَّر لها "إعادةُ
صنعه وإعادة تنظيمه"، كي تحيا في "عالم
جديد، بلا خطيئة، أعني بدون تاريخ، وبدون
ذاكرة" (ص 123). لكن "الوهم الكوني الكبير
الحاصل في الزمان هو من تجلِّيات القداسة" (ص
124). وبوسعنا القول إن "الزمان يلتهم المرء،
لا لأنه يحيا في الزمان، بل لأنه يعتقد
بواقعية الزمان. وعلى هذا الأساس يذهل عن
الأبدية فينساها، أو يزدريها" (ص 125). * الفصل الثالث
عنوانه "رمزية العُقَد والإله الذي يربط"؛
وفيه يبحث إيلياد في مفهوم الإله المخيف "رابط
العُقَد". والإله الرهيب إله محارب، يمتاز
باستخدام "سلاح من نوع آخر، إنه سلاح السحر".
و"بالسحر يبدع الصور والأشكال. وبه يكون له
الجاه ويحظى بالمنزلة الرفيعة. وبه أيضًا
يتاح له أن يحكم العالم، وأن يقيم فيه التوازن".
وهذا السلاح، في أغلب الأحيان، "يأخذ شكل
الحبل، والعقدة، والأربطة المادية أو
المجازية". أما الإله المحارب فيمسك "الصاعقة
ويرمي بها أعداءه..." (ص 128). في ميثولوجيا
بلدان أوروبا الغربية أودين هو "سيد
المحاربين في هذا العالم وفي العالم الآخر..."؛
إذ كان "يمتلك مجموعة كاملة من المواهب
السحرية: منها مقدرة الحضور في كلِّ مكان، أو
على الأقل، مقدرة الانتقال المباشر من مكان
إلى آخر. وكان يجيد فنَّ التخفِّي والتنكُّر
بالأقنعة..." والتحوُّل من شكل إلى آخر وغير
ذلك. وثمة غيره عند الرومان وفي الهند (ص 129)؛
إذ كان بمقدور رومولوس "أن يربط أعداءه
بأربطة شديدة للغاية...": إنه نموذج "الملك
الساحر" ونموذج "سيِّد الأربطة" (ص 130). ويذكِّر جورج
دوميزيل بقوة فارونا السحرية: هذا الإله
هو "السيد الحقيقي للأربطة"؛ إنه "يطوِّق
الأشرار". وكذلك تُعزى الأربطة إلى سواه،
لكنه يمتلك "قوة سحرية تتيح له أن يقيِّد
الناس عن بُعد، وأن يحلَّ وثاقهم أيضًا" (ص
133). والأربطة التي بحوزة فارونا هي سحرية، "مثلما
هي سحرية أيضًا المهارة التي يؤدي بها السحر"؛
إنها ترمز إلى "القوى الروحية التي يحتفظ
بها الإله الأعلى، وبها يتأمَّن النظام العام"
(ص 134). وفارونا "هو الإله الذي يرى ويعرف
كلَّ شيء..."؛ إنه حاكم الكون. وتبدو "ملامحه
الكونية أوفر خصبًا وأوسع ثراء"؛ إنه
يتجاوز الحدود ليكون أيضًا "إلهًا للقمر
وللمياه" (ص 136). ويوصف فرترا
أيضًا، على المستوى الكوني، بالقدرة على "الربط"؛
وتتسم أسطورتُه بـ"الخصوبة والثراء" (ص
138). وكانت كيانات إلهية أخرى تتعاطى السحر؛
وتلك ظاهرة معروفة في تاريخ الأديان، لاسيما
الأديان الهندية (ص 139). وقد أحرز إندرا
النصر على السحرة بوساطة السحر (ص 140)، وكانت
لديه "الكفاءة التي تتيح له إنقاذ الإنسان،
لا من أربطة فارونا وحدها وإنما من "الرباط"
الذي تعقِده أبالسة الموت أيضًا" (ص 141). إن المرض
والموت عنصران ينتميان إلى "مركَّب "الربط"
الديني–السحري". ومركَّب الربط، مع بقائه
"عنصرًا مميزًا، أساسيًّا، في مجال هيمنة
السحر المطلقة، إلا أنه يتجاوز بفعله وتأثيره.
