الغريب

 

لطفي الحسامي

 

الخنجر مصطبغ باللون الأحمر، ويده تمسكه بقوة حتى تكاد تعصر مقبضه، والأفواه الجائعة تهتف باسمه، والزنود الهزيلة تلوِّح مؤيِّدة له، وفي العيون شماتة مخيفة.

شعر بأنه يقاد رغماً عنه في طريق ضيق، والمناورة باتت مستحيلة، وهو يتقدم في هذا الطريق بسرعة جنونية، ولا يهم إن كان يسير أو يُسيَّر. المهم أنه يتقدم فيه بسرعة جنونية.

كلهم يهتفون باسمه، لكنه مع ذلك يخشاهم. إنه يعرفهم. حياتهم قائمة على الخداع والغدر، وهيهات أن ترى منهم يوماً رحمة أو محبة. إنهم وحوش، حتى حين يهتفون باسمه ويظهرون له الولاء والطاعة.

والحقيقة أن الهتاف ليس له بقدر ما هو للجثة التي أمامه. فوجودها يؤكد لهم بداية عصر جديد. وهو لن يكون بحال من الأحوال أسوأ من القديم. فهل أسوأ من أن يكون الموت معك في الفراش والطعام والطريق؟

الأفواه الجائعة تهتف باسمه، لكن ثمة أفواهاً مطبقة ينظر إليك أصحابها نظرة عليك أن تفهم معناها جيداً... وعلى كل حال، أنت لست خائفاً. فمن قتل الطاغية لا يخشى كلابه. والموقف حساس جداً، وهو لا يمكن أن يكون إلا على هذه الحال، وإلا لقامت مذبحة. فأنت أيضاً لديك مؤيِّدوك، وهم ليسوا من الجائعين! وإذا لمع سيف أي فارس في القبيلة سنرى رؤوساً كثيرة تتدحرج على الأرض. في الوقت الحالي أنت وحدك الذي يحق له التلويح بسلاحه، وعليك أن تعي هذا الأمر جيداً.

عدد المؤيدين يزداد بسرعة كبيرة... وها قد وصلتَ إلى نهاية الطريق الذي سلكته مذ غرست خنجرك في صدره – ذاك الطريق الذي لم تفهم كيف قطعته. لكنْ في نهايته فهمت أن هناك أشياء ستتغير، وأن الأدوار قد تبدلت، وأن كل شيء في هذه الحياة غريب وتافه. والدور عليك أن تلعبه على ما يبدو، وإلا انقلب عليك الجميع. وقد تشعر بالتقزز والقرف، لكنك لا تملك الخيار – في الوقت الحالي على الأقل. فإن كان عليك أن تلعب الدور، فلتلعبه بشكل جيد.

أفاق من أفكاره، نظر حوله، لمع خنجره في الهواء وصاح صيحة تميزت عن الهتافات والصيحات الأخرى بطابع خاص: كانت صيحة زعيم! ودوَّت بعدها عاصفة من هتافات التأييد، دوَّت بجنون وصل حدَّ الوحشية. كانوا مستعدين لفعل أي شيء يطلبه منهم. ولو كان بإمكانه تخزين ما في تلك اللحظات من قوة ليستفيد منها فيما بعد لكفت للسطو على عشر قبائل دفعة واحدة، ولعاش كل فرد منهم مرتاحاً حتى بقية حياته.

انتظر أن يفرغوا ما في داخلهم من قوة في الهتاف والتلويح. فقد خطر في باله أنه إن كبت تلك الطاقة الآن ربما أفرغوها عليه فيما بعد. رفع يده للأعلى وهو ينظر إليهم، فخف الهتاف بالتدريج حتى ساد صمت مخيف.

"لقد صبرنا كثيراً يا إخواني... وقاسينا الجوع والذل – وهما لعمري أسوأ ما يمكن أن يصاب به المرء..." خطر بباله بسرعة البرق أنه زوَّر قليلاً في الحقيقة حين قال "قاسينا"، إذ كان الأصح أن يقول "قاسيتم"... صاح بصوت جهوري:

"وقد آن لصبرنا أن ينفد!" ودوَّت عاصفة.

"ولبطوننا أن تشبع!" ودوَّت عاصفة أقوى.

"ولرؤوسنا أن ترتفع!" وكانت كسابقتها قوة.

"وللعدل أن يسود!" أما هذه فكانت أقلَّها قوة، لكنها كانت طويلة، أقرب إلى الاحتفال من صيحات النصر. ورفع يده ثانية.

