|
الانتخابُ
حقُّنا، ولكن...[1] يعيش
المواطنُ السوري منذ عقود في ظلِّ منظومة
قانونية أغلقت في وجهه آفاق التغيير، بدءًا
من القوانين التي شُرِّعت تحت مظلَّة حالة
الطوارئ، فأفقدتْه أدنى حقوقه وأخضعتْه
لسلطة الخوف وأجهزته، وأفقدت القضاء
استقلاليته، فخضع هو الآخر للهيمنة الأمنية
وللسلطة التنفيذية، مرورًا بقانون الانتخاب،
وصولاً إلى مواد دستورية كرَّست خضوعَ القضاء
وسحبت من المجلس النيابي سلطتَي التشريع
والمحاسبة. أمام هذا
الوضع، لم يعد بوسع المواطن السوري (حتى ذلك
الذي أُجبِرَ على الانتساب إلى الحزب الحاكم)
إلا إغلاق نوافذه أمام هذه المهزلة
الإجبارية، فكانت مقاطعته المستمرة أبلغ
دليل على فقدان هذه الحقبة لأية شرعية شعبية،
على الرغم من حملات التخويف وتنوُّعها ومن
سَوق العمال والموظفين إلى المراكز
الانتخابية في ظلِّ قانون الموظفين المسلَّط
على رقابهم الذي يخوِّل السلطة التنفيذية
حقَّ طردهم ونقلهم دون أيِّ حقٍّ لهم باللجوء
إلى قضاء يحميهم، تاركًا إياهم تحت رحمة
القوى الأمنية. اليوم، لم يعد
كافيًا هذا الشكل من أشكال المعارضة
المجتمعية، على أهميته الكبرى. إنما نحن
اليوم مطالبون، من أجل كسر هذه الدائرة
المغلقة دون أيِّ تغيير لمصلحة المواطن، بكسر
حاجز الخوف والمطالبة بـإلغاء حالة الطوارئ
وما نجم في ظلِّها من قوانين، بكلِّ الأساليب السلمية
الممكنة، والمطالبة بـعزل القضاء عن هيمنة
الحكم وأدواته. وريثما يصبح قضاؤنا مؤهلاً
لضمان عملية انتخابية ذات مصداقية، ينبغي
مراقبة العملية الانتخابية برمَّتها:
محليًّا من قبل لجان وجمعيات مجتمعية مستقلة
عن الدولة؛ وعربيًّا من قبل قضاة عرب، مشهود
لهم بالنزاهة والمكانة، وجمعيات عربية تُعنى
بالشأن الانتخابي؛ ودوليًّا من قبل الجهات
المعنية في هيئة الأمم والمجتمع المدني
الدولي. لأن انتخابات تتمتع بالحد الأدنى من
الأصول الانتخابية والنزاهة ستؤدي حتمًا إلى
وضع المؤسسات في ترتيبها الطبيعي، بحيث يصبح
البرلمان (مجلس الشعب) هو السلطة العليا التي
تحاسِب وتشرِّع وتخضع لها السلطات الأخرى
كلها. وهذا هو الطريق الوحيد لتغيير آمِن
وتدريجي في سوريا. ليس هنالك أي
وهم بأن انتخابات نزيهة لن تكون "عصا سحرية"
لحلِّ مشكلات سوريا بعد عقود الاستبداد التي
مرت بها والتي حرمتْنا من أية ثقافة وممارسة
ديموقراطية، وأغرقت الشعب السوري في إفقار
اقتصادي وتجهيل علمي معرفي، وأعملت تحطيمًا
متعمدًا في منظومته الأخلاقية، لكنها حتمًا
الطريق الأسلم والخطوة الأولى التي لا بدَّ
منها لتفادي مصير كارثي عادةً ما تخلِّفه
الأنظمةُ الاستبدادية. لذلك سوف
نعرِّج في هذا المقال على محطات من تاريخ
الانتخابات السورية وقوانينها، منذ عهد
الانتداب وحتى القانون الانتخابي الحالي.