فهو في مرتبته العليا يطال مستوى الخلق
الكوني" (ص 143). ويتكلَّم
المؤلِّف على الرباط في ثراقيا وعند الجرمان
والقفقاس، حيث القيد "شاهد على خضوع
الإنسان إلى الآلهة الوطنية"، أو هو شكل من
أشكال تعذيب الأفراد (ص 145). ثم يتكلَّم على
الرباط في إيران. فثمة إبليس يربط بالجبال
الإنسان المحكوم عليه بالموت؛ وثمة آلهة
وأبطال يربطون ويقيِّدون السحرة والأبالسة (ص
146). ثم يتكلَّم
على الموازاة بين الأعراق البشرية؛ إذ نقع
على العادات ذاتها في مناطق ذات ثقافات
متباينة (ص 149). وعملية "الربط" "تُضفي
مسحة من المهابة السحرية والدينية" تتوق
إليها كلُّ الأشكال الدينية. أما من حيث
مورفولوجيا الأربطة والعقد، "فهناك "الأربطة"
السحرية المستخدَمة، في أثناء الحروب، ضد
الخصوم من البشر؛ وهنالك العقد والأربطة
الدالَّة على اليُمن وحسن الطالع،
والمستعملة كوسائل للدفاع، ولدرء خطر
الحيوانات المتوحشة، ولتحصين الفرد ضدَّ
الأمراض، وضد الأبالسة والموت، والمفيدة
أيضًا في مواجهة رقية الشر والأذى" (ص 152).
وقد تُستعمَل العُقَد لأغراض متباينة: "إنها
تستخدم في طقوس الزواج، مثلاً، من أجل حماية
العروسين. وللعُقَد، على خلاف ذلك، دور آخر؛
إنها، بالتحديد، هي التي تحول دون إتمام
الزواج" (ص 153). "إن "كل
تلك المعتقدات وكل تلك الطقوس تقودنا،
بالتأكيد، إلى مجال العقلية السحرية"؛
لكنها تعبِّر عن "النظرة العامة إلى
الإنسان وإلى العالم، التي هي، بدورها، نظرة
دينية، حقًّا، وليست سحرية" (ص 154). لكن الأمور
أوضح عند العبرانيين. فالتوراة تتحدث عن "شِباك
الموت": "الحبائل من مثوى الأموات حاطتني
وشباك الموت أوقعتْني بغتة" (صموئيل الثاني
22: 6؛ مزمور 18: 6). والذي يزرع الرعب هو يهوه
ذاته: "أينما ذهبوا أبسط عليهم شبكتي،
وإليها أدفعهم إلى الهبوط، مثلما تهبط طيور
السماء." (هوشع 7: 12) (ص 155) لقد "جرى
تصور الكون ذاته كنسيج، وكشبكة هائلة"؛
وهنا "رمزية كثيفة، غاية في الثراء" (ص
156). فكلُّ شيء "مربوط مع الكل، من خلال نسيج
غير مرئي"؛ وخيوط هذا النسيج تؤلِّف "رباطًا
كونيًّا ضخمًا" (ص 157). ويشير الكثير من
الاشتقاقات اللغوية إلى أن "فعل الربط هو،
بالأساس، فعل سحري"؛ والدين يحوي "في
ماهيَّته بالذات، عنصر "الربط"..."،
وعلى الأخص "بتوجُّه روحي مغاير". وثمة مركَّبات
رمزية عديدة تميِّز بنية الكون ووضع الإنسان
في العالم. فكلمة مركاسو البابلية معناها
"الارتباط والحبل"؛ وتعني في
الميثولوجيا "المبدأ الكوني الذي يجمع
الأشياء كلَّها"، وتدل على "التأييد"
و"القدرة" وعلى "الناموس الإلهي"
الذي "يحكم الكون بأسره" (ص 158). وفي كلِّ
مكان يتمثَّل هدف الإنسان النهائي في تحرير
ذاته وفي تخليص نفسه من القيود ومن الأربطة.
