|
الثيوصوفيا
سالومون
لانكري
تُعتبَر الثيوصوفيا في نظر جميع الذين حاولوا أن
يدرسوها دراسة بسيطة علماً وفناً مقدسين.
يظهر ذلك بوضوح شديد في كل المؤلفات التي
تتناول بالدراسة ما نطلق عليه اسم "ثيوصوفيا".
تصرُّ هذه المؤلفات على أن الثيوصوفيا
قديمة قدم الكون نفسه! فما الثيوصوفيا في
الحقيقة؟ يمكننا أن نعرِّف بها من خلال
اشتقاقها اللغوي: الحكمة الإلهية، أي
الحكمة التي تمتلكها الآلهة! ولنا أيضاً أن
نضيف إن الثيوصوفيا فن حياة يمكن لمن يعمل
به أن ينمِّي بفضله قدراته الكامنة ويجعل
روحانيته تتفتح. وفي الوقت نفسه، يُعتبَر
فن الحياة هذا تحقيقاً للجانب غير المرئي من
الكون، أي لوجهه الباطن. الثيوصوفي يرى أن الكون
لايُحَدُّ بظاهر الأشياء التي تكشفها لنا
حواسنا، فينظر إلى السهول والجبال وسائر
الكائنات المتحركة هنا وهناك كمجرد ظهورات أو
تجلِّيات لحقيقة أسمى. إنها، على نحو ما،
في نظره، أفق ظاهر، يمكننا – عبر تطوير مواهب معينة – أن نكتشف تحته أفقاً باطناً. هنالك حقائق
خفية تمنح معنى ومغزى عميقين للحركة السطحية
برمتها، ولكل الظواهر التي نتحسسها بحواسنا
الجُرمانية [الفيزيائية]. الثيوصوفيا،
إذن، فلسفة، بمعنى أنها لا تألو جهداً في
الولوج إلى قلب العالم من جهة، وإلى أعماق
الإنسان من جهة أخرى. لذا فإنها تُعتبَر أيضاً
فناً. فالإنسان يبقى عاجزاً عن الحصول على
المعرفة الثيوصوفية الحقة مادام لم يتوصل إلى
تنمية الدوافع الهاجعة فيه واستعمالها - تلك
الدوافع التي ترقد دونما استعمال لدى
الغالبية الساحقة من الناس. يمكننا أن
نعرِّف بالمنهج الثيوصوفي بكونه، على نحو ما،
تسامياً بالذات وتفتحاً لها. لذا علينا أن نرى
في هذا العلم القدسي فناً أيضاً: هو فن
السلوك القويم. يعود الفضل إلى السيدة
بلافاتسكي في الصياغة الحديثة لعدد من مبادئ
الثيوصوفيا في الربع الأخير من القرن التاسع
عشر. لقد عرَّفت السيدة بلافاتسكي بجوهر
الثيوصوفيا تعريفاً وافياً في موسوعتها
الباطنية الضخمة العقيدة السرية. ومما
يأخذه عليها عدد من الكتاب هو أنها "طردت
الله من السماء"! لقد استعملت السيدة
بلافاتسكي هذا التعبير فعلاً، لكننا يجب أن
نفهم لماذا "طردت الله من السماء"،
ولماذا استعملت هذه العبارة حصراً. السيدة
بلافاتسكي، بكل بساطة، مثلها في ذلك كمثل
الثيوصوفيين في جميع الأزمنة والبلدان، تعلن
أن الله لا يقيم في سماء شاسعة أو في مكان ما
فوق رؤوسنا وحسب، بل ههنا على الأرض أيضاً.
الألوهة أو الحقيقة المطلقة موجودة في كل
مكان، وأياً كان الاسم الذي يُطلَق عليها فهي كلِّية
الحضور. فإذا انكشفت لنا أبصرناها في أرواح
إخوتنا البشر على الأرض. هكذا تُنزِل
الثيوصوفيا إلهَ السماء على الأرض. يمكننا أن
نقول إن للثيوصوفيا وجهاً دينياً، بما أنها
تشتمل بما لا ريب فيه على مظهر أخلاقي
وميتافيزيائي. إنها، باعتبارها ديناً
للإنسانية جمعاء، لا ترحب إلا بطريقة واحدة
للعبادة، ألا وهي خدمة الإنسان! بذلك يتسع
فهمنا لعبارة السيدة بلافاتسكي: الثيوصوفيا
تطرد الله من السماء... إنه في كل مكان،
يتجلَّى في كل ما يحيط بنا. وتشير الثيوصوفيا،
باعتبارها ديناً، إلى ضرورة عدم التقيُّد
بتصور عن ألوهة قَصِيَّة جداً، لا صلة بينها
وبين حياتنا اليومية. علينا، إذن، بكل تأكيد،
أن نبصر الألوهة في كل مكان، "كما في السماء
كذلك على الأرض". غير أن من واجبنا، قبل كل
شيء، أن نبصر الله في أرواح إخوتنا البشر – إن كنا لا نريد لحياتنا أن تغرق في
الأوهام. لقد لخصت
السيدة بلافاتسكي جوهر الثيوصوفيا في ثلاثة
محاور أو حقائق أولية، أو لنقل في ثلاثة
فرضيات أو مبادئ أساسية.[1] ففي مقدمة العقيدة السرية
تقول إن هناك حقيقة واحدة، غير محدودة،
لايُعرَف كُنْهُها، ولا توصف، لأننا أعجز
من أن نعبِّر عنها بالكلمات في عالم تسود فيه
المادية كعالمنا. ليس لنا أن نحدد تعريفاً بما
هو أسمى من عالمنا ويشكل أصله وأساسه. هذه
الحقيقة غير المحدودة هي الفراغ! بوسعنا
أن نسميها الفراغ أو الحركة. وهذان هما
الوجهان اللذان أعلنتهما السيدة بلافاتسكي
في فرضيتها الأساسية الأولى. غير أن هذا لا
يعني استعصاء الحقيقة المطلقة على الإدراك.
