|
قراءة
في "مغامرة" المبدعة السورية
إكرام
أنطاكي
محمد علاء الدين عبد المولى
عندما
اطَّلعتُ
على كتاب مغامرات حنا المعافى حتى موته،
وطُلِبَ منِّي أن أكتب رأيًا نقديًّا فيه،
كان الشرط ألا أعرف صاحبة الكتاب للمشاركة في
ندوة عنه في أحد المنتديات الثقافية. فكتبت
حوله هذه المداخلة التي لم يُتَحْ لها أن
تُقرَأ [...]. وبعد فترة، علمت أن الكتاب هو
لسيدة مجهولة في بلدها، ولكنها ذات شأن ثقافي
وإعلامي بارز ومشرِّف في المكسيك، وهي السيدة
الراحلة إكرام أنطاكي. ربما لا يفاجَأ المرء
بذلك التغيُّب الذي رافق هذه الشخصية التي
عرفتُ عنها ما هو كافٍ ليفتخر المثقف والمبدع
السوري بأن هذه السيدة من بلده وتحتل مكانة
أساسية في المكسيك وفي الوجدان الثقافي
والاجتماعي هناك – وعلى أرفع المستويات. وقد
رأيت أنه من المناسب الآن إخراج ما كتبتُه عن
ذلك الكتاب، مع تعديل طفيف لا يمسُّ جوهر
الرأي النقدي، وذلك مشاركة في الدعوة إلى
استعادة هذه المثقفة المهمة وإعادة الاعتبار
إليها في وسطنا الثقافي. *** ...
انتشل الحديث الحارق بين
سطور نص ثرثار لا يزن روعته – كما يكون كلام
الثوار في المرحلة المتأزمة... ...
ولدت مسيرة الكلمات المنادية شعرنا
بأنفسنا محاصرين بضيق اللغة كسرناها
– عوجناها – اعتدينا عليها مرارًا في
الصراع ضد اللعنة لم يعد لدينا من شيء سوى
البثور... ماذا
فعلتْ صاحبةُ هذين النصَّين الموجودين في
كتاب مغامرات حنا المعافى... بالقارئ؟ هل
"انتشلت الحديث الحارق"؟ وما هو هذا "الحديث
الحارق بين سطور نصٍّ ثرثار لا يزن روعته"؟!
إن هذا الكلام يمكن أن يُفهَم منه أن صاحبة
الكتاب تفترض وجود نصٍّ ثرثار رديء، لا يصل
إلى مستوى الإبداع، فتأتي هي لتخلِّص "الحديث
الحارق" من هذا "النصِّ الثرثار". هذا
يعني أنها تنذر نفسها للقيام بأداء رسالة ما
من خلال تقديم نصٍّ "ليس ثرثارًا".
فنصُّها يجب أن يكون منضبطًا من الناحية
الفنية؛ وهي تزن روعته، أي تعمل بدقة على
إظهار نصِّها رائعًا، "كما يكون كلام
الثوار في المراحل المتأزمة"؛ بمعنى أن
صاحبة النصِّ الجديد هي من أصحاب "كلام
الثوار في المراحل المتأزمة". هل يمكن أن
نفهم من هذا أن النصَّ الجديد يحدد ثوريته
بهذه الطريقة: انتشال "الحديث الحارق" من
الثرثرة والعمل عليه بتأنٍّ؟ إنها إذًا ثورة
في مجال إبداع النص. ولندقق
في "المراحل المتأزمة"، فنرى أن السيدة
"إكرام" تحدِّد الصفة الموضوعية لزمن
إبداع ثورة نصِّها: إنه زمن "المراحل
المتأزمة" التي تشكل مقياسًا ومؤشرًا على
مدى التزامها بتثوير نصِّها عندما تدرك –
واعيةً – تأزُّم الزمن، بما يعني ذلك من
افتراض وجود مرحلة انتقال نوعي من مرحلة إلى
مرحلة. عندها تأتي أهمية نصِّها البديل الذي
تقدمه ردًّا على الثرثرة الأدبية. ونتابع
كلامها المتصل بهذا المعنى. "ولدت مسيرة
الكلمات المنادية": أي أننا أمام انطلاق
مسيرة كلماتها، هي كلمات نصِّها البديل. إنها
"كلمات منادية"، تنادي، تطلب. متى يحدث
ذلك؟ إنه يحدث – مرة أخرى – عند "المراحل
المتأزمة"، وعندما شعرنا
بأنفسنا محاصرين بضيق اللغة كسرناها
– عوجناها – اعتدينا عليها مرارًا هكذا
تتوضح المسألة بجلاء: وقفت، بنصَّها، أمام
"ضيق اللغة"، فـ"كسرتها – عوجتها –
اعتدت عليها مرارًا". وهي إنما تفعل ذلك
لإيجاد مخرج من "ضيق اللغة" في المراحل
التاريخية الكبرى للوصول إلى نصِّها هي: النص
البديل والمقترح ضمنًا. هل يتم ذلك من خلال
تكسير اللغة واعوجاجها والاعتداء عليها
مرارًا؟ إن صاحبة هذا النص واضحة في تعاملها
مع اللغة: تكسرها، تعوجها، تعتدي عليها! هذه
مفردات ثورة عبثية فوضوية، تحطِّم وتكسِّر كل
شيء في طريقها. ونحن عندما نحطِّم ونكسِّر كل
شيء في طريقنا فكأننا نضمر موقفًا عدميًا مما
نحطِّمه، حيث لا قيمة له إلا بتحطيمه
والاعتداء عليه. وعند تحطيم وتكسير اللغة "في
الصراع ضد اللعنة" فهذا يعني، من طرف آخر،
نظرة عدوانية إلى اللغة نظرًا لما تعتبره
صاحبة النص من أن اللغة "الضيقة" قد تكون
سبب معاناتها من الإبداع وسبب جمود الأدب
والكتابة، لأنها لغة لا تمنحها الرؤيا، ولا
تغريها بانفجارات الإبداع الحقيقي.