فإلقاء الضوء، في اختصار، على هذه المحطات
يجعلنا ندرك أننا اليوم نعود لنبدأ من الصفر،
أو دونه، ويؤكد أن تطوير القانون الانتخابي
والعملية الديموقراطية برمَّتها، لتصبح
قادرة على التعبير تعبيرًا صادقًا عن المصالح
المجتمعية، على اختلافها، لا يأتي على دفعة
واحدة، بل عبر تصميم مجتمعي وتراكُم مطلبي قد
يشهد الكثير من الانتكاسات والنجاحات.
والفترات التي شهدت إجراء انتخابات برلمانية
ومناخًا من الحرية النسبية فيما بين
الدكتاتوريات لم تكن فترات مثالية، لكنها
شهدت نشاطًا مجتمعيًّا كبيرًا، دفع بالبلاد
خطواتٍ تدريجيةً مهمةً للأمام، وساهم في
تطوير ديموقراطيتها وفي تلمُّسها لطريقها
على الرغم من الإخفاقات. وهنا تكمن ميزة
الديموقراطية على غيرها من النظم السياسية،
وهي أنها تحمل آلياتها ووسائلها لتطوير نفسها
ولتصحيح مساراتها. أ. مرحلة
الانتداب الفرنسي: شكَّل النضال
من أجل الحقوق الديموقراطية جزءًا لا يتجزأ
من النضال من أجل الاستقلال وكان تعبيرًا عنه.
فطوال عهد الانتداب، ترافَق النضالُ من أجل
السيادة الوطنية مع النضال من أجل الحقوق
الديموقراطية للشعب السوري. ويبدو ذلك واضحًا
من خلال المحطات التالية: ·
كانت
مقاومة الشعب السوري وثورة 1925 ضد الانتداب
الفرنسي فاتحةً لأول قانون انتخابي في سوريا،
جرت في ظلِّه انتخابات العام 1928 التي أتت
بمجلس تأسيسي وضع أول دستور للبلاد أكَّد
سيادتها. وكان أول مَن تكلَّم من على منبره
الثائر إبراهيم هنانو، تلاه أبو الدستور فوزي
الغزي (مقرِّر اللجنة التي وضعت دستور 1928). وقد
أدى تمسُّك المجلس بالمواد الست التي تضمن
سيادة سوريا ورفضه إلغاءها إلى حلِّه من قبل
سلطات الانتداب. ·
في
انتخابات العام 1932،
عندما قامت السلطات الانتدابية بتزوير
الصناديق، اشتعلت البلاد بالمظاهرات، وشهدت
دمشق وحماه وأغلب المدن السورية مظاهرات
نسائية، مَثُلَ من جرائها العديدُ من النساء
السوريات أمام المحاكم الانتدابية، كما
حطَّم المواطنون الصناديق وواجهوا نيران
الاحتلال وقدموا الشهداء مردِّدين: "أطلقوا
ناركم، فنحن نحمي أصواتنا!" ·
أفرزت
ظروف الحرب العالمية الثانية وتراكُم نضال
الشعب السوري من أجل استقلاله انتخابات
مجلس النواب للعام 1943،
الذي مثَّل رمز مطالبة الشعب السوري
بالاستقلال الناجز وباستلام كامل للجيش من يد
السلطة الانتدابية. فقامت فرنسا خلال ثورة 1945
بقصف هذا الرمز الاستقلالي للأمَّة في 29/05/1945،
هذا المجلس الذي دافع السوريون عن استقلاليته
وحريته لأنها حريتهم، مما أدى إلى استشهاد
عدد من حرَّاسه الدرك. وقد ظل المجلس الرمز
الاستقلالي للأمَّة، على الرغم من أنه
انتُخِبَ في ظل الاحتلال، حتى تكلَّل نضال
الشعب السوري بجلاء الجيوش الانتدابية
الكامل عن سوريا في 17/04/1946. تميزت القوانين
الانتخابية إبان الانتداب بما يلي: 1.
اعتماد
الجداول الانتخابية. 2.