ففي أول تجلِّياتها أو فيوضها يمكن أن تُعرَف
أو تشاهَد. تلكم هي غاية اليوغا: التوصل إلى
تحقيق رؤيا الحقيقة التي تتعالى على الإدراك
والفهم العقليين اللذين تتصف بهما معرفتنا
المادية. تلكم هي الحقيقة الجوهرية التي
منها "وجودنا وحياتنا وحركتنا"[2] فكيف نعرِّف بهذه الحقيقة
وماذا نسميها؟ الكلمات تعوزنا، كما أسلفنا.
بيد أن السيدة بلافاتسكي كانت مرغمة على
إيجاد تسمية، فأطلقت على الحقيقة المطلقة اسم
الكينونة Be-ness.
الكينونة هي التي ينجم عنها الوجود being، لكنها
ليست بحد ذاتها كائناً. الكائن، مثله كمثل كل
ما في الوجود، مقدار محدودٌ منتهٍ بالضرورة،
يمتلك وعياً ينفصل كثيراً أو قليلاً عما ليس
ذاته. فهذه النظرة بالتالي تقليص للامحدود
بدلاً من إدراكه باعتباره كائناً. الكينونة،
إذن، ليست بكائن. إنها مبدأ، أو طاقة، أو وعي،
إلخ. سمُّوها كيفما يحلو لكم؛ إنها الينبوع
الذي تولد منه كل الكائنات بلا تمييز. وتلكم
من الأمور التي تجعل الثيوصوفيا تتبوأ منزلة
جدَّ رفيعة. من هذا المنظور، نجد أن
الثيوصوفيا هي ميتافيزياء ودين في آن معاً. أما الفرضية
الأساسية الثانية التي أعلنتها السيدة، فهي
الآتية: كل الكائنات، أياً كانت، كل النفوس
البشرية، إنما هي منافذ لروح عليا كونية. لكم
أن تطلقوا عليها ما شئتم من الأسماء. "أم
العالم"، "الوعي الكوني"، إلخ.
التحديد لا يهم. فهي الينبوع، أو المبدأ،
أو الموقد الكوني الذي تنبجس منه شرارات
النفوس الفردية. الأرواح الإنسانية واحدة
بالضرورة، وهي متماثلة في طبيعتها بإطلاق، في
العمق اللانهائي لهذا الينبوع الأزلي، ينبوع
الحياة والوعي. وفي وعينا هذا الجوهر في كل
الكائنات نبصر قاعدة وعمق ما يمكننا أن نسميه الأخوَّة،
ذلك التكافل الكوني الشامل الذي يؤلِّف
الوحدة المبطنة للوجود. لسنا جميعاً إخوة
فحسب، بل من العبث أن نتوهم وجود ما هو خارج أو
منفصل عنَّا أصلاً –
حتى الحشرة وأصغر الحيوانات -، فكيف بالحري
إنساناً، أياً كان؟! إن شبيهنا هو نحن، إذ ليس
من داخل فينا أو خارج. لقد ابتدعنا مجموعة لا
تنتهي من الحواجز تحول بيننا وبين الآخرين،
لكنها ليست إلا محض وهم. نحن، في جهلنا، نعمل
من أجل التفرقة والانفصال والتقسيم. نستطيع
بكل تأكيد أن نقول إن هذا المحور الثاني
للعقيدة السرية ليس إلا تصريحاً ساذجاً
واجتهاداً فاشلاً لا يستند إلى أي برهان، غير
أننا –
ويا للعجب! – عاجزون عن الاستغناء عنه حتى
لتفسير ظاهرات نفسية بسيطة كالتخاطر telepathy ورؤية ما هو بعيد جداً أو صغير جداً. ولكن، أليس هذا هو عين ما تقوم به العلوم حين
تضع نظرية لا جدوى منها سوى محاولة تفسير عدد
من الظاهرات المحيطة بنا؟ المحور الثاني، إذن، ليس مجرد نظرة فكرية بسيطة. لقد أقام
الصوفية والحكماء والمسارَرون initiates، على اختلاف درجاتهم، الدليل عليه،
وكذلك الذين دخلوا في تماس مباشر مع الوعي
الكوني. لقد نالوا جميعاً ذلك الشعور القوي
بوحدة الحقيقة – بمعنى الشعور بعدم الانفصال
وعدم التميُّز. الإنسان الآخر فيكم مثلما
أنتم فيه: ترتكز الفرضية الثانية، إذن، على ما
يصح أن نسميه الرؤيا. ترسخ مدنيتنا
فينا، منذ الطفولة، الحذر، بل حتى الخوف من
الكون. إنها تسمنا بالإحساس بالتميز
وبالانفصال. وهي ترسخ فينا أيضاً، بمقدار
نمونا ودراساتنا وعلاقاتنا الاجتماعية
ومصالحنا المشتركة مع الآخرين، فكرة أن