"وهأنذا يا إخواني أقدم لكم هذه الهدية!" ووضع قدمه على رأس قتيله. تطاير في العيون الشرر، وتأرجحت الفؤوس والمعاول والهراوات وقد علا الهتاف مرة أخرى. وصاحت أصوات من الخلف:

- إلى خيمة الطاغية!

- فلنقضِ على نسل الطاغية!

- فلنمحهم من الوجود ونخلص الناس من شرهم!

هو ذا أول امتحان له. ارتعدت فرائصه حين سمع ذلك. أراد أن يرفع يده ويلقي عليهم خطبة حكيمة يعظهم فيها ويحذرهم من أن يصبحوا هم أنفسهم طغاة، وأن أهل الطاغية وأطفاله لا ذنب لهم...

هذا ما أراد أن يفعله. لكن عبثاً تحاول معهم. فقد جروا كالثيران نحو الخيمة، بعضهم دخل إليها والآخرون أخذوا يمزقونها ويحرقونها. كانوا إعصاراً لا يقف شيئاً في طريقه، إعصاراً بكل معنى الكلمة. انعدمت فيهم الحواس جميعاً وأصبحوا مجرد آلات للقتل والتدمير. أفظعه المنظر، وصرَّ أسنانه حتى كادت تتفتَّت من الغيظ والقهر. لا يستطيع أن يقف في وجههم، لا يدري لماذا. وربما يدري، لكنه يقنع نفسه بالعكس. قال في نفسه أنه من المحال الوقوف في وجههم.

دخلوا الخيمة حتى لم تعد تتسع لأحد، وسمع صرخات النساء كمنشار يحزُّ رقبته. كانت إحداهن تصرخ وتبكي قائلة: "لا ذنب لي! لا ذنب لي!!" أما الطفلة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها الست سنوات، فلم يسمع صوتها. مؤكد أنها دُهِشت حتى انعقد لسانها. تُرى كيف ماتت؟ بفأس، بعصا، خنقاً؟!... ربما داستها الأقدام الثائرة دون أن تشعر... ربما كانت تشعر، وربما ماتت من الخوف... لا يهم كيف ماتت. المهم أن ذلك حصل. ويبدو أنك زعيمهم، لكنك عاجز عن إيقاف هذه المذبحة. وعلى كل حال، هم أيضاً قاسوا الكثير. كم طفلة ماتت من الجوع والمرض والفقر؟! لكن هذه الطفلة ليست كغيرها. إنه يحبها، وكونها ابنة الطاغية لا يعنيه. كم كان يلاعبها ويحكي لها القصص ويركبها على الخيل. وحين تراه تجري رافعة ذراعيها ثم تقفز إليه، فيضعها على كتفيه ويمضي بها وهي متمسكة بشعر رأسه وتسأله أسئلتها البريئة التي لا تنتهي.

وحتى علاقته مع أبيها لم تكن سيئة. كان من ذاك النوع الذي يملك حظوة لدى الجميع. فكان يجالس الفقراء وعامة الناس، يحكي معهم كأنه واحد منهم. كما يجلس مع وجهاء القبيلة، يحدثهم في أمورها وأحوالها ومشاريعها .والحقيقة أنها كانت تُسمى مجازاً "قبيلة". فربما الأصح أن تُسمى "عصابة". فهكذا كانت معروفة في المنطقة. فقد كان لكل أفرادها عمل واحد: السطو. والحق أن ذلك العمل توارثوه عن أجدادهم فلم يتقنوا غيره، حتى أصبح عندهم عملاً عادياً له تقاليده وتعاليمه وحتى آدابه. فمثلاً لا يسطون على قبيلة واحدة مرتين متتاليتين، والغنائم تُقتسَم كلها بالتساوي، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى – إلى أن جاء عصر الطاغية.

***

كان الطاغية إنساناً جباراً، حتى قال عنه بعضهم إنه من نسل الآلهة! كان قبل أن يصير زعيماً من كبار رجال القبيلة ولم يحصل أن صرعه أحد في القتال. حتى إنه صاح مرة: "هاتوا لي أربعة فرسان!!" فاستطاع أن يجرِّدهم من سلاحهم. ثم جرَّدهم من ثيابهم، وشطب بخنجره مؤخِّرة كل واحد منهم، وقال وقتها مقهقهاً أن هذه علامة للذكرى...