ويذكِّرنا ضيق اللغة هنا بضيق العبارة عند
النفري وبضيق الأبجدية عند أدونيس. وفي
مكان آخر، تقول إكرام عن الرجل الذي "نسي أن
يقرأ الحروف المتلكئة التي كتبها الموت" –
تقول إن هذا الرجل: بحث داخل الكلمة عن الأمن والدفاع
ثبت
كتابة سجلاتها حاجة لأن تكون معترفًا بها بواسطة إشارات رؤيا
هذا
يعني، لدى التدقيق، أنه ينبغي أن تحقق الكلمة
– أي اللغة – "الأمن والدفاع"، وذلك
عندما تكون نابعة من حاجة طبيعية للاعتراف
بها من خلال كون اللغة "إشارات ورؤيا". بذلك
نكون قد وقفنا على موقف السيدة إكرام من اللغة
والكتابة: الكتابة التي تثور عليها والكتابة
التي تطمح إليها. فالكتابة ليست ثرثرة، بل
وجود فيه أمان واستقرار وحماية ذاتية؛ وهي
تتم عبر الإشارات وليس الشروحات، كما أنها
لغة كتابة تشتغل بالرؤيا والاستشراف. ولكن،
ماذا عن النصِّ نفسه؟ هل حقق لغة بديلة؟ هل
حقق "الأمن والدفاع"؟ وهل تخلص من ضيق
اللغة وخرج إلى لغة الرؤيا والإشارات؟ إن
النصَّ نفسه – ولا شك – خارج على الكثير مما
هو سائد. ولتحديد هذا السائد علينا أن نقرأ
أولاً بأنه السائد المعني بالنسبة لصاحبة
النصِّ نفسه؛ أي أنه سائد في نظر النصِّ
وصاحبته. فهو نصٌّ مكتوب ضمن شرط كتابة ما
يسمى قصيدة النثر، وهو شكل الكتابة الجديدة.
وإذا شئنا إطلاق مصطلحات أخرى لما عجزنا عن
وصف النصِّ بأنه نصٌّ مفتوح أو كتابة "عبرنوعية"،
كما يعبِّر إدوار الخرَّاط. إن النص يعتمد على
الاستطراد في الكتابة، وعلى توسيع رقعة
النصِّ، ذات اليمين وذات الشمال، بحيث لم
أستطع ضبط "كيان" ما لهذا النص: كيان
بمعنى هوية أدبية محددة. هل هو قصيدة، فأمشي
مع مناخها المطرد خطوة خطوة، أم هو قصيدة نثر
بالمعنى الشائع؟ لكنه ليس هذا ولا ذاك. فلغته
لا توحي بنوع معين من الحقول الإبداعية
الجديدة الناجمة عن تطور القصيدة الحديثة عبر
إنجازاتها المهمة على يد كبار كتَّابها. وأنا
لا أقصد هنا قصيدة النثر، بل ذلك النوع من
الكتابة انطلاقًا من وضع الشعر مقابل النثر،
دون الجمع بينهما على طريقة قصيدة النثر.
وبناء على ذلك، يمكن اعتبار التقنيات
المستخدمة في نص السيدة إكرام تقنياتٍ نثرية
بامتياز، من استطراد وتداعيات وعدم تركيز على
بؤرة ما بعينها، حتى ليشعر القارىء بتيه مع
النصِّ – تيه يذكِّر بالتيه الذي يشعر به
قارىء النثر العربي العالي المستوى الذي
يأخذه من جهة إلى جهة، في حركة تموجية لا تهدأ
على صورة معينة. وهذا طبعًا يشكل خصوصية مهمة
للنثر المبدع، وهو من ميزات نصِّ إكرام. وإذا
كان النصُّ يستفيد من لغة الشارع ومجازاته
واستعاراته فهذا ليس كافيًا ليصبح شعرًا.