إدراكنا ومعرفتنا الفكريين هما سيّدا كل
معرفة، وأن المعرفة الفكرية يمكن أن تعلمنا
وتكشف لنا كل شيء، بينما يرى الثوصوفيون،
وغيرهم ممن يذهب مذهبهم، أن هذا ليس صحيحاً
بإطلاق، ولاسيما أن كبار العلماء يعلنون
إفلاس العلم في إدراك كُنْه الجوهر الأقصى
للكون. تشير الفرضية
الثانية للعقيدة السرية التي تقوم على معرفة
وحدة النفوس جميعاً إلى وحدة ماهية كل
الذوات الروحية – أي
مبدأ بودِّهي buddhi في الإنسان، أي "المبدأ"
السادس في بنيانه الباطني. أما النفس
الكلِّية التي يدعوها بوذيو التيبت ألايا
alâya فهي
المبدأ السادس في الكون الذي يقابل بودِّهي
في الإنسان. وقد جاء في العقيدة السرية أن بودِّهي
شعاع منبعث من النفس الكلِّية. وفي حين تضم
السيدة بلافاتسكي بودِّهي إلى أتما atmâ،
أي "المبدأ" السابع في الإنسان، وتطلق
على هذا التأليف بين الاثنين اسم موناد Monad،
يتوِّج الـفيدنتا Vêdanta الهندوكي هذه المبادئ بالوعي والطاقة.
وفي وسعنا القول إن الوعي والطاقة متلازمان
في "موناد" الإنسان. لكننا نتساءل: إلى أي
حد يمكننا التمييز بين الوعي والطاقة؟ ما من
وعي ليس في الوقت نفسه طاقة، وما من طاقة
بغير مركز للوعي، نشطاً كان أو كامناً. على
هذا الأساس، تكون ألايا هي شكتي shakti (طاقة) مركز الوعي المسمى شيفا Shiva
عند الهندوك. تنطوي هذه الفرضية، إذن، على عدم
وجود وجوه مميزة مخصصة لهذه المعرفة أو تلك في
الجوهر. ولا يبلغ أي وعي مرحلة الانعتاق، أو
ما يُدعى بالذات الواعية، ما لم ينشط ويعمل
منغمساً في المادة، مرتبطاً بأجسام عديدة،
ويحصِّل خبرات متنوعة في جميع ممالك الطبيعة،
وليس في المملكة الإنسانية وحسب، عبر عودات
للتجسُّد عديدة rebirths جداً. تمر كل موناد، إذن، إبان تطورها، في
الممالك البشرية والحيوانية والنباتية
والجمادية، وبالطبع في تلك الممالك الغامضة
التي تدعوها بلافاتسكي "الممالك
العنصرانية"
elemetal. ورويداً رويداً، يصبح الوعي
الكامن لهذه الموناد أشد تلقائية، وأكثر
نشاطاً وتفتحاً، ويرتقي كل درجات السلَّم التطوري الذي يبدأ من الحُيَيْوين
المجهري الأشد بدائية إلى السيِّد أو الكائن
الملائكي الأعظم نورانية وبهاء. هنالك، إذن،
وحدة في الشعور الباطني بالألوهة، أو في
الدعوة الربانية. وعندما نمعن النظر في هذه
النظرية ونعود إلى مشاهدات الرائين الذين
أيقظوا ملكاتهم الداخلية يمكننا أن نقول، كما
قال كيميائيو العصور الوسطى والمسارَرون
والحكماء والصوفية جميعاً ممن انكبوا إبان
حياتهم كلها على تقصي هذه المسائل تقصياً
فعلياً، إن الحياة المادية التي نظن بأنها
الوجود الواقعي الأوحد والحياة المشروعة
الوحيدة ليست في واقع الأمر إلا درجة أشبه
بالسبات بالقياس إلى حياة الروح، بل قل إنها
شبه بالموت.[3] لماذا؟ لأن عبء الجسم الجرماني
الثقيل يحول دون تفتح بصيرتنا على الأرض.
وهكذا نرى أن جوهر كل المصاعب التي نواجهها
تتأتى من هذا العبء، من هذه القُلَّة التي
نجرُّها: الجسم الجرماني. يمكننا أن
نضيف أيضاً أننا لم نستنفد بعد من هذه الأداة (الجسم)
- ومن الدماغ على وجه التخصيص – كل ما يمكن أن تقدم لنا. فلو عدتم إلى
كتيِّب هام بعنوان هـ. ب. بلافاتسكي
والعقيدة السرية[4] لقرأتم فيه أن السيدة
بلافاتسكي صرَّحت لأحد تلاميذها، هو روبرت
باوِن، بأن العقيدة السرية لم يُكتَب
ليُقرأ بشيء من الغفلة، بل لتنشيط عمل الدماغ.