وكان الناس في البداية يحبونه ويعجبون بقوته. ثم أخذت المحبة تتحول إلى رهبة، والرهبة إلى خوف،. وفي النهاية كرهوا رؤيته حتى لا يُسمِعَهم تقريعاً أو شتيمة تحط من كرامتهم.

وبعد أن سطوا مرة على قبيلة شديدة الغنى، وفي أثناء توزيع الغنائم، صاح بالزعيم:

- هذا ليس عدلاً! لقد قتلت وحدي عشرين رجلاً، وصاحبي هذا عشرة رجال. أما هذا الأخرق الذي هناك، فقد أنقذته من الموت ثلاث مرات. أيكون نصيبي كنصيبه؟!

وصاح أحدهم وقد كان واقفاً قربه:

- هذا صحيح! هل يكون نصيب الرجال كنصيب الحشرات؟!!

وهتف ثالث، وكان صديقهما:

- ما هذا النظام الذي لا يحفظ الحقوق؟!

فنظر الزعيم إليهم طويلاً، ثم قال بصوت منخفض، لكنه ثابت:

- هذا النظام الذي ولدنا ورُبِّينا عليه، ولن يتغير ما دمتُ زعيم هذه القبيلة.

صاح الطاغية وقد ظهر في عينيه تصميم مخيف:

- هكذا إذن؟.. خذ هذه!!

وسقط رأس الزعيم القديم كوعاء القمامة، وذُهِل الجميع لهذا المنظر. صعد الطاغية على صخرة قريبة والتف حواليه أصحابه. نظر إلى الجميع نظرة باردة صماء كالحجر الذي يقف عليه. وبدأ عصر الطاغية.

 أصبح الطاغية يأخذ القسم الأكبر من الغنائم، واشترى عدداً من الرجال بالمال أو بالوعود الكاذبة. أما أصحابه المقرَّبين فقد تخلص منهم واحداً تلو الآخر. وإذ اجتمعت لديه القوة والمال، فأصبح طاغية "مثالياً".

 استمر عصر الطاغية حوالى العشر سنوات. وقد مات في هذه الفترة العديد من الناس، بعضهم "في ظروف غامضة"، وبعضهم الآخر من المرض والفقر. وفي نهاية حكمه كان قاتل الطاغية قد شبَّ واكتمل نضجه وأصبح رجلاً له مكانته في القبيلة.

وقد عُرِف بقوته وشجاعته ورفضه للذل والضيم، حتى من الطاغية نفسه، الذي كان يعتمد عليه أحياناً في مهمات خاصة.

كما أنه كان معروفاً ببعض الأفكار التي اعتُبِرت في القبيلة "غريبة"، وكانت تصل للطاغية، لكنه لم يعرها انتباهه يوماً. هو لم يقل يوماً أنه معارض للطاغية. وكان حقاً كذلك. كان معارضاً لأشياء كثيرة وليس للطاغية بالتحديد. وكان الناس حين لا يفهمونه يقولون: "هكذا هم الشعراء!" فقد كان أيضاً شاعراً...

كان حقاً إنساناً غريباً. وعدا ذلك كان محبوباً من الجميع، إلا من ملأت قلوبهم الغيرة والحسد، فوجدوا فيه نداً خطيراً قد يصير منافساً فيما بعد.

وبدأت الأحوال تسوء بينه وبين الطاغية مذ سمع أنه تحرش تحرشاً خفيفاً بحبيبته. من وقتها لم يعد يدوس خيمته. فقد كانت هناك فتاة في القبيلة يحبها حباً عظيماً، وكان أهلها من المقربين للطاغية. فأدرك أنه من المحال أن يجرؤوا أن يرفضوا له طلباً. فأخذ يدبر وسيلة للفرار معها بعيداً. لكن كل شيء انقلب صباح ذاك اليوم.

دخلت عليه أخته باكية وقد تمزق ثوبها من الكتف الأيمن. قالت له إن الطاغية اعتدى عليها بينما كانت في زيارة لنسائه في خيمته.

فذهب إلى خيمته مشهراً سيفه وصاح:

- اخرج إلى هنا يا كلب!!

ظهر الطاغية، وفي عينيه نظرة باردة، وكأنه مستعدٌّ للأمر، وجرد سيفه في صمت، وهجم على غريمه.