ولقد كان للمعرفة وللاطلاع على الحقائق دور
أساسي في الخلاص والإنقاذ (ص 159). ويقابل
الاطلاعَ على "الحقائق من المستوى الفلسفي
والميتافيزيائي"، "اطلاعٌ يتيح للمرء
"تمزيق" حجاب الجهالة، وتحرير الروح من
قيود الوجود" (ص 160). قد ترجع
الأشكال المتعددة لـ"مركِّب الربط" إلى
معرفة الإنسان المكانة الخاصة التي شغلها في
العالم. و"إذا كان الفكر المعاصر مصابًا
بالغرور بسبب إعادة اكتشافه الإنسان في واقعه
المشخَّص فلا نجانب الصواب في قولنا بأن
تحليلاته تتناول، خصوصًا، شرط الإنسان من
بلاد الغرب، في أيامنا، لا غيره من الآدميين.
إن الفكر الغربي يرتكب خطأ بسبب الضعف في
موقفه من عالمية الإنسان، وبسبب وقوعه في نوع
من الإقليمية الإنسانية. وإنها، في نهاية
الأمر، لإقليمية عقيمة، وأسيرة نظرة قاصرة
ومحدودة". وقد يرجع تعدُّد الأشكال إلى
التقليد: فـ"الحاكم المطلق يسعى إلى محاكاة
نموذجه المتعالي" (ص 161). لذا يجب أن "تُترَك
هذه المسألة لمزيد من الدراسة، وينبغي أن
تبقى مفتوحة" (ص 162). وعلى أية حال،
فـ"من الضروري أن تتوافر لدى المرء الفطنةُ
والقدرة على التمييز، لأن من الشائع وجود
بدائل غير سوية لمركَّبات دينية تظهر من خلال
الحِواية وألعاب الخفة"؛ وهي تقرِّب من
نموذجها الأول (ص 164): كلُّ إلهة محلِّية
تتطلَّع إلى أن تصير "الإلهة العظمى"؛
كذلك أية قرية تطمح لأن تغدو "مركز العالم"؛
والساحر يدَّعي أنه "السيد المطلق الكلِّي"
(ص 165). ومن المؤكد أن
مركَّب الربط عند الهنود الأوروبيين، دون
سواهم، هو من "المقوِّمات الهامة عند أصحاب
السلطة والرهبة على المستوى الإلهي أو البشري".
ونرى أننا هنا أمام "مذهب متماسك، له
تطبيقات عامة على الأصعدة الطقسية،
واللاهوتية، والميثولوجية" (ص 167). * عنوان الفصل
الرابع هو "ملاحظات على رمزية الأصداف".
يباشر إيلياد موضوعه بإيراد أمثلة على رمزية
القمر والمياه. فالأصداف البحرية،
والمحارات، والحلزون، واللؤلؤة، كلُّها،
وبالقدر ذاته، "مترابطة ومتلازمة في الفعل
والأداء، ضمن المجال الخاص بعلم الكونيات
المائية، وضمن مجال الرمزية المتصلة بالجنس.