ذلك أن ذهننا مشروط باتباع مسالك معينة في
دماغنا وتلافيف محددة، بحيث لا يحرِّض نشاطنا
الذهني العادي أي تغيير في هذا الدماغ. أما
عندما نتناول بالتفكير أفكاراً جديدة تقتضي
تركيزاً خاصاً يتطلب خروجنا من منهجنا
التقليدي في التفكير إلى طريقة غير معتادة
فإن الأمر سوف يتطلب بدوره من الدماغ مجهوداً
غير مأنوس، الأمر الذي سوف يُحدِث تغييراً
جذرياً فيه وينشِّط خلايا جديدة. يؤدي هذا إلى
تعديل في الذهن، الأمر الذي يجعلنا بدوره
نستنتج أن دراسة الثيوصوفيا ليست مجرد تسلية
ذهنية، أو إغناء فكري بحت، أي تضخيم لكمية
معلوماتنا. إنها عمل يتم فينا، شيء يحث
تطورنا، يغير فينا خلايانا – وحتى الجهاز الذي يتبوأ فينا أعظم
الأهمية: الدماغ. نجيء الآن إلى الفرضية
الأساسية الثالثة. علينا أن نتذكر دائماً
أن موضوع الفرضية الأولى يتعلق باللامرئي،
ينبوع الكل، أصل العوالم كلها، وأنه يجوز لنا
أن نعتبره مثل الفراغ ( من منظور موضوعي) أو
مثل الحركة (من منظور دينامي)، وأن الجانب
الذاتي فيه هو الذي يولِّد البصائر - حالات
الوعي المختلفة. فالفرضية الأساسية الثالثة
هي الآتية: من هذا المجهول الأسمى، من هذه الـأكاشا
akâsha (الفراغ
أو الأثير الكوني)، من هذا المحيط السري الذي
لن يتمكن أي كائن من إدراك كنهه، تنبعث أكوان
وإليه تعود: مدٌّ وجزر، انغلاق فانطلاق...
بعبارة أخرى، يخضع الكون، بحسب هذا المبدأ،
لقانون الإيقاع والدور والزمن، أو قل إن
له، مثله في ذلك كمثلنا، حياة متوازنة بالصحو
والنوم، بالنهار والليل، بالحياة الأرضية
والموت، بحيث تكون تعاقبات النشاط والراحة
في حياتنا على صورة التعاقبات التي تحدث
متواترة في حياة الكون بأسره، الكون الذي
يشبّهه لنا الإغريق بحيوان ضخم! هناك، إذن،
دفقات تنبعث منها الأكوان، أو، كما يقول
القباليون، تنطلق الأكوان كالشرر من تحت
مطرقة الفنان الإلهي! وهذا الشرر يمكن أن
ندعوه شرر الظلمات، أو نجوم النور. هو مثلنا،
شرر ينطلق من نار كونية، كما قلت لتوي. تلكم هي
الفرضيات الأساسية الثلاث لـلعقيدة السرية.
ولكن، هل ثمة أعماق أخرى بعد؟ وأنَّى لنا أن نفهم هذا العلم، هذا الفن
الثيوصوفي المقدس، فن الحياة هذا؟! لكي تجيب
السيدة بلافاتسكي على ذلك، تعود إلى الهندوك
الذين صاروا معلِّمين في بحث هذه القضايا
الإلهية الكبرى، فتقدم لنا أربعة مفاهيم تحدد
أربعة علوم. يمكننا تشبيه هذه العلوم الأربعة
مجتمعة بالعقيدة السرية، لكن السيدة
بلافاتسكي تقول لنا إن الثلاثة الأولى منها
لا تعبِّر عن الثيوصوفيا تعبيراً دقيقاً. أما
المفهوم الأخير فهو ببساطة الذي يشتمل على
المفاهيم الثلاثة الأولى، وهو الأكثر
تكاملاً بينها، إذ يتخطاها ويهيمن عليها
جميعاً. إنه الثيوصوفيا الحقة. تقول السيدة
بلافاتسكي إنه، بحسب المنقول الهندوكي،
هنالك أولاً يـَجـْنافِديا yajna-vidya التي تتضمن معرفة الطاقات السرية للكون
التي يمكننا إيقاظها بواسطة الشعائر والطقوس
السحرية. نحن نستطيع استحضار قدرات تحيط بنا
لأننا مزودون –
وهذا أيضاً أساسي في الثيوصوفيا –
بسبع قدرات، أو سبعة مراكز للطاقة هي الـتشاكرا
chakra، يتوافق كل منها مع قدرة خاصة كامنة في
الطبيعة.[5] إن الحاجز الوحيد أمام إشعاع
هذه الـتشاكرا بالطاقة المستمدة من هذه
القدرات الكونية أو هذه الخزانات الحقيقية
للطاقة الكونية كونداليني kundalinî
ناجم عن فعلنا. فنحن نسجن أنفسنا بنشاطنا
الذهني المستمر وتفكيرنا المتواصل، وبهذا
ننفصل عن الكون نتيجة خوف لا مبرر له من حياة
كونية حقيقية، نتوهم أنها انحلال لكياننا
الفردي وضياع له. إن إحساساً وهمياً بالأمان
يتولد في نفسنا حين نعتقد بأننا ذات صغيرة –
أنا –
منفصلة عن الآخرين. فإذا كان أحدهم في محنة
شديدة، أو إذا مات، ترانا لا نحزن ولا نتأثَّر.
