|
إكرام...
زينب
نطفجي
إكرام
نجمة دمشقية، أضاءت في غير سمائها، توهجت
خارج وطنها، كما أنها تُكرَّم اليوم خارج
مؤسَّساته الوطنية! أخذت
من عين الفيجة الصفاء والنقاء والشفافية، ومن
قاسيون الصلابة والشموخ والإباء؛ أما غوطة
دمشق فقد كَسَتْ عينيها الواسعتين الجميلتين
بخضرة نقية صافية أعطتها البساطة والنقاء،
الحبَّ والعطر الفواح الذي تمثل عطاء فكريًّا
وثقافيًّا. ولدت
إكرام في دمشق في العام 1947 لأسرة دمشقية من
الوسط الثقافي تنتمي إلى الطبقة الوسطى. تفتحت
على الحياة في بداية الستينات، فحملت سمات
تلك المرحلة بامتياز، وجسَّدت جيلاً من
الشباب الممتلئ آمالاً كبارًا لنهضة الوطن
وتقدمه. كما جسَّدت نساء تلك المرحلة
بتطلعاتهم للتقدم والتحرر والمشاركة
والمناصفة، حيث خلعت المرأة الحجاب وانخرطت
في المقاومة الشعبية وتطلعت إلى قيم اجتماعية
مختلفة. أرادت
التحرر الاقتصادي والمساواة أمام القانون
والقيمة الاجتماعية. مثلت جيلاً يرفض
المراوحة في المكان والمهادنة، ينفر من
المراوغة والالتفاف على القيم الجديدة إلى
أفكاره وأحلامه. وهكذا
توجهت للحياة بنزعة جموح للانطلاق والتحرر،
تنتهج طريق العلم والثقافة، فكانت نغمة من
نغمات الحياة البكر. درست
في مدرسة دار السلام/الفرنسيسكان، ثم التحقت
بجامعة دمشق. هنا تفتحت على الثقافة الوطنية
السائدة في تلك المرحلة. هذه
الصبية الشقراء الجميلة، الضئيلة الجسم،
ناحلته، ذات الخطو والإيقاع السريع المتشوق
للحياة بكل جوانحها المعرفية والثقافية،
المتطلع للتمثل السريع الواعد بعطاء كبير. قرأت
كثيرًا، لكنها لم تكن إيمانية؛ سمعت الكثير
ولم تصدق قبل التيقن بنفسها. وجهها
جميل، مشع بألق الشباب. لكن جمالها وقوتها
تركزتا في عينيها الواسعتين ذواتَيْ السحر
الخاص، اللتين رأتا واستوعبتا بشكل أوسع
وأشمل مما أريدَ لهما أن تريا. هاتان العينان
كانتا تشعان دائمًا بالحماس والاندفاع،
تعبِّران عن روح وثابة طفولية. صوتها ثابت،
قوي، رنان، ينفذ إلى قلوب سامعيه، فيلهبهم
حماسًا ورغبة جامحة للحياة. ذكية
متوهجة، ينبع ذكاؤها من قلبها النابض مع كل
خلجة وإيقاع لتلك المرحلة من عمر الوطن
وتطلعاته. إرادتها صلبة قوية تنبع من نفس
نقية، شفافة، تنفر من كلِّ ظلم وكذب وادعاء.
قوتها لم تنبع من أعصاب متينة، بل من البراءة
والصدق والمطابقة بين قيمها وأفكارها
وممارسة الحياة. لذلك لم تقبل أية تسوية أو
نصف حل، ولم تسع أبدًا للتلاؤم مع من حولها. عاشت
في دمشق حياة غنية، وحاولت أن تعبِّر عن نفسها
عبر الأطر السياسية والاجتماعية السائدة في
تلك المرحلة. لم تجد فيها ما يعبِّر عن
طموحها؛ فكان الرفض متبادل بينهما. تعلقت
بحبال الثقافة والمثقفين، فكان الإحباط أكبر.