كلُّها تشارك مشاركة فعلية في الطاقات
المقدسة المركزة، الكامنة في المياه، وفي
القمر وفي المرأة". والاعتقاد بوجود خاصية
سحرية، منسوبة إلى المحارات وإلى الأصداف
البحرية، نجده سائدًا في العالم كلِّه،
ابتداءً من مرحلة ما قبل التاريخ، وحتى
الأزمنة الحديثة (ص 179). كانت اللؤلؤة
"شعارًا للقوة المولِّدة ولقوة الإخصاب أو
رمزًا لواقع يتجاوز المحسوس"؛ لكنها لم
تحافظ إلا على قيمة "الحجر الكريم"
وتدهورتْ منزلةُ رمزيتها (ص 170). وكانت "الصَّدَفة
البحرية والمحارات تشارك في القوى السحرية
الكامنة في الرحم. إنه لفي الصَّدَفة
والمحارة حضور وفعل لقوى خالقة تُطلِقها رموز
الأنوثة بشدة بالغة، وكأنها آتية من معين لا
ينضب". ويلجأ الهندوس في العصر الحديث إلى
استخدام مسحوق اللؤلؤة في المداواة من العلل
والأسقام، لاعتقادهم بخصائصه المنشطة
والمثيرة للشهوة (ص 173). ويعتبر الطب الشعبي
اللؤلؤة عقارًا ممتازًا، نظرًا لفعاليتها في
الإخصاب وفي علاج أمراض النساء (ص 174). وعند اليونان،
كانت اللؤلؤة "شعار الحب والزواج"؛ وفي
سورية، كانت الآلهة تعرف باسم "السيدة ذات
اللآلئ" (ص 175). وللصَّدَف والمحارات
واللآلئ حضور في العديد من الطقوس الدينية،
وفي الاحتفالات ذات الطابع الزراعي، كما وفي
احتفالات التنسيب التي تُفضي إلى إلحاق الفتى
بالجماعة: "بهذا الاعتبار يكون بمقدور
الصَّدَفة الدلالة على فعل ولادة روحية
جديدة، وعلى بعث، يوازي بفعاليته ولادة الجسد"
(ص 177). وتُعتبَر الصَّدَفة البحرية "الحامية
من كلِّ سحر، ومن الإصابة بالعين المؤذية". وللمحارات
واللآلئ رسالة تطلع بها في مجال الممارسات
الخاصة بالمآتم: فالمتوفى "لا ينفصل عن
القوة الكونية التي حكمت حياته وأمدَّتْها
بالطاقة" (ص 179). وقد "ساد الاعتقاد بأن
الحجر الكريم والأصداف تسهم في إعداد مصير
ممتاز في العالم الآخر"؛ فاللآلئ والأصداف
"تحضِّر المتوفى لحياة جديدة" (ص 180). وكان
الهنود يزرعون بالأصداف الطريق التي تصل بيت
الميت بالمقبرة، وكانوا، في بعض المقاطعات،
يملؤون فم الميت باللآلئ". وفي أفريقيا،
يمدون طبقة من الأصداف في قاع القبر. وهذه
العادة ذاتها، كانت شائعة عند العديد من
الشعوب القديمة القاطنة في أمريكا (ص 181). وقد
شكَّلتْ أصداف البحر الأحمر، خلال حقبة مديدة
من الزمان، مادة لصناعة التعاويذ والتمائم في
مصر القديمة (ص 182). وثمة تقليد ياباني، قديم
للغاية، يمكن فهمه بمعتقدات مماثلة، ويقضي
بتأمين الولادة الثانية عندما يدهن المرء
جسمه بمسحوق من الأصداف (ص 183). وقد لعب الحديد
في الصين، كما في جزيرة كريت، دور الحجر ودور
الذهب (ص 184). وتجدر الملاحظة أن الجمع بين
المعدن واللآلئ والأصداف هو أمر مألوف أخذتْ
به بعض المناطق المتاخمة للمحيط الهادئ. وفي
هذا السياق، "من المعلوم أن القوة المقدسة
التي تمتلكها الأصداف إنما ترجع إلى أصلها
البحري، وإلى رمزيتها لعالم المرأة" (ص 185). وثمة حقيقة هي
أن بعض الشعوب أدخلت في احتفالاتها مواد
اصطناعية. وكان التشبه بـ"النماذج المقدسة"
هو كلَّ ما ترومه من وراء ذلك (ص 186). وبمقدورنا
الافتراض أن "الأحجار الكريمة الشهيرة،
الملوَّنة والمزيفة، دخلت مصر وبلاد
الرافدين والشرق الروماني، وأدركت الشرق
الأقصى، وكان لها، في وقت من الأوقات، دلالة
سحرية، صادرة، بلا ريب، عن نموذجها الطبيعي،
أو عن الرمزية الخفية التي تنطوي عليها" (ص
187). أما رمزية
اللولب فهي "غاية في التعقيد"؛ ومصدرها
"مازال غير مؤكد. بوسعنا على الأقل،
مؤقتًا، الاحتفاظ برمزية اللولب في تعدد
دلالاتها، وفي صلاتها الوثيقة مع القمر، ومع
الصاعقة، ومع المياه والخصب، ومع الولادة ومع
الحياة الآتية بعد الممات" (ص 188). في ميدان
الطب، مثلاً، وفي المشرق، وعلى حدٍّ سواء في
بلاد الغرب، لعبت اللؤلؤة دورًا بارزًا. لقد
حلَّل تاكور، بالتفصيل، الخصائص
العلاجية للؤلؤة، من خلال استعمالها ضد النزف
واليرقان، وفي معالجة المصابين بمسِّ
الأبالسة أو بالجنون. إن ذلك المفكر الهندوسي
"لم يفعل سوى متابعة تقليد طبي قديم". وقد
اعتُبِرَت – على مثال الإكسير في الكيمياء –
"تشفي من السمِّ ومن المرض، وتطرد
الأبالسة، وتزيل وَهَنَ الشيخوخة". وفي
الصين، كان الطب يستخدم "اللؤلؤة العذراء"،
غير المثقوبة، دون سواها. وهي، في نظر
أطبائهم، تشفي من جميع أمراض العيون (ص 189).