لكن هذا الإحساس بالأمان مزيف، حتى إنه
يتلاشى نتيجة أفعالنا نفسها كل لحظة. لذا تعلن
الثيوصوفيا عدم وجود كائنات معزولة؛
لكلٍّ دوره المنوط به، لكن الخوف يدفعنا إلى
التفتيش عن طمأنينة زائفة، ويبعدنا عن الحياة
الكونية. أما القديس القديس، فهو من ينفتح،
يقتبل، يستقبل في كيانه القوى الكونية. إن
المراكز الخاصة فينا مرتبطة دوماً بمثيلاتها
في الكون وتتغذى بالطاقة المتولِّدة فيها.
هنالك سبع قوى في الطبيعة، ولدينا سبعة تشاكرا؛
وعندما ننفتح، تحلُّ فينا القوى الكونية،
تتخلَّلنا، فتجعل منا كائنات أشد بهاءً
وقدسية، كائنات كونية بحق، مشدودة إلى أصلها،
متصلة بكل ما في الكون. هكذا تكون يجنا-فديا
علماً أصيلاً، لكنه ليس الثيوصوفيا. إليكم تعريف
السيدة بلافاتسكي بالثيوصوفي: هو من يميل
إلى الميتافيزياء، من يهوى التأمل والتفكُّر
في جوهر الإنسان وأصله وفي طبيعة الكون، وهو
من يرمي إلى فهم الكون الذي يوجد فيه، مثلما
يرمي إلى وعي طبيعته الحقة. وبالإضافة إلى
ذلك، على الثيوصوفي أن يمتلئ بالمحبة.
فالواقع أن المحبة والمعرفة وجهان لحقيقة
واحدة: المعرفة هي الجانب المنفعل لهذه
الحقيقة بينما المحبة هي جانبها الفاعل.
الكائن الذي يحب ويعرف يمضي إلى الآخرين
بانفتاح كلِّي، يستقبلهم في ذاته، مبدِّداً
الحدود التي يشيدها الإنسان العادي بين الذات
واللاذات. وتضيف السيدة بلافاتسكي أن الثيوصوفي
هو من تتركز رغبته كلُّها في العطاء والخدمة
بدلاً من الأخذ وتلقي المساعدة، وهو من
يفضل أن يعطي ويخدم ويحمي على أن يأخذ. ذلكم هو
الثيوصوفي الحق. إنه أيضاً مَن يتوق إلى
تسنُّم مرتبة رفيعة في الوجود؛ إذ إنه يشعر
وكأنه في جسمه كائن زاحف، ذليل، فيحيا يلهبه
ذلك الظمأ الدائم إلى الرفعة والسموِّ، ذلك
الظمأ المحايث لجميع مراتب الوجود، من أكثفها
إلى ألطفها –
وحتى في الكائنات الأكثر سطحية. إن هذا الظمأ
إلى التعالي، إلى تجاوز ذواتنا المحدودة،
ليقيم فينا حقاً. نحن في حاجة إلى الارتقاء
إلى ما فوق حقائق الأرض؛ وهذا ما يجعل
الثيوصوفي الذي يحاول التحقيق يريد بلوغ
مرتبة أسمى للوجود. وإنه ليحقق ذلك بطريقة
حياة تُعتبَر فناً حقيقياً ينبغي العمل به كل
يوم. يمكننا مقارنة الثيوصوفي الذي يفلح في
جهاده الروحي بعازف البيانو اللامع. إذ ليس من
عازف بيانو لامع إلا ويخضع لتمرين مكثَّف
خلال سنين عديدة. على عازف البيانو أن يقوم
بتمريناته كل يوم، وعليه أن يعزف كل يوم
ساعتين على الأقل، أو ثلاث أو حتى أربع ساعات،
وعليه أن يتمرن على نحو متواصل. أما
الثيوصوفي، فليس عليه أن يتمرن على الحياة
الروحية ساعتين أو ثلاث أو أربع وحسب، بل
أربعاً وعشرين ساعة من أربع وعشرين، بما فيها
ساعات الليل التي يجب عليه في أثنائها أن ينمي
يقظة تامة. فكما يقول البوذيون، على التواق
إلى الحكمة أن يعاين، بانتباه تام، كل ما
يتأتَّى له في حياته، بل حتى في أحلامه. بذلك
تصبح رياضته راسخة النتائج. وحين يفلح في
الارتقاء إلى مرتبة وجودية أرقى، سيلي ذلك
تحوُّل كلِّي في كيانه، وتظهر فيه مواهب