تبيَّن فوراً، من خلال القتال الذي استمر ساعة كاملة، ثقل حركة الطاغية وخفة مبارزه الذي بدت عليه الحيوية والنشاط. وتراجع قليلاً أمام ضربات الطاغية القوية. وفي النهاية، وقع منه سيفه، فوقعت معه قلوب المتفرجين. فاستل خنجره. ابتسم الطاغية ابتسامة كريهة كشف فيها عن أسنان صفراء تحطم نصفها، وصرخ بوحشية وهوى على غريمه بضربة ظنها قاضية، لكن الآخر تفاداها بخفة عجيبة، وغرس خنجره في قلبه. بدأت رحلته منذ تلك اللحظة.

بدأت الضجة تخبو تدريجياً، وبدأ الناس يعودون إلى موقفهم السابق. وقف الزعيم وحوله بعض أصحابه المقربين، وقد صارت خيمة الطاغية أثراً بعد عين، ولم يبق منها إلا الحطام والخراب. كانت خيمة بحجم خمس خيام، مزينة وعليها الزخارف، وعند مدخلها ستار حريري خمري اللون. كان الناس ينظرون إليها في السابق بحقد وذلّ، أما الآن فقد داسوها بأقدامهم العارية.

***

عادوا للهتاف له، وحُمِل على الأكتاف.

ما بالهم يصرون على أن يجعلوك شريكاً لهم في الجريمة!؟ إنهم وحوش، وأنت زعيمهم. والغريب أنك الآن تشك في ذلك. من الحاكم ومن المحكوم؟! إنها لعبة الأدوار. يجب أن لا تنسى ذلك. ليس هناك شيء حقيقي. مجرد أدوار غبية، وليكن... لكن لديك شعور بأن هذه اللعبة لن تدوم طويلاً. حذار، حذار من التهور. فليس من السهل أن يتخلى المرء عن دوره كما يتخلى عن حذائه. حذار. في مثل حالك، على المرء أن يكون حكيماً، لا شاعراً. لكن ماذا لو كنت شاعراً حكيماً؟! لن تدوم هذه اللعبة طويلاً. ورفع يده:

"يا إخواني! اليوم سنبدأ عهداً جديداً. وما دمتم تثقون بي، لن يجوع أحد منكم. فقط ثقوا بي."

هي ذي الهتافات من جديد. لقد بدأتَ تملُّها. وهذه اللعبة لن تدوم طويلاً. ثق بذلك..

"اليوم يوم تاريخي... سنطوي معاً صفحة سوداء من حياة قبيلتنا. لن أسمح لأحد بأن يتجاوز حده... كلكم سواسية، وسيعود النظام القديم إلى القبيلة."

دوَّت العاصفة من جديد، وهتفوا له وللعدل والعهد الجديد.

"وبهذه المناسبة السعيدة... ولكي نبدأ بنسيان عشر سنوات من القهر... سنقيم غداً احتفالاً كبيراً..."

علت عبارات الرضى والاستحسان. رفع يده مرة أخيرة:

"أما الآن... وبعد أن أديت واجبي... دعوني أرتاح قليلاً في خيمتي... لقاؤنا غداً..."

عند المساء ذهب إلى أنقاض خيمة الطاغية. وجد بعض البؤساء يبحثون عن شيء ذي قيمة يكتسون به أو يكسون به عوائلهم، أو قطعة ذهب قد دُفنت تحت إحدى الجثث لم ينتبه إليها أحد. اقشعر بدنه للمنظر، وقال لنفسه إنه لا يصلح زعيماً لهؤلاء.

تقدم قليلاً... شعر بالصمت الذي تخدشه همهمات الشحاذين وصوت أقدامهم. في الحقيقة هو لم يأتِ إلا لشيء واحد. رآها منبطحة على بطنها وخدها الأيسر، وقد انفتحت عيناها نصف انفتاحة في منظر يقطع القلب. أما أساورها والعقد العاجي الذي جلبه لها بعد إحدى الغزوات فقد انتقلت ملكيتها، على الأغلب، إلى أحد الأحياء. هذا أمر غير مهم على كل حال. اللحم مكوَّم في كل مكان، والدم قد اختلط بالتراب، والجثث نصف عارية، تنطق بالصمت الأبدي.

أتى رجل طويل القامة، لم يظهر من وجهه الملثَّم سوى عينان تنظران باهتمام إلى الزعيم الجديد. حين رفع هذا الأخير رأسه رأى صاحب الوجه الملثَّم أمامه، فابتسم ابتسامة حزينة وقال وهو يتنهد:

- أين كنت؟!

فأجابه متجاهلاً سؤاله:

- ما الذي حصل؟!

- كما ترى يا صاحبي... كما ترى...

- إذن ما سمعته صحيح؟!