منع
قوى الدرك والشرطة والأمن العام من الانتخاب
والترشُّح. 3.
الانطلاق
من اعتبار القضاء ومركز المحافظة دوائر
انتخابية. 4.
التميُّز
بمقاعد دينية وطائفية محدَّدة بحسب نسبة
الناخبين من هذه الشرائح، وكذلك بتحديد عدد
النواب في كلِّ دائرة بحسب نسبة الناخبين
فيها. 5.
إعطاء
العشائر عشرة مقاعد نيابية. 6.
اقتصار
حقِّ الانتخاب والترشيح على الذكور فقط. 7.
النص
على سرية الانتخابات، على الرغم من أن ذلك لم
يُترجَم عمليًّا، حيث ظلَّ الناخب مجبرًا على
الانتخاب في مواجهة السلطة التنفيذية مباشرة. 8.
جرت
الانتخابات على درجتين، بما قد يضمن مقدرة
أكبر للسلطة الانتدابية على التحكم في نتائج
الانتخابات. ب. تطوُّر
القوانين الانتخابية بين الاستقلال وانقلاب
1963: اعتمد قانون
الانتخاب السوري في تطوره أساسًا على القانون
الانتخابي الذي صيغ في عهد الانتداب. ونلاحظ
أن المواطن السوري ابتدأ بعد الاستقلال
مباشرة بخوض نضال تدريجي من أجل استكمال
حقوقه السياسية والاقتصادية، وعاش صحوة وعي
مجتمعي لصون هذه الحقوق واستكمالها ستظل منبع
إعجاب وحنين. وهذا ما يفسِّر لنا السرعة
اللافتة لتطور قانون الانتخاب السوري في تلك
الفترة، على الرغم مما تخلَّلها من أحداث
قطعت المسيرة السياسية الديموقراطية آنذاك.
وعلى الرغم من أن هذا القانون لم يستكمل
ملامحه المأمولة بسبب انقطاع الحياة
السياسية البرلمانية نهائيًّا في أعقاب
الثامن من آذار 1963، إلا أننا نلاحظ أن هذا
القانون كان يشهد قفزاتٍ مهمةً للأمام عقب
فشل كلِّ انقلاب عسكري، بما يعبِّر في وضوح عن
الصراع المحتدم بين قوى الحرية
والديموقراطية وبين نزعة الاستبداد وقواها. ·
انتخابات
العام 1947:
في أواخر العام 1946، أسقطت احتجاجاتُ
المواطنين ومظاهراتُهم المرسوم التشريعي رقم
50 (الذي ضيَّق على حرية الكلمة والتجمع وأناط
بوزير الداخلية الكثير من الصلاحيات لتقييد
الحريات العامة دون الرجوع إلى المجلس
النيابي)، مما أدى إلى إجراء انتخابات 1947 بلا
سيف قانوني يحد من حرية المواطنين ضمن جوٍّ من
الحرية النسبية (على الرغم من استمرار النفوذ
القوي للزعامات التقليدية القديمة المتغلغل
في أدوات السلطة التنفيذية على أرض الواقع)
ومهَّد الطريق لتطوير القانون الانتخابي
خطوة إلى الأمام، فكان التعديل الأول له،
الذي حدَّد إجراء انتخابات 1947 على درجة
واحدة، خلافًا لما عملت عليه فرنسا خلال عهد
الانتداب. ·
استفتاء
العام 1949
الذي جرى إبان عهد ديكتاتورية حسني الزعيم،
التي استمرت لعدة أشهر، والذي كانت نتيجته
منذ ذلك الوقت "نعم" بنسبة 99.53% (!) وكان
فيه الزعيم المرشح الوحيد (!) للرئاسة، وتم في
ظل إجراءات سوف تصبح شائعة في سائر العهود
الديكتاتورية التي ستشهدها سوريا فيما بعد:
فمن تعطيل المجلس، وحل الأحزاب، وإغلاق
الصحف، وإخضاع الموظفين لحَلْف يمين يمنعهم
من الانتماء السياسي، إلى الاستفتاء، هذه
البدعة المحبَّبة إلى الدكتاتوريات كلِّها،
بمرشَّحها الوحيد، وصولاً إلى نسبة الـ99%. ·
انتخابات
العام 1949
التي أعقبت عودة الحياة
السياسية البرلمانية بعد انتهاء ديكتاتورية
الزعيم والتي شهدت التطور المهم الثاني في
قانون الانتخاب السوري عندما تقدمت اللجنة
الخاصة التي شُكِّلتْ من أجل وضع قانون
الانتخاب الجديد بالمطالب الآتية (بعد كثير
من الجدل المجتمعي): 1.