جديدة ويحقق الرؤيا. إن المحبة المتنامية
التي تحييه وتحثُّه، تسمو به فوق ذاته،
وبذلك ينال القدرات والمواهب الموافقة
لمرتبة الوجود الأعلى التي تصير، من الآن
فصاعداً، مرتبته هو. ولو نظرنا إلى
الثيوصوفيا على هذا النحو، وإلى مسيرة
الثيوصوفي أيضاً، لرأينا أن يجنا-فديا،
مع كل الإمكانيات والقدرات التي يستطيع من
يقيم شعائرها أن يكتسبها، ليست هي الثيوصوفيا
كلها، لأننا نستطيع إقامة هذه الشعائر
بحذافيرها بدون أن نعدِّل أنفسنا بالضرورة،
وبدون تحقيق مرتبة وجودية أسمى، بما هو هدف
الثيوصوفي الحق. قد تتطابق
الثيوصوفيا مع مها-فديا. فما هي مها-فديا
mahâ-vidyâ هذه؟ هي ما نسمِّيه عادة الـتنترا
Tantrisme؛
هي السحر واستعمال القوى الكونية. ثمة في الكون
تيارات من القوى، بوسع كل ساحر أن يستعملها
حتماً؛ غير أن هذا لا يعني تطوُّر الإنسان
الذي يسلك هذا المسلك. إن هذا العلم ليس على
الإطلاق لفن والعلم المقدَّسين اللذين
ندعوهما ثيوصوفيا. هنالك أيضاً غُهْيا-فديا
guhya-vidyâ. فما هي غُهْيا-فيديا؟[6] هي علم استحضار قدرات الـمنترا
mantra، وفنون استعمالها لابتعاث مختلف القدرات
التي تنطوي عليها العوالم غير المرئية
بمعونتها. هذه الـمنترا عبارة عن تعزيم
مغنَّاة أو غير مغناة، أو أشكال من القدرة،
يمكنها، بحكم القياس القائم بين الأصوات
والقوى الكونية، اجتذاب هذه القوى إلى الأرض.[7]
إن غُهْيا-فديا علم "كسبي"، مثله
كمثل قراءة الغيب، يُكتسَب بمجهود شخصي خالص.
فتلك أيضاً ليس الثيوصوفيا التي يكون الدافع
الأساسي إليها توق روحي عظيم. الثيوصوفيا
الحقة هي أتما-فديا atmâvidyâ: معرفة النفس. "أيها الإنسان… اعرف نفسك!" هكذا نستطيع التعريف بغاية
الثيوصوفي الذي ينطلق في درب معرفة النفس. إنه
يريد معرفة طبيعة نفسه؛ وبمعرفته نفسَه، يعرف
الكون والآلهة، كما تقول عبارة هيكل ذلفس
الشهيرة التي اقتبسها سقراط. لماذا؟ لأن هناك
تساوقاً عظيماً بين الكون والإنسان. ليس
هناك تواصل بين الإنسان والكون وحسب، إنما
تطابق في الصيرورة، وفي السير على طريق
الانغلاق كما وعلى طريق الانفتاح. للكائن
الإنساني، إذن، نقطة انطلاق في الذات الكونية.
إن موناده، أو جوهر ذاته العلوية، تجتاز
مختلف الأفلاك الوسيطة، قبل أن تبلغ عالمنا؛
ومن بعدُ تجتاز الطريق نفسها، إنما في "الاتجاه"
المعاكس، في دور تطورها الصاعد، لكي تعود
أخيراً إلى صدر الذات الكونية التي انبثقت
عنها. إن هذا ما يحدث في الكون أيضاً. فهنالك
أولاً، في سياق مـَنـَفـَنـْتَرى manvantara، نزول للروح في المادة (انغلاق)، يليه
ارتقاء تغيب فيه العوالم المادية في عوالم
روحانية (انفتاح)، ينتهي فيه الـمنفنترى
ليبدأ بـْرَلَيـَى pralaya جديد. بوسعنا، كما أسلفتـ أن
نميز بين عدة فنون باطنية مثل يجنا-فديا ومها-فديا
وغُهْيا-فديا. وتعد السيدة بلافاتسكي
الكيمياء alchemy، في جانبها المادي لا في
جانبها الروحي، بين هذه الفنون الباطنية
لأنها لا تنسجم مع الثيوصوفيا. ومن الفنون
الباطنية الأخرى التي أشارت إليها السيدة
بلافاتسكي علم النجوم astrology.