- وماذا سمعت؟

- قتلتَ الطاغية، ثم قتلتم أهله...

قال له في حسرة:

- قتلته، أجل. أما لو ملكت القدرة على إنقاذ هؤلاء لما توانيت...

ساد صمت غير قصير. نظر إلى الصحراء المترامية أمامه وقد غطَّت قمةُ جبل أمامهم نصفَ الشمس. وبدأ الليل يزحف مبتلعاً بقايا الضوء. قال في نفسه إن هذه الصحراء لا تتغير أبداً، وإنها لا تبالي بما يحصل له وما حصل اليوم في قبيلتهم... لعلها حتى تسخر منه. قال لصاحبه:

- كأني في حلم.

- هل أصبحت زعيماً؟!

- هكذا يبدو... ولا تسألني كيف...

انزعجا لمنظر الجثث أمامهم. حمل الطفلة معه إلى مكان بعيد، وحفرا لها قبراً. كانت في يدها دمية صغيرة من القماش المحشو بالقش، احتفظ بها.

- الوحوش... ما ذنب هذه الطفلة؟!!

أجابه، وهو ينظر بعيداً في الظلام:

- اسأل نفسك من الذي جعلهم وحوشاً.

أجابه الزعيم بصمت لا يؤيِّد ولا يعارض ما قاله.

استدرك الملثَّم بعد لحظات:

- ما الذي تنويه الآن؟!

نظر إليه باستغراب وهو يجيب:

- لم أفكر بعد بالأمر...

- لقد أصبحت زعيماً... هل تفهم ذلك؟!!

- لم أرغب يوماً في الزعامة...

- وأحلامك؟!

نظر إليه مستفسراً، فاستطرد:

- العدل والمساواة... هل نسيت؟! ها قد أُتيحَت لك الفرصة لتحقيقهما!

ردّ عليه بابتسامة مُرَّة حملت في طيَّاتها سخرية يائسة. نظر في الظلام. كم هو مريح أن تنظر في الظلام. وأحلامي لم يبق منها الآن سوى واحد. ووضعي الجديد يسهِّل لي تحقيقه حتى أكاد أراه هنا، أمامي، من لحم ودم. ومع ذلك، أشعر أن هذه اللعبة لن تدوم طويلاً. وهذه القبيلة لا أمل فيها. أرض جرداء كهذه الصحراء لا تُنبِت زرعاً سوى الشوك والصبار، ولا يقطنها سوى الأفاعي والذئاب. وكل شيء لا معنى له الآن، ولم يبق لك سوى حلم واحد، بل أمل واحد. وهذه اللعبة لن تدوم طويلاً... أي شيء يجعلك واثقاً من ذلك إلى هذا الحد؟!!

- هناك أمور عليك أن تأخذها بالحسبان.

اللعبة الآن قائمة وهي لم تنتهِ بعد، فالعبها.

- مثل ماذا؟!

- أنصار النظام القديم... مثل هؤلاء لا ينفع معهم إلا رجل كالطاغية.

أجابه، وقد كشفت لهجته نوعاً من اللامبالاة:

- أجل... رأيت نظراتهم اليوم. إنهم يكرهونني.

- عليك أن تحتاط. بعد اليوم لا تمشي في القبيلة وحدك. عليك أن تحيط نفسك بالرجال.

لماذا هناك أشياء لابدَّ منها؟ هذه القبيلة قذرة منذ أن وجدت، وقد عاشت أجيالاً على هذه الحال. حاول كثيرون قبلك أن يغيِّروها، لكنها قذرة. شيء لابدَّ من أخذه بالحسبان. ولذلك عليك أن تلعب اللعبة، وأن تضحك على نفسك وتقول إن الأمر هكذا، ولابدَّ مما ليس منه بدّ. هناك، صديقي، سرٌّ خطير لا تعرفه. هذه اللعبة لن تدوم طويلاً. ولن تفهم إن قلت لك ذلك الآن، لكنك ستفهم قريباً، حين تنتهي... على الأقل بالنسبة لي.

***

في اليوم التالي، صحبه وفد من وجوه القبيلة إلى خيمة الفتاة التي شُغِف بها والتي من أجلها يفعل أي شيء. رأتهم الناس ففهمت الأمر. وتنوقل الخبر في القبيلة. وسعد الناس له، إذ لم يكن خافياً على أحد قصة الحب التي تعلَّقت القلوب بها في قلق وخوف ورجاء. وكان أبو الفتاة "صاحب مصلحة"، فقبل دون تردد، وهو الذي كان يتجنبه البارحة وقبلها.

