|
شهابٌ خاطف...
أمل
جرمقاني
قال
أبو الطيب المتنبي:
لقد
مرَّت إكرام في حياتنا كشهاب خاطف... أوْقَدَ
شعلتَه في داخلنا، وغادرنا ليتوهج في فضاء
غير فضاء. وفي سباقها مع الزمن خطَّتْ فرادةَ
التجربة وعنفوانَها. وبكلِّ ما يوجِع ويُحزِن
أقحمنا رحيلُها المفاجىء. وبرَجْعٍ ثقيلٍ
أساهُ يعيدنا هذا الغياب إلى كثافة الحضور
وصخب المعرفة الذي ميز إكرام بيننا في رحلة
سَخَتْ ألوانُها بذائقة الريح وطعم الرماد. وفي
الوقت الذي استوقفنا غبارُ المشهد كانت إكرام
الرافضة للعبة الاختباء والركون في ظلِّها قد
حسمت أمرها، ودون انتظار، قررت الإبحار
لتختزل في عمرها القصير نبل المغامرة
ومصداقية شجاعة الكشف والمواجهة. كحاملة
لمشروعها الخاص تعرَّفتُ إليها في السويداء
في أثناء دراستها الميدانية لنيل شهادة
الدكتوراه. وكان اللافت لي، كما لغيري ممَّن
عرفها آنذاك، تلك الطاقة الهائلة على العمل
وحفز الأسئلة للغور في الذاكرة الدفينة بين
الأمكنة وأزمانها المتحركة والبشر وعوالمها،
لتجتاز المسافة ركضًا لتمكين بحثها من شروطه
العلمية بصبوتها الساخنة إلى النجاح. ومع
إكرام الصديقة عرفتُ كيف يتشظَّى الهمُّ
الثقافي إلى حوارات مفتوحة على الأمداء
المعرفية، على تعدد أنواعها ومستوياتها. كانت
إكرام الأوفى في مفارقتها للاعتياد، مسكونةً
بهاجس كَسْرِ النمطية فيما تقول وفيما تسمع.
ولأنها لم تكن ترى مبررًا لأن تبقى ثقافتُها
خارج مدارات الرؤية الشاملة كانت تحث الخطو،
مشفوعةً بفرح الاكتشاف المستفَز والمستفِز
دائمًا معيشة حية مع لغة الفكر، بكلِّ
أبعادها ومفرداتها. وأكاد
أجزم أنني ما التقيت إكرام مرة إلا وكان في
حديثها جديد، تشبعه بثقافتها الواسعة التي
تقف فيها عند الينبوع، مؤمنة بضرورة تخليق
الفضول المعرفي وإشباعه. وأذكر ما قالته لي
عندما ظهرت مجموعتُها الشعرية الأولى
واليتيمة باللغة العربية، مقدمةً نصًّا
مركبًا وصعبًا في مبناه ومعناه – قالت: "...
كما هي الكتابة مسؤولية فإن القراءة مسؤولية
أيضًا. وما أريده صحوة قارئي ويقظته، لا
استرخاءه. فـحنا المعافى حتى موته لا بدَّ
أن يستجرَّ إليه عافية العقل والروح معًا...". 1
حُسِبَ
على إكرام أنها صدامية وحادة في نقاشاتها
وآرائها. لكني أزعم، من موقع قرب، أن سمة
النزق التي اقترنت بشخصيتها بين معارفها تحمل
الكثير من نزقها المعرفي وتطلُّعها إلى
تكثيفه فعلاً وتحريضيًّا عند الآخر. أرادت
تجسيده قولاً وفعلاً كعمل مقاوم لا يعرف
الجمود أو الاستكانة. وفي حياة خطَّتْها
وحدها أرادت أن ترسم الفرق بين من ينسج أيامه
بجمر العقل وحرير الضمير وبين ما يأتيها
مترفًا من العكس. في
واحدة من رسائلها قالت: "... الحياة يا
صديقتي أقصر مما نحن نعتقد، وأدق مما كنَّا
نعتقد. ما أعلمه الآن أنه لم يبقَ أمامي منها
الكثير؛ لكن ما زال هناك الكثير من الكتب التي
ينبغي أن أقرأها، وهناك الكثير مما لم أكتبه
بعد. ولا أدري إن كنت سأفعل كل هذا... المهم، لا
وقت عندي للتوقف...". 2
لم
تكن إكرام تهادن أحدًا أو تمالئ جهةً في قضية
أو موضوع على حساب قناعاتها أو مبادئها. ولم
تسمح لنفسها براحة أو قعود. فحين حصلت على
جائزة الدولة التقديرية عام 1989 عن كتابها ثقافة
العرب قالت: "... اعتقدت أني سأرتاح؛ وتركت
العمل في المؤسسة الحكومية على هذا الأساس.