ويرى آخرون أثرها الفعال في تقوية القلب، وفي
علاج الإصابة بالسويداء، إلخ. ويعود دورها في
الطبِّ إلى "علاقات قامت، في ما مضى، على
المستوى الصوفي، بين اللؤلؤة والثعبان. لقد
ساد الاعتقاد، في أصقاع عديدة، أن حجرًا
كريمًا يقيم في حنجرة التنين، أو يسقط من رؤوس
الأفاعي" (ص 190). و"عندما تدرك اللؤلؤة
مداها الأقصى، في مجال السحر والطب، عندئذٍ
تؤدي الدور الغامض الذي يضطلع به الطلسم،
والذي تأتيه التعويذة: دافعة الضيم والأذى،
وجالبة الحظ السعيد" (ص 191). إن "القيمة
الاقتصادية للؤلؤة – وهي صورة لنموذج أول
قديم – لا تلغي بأية حال رمزيتها الدينية"؛
وهي رمزية "تزداد ثراء ويُعاد اكتشافُها،
ويُعاد أيضًا توحيدُ عناصرها". وقد لعبت
دورًا كبيرًا "في الفكر الهندي وفي
المسيحية، وفي الغنوصية. ثمة تقليد، يعود إلى
أصل شرقي، يفسر ولادة اللؤلؤة وكأنها حصلت
بفعل وميض البرق النافذ إلى الصدفة"، أي
"من الاتحاد بين النار والماء". وقد
شكَّلتْ عند الإيرانيين "خير رمز للمخلِّص
والفادي". ويمكن أن تمثل "المسيح والنفس
البشرية" (ص 192-193). ونلمح تماثُل الإنسان
باللؤلؤة في عدد من نصوص المانوية
والمندائية؛ فالمتعمِّد بالماء يستخرج منه
الطهارة كما يستخرج الغاطس اللؤلؤة (ص 94).
والطريق "المؤدية إلى الخلاص والفداء
دونها الأهوال"، وتجلِّيها في العالم "عجيب
وخارق" (ص 195). * الفصل الخامس
عنوانه "الرمزية والتاريخ"، حيث يتناول
إيلياد ثيمات العماد والطوفان ورمزيات
المياه. ورمزية الماء هي "الأوسع والأشد
تعقيدًا": "ترمز المياه إلى مجموعة القوى
الكامنة، وإلى جملة الإمكانات الكونية. إنها
الينبوع والأصل." وهي "تسبق وجود كلِّ
شكل، وتدعم كلَّ خلق". و"تتضمن رمزية
الماء الدلالة على الموت وعلى الانبعاث على
حدٍّ سواء" (ص 197). والانحلال بالماء متبوع
بـ"حياة جديدة"، والغوص فيه "يعادل
الاستعادة المؤقتة لحالة مبهمة، غير
متميِّزة المعالم، متبوعة بخلق جديد، وبحياة
جديدة أو بلسان جديد". والمياه تدمِّر
الأشكال وتلغيها، و"تغسل الخطايا"؛ و"قدرها
أن تسبق الخلق وأن تقضي عليه" (ص 198). ويرى
ترتوليانوس أن الماء كان، قبل سواه، "موطن
الروح الإلهي، الموطن المختار والأثير من دون
سائر العناصر... لقد أوكل إلى الماء، قبل غيره،
أن يأتي بمخلوقات حية..." (ص 200). والنزول في
الماء ومحاربة الغول البحري يؤلِّفان "اختبارًا
تنسيبيًّا" يتم عند الانتماء إلى عقيدة
ومذهب، وتقرِّره أيضًا ديانات أخرى". يأتي بعد ذلك
تقييم العماد، باعتبار الطوفان نموذجه
السابق. إن المسيح، في هذا السياق، هو "نوع
جديد، خرج من الماء ظافرًا، وصار سيد شعب آخر".