في المساء أُقيم الاحتفال، وجلس العروسان على كرسيين نُصبا على أعمدة من الخشب، ورقص الناس فرحين مستبشرين بالعهد الجديد، وشربوا حتى سكروا، فنسوا العهد القديم والجديد وكل الدنيا وغرقوا في عالم السكر اللذيذ.

رفع الغطاء عن وجهها بعد طول انتظار. رفع الغطاء عن وجهها فرأى عينيها كنافذتين تطلان على الجنة، وخداها وسادتين من الحرير، وشعرها شلال من العتمة... أما شفتاها ففيهما السر كله... نسي كل ما كان يريد أن يقوله لها ولثمهما ذاهلاً... ثم رفع رأسه فرآها تنظر إليه بشغف وعيناها تطلبان المزيد... تناثرت الثياب في أرجاء الخيمة، وغابا عن هذه الدنيا.

***

استيقظ في الصباح فوجدها قربه. شعر بسعادة ما بعدها سعادة. أخذ يتأملها فوجدها آية في الجمال. مال عليها ولثمها في شعرها، فتنحنحت قليلاً، ثم ابتسمت وهي مغمضة العينين وقالت في دلال:

- دعني أنام قليلاً.

ثم استطردت وقد اتسعت ابتسامتها:

- ليلة البارحة تعبت كثيراً...

ابتسم برقة وخرج يستمتع بنسيم الصباح وبالسكون المهيب الذي يخيم على الكون. بدا في عينيه التفكير العميق، كما ظهر فيهما تصميم لا ينثني. ذهب إلى زاوية في خيمته. كان هناك صندوق، صندوق الطاغية الذي وضعه أصحابه البارحة. فيه كل ثروته الكافية لإطعام القبيلة.

قبل الظهر بقليل وُزِّعت الثروة كلها حتى لم يبقَ شيء. وُزِّعت فقط للفقراء، مع مراعاة كبر العائلة أو صغرها. هتف له الناس كثيراً، حتى إن بعضهم بكى من التأثر، فلم يأتِ يوماً زعيم بمثل هذه الطيبة في قبيلة لا تعرف سوى الطمع والجشع. كانت هناك طبعاً عيون تفصح عن حقد أعمى وعداء مخيف. لكن اللعبة ستنتهي قريباً، وسيغدو كل ذلك ذكريات.

***

دخل الخيمة، فوجد زوجته تنتظره بابتسامة مشرقة تفيض بالحنان. وقالت له:

- أنت أكرم إنسان رأيته في حياتي.

أجاب بشرود يكاد يكون برودة:

- لم أعطِ شيئاً أملكه حتى أكون كريماً...

لم تعلِّق على كلامه... استلقت على السرير واستدعته بإشارة من عينيها. وهمست في أذنه بأبيات سَكِر لسماعها. هَمَّ بالرد عليها بأبيات شَعَر أنها ستكون من أجمل ما قال في حياته، لكن صوت ناداه من الخارج. خرج إليه ممتعضاً ومعكَّر المزاج. أما الآخر فقد قال في هلع:

- لقد وقع ظلم يا زعيم... هناك ظلم في القبيلة قد وقع! هل ترضى بذلك؟!

"الآن أصبح الظلم حدثاً غريباً!" فكَّر.

- أين؟! وما الذي حصل؟!

قصَّ عليه الرجل الحكاية وهو يقوده إلى مكان الشجار. الخلاصة أن أحد الفرسان الذين كانوا من المقرَّبين للطاغية اعتدى على أحد البؤساء. وصل إلى مكان الحادثة فوجد الفقراء من جهة والفرسان من جهة أخرى. وكان الزعيم ذو هيبة فصمت الجميع.

صاح كهل في صف الفقراء:

- لقد اعتدى عليَّ ذاك السافل وقال إنه مهما حصل سأبقى حشرة يدوسني بقدمه!

نظر إلى الفارس المقصود بالأمر، وكان رجلاً قوي البنيان، فقال له بثبات:

- هل هذا صحيح؟!

فرد عليه باستخفاف:

- لم تسأله عما قال لي قبل ذلك.

فنظر صوب الرجل الكهل وسأله:

- ماذا قلت له؟

فأجاب عنه الفارس بصوت عال:

- بصق أمامي وقال إن الزمن تغير وإنه حان وقت الثأر.

صاح الكهل من الطرف الآخر:

- ألست أنت الذي بدأت