ولكني سرعان ما اكتشفت أنها الكذبة الكبيرة
في حياتي. لذلك عدت إلى العمل بوتائر أعلى
وأكثف...". في
حديث مسجَّل معها تحدثت إكرام عن حكايتها مع
الأمكنة. تحدثت عن دمشق بعشق معتق، وعن باريس
كمرجعية ثقافية تأتيها كل عام لتشتري جديد
إصداراتها، وعن مكسيكو حيث تبلورت تجربتُها،
قائلة: "... حكايتي كلُّها رحلة تعلُّم...
أشبه ما تكون برحلة الأطفال. أحدهم يأخذ بيدك
لتقطعي النهر، ثم يرشقك فيه لتتعلمي السباحة.
وبعد ثلاثين عامًا تكونين قد تعلَّمتِ
كثيرًا، لكن لن تكوني ابنة لأي ضفة لأنك قد
أصبحت ابنة النهر... ليس هذا نكرانًا لمكان،
ولا أنك لا تحلمين بمكان، ولا أنك بدلت جواز
سفر بجواز سفر آخر... فقط تصبحين يتيمة المكان.
والمشكلة أن السباحة الطويلة متعبة، لكن لا
بدَّ منها لأن دونها الغرق...". 3
كانت
حياتها دائمًا حفرًا في المجرى ونحتًا في
صخوره العالقة. وعن نجاحها في المكسيك قالت:
"... قطعًا لم يكن ذلك سهلاً. فهذه البلاد
صاحبة حضارة كبيرة. لكنها مهزومة؛ ومرارة
هزيمتها منذ خمسة قرون لا تزال عالقة في الحلق
كما لو أنها حدثت بالأمس. لذلك كان من الصعب أن
تفتح ذراعيها لغريب، لأيِّ غريب يأتيها ويكتب
بلغتها شعرًا ورواية ودراسات فلسفية، ويناقش
أهلها في السياسة والعلوم والفكر، ويتحرك
بينهم كأيِّ واحد منهم. ولا يهم بالنسبة لهم
من أين أتى وأيًّا كان. إنه يفرض نفسه فرضًا من
موقع الضد وليس المع، لتظهر واضحة مسألة
الشخص المختلف. ومسألة قبوله هي مأساة الغريب
الذي، وإن كان في سلوكه وفي حياته نموذجيًّا،
إلا أنه سيبقى في دائرة الرفض لأن القانون
الذي يحكم في هذه الحالة ليس من قوانين
الجمهورية، وإنما قانون الجماعات الكاسرة.