وبخصوص طقوس العماد، يوضع المسيح دائمًا "في
موازاة آدم". أما العري المعمول به في
العماد فينطوي على دلالة طقسية
وميتافيزيائية: إنه "التخلِّي عن الرداء
القديم، رداء الفساد والخطيئة..." (ص 202). و"لاشك
أن الشعائر والعبادات ومجمل الرموز المسيحية
تتصل اتصالاً مباشرًا باليهودية..." (ص 204).
ورمزية العري في العماد "ليست امتيازًا
يخصُّ التقليد المسيحي–اليهودي وحده. إن
العري الطقسي يعادل حالة كمال وتمام"؛
والفردوس "يقتضي غياب "الثياب": أي
غياب "التآكل". إنه الصورة الدالة على
النموذج الأول للزمان. أما الحنين إلى
الفردوس فهو شائع في كلِّ مكان (ص 206). إن "الليل
والنهار يدلان على البعث"، وفق رأي
كليمنضوس الرومي. والوحي "لم يقضِ على
الدلالات "الأولية" للصور الكونية، إنما
أضاف إليها، بسهولة، قيمة جديدة" (ص 207).
وكلُّ تقييم جديد لموضوع ما كان "مشروطًا
دائمًا ببنية صورته" (ص 208). إن "المسيحية،
مع إعادة أخذها بالملامح الكبرى للإنسان
الديني المقيم في أحضان الطبيعة، وللرموز
الدالة عليه، استعادت إمكانات الفعل لتلك
الملامح، ولتأثيرها القوي على النفس." (ص 209)
وإن "الإيمان المسيحي يرجع إلى وحي تمَّ في
التاريخ. وهذا يعني أن تجلِّي الله في الزمان
هو الذي يضمن، عند المسيحيين، صحة الصور
والرموز الدينية". لقد استخدمت المسيحية
رمزية الماء ورمزية "شجرة العالم"؛ إذ
حلَّ الصليب محلَّ "الشجرة الكونية"؛ بل
وصف أوريجينس المسيح بـ"الشجرة الكونية"
(ص 210). ويوحنا فم الذهب المنحول يرى أن الكون
في الكنيسة وأن "النفس المسيحية تماثل
الكون على نحو مصغَّر" (ص 211). والمهم هو أن
"كلَّ تقييم جديد لصورة دالَّة على نموذج
أول قديم إنما يتوِّج ويستوعب ما أُعطِيَ لها
من تقييم سابق". والتقييم الجديد "الذي
أتت به مماثَلة الشجرة الكونية للصليب إنما
يحصل في التاريخ، وبوساطة حدث تاريخي: من خلال
آلام السيد المسيح" (ص 213). وثمة تجربة
النزول إلى الجحيم من أجل الفداء، أو تجربة
الصعود إلى السماء. والتيارات الصوفية كلُّها
تلجأ إلى رمزية "الصعود" لكي "تمثِّل
ارتقاء النفس البشرية والاتحاد مع الله".