كانت أكبر من بيئتها ومحيطها، ولم يستطع أحد
أن يستوعبها إلا حب وحنان عائلتها (والدتها
وشقيقها) التي لم تجد مخرجًا لابنتها إلا بفتح
آفاق جديدة أمامها. غادرت
إلى باريس في العام 1969. درست الأنثروبولوجيا،
وعادت إلى دمشق سنة 1975 لتجد الأبواب موصدة
دونها أيضًا. فاختارت الذهاب إلى أنأى بقعة عن
الوطن، قاستْها بيدها على الخريطة، فكانت
المكسيك! دخلت
مدينة مكسيكو التي يفوق عدد سكانها عدد سكان
سوريا، يعيشون حياة صراع دائم لا هوادة فيه من
أجل العمل ولقمة العيش. دخلت امرأة وحيدة شابة
بدون مال يذكر؛ فلم تكن سوى منافسة جديدة (غريبة).
خاضت معركتها الخاصة حتى استطاعت أن تجد لها
مكانًا. درست من جديد، وتوجهت للعلوم
والفلسفة لأنها أرادت الشمولية؛ وتجلى ذلك في
نتاجها الفكري الذي غلبت عليه الفلسفة. درست،
كتبت، عملت، وأنتجت. أحبت وتزوجت. وعندما تحرك
الجنين في أحشائها وتغذى من دمها، استنفرت كل
مشاعرها الوطنية: أرادت أن يكون طفلها
امتدادًا لانتمائها الثقافي والحضاري،
فأسمته مروان – ومروان في التاريخ هو أبو
التعريب والترجمة. بعد
عشرين عامًا عادت إلى الشام لتكتشف الوطن من
جديد: جماله، شرقيَّته البديعة، مجتمعه
المتآلف الحنون. فقالت: "ما ذهبت لأبحث عنه
بعيدًا لم يكن أكبر مما تركتُه في الوطن!"
وتابعت: "أريد العودة للشام لأعيش في بيت
عربي ذي فسحة سماوية – بحرة ونافورة، ليوان
وزخارف، ياسمين ونارنج وكباد – وعندما أموت
أتمنى أن يضمَّني ترابُه المقدس، تحملني إليه
أيدٍ حنونة من عائلتي." أرَّقها
هذا الهاجس، وتوجست ألا يتحقق، فابتنت لنفسها
قبرًا في تلك المدينة على طراز بلدها، زُيِّن
بالبورسلين والقيشاني، أرادته مَعْلمًا
شرقيًا يقول لناظره أيًّا كان: "هنا
ترقد إنسانة مختلفة، من ثقافة أخرى، تأثرت
بكم وبثقافاتكم، وأثَّرت بكم وبثقافاتكم،
وتركت فيها بصمة واضحة عبر برامجها الإذاعية
ومقالاتها الصحفية، كتبها ورواياتها
وأشعارها..." تلك
حياة إكرام التي تعادل عشر حيوات أخرى لأنها
"سيدة رفضت أن تتوقف أو تستريح"، كما قال
عنها ناشر كتبها. ومن المؤسف جدًا والمحزن أن
تغادر بهذه السرعة. ولكن ربما كان هذا سرٌّ من
أسرار تلك السيدة التي ترفض الضعف والذبول. تلك
الحياة باقة ورد عذراء نقية عطرة، عِطرُها لن
يذبل أبدًا. فكلما قرأت قصيدة لها، كتابًا أو
رواية، سيكون ذلك دفقة ماء وحياة لتلك الباقة
لتستمر في الفوح الجميل. ولكن
هذا العطر والعبق ما زال بعيدًا عن أنفاسنا؛
حيث إن معظم عطائها، ماعدا بعض الشعر منه،
مازال بالإسبانية ولم يُترجَم. لذلك أتوجَّه
للوطن بهيئاته الرسمية، ممثَّلة بوزارة
الثقافة، وهيئاته المدنية، ممثَّلة باتحاد
الكتاب ودور النشر والمثقفين، ليلتفتوا إلى
هذا العطاء المتميز لسيدة متميزة للتعريف
بنتاجها وترجمته. فهذا حق للوطن وللثقافة
الوطنية. فلطالما
أغنت الثقافةُ والأدبُ المهجري ثقافتَنا
وأدبَنا. ونحن منذ زمن قصي لم نلتفت لأدبنا
وثقافتنا المهجريين. *** *** ***
|
|
|