وهذا ليس حصرًا في المكسيك. نراه هنا، وفي
فرنسا وغيرها؛ وكلما كانت الحضارة أكبر يكون
الرفض أقسى. لا
أدري إن كنت أخطأت أم لا. في سيرة البشر لا
يوجد صح أو خطأ. هناك واقع حدث. فنحن الجنس
الذي يعيد اكتشاف النار مع كلِّ جيل. ولكن لا
سعادة في الموضوع. وهذا ما يمكن أن يقال فيه
غرور البشر...". 4
في
المكسيك تحولت إكرام عن دراستها الأساسية في
علم الأقوام والأجناس ودرست الفلسفة. وفي هذا
تقول: "... لقد فقدت حماسي للأنثروبولوجيا،
ودراستي للفلسفة قادتني للعلم. كان عمري ستًا
وثلاثين سنة عندما درست الفلك. كنت أكيدة أن
طريق العلم عكس طريق الأدب، يبدأه الإنسان
شابًا. لكن، ما كنت أبتغيه كان أن أمتلك ناصية
الثقافة العلمية التي تحتاجها الفلسفة لأنها
تساعد في ترتيب آلية عمل العقل. فأسئلة
الفلسفة تجيب عليها العلوم أكثر مما تجيب
عليها الفلسفة. اليوم تعمل المختبرات العلمية
من الفلسفة أكثر مما تصنعه غرف الفلاسفة. ما
أريد أن أؤكد عليه هو أن الإلمام بالمعارف
العلمية ضروري للعاملين في حقل الفلسفة، وليس
محض مصادفة. إن كل الفلاسفة الكلاسيكيين
الكبار كانت لديهم ثقافة علمية واسعة وجدية
جدًا. لقد
أوصلنا تقدمُ العلوم وتوزُّعُ الاختصاصات
إلى أزمة فكر. ونحن من المستحيل علينا العودة
إلى الخلف. وأن يكون فلاسفة اليوم أطباء
كبارًا أو علماء فلك أو سوى ذلك، تلك حقيقة
فَرَضَها التطور الهائل. لكن لن يكون من
الممكن حلُّ أزمة الفكر الراهنة إلا بتوسيع
طريق المعرفة والإمساك بأولويات العلوم
الأساسية... أنا أعلم أني لن أكون عالمة فلك أو
عالمة بيولوجيا كبيرة؛ ولكن كان همي، وسيبقى،
أن أعرف الحدود الدنيا حول كيفية تنظيم
السماء وقراءة الجسم البشري ليساعدني ذلك على
التفكير الجيد كفيلسوف، دون أن يكون لدي
الادعاء بأني سأنال جائزة نوبل في الفيزياء
أو غيرها مما درست وأدرس. وسأختصر الحالة
بوضوح شديد: أنا طالبة علم لا أكثر. ينبغي أن
أكون سبَّاقة في مجال الاطلاع كوضع عام، مع
تواضع بالنسبة للخاص، لأن دوري لن يكون أكثر
من طالب علم فقط. كل
ما أنتجتُه يدور في مجال الفلسفة وحدها، سواء
كان شعرًا أم رواية. وقد يؤخذ عليَّ أني لم آخذ
بالمعايير الفنية المطلوبة. يقال
عن الجاحظ إن الضعف الأساسي في كتاباته التي
وصلت إلى نحو 300 أو 400 كتاب أنه أغفل قيها دور
الخيال لأنه كان يعتبر أن تعقيدات العالم
أغنى من خيال البشر. أنا عندي النظرة ذاتها أو
المشكلة ذاتها لقناعتي أن العالم فيه من
العجائب والتعقيدات ما هو أكبر من خيال البشر.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال احتقار الخيال...". ويبقى
أن اختبارات تجربة الحرية التي عاشتها إكرام،
في حركة حزينة، يسودها القلق والحيرة
والاضطراب، متجاوزةً فيها حدود المكان
وفواصل الزمان، لتكتمل رحلةُ إبداعها بكل
دقائقها. وفصولها تضعنا في مواجهة ومكاشفة
معها بما تحمل من عمق المعرفة، بحثًا عن إعادة
تركيب العالم برؤية خاصة وجديدة تنهل من واقع
الإنسان الذي مازال هو هو منذ أن بدأ مغامرته
مع الوجود، يعيد الاكتواء بناره الأولى مع كل
جيل، ويتابع رحلة العلم والكشف، ولا يكتفي
بالعيش إلا في ظلالهما. وقد تتفق... وقد تختلف
مع إكرام؛ لكن، لا بدَّ أن تستوقفنا هذه
التجربة من بدايتها حتى نهايتها. وكم كنَّا
نحلم بأن تطول... ومن
أجل أن تبقى بيننا تواجدنا هنا اليوم. من أجل
أن لا تغيب كلمتُها سأترك لها الحديث... *** *** ***
|
|
|