وحول هذه المسألة يتحدث إلينا تراث شعوب
عديدة (ص 217). واستعادة ذلك "الزمان القديم
والأسطوري، إنما تتم في حالة من الوجد" (ص
218). وإن "الزمان ليصير قيمة، بمقدار ما
يتجلَّى الله في سياقه، وبمقدار ما يمنحه
دلالة تتجاوز التاريخ، وتوجهًا يُفضي إلى
الخلاص" والتجلِّي المقدس الأسمى "يحوِّل
الأحداث التاريخية إلى تجلِّيات مقدسة" (ص
220). و"على الرغم
من القيمة المعطاة إلى الزمان وإلى التاريخ،
لم تنته اليهودية والمسيحية إلى الأخذ
بالنزعة التاريخية، وإنما راحت تقول بلاهوت
التاريخ" (ص 221). إن "تحويل الزمان إلى
أبدية بدأ مع المؤمنين الأوائل. غير أن ذلك
الزمان الغريب، حامل المفارقة، ليس حكرًا على
المسيحية دون سواها؛ إذ عثرنا على التصور
ذاته، وعلى الرمزية ذاتها في الهند" (ص 223). إن "تاريخ
رمز من الرموز هو موضوع دراسة مثيرة للاهتمام.
ويُجمِع الباحثون على أهميته، لأنه أفضل مدخل
إلى ما يمكن تسميته فلسفة الثقافة" (ص 224). إن
كلَّ ثقافة هي "سقوط في التاريخ" وهي، في
الوقت ذاته، محدودة، و"علينا أن لا ننخدع،
ونؤخذ بجمال الثقافة اليونانية الذي لا
يُضاهى، ولا بسموِّها وكمالها". وأما "الصور
التي تسبق الثقافات، وتقدِّم لها الشكل فتبقى
حية باستمرار، وبإمكان الإنسان، من أيِّ
مكان، إدراكُ دلالتها". وحضور الصور
والرموز هو الذي حافظ على "الثقافات
المفتوحة" (ص 225). و"إذا لم تكن الصور
صورًا، وفي الآن عينه، "نافذة" تطل على
المتعالي والمتسامي، فإن المرء سينتهي إلى
الاختناق، أية كانت الثقافة التي تنتمي
إليها، ومهما كان لها، في اعتبارنا، من عظمة
وروعة". والصور هي "نوافذ"، "نطل
منها على عالم يتجاوز التاريخ" (ص 226). لقد
تمَّ دخول المسيحية إلى الطبقات الشعبية في
أوروبا، خصوصًا، بفضل "الصور". والغرب
مرغم، حاليًّا، على حوار مع سائر الثقافات
"الغريبة" و"البدائية"؛ وسيكون من
المؤسف أن يشرع في ذلك الحوار "من دون أن
يستخلص أيَّ درس من جميع الكشوف التي
قدَّمتْها دراسة الرمزيات" (ص 227). إن "وظيفة
الرمز هي، بالتحديد، إماطة اللثام عن واقع
كامل، لا يتيسر إدراكُه بوسائل أخرى للمعرفة"
(ص 229). ولنحذر من "الاعتقاد بأن الرمزية
تُرجِع فقط إلى وقائع "روحانية"؛ إذ لا
معنى للفصل، عند الفكر القديم، بين "الروحاني"
و"المادي"، لأن هذين المستويين يكمِّل
أحدهما الآخر". وإن "الرمزية تضيف قيمة
جديدة إلى موضوع، أو إلى فعل، من دون أن تنال
من قيمته الخاصة والمباشرة"؛ وهي، في
تناولها موضوعًا أو فعلاً، إنما تجعله "مفتوحًا"؛
بل إن الفكر الرمزي يفضي إلى "تفجُّر"
الواقع المباشر، لكنه لا يخفف منه، ولا يحطُّ
من شأنه. إن أيَّ شيء "ليس معزولاً في وضع
وجودي خاص. وبالإمكان القول إن كلَّ الأشياء
تقيم معًا، بفعل نظام محكم من الأمور
المتطابقة والمتماثلة" (ص 230). *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة §
يقصد المترجم "الإثنولوجيا". (المحرِّر) ¨
يعني المترجم، أغلب الظن، "النقلية"،
أي التي يتم تناقلها شفاهًا. (المحرِّر) ©
المقصودة هي الأعصُر الأربعة التي تشكِّل
"نهار برهما". (المحرِّر)
|
|
|