فعند تطبيق هذه الفنون، نستخدم الجانب الخفي
من الكون – تلك الظلمة المترعة بالرؤيا التي يتحدث
عنها موريس مرلو-بونتي في كتابه المرئي
واللامرئي.[8] إذن فـالثيوصوفيا هي أسمى
العلوم، ودراستها وتطبيقها هما معرفة الكون،
ومن بعد السعي إلى تنمية قدراتنا للولوج إلى
ما وراء نقاب المادة في العوالم اللامرئية،
بحثاً عن أسرار الطبيعة. هنالك
إمكانيات عديدة لتقديم الثيوصوفيا بمعناها
العام. هنالك، مثلاً، كارل فون إكهرتسهاوزن،
وهو رجل سياسة ألماني عاش في نهاية القرن
الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كتب عن
الثيوصوفيا بمعناها الواسع، وكان كاتباً
مقروءاً جداً. لقد كان قرَّاؤه كثر في أوروبا،
وخاصة في فرنسا وألمانيا وروسيا. وقد كتب ليف
تولستوي في رائعته الحرب والسِّلم واصفاً
المجتمع الموسكوفي إبان الاجتياح
النابوليوني لروسيا عام 1812 فيما كتب: "الجميع
هنا يقرؤون لإكهرتسهاوزن." إكهرتسهاوزن
هذا سرَّاني في كتاباته؛ ففي رسائله المعنونة
ضبابة فوق الهيكل يقدم تفسيرات وافية من
شأنها إفهامنا جوهر الإنسان والمغزى من
رَوْحَنته. يسمي كارل
غوستاف يونغ مبدأ الرَوْحَنة بـالتفردن individuation، بينما يسميه تيار دو شاردان
بـالأنسنة humanisation. أما نحن الثيوصوفيين فنفضل تسمية فردنة
individualisation، ونعني بها العبور من الشخصية إلى
الفردية. لقد عرَّفنا بالفردية بكونها حالة
وعي، تقيم في جسمنا الجُرماني، لتسمو
بالإنسان الباطن فينا. تيار دو شاردان بادل ما
بين التسميتين، لكن هذا غير مهم. إن ما يسميه
يونغ التفردن هو تكامل للإنسان فينا.[9]
فالإنسان عموماً لا يرتبط بالجزء الأسمى من
كيانه. يشبَّه ذلك بمنزل من عدة طوابق، يفصل
فيه عازل كتيم الطوابقَ العليا عن الطوابق
الدنيا. والكائن المتنكِّر للروح يشبَّه
بساكن الطابق الأرضي، تأتيه من حين لآخر
نغمات فاسدة، إلى حد ما، من القبو؛ بينما
تراه، في حالات نادرة، كما لو كان في حالة
نعمة، يتلقى ومضات آتية من الطوابق العليا؛
فكأنه ينال دفقة روحية. هكذا، يكون الإنسان
بعامة مقيَّداً، مكبَّلاً، غير منسجم،
مجرداً من القدرة على استخدام كل ما لديه من
طاقات سامية. الكائن الكامل هو "الروح
العظيمة" Mahatma،
المعلِّم الذي يُخضِع هذه الدوافع كلها،
ويستعملها بحسب مشيئته ووفقاً للظروف. إن الجانب
الفني لهذا العلم، بما هو فن مقدس أيضاً، هو
الحياة بالروح. لكن ذلك يتطلب جهوداً دؤوبة،
وعملاً متواصلاً على الذات، ومشقة قاسية في
كل لحظة. تعلِّمنا
الثيوصوفيا أن بوسع الإنسان أن يتطور تطوراً
عادياً باتباعه الطريق العريضة التي يتبعها
جمهور البشر. إن الإنسان يستطيع باتخاذ هذه
الطريق بلوغ أسمى الشواهق الروحية، لكن هذا
يتطلب وقتاً طويلاً. غير أن بوسع الإنسان أن
يكون جَسوراً، متلهِّفاً إلى انتزاع أسرار
السماء واستنطاق الطبيعة عن ألغازها، إلى أن
يغدو معلماً، ساحراً، إنساناً يستعمل أقصى
طاقاته من أجل غيره، ولا يجد راحته إلا في
مساعدة الآخرين. فإن كنتَ من هذه الفئة من
البشر فاحزن من هذه اللحظة على العالم؛ فأنت
كالفنان، مثلك كمثل كشَّافة الجنس البشري
وروَّاده... أنت في طليعة البشر؛ فعليك ألا
تعزل أحزانك، وعليك، بالأخص، ألا تخاف من
التغير السريع الذي قد يطرأ عليك. إن دراسة
بسيطة للثيوصوفيا – حين تتم بجدية وعمق – تؤدي إلى تغير ملحوظ في الدارس. ففي جسمه
تستبدَل بجزيئات جزيئات أخرى أنقى؛ وفي دماغه
تنشط تلافيف مخية جديدة، الأمر الذي يحرض
توتراً عصبياً شديداً قد يعقبه المرض. ثمة
أخطار تتهدد الإنسان تترافق مع التفتح
التدريجي للقوى الباطنة. أما في أثناء نوم
الدارس فتهبُّ عليه رياح حياة جديدة تشدد
حياته في حالة الصحو، مع كل ما يتمخض عنه ذلك
من مصاعب جديدة. إن درب
السرَّانية ليس ممهداً ويسيراً، ما في ذلك شك.
فهذا الدرب يرمز إلى مسيرة ذاك الذي يأخذ
بيدنا بقوة. إن الثيوصوفيا تطرد الله من
السماء، أي أنها تجعلنا تبصر الألوهية في كل
ما يحيط بنا. وهي بذلك تمنحنا ثقة كبيرة
بالنفس. في الإنسان تهجع طاقات عظيمة، وعلى كل
منها أن يجعل هذه لملكات فيه تنتقل من حالة
الكمون إلى حالة النشاط. وإن كوناً نجد فيه
كائنات تملك القدرة على رؤية المستقبل
والماضي والسلطان على المادة لهو كون لا معنى
له لو كانت هذه الكائنات هي وحدها القادرة فيه
على تنمية قدرات كهذه، ذلك لأن قوانين
الطبيعة والوجود قوانين شاملة. فعندما نضع
يدنا في النار فإنها تحترق، أكان اسمنا
سعيداً أو سعداً أو مسعوداً. وإذا وضعنا قطعة
حديد في طوكيو أو في روان في فرن فإنها ستتمدد
وتتوهج بمرور الوقت؛ إذ ما من قطعة حديد تسلك
سلوكاً غير سلوك أخواتها في الظروف عينها.