منح
المرأة حق الانتخاب: وقد قبلت الحكومة
المؤقتة ذلك وأقرَّته، شريطة أن تكون المرأة
الناخبة حاملةً للشهادة الابتدائية، فكانت
سوريا من أوائل الدول التي منحت المرأة هذا
الحق، حتى إنها سبقت عددًا من الدول الأوربية
المتقدمة في ذلك. 2.
تخفيض
سنِّ حق الانتخاب من الـ20 إلى الـ18؛ ولقد
أُقِرَّ هذا الاقتراح كما هو. 3.
إلغاء
الطائفية جزئيًّا بإلغاء المقاعد المذهبية. 4.
حصول
المرشح على الشهادة الابتدائية. لكن الحكومة
أضافت على هذا الطلب جملة (أو ما يعادلها)، بما
عطَّل الفائدة الفعلية لهذا الاقتراح. 5.
تمَّ
التمثيل على أساس سجلِّ النفوس، خلافًا
للقانون السابق الذي كان التمثيل فيه يتم على
أساس الناخبين. 6.
إلغاء
الكراسي الاستثنائية وتقليص المقاعد
العشائرية من تسعة إلى ستة. 7.
خلو
القانون من الأحكام الاستثنائية، خلافًا
للقانون القديم. إبان دكتاتورية
الشيشكلي، التي استمرت حوالى العامين، تم
نوعان من الانتخابات: ·
انتخابات
العام 1953
التي جرت في ظل التضييق على
الأحزاب، ثم حظرها الكامل (ماعدا الحزب
الحاكم ومَن دار في فلكه)، وإغلاق الصحف،
ومصادرة الرأي الآخر، والاعتقال، ومنع
الطلاب من ممارسة النشاط السياسي تحت طائلة
"الطرد المؤبد والسجن"، والمدرسين
والموظفين تحت طائلة الفصل من العمل (تمَّ
فعلاً فصلُ العديد منهم لهذا السبب). كانت
الانتخابات الأولى على دستور نظام رئاسي
استحدثه الشيشكلي وسيطر بواسطته على السلطات
الأخرى كلِّها، وبموجبه انتُخِبَ رئيسًا
بنسبة تفوق الـ90%. ومن
المفيد هنا استرجاع المقطع التالي من بيان
جبهة المعارضة التي تشكَّلت من الطيف السياسي
السوري كلِّه آنذاك في مواجهة الشيشكلي
تعليقًا على هذا الدستور: [...]
أيها الشعب، إن دساتير الأمم هي ثمرة جهدها
ونضالها وسجل حريتها [...]. والدساتير الحرة
يكون ميلادها في جوٍّ حرٍّ طليق، وأما التي
تدبَّر في ظلام الدواوين وفي جوٍّ خانق من
الحكم البوليسي والإرهاب فلن تكون إلا سجل
الرقِّ وسِفْر العبودية. ثم تلتْها
انتخاباتٌ نيابية كانت نتيجتُها فوز الحزب
الحاكم الذي شكَّله الشيشكلي بأغلبية
المقاعد في جوٍّ من المقاطعة الشعبية. لقد احتوى
قانون الانتخاب على ماده تحظر الاجتماعات
الانتخابية دون إذن مسبق، وكانت هذه المادة
استكمالاً للسيطرة على النشاط السياسي
الشعبي. وعلى الرغم من أن القانون اعتمد
الجداول الانتخابية ولم يخرج في مجمله عما
أقرَّتْه معظم القوانين السابقة، لا بل إنه
سمح للمرأة بحقِّ الترشيح وألغى مقاعد
العشائر، لكن النتائج لم تخرج عما اعتدناه من
الأنظمة الديكتاتورية، لأن الانتخابات الحرة
لا تحتاج لقانون انتخابات فقط، بل تحتاج لأن
تجري في أجواء بعيدة عن القمع: في جوٍّ من حرية
الكلمة والرأي ومن ممارسة الحياة السياسية
ممارسةً حرة، بما يؤدي لمشاركه شعبية حقيقية
تمنح المجلس المنتخَب مصداقيته التمثيلية. ·
انتخابات
العام 1954:
ملاحظات: 1.