إننا نرى إمكانية لاستفادة النثر من الشعر
والشعر من النثر كذلك، كما يفعل محمود درويش
في بعض نصوصه الأخيرة؛ فهذه الاستفادة تغني
التجربة الابداعية. ولكننا لسنا مع خلط
الأوراق بحيث ينقلب النصُّ من اسم إلى آخر
عشوائيًا؛ ونحن مع دعوة تحديد الهوية
الإبداعية للجنس الأدبي. هذا
ويعاني النصُّ من الغموض المبهم الذي لا يتيح
للقارىء متعة التواصل معه. وغموضه، كما أرى،
ناتج عن رفض صاحبته الانضباط الفنِّي داخل
نصِّها، ربما تماشيًا مع نزعتها العدمية
والتمردية؛ لكنها نزعة عكست نوعًا من النأي
بين القارئ والنص. ولا شك أننا لا نطالب أيَّ
نص إبداعي بالوضوح كذلك، بل نريد العثور فيه
على ممكنات فنِّية مغرية تثير في المتلقي
أبسط أنواع الأثر الانفعالي من خلال عملية
القراءة، وتثير فيه المجال الجمالي الكامن
فيه. إن النص، في كثير من لحظاته، وصل إلى
الانغلاق على التواصل معه. فكيف للنصِّ
المنغلق أن يحمل رسالة فنية جمالية؟ وإذا
كانت صاحبة النصِّ تريد انتشال نفسها من
الثرثرة فقد أوقعت نصَّها فيها من حيث لا تدري.
وهي "ثرثرة" تأخذ هنا شكلاً متطورًا
يذكِّرنا بأسلوب الكتابة السوريالية التي
تؤسِّس هويتَها بعيدًا عن ضبط ووعي مسار
الكتابة؛ حتى إنه ليمكننا، بكثير من الثقة،
أن ننسب هذا النص إلى الكتابة السوريالية
الآلية. وربما كان ذلك وراء الغموض المبهم في
النصِّ؛ وربما كان ذلك مناسبًا للغة الإشارات
والرؤيا التي تتحدث عنها إكرام
في مكان آخر من نصها. تتواكب
مغامرات عجيبة على الحصى الشمعية الكثيرة
وعلى الأصابع الخشبية التي لا تلمس في
شمال الكوكب بين الدوائر والمساحات أناس متمددون
على الأرض وأكياس
تحمل
بياض سوائل كثيفة لن يعودوا يجدونها وعند
مغرب الجحيم رخام يتفكك ويترتب علائم مسالمة
طيبة النية عفوية وحرة هنا تأخذ الرسائل وجهًا
إنسانيًّا
هل
يحقُّ لنا التساؤل لماذا "تأخذ الرسائل
وجهًا إنسانيًّا"؟ وأية "رسائل" هذه؟
وما هذا الـ"هنا"؟
إن
النصَّ من الغموض بحيث يصعب على القارىء
معرفة ملامح هذا الـ"هنا" حتى تتضح
العلاقة معه: هل هو "في شمال الكوكب بين
الدوائر والمساحات"؟ هل هو "عند مغرب
الجحيم" حيث "رخام يتفكك ويترتب علائم
مسالمة"؟ ماذا يعني كلُّ ذلك؟ إن النص
عندما يتكتَّم على المتلقي تفسد متعة التواصل
والتذوق التي لا يفتقر إليها نصُّ إكرام هنا
وهناك. وهذه الفجوة التي نتحدث عنها – إضافة
للأسباب التي ذكرنا – تعود إلى الثورة
الداخلية العارمة التي تحكمت بشخصية السيدة
إكرام؛ وهي شخصية تأخذ لغة التعبير إلى رفض
الجاهز والاعتداء عليه – إمعانًا في
الاختلاف عنه. كما يعود ذلك إلى تضخم عنصر
اللغة عندها، بحيث تتم إزاحة الكثير من
العناصر الفنية المطلوبة من مساحة النصِّ
ليتم التركيز على عنصر اللغة وحدها والنفخ
فيها – على حساب الإمكانيات الأخرى المجاورة
في النص. وهذا ما جعل من تجربة السيدة إكرام في
مغامرات حنا... تجريبًا لغويًّا زائدًا عن
الحد. ومع
تفهُّمنا لأسباب ذلك وتقديرنا لهذه الأسباب،
لا بدَّ من تقييم ذلك والاجتهاد في الحكم عليه
نقديًا: يبقى النصُّ النثري للسيدة إكرام
حاملاً للكثير من الخصوصية ضمن المناخ الذي
كان سائدًا في كتابة قصيدة النثر السورية
تحديدًا، حيث اختلف نصُّها في ابتعاده عن
التفاصيل والنثريات اليومية والمشاهد
العابرة، وانشغل بلغة رؤيا وإشارات ورموز،
مما يجعل منه نصًّا نموذجيًّا في إطار
الكتابة النسائية السورية، بل نموذج رائد
يعجز عن موازاته كثير من نصوص كاتبات النثر في
هذه الأيام، ربما لانعدام المعاناة العميقة
للغة والثقافة والوجود. *** *** ***
|
|
|