كذلك يخضع البشر للقوانين الشاملة نفسها.
والدليل على وجود قدرات كامنة فينا وعلى
إمكانية تنشيطها هو أن عدداً من البشر حققوا
ذلك قبلنا. ذلكم هو اليقين الذي تقدمه
الثيوصوفيا: إنه الإيمان بالذات العليا لذي
لا نملك أن نتخلى عنه حين نشرع في السفر
الطويل، الشاق، المحفوف بالمخاطر، الذي
يشارف الذرى الروحية. إن التحول
الذي يجري في الإنسان ليس مجرد تحول بسيط
تافه؛ فهو لا يقوم على مجرد تغيير في شكل
الذهن الذي قد يتسع ويحصِّل مقداراً إضافياً
من الذكاء. إنه، في الواقع، تطور حقيقي وتحول
شامل. فعلى غرار اليرقة التي تصير فراشة، يغدو
الإنسان كائناً بهياً، رائع الجمال، مزوداً
بقدرات مذهلة؛ إنه يصير تحفة فنية بديعة،
لأنه بهذا التحول يمسي كائناً إلهياً. قد يبدو
هذا الهدف محالاً بلوغه إذا عاينَّا واقعنا
الحالي غير المتكامل والشروط المزرية التي
نقبع فيها. لكن الثيوصوفيا تعلِّمنا أن
الإمكانية ليست محالة أبداً لأن في أعماقنا
تربض الطاقات اللازمة للتحقيق. إن مواهب
جديدة تعزز ذهننا الذي يقوى، بالتماس معها،
ويستنير، ويصير تحوُّله أمراً لا غنى عنه في
تقصي الحقائق اللامرئية. وإن جهازاً أكمل من
الذهن يصير ضرورياً لنا، مثلما يحتاج
الجواهري إلى أدوات أدق من أدوات الحداد،
ويستعمل جرح اليوم أدوات أدق (الليزر، إلخ) من
التي كان يستعملها سلفه. نحن نعيش الآن حياة
مبتذلة بالقياس إلى حياة تلك الكائنات
الروحية، حياة القديسين، وجهازنا الذهني
يتناسب وسطحيتنا هذه. لكن جهازنا العصبي
والدماغي سيسمح لنا، رويداً رويداً، مع
تطورنا الروحي، بنشاط ذهني متفوِّق، وسيفعل
"الإنسان الباطن" فينا بكل أبعاده.
ستُستعمَل تلافيف مخية جديدة في دماغنا،
وستنشط غدد معينة –
كالغدة الصنوبرية التي لا تزال لغزاً حقيقياً
ينطرح أمام العلماء. ذلكم هو المستقبل الباهر
للإنسان، وقدره المهيب الذي تمنحنا
الثيوصوفيا كل الإيمان به. على ذلك العلم
المقدس الذي ندعوه ثيوصوفيا أن يُدرَس من
القلب كله، بكل خشوع، اقتداءً بالفنان الذي
يهب نفسه كلها لفنِّه. وكما أن على الموسيقي،
مثلاً، أن يتفرغ للموسيقى بكلِّه حين يرمي
إلى بلوغ درجة معينة في فنِّه، كذلك على
الثيوصوفي الحق أن يهب نفسه بلا تحفُّظ
لدراسة الثيوصوفيا، إن كان يريد حقاً تحقيق
تطور ملموس. *** *** *** [1]
راجع: ديمتري أفييرينوس، العين الثالثة،
فصل "الحكمة الإلهية وفرضياتها المبدئية
الثلاث". (م) [2]
أعمال الرسل 28: 17. (م) [3]
في الأسرار الأورفية Orphic
Mysteries كان يتعين على
المسارَر أن يحرر الشعلة الإلهية فيه من
سجن جسده الذي كان يُعتبَر، بنظر
الأورفيين، قبراً للنفس. من هنا جاء
التلاعب بلفظتي soma-sèma،
أي "الجسد قبر". (م) [5]
للمزيد من التفصيل فيما يتعلق بمراكز
الطاقة هذه، راجع: إرنست وود، اليوغا:
فلسفة الانعتاق والاتحاد (دار الغربال،
دمشق 1986)، الفصلين الثامن والتاسع. (م) [6]
غُهْيا كلمة سنسكريتية تعني ’’خفيّ‘‘.
(م) [7]
راجع: إرنست وود، اليوغا، الفصل 11، من
أجل شرح مفصَّل بعض الشيء للـمنترا،
خصائصها وإمكانياتها. (م) [9]
راجع: ديمتري أفييرينوس، "نداء الأعماق:
مدخل إلى علم النفس المركَّب"، فقرة "التفردن
والكلية"، معابر، العدد 2. (م) |
|
|