في
قانون الانتخاب للعام 1954، الذي أعقب الإطاحة
بانقلاب الشيشكلي والمعركة التي خاضتْها
القوى الديموقراطية من أجل حرية الصحافة
والأحزاب وحرية الرأي والتي تكلَّلت بالنجاح
ومهدت لتشكيل حكومة حيادية برئاسة سعيد الغزي
للإشراف على الانتخابات النيابية، تمَّ
تطورٌ مهم، حيث أُقِرَّت الغرفة السرية التي
سمحت للناخب بأن يكون في منأى عن أعين السلطة
التنفيذية، فمثَّلت، للمرة الأولى في تاريخ
قوانين الانتخابات السورية، ترجمةً عمليةً
للمادة التي وردت فيها كلها منذ عهد الانتداب
والتي تنص على سرية الانتخاب، لكن دون طريقة
عملية لتنفيذها. وقد أدى هذا التطور الهام في
القانون الانتخابي إلى إقبال شعبي انتخابي
كبير شهدتْه انتخابات ذلك العام، انعكس على
المجلس النيابي بتغير واضح طرأ على تركيبته. 2.
إقرار
حقِّ المرأة في الترشُّح للمجلس النيابي، على
أن تكون حائزه على الشهادة الابتدائية. ·
في
الانتخابات التكميلية للأربعة مقاعد الشاغرة
في العام 1957 في
دمشق وحمص والسويداء، احتدمت المعركة
الانتخابية وكانت مؤشرًا مهمًّا على شكل
المجلس القادم الذي لم يَرَ النور بسبب
تغيُّر النظام السياسي في سوريا إبان الوحدة.
ولقد عُدِّل القانون الانتخابي قبل هذه
الدورة التكميلية، فأصبح المرشحون يصنَّفون
بحسب عدد الأصوات، بحيث يُعتبَر فائزًا مَن
حاز على أكثر من غيره من الأصوات، بينما نصَّ
القانون سابقًا على ألا يقل عدد الأصوات التي
يحصل عليها الفائز عن 40% من أصوات المقترعين،
وعندما لا يكتمل عدد المقاعد المخصصة تُعاد
الدورةُ الانتخابيةُ بين المرشحين الذين
نالوا أكثر من 10% من أصوات المقترعين،
ويُعتبَر فائزًا مَن نال أكثر من غيره من
الأصوات. ·
انتخابات
العام 1961:
بعد ذلك لم يشهد قانون الانتخاب تطورًا
مهمًّا. وقد تزامَن ذلك مع تعب وخبو في جذوة
الصحوة الديموقراطية المجتمعية التي أطفأها
اختلالُ المشهد لدى المواطن السوري وضبابيته.
فحالة الطوارئ التي قيدت الحريات والحكم
الفردي الاستبدادي في أثناء الوحدة تزامنا (لظروف
لا مجال لبحثها هنا) مع تحولات اقتصادية،
شكَّل جزءٌ منها انجازاتٍ هامةً لشرائح
اجتماعية كبيرة في نسيج المجتمع السوري، ومع
محاولة العودة عن هذه التحولات كلِّها بمجلس
تم انتخابه في ظلِّ استمرار سريان قانون
الطوارئ خلال شهرين فقط بعد الانفصال (لظروف
لا مجال لذكرها أيضًا)، أفقدا الديموقراطية
بريقها وإجماعها المجتمعي. وقد شهد قانون
الانتخاب للعام 1961 بعض التراجع: فلقد سمح
للسلطة التنفيذية بالتدخل في الدوائر
الانتخابية، وأدخل تغيرًا طفيفًا على شروط
الترشيح، وعاد إلى تعيين سبعة مقاعد عشائرية. عندما بدأت
سوريا بعودتها للتوازن من أجل انطلاقة
ديموقراطية حقيقية، مثَّلها إلغاءُ حالة
الطوارئ، وتحديدُ موعد انتخابات جديدة في
الشهر السابع من العام 1963، وتأكيد الحرص على
ما أنجزتْه سوريا من مكاسب اقتصادية
وديموقراطية منذ استقلالها وتثبيته والربط
بينهما، عبَّرت عن تلك التحولات بأروع ما
يكون كلمةُ المرحوم خالد العظم، رئيس وزراء
الحكومة الائتلافية آنذاك، في بيانه
الوزاري، التي نورد مقتطفًا منها لأهميته: لقد
انتهت التجارب الطويلة التي مرَّت بها سوريا
– وكان بعضها شديد القسوة – إلى اقتناع
أبنائها أن كلَّ قتل للحريات السياسية على
حساب إنجاز الإصلاحات الاجتماعية أولاً إنما
هو قتل لإنسانية الإنسان – والإنسان أعز ما
في الوجود؛ كما اقتنعت أكثرية أبنائها، في
الوقت نفسه، أنه ليس من حرية صحيحة لأصحاب
البطون الجائعة والأجساد المريضة. ولهذا فإن
سوريا العربية اليوم ترفع الراية الثالثة،
راية التلازم الذي لا انفصام له بين
الديموقراطية السياسية والديموقراطية
الاجتماعية، وتنادي أن الإنسان العربي
بحاجة إلى الحرية وإلى الخبز وإلى الكرامة
معًا، وأن كلَّ تضييق لهذه الحاجات المتلازمة
الثلاث أو تفريق بينها إنما هو قتل عمد لها
جميعًا. [...]
فبقدر حرصنا على الاستقرار والثقة وإطلاق
حرية تشكيل الأحزاب السياسية والإعداد
لانتخابات نيابية حرة وتنفيذ مشاريع الوطن
الإنمائية حرصْنا على تنفيذ الإصلاح الزراعي
وأسرعنا في تمليك الأراضي للفلاحين وأعددنا
ما يلزم للتعويض على مَن شَمَلَهم قانونُ
تحديد الملكية الزراعية وحافظنا على مكتسبات
العمال. [...] هنا، برأيي،
كان المقتل للديموقراطية السورية ولسوريا،
وهو عودتها من جديد إلى تلمُّس هذا الطريق،
الذي أشارت إليه الكلمة بـ"الراية الثالثة"،
وإلى حمل لوائه في وضوح. ج. القوانين
الانتخابية من انقلاب الثامن من آذار إلى
اليوم: بعد الثامن من
آذار 1963، أُعيد إعلان حالة الطوارئ،
فأُغلِقَت الصحف، وحوربت الحركاتُ السياسية
والمطلبية بالقمع دون هوادة، وقُمِعَ أي نشاط
سياسي، وتمَّ في ظل هذه الحالة إصدارُ مراسيم
شرعنت القمع وأيَّدت مرتكبيه، لا يزال يُعمَل
بها إلى يومنا هذا، وجرى صراعٌ قاسٍ على
السلطة لا علاقة له بالقوى المجتمعية
ومصالحها، لبس أشكالاً شتى، إلى أن وصلنا إلى
العام 1970، ليتمَّ بعد فترة منه، كما درجت عليه
الديكتاتوريات كلُّها، الاستفتاء على الرئيس
وعلى دستور 1973 الذي وضع السلطات كلَّها،
القضائية والتشريعية والتنفيذية، بين يديه؛
ثم ما لبث أن وُضِعَ قانونٌ انتخابي لمجلس
الشعب ليضفي على الحكم الاستبدادي مسحةً من
الشرعية. ومذ ذاك تكررت استفتاءات رئاسية
عدة، كانت نتيجتها دائمًا "نعم" بنسبة
حوالى 99% من الأصوات؛ وتكررت أيضًا انتخابات
متعددة لمجالس الشعب نجحت فيها دائمًا
القائمةُ نفسها التي يعرفها الشعب السوري كله
ويعرف كيف تنجح ولماذا. ·
ملاحظات
على القانون الانتخابي للعام 1973: إذا درسنا
قانون الانتخاب للعام 1973، في معزل عن غياب
القضاء المستقل، الضروري لأية عملية
انتخابية حقيقية، وعن حصانة الأجهزة الأمنية
وعدم امتثالها للقضاء وسلطته، وفي معزل عن
القوانين التي أعطت الشرعية القانونية
لانتهاك أبسط حقوق المواطن، بما شكَّل حالة
خوف كفيلة بأن تفرغ أهم القوانين الانتخابية
من مضامينها، نجد ما يلي: 1.
يعتمد
القانون تقسيم المرشحين إلى فئة "أ" وفئة
"ب"، بما ينسف أهم مبدأ من مبادئ
الترشيح، وهو المساواة بين المرشحين. ولقد
ذُكِرَ هذا المبدأ للمرة الأولى في ميثاق
الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في
نيسان 1963 بما نصُّه: إن
التنظيمات الشعبية والسياسية التي تقوم
بالانتخاب الحر المباشر لا بدَّ أن تمثِّل
بحق وبعدل القوى المكوِّنة للأغلبية. ومن هنا
يجب أن نضمن للعمال والفلاحين نصف مقاعد هذه
التنظيمات على الأقل وفي جميع المستويات، بما
فيها مجلس الأمَّة. ولقد أُدخِلَ
هذا المبدأ في القانون الانتخابي والدستور
السوري في العام 1973! وبالمرسوم
التشريعي رقم 24 الصادر في 02/10/1981 تمَّ إلغاء
اللوائح الانتخابية التي درجت عليها
القوانينُ الانتخابية السابقة كلها والتي
نصَّتْ عليها بعضُ مواده في نسخته الأولى
للعام 1973. وربما تزامَن هذا التراجع مع تصاعُد
الحركة المجتمعية المطلبية الديموقراطية
التي قادتها النقابات، وذلك لإغلاق جميع
منافذ التغيير في وجهها. ولقد أطاح هذا
التغيير "قانونيًّا" بمصداقية العملية
برمَّتها وسمح للصناديق الجوالة وغير
الجوالة بالتحكم في النتائج قانونيًّا! 2.
بحسب
المرسوم التشريعي رقم 4 الصادر في 12/04/1990
حُدِّد عددُ نواب مجلس الشعب بـ250 عضوًا،
وأُلغِيَ اعتمادُ عدد المرشحين لكلِّ دائرة
بحسب سجلِّ نفوسها، وحُدِّدَ عددٌ ثابت لكلِّ
محافظة، وتُرِكَ تحديدُ نسبة الفئتين في كلِّ
محافظة لمرسوم خاص بكلِّ دورة! 3.
خلافًا
لجميع للقوانين الانتخابية منذ عهد
الانتداب، سمح القانون الانتخابي للوزراء
بالترشُّح مع الاستمرار في وظائفهم، كما سمح
للعسكريين بذلك، وسمح به للمحافظين وضباط
الشرطة بشروط متساهلة جدًّا، كما أنه منع
رجال الجيش والشرطة فقط من الانتخاب، دون أن
يشير إلى قوى الأمن والمنظمات الأخرى ذات
التشكيل العسكري! 4.
انطلق
القانون من المحافظة كدائرة واحدة، إلا حلب:
فلقد قُسمت إلى دائرتين، حلب وريفها، لسبب لم
أتأكد منه. إن اعتماد الدائرة الموسَّعة قد
يُعتبَر ميزةً وارتقاءً للديموقراطية في
أجواء الحرية السياسية، حيث يتم انتخاب
البرنامج السياسي للقائمة، وليس المرشح
السياسي لذاته، بما يغلق الباب أمام ما
يُسمَّى بـ"نائب الخدمات"؛ أما في أجواء
القمع والاستبداد وموت الحريات فإن ذلك قد
يعني صعوبة أكبر للقوى الديموقراطية باختراق
جدران المنع ككتل موحدة. 5.
غالبًا
ما تترافق الانتخابات مع لائحة تنفيذية تزيد
الضوابط الأمنية على العملية الانتخابية،
على الرغم من أن القانون أصلاً لم يستوفِ –
حتى شكلاً – ضماناتٍ كافيةً فيما يخص حرية
الدعاية لبرامج المرشحين، حيث عادةً ما تقتصر
الدعايةُ على صورهم فقط، مع شعار بسيط ليس له
أيُّ معنى! 6.
على
الرغم من خضوع القضاء التام للسلطة
التنفيذية، كما ذكرنا، فلقد تمَّ تقليص دور
رجال القانون والقضاة في متابعة مجريات
العملية الانتخابية عن مثيله في القوانين
السابقة. د. خلاصة: إن أية عملية
انتخابية ذات مصداقية تحتاج إلى توفُّر ثلاثة
عناصر في الحدِّ الأدنى: 1.
قانون
انتخابي تشارك
القوى المجتمعية في صياغته وتتوافق عليه،
يحمل من عناصر الأمان ما يلبِّي نزاهة
الاقتراع وسرِّيته والمساواة بين المرشحين. 2.
سلطة
قضائية مستقلة، تؤمِّن ابتعاد
الأجهزة الأمنية وأدوات السلطة التنفيذية عن
التدخل في مجريات العملية الانتخابية وتكون
قادرة على المراقبة والمحاسبة في حالات
التزوير والخروق. 3.
قوانين
تكفل الحريات الفردية والمجتمعية،
مثل حرية التعبير والاختلاف في الرأي، وحرية
العمل المجتمعي والسياسي، وحرية الصحافة
والأحزاب والتجمعات، بما يسمح بازدهار مجتمع
مدني حيوي وناشط متحرِّر من الخوف. ***
*** *** المراجع -
البني،
أنور، مقال منشور في موقع صفحات سورية -
الحافظ،
عبد الحفيظ، "على هامش الموعد الدستوري:
قراءة في قوانين الانتخاب في سوريا"، موقع كلنا
شركاء، 26/02/2007 -
الحوراني،
أكرم، مذكرات -
العظم،
خالد، مذكرات -
قانون
الانتخابات العامة بالمرسوم التشريعي رقم 26،
بتاريخ 14/04/1973، المعدل بالمراسيم التشريعية
رقم 24 للعام 1981 ورقم 2 للعام 1986 ورقم 4 للعام 1990
ورقم 5 للعام نفسه، الجريدة الرسمية -
قانون
الانتخابات العامة للعام 1949، الجريدة
الرسمية -
المرسوم
التشريعي رقم 11، بتاريخ 30/07/1953، المتضمن قانون
الانتخابات، الجريدة الرسمية -
المرسوم
التشريعي رقم 17، بتاريخ 10 أيلول 1949، الجريدة
الرسمية -
المرسوم
التشريعي رقم 56، بتاريخ 29/10/1961، مع التعليمات
الانتخابية للدور التشريعي الأول للجمهورية
العربية السورية، الجريدة الرسمية [1]
نعيد نشر هذا المقال، نقلاً عن موقع
الفداء الإلكتروني، نظرًا لقيمته في التأريخ
للمحطات التي مرت بها الانتخابات في سوريا
وقوانينها. (المحرِّر) [2]
د. فداء حوراني ابنة السياسي السوري
المرموق أكرم الحوراني، وقد انتُخِبَت
مؤخرًا رئيسًا لمكتب رئاسة "المجلس
الوطني لإعلان دمشق للتغيير الوطني
الديموقراطي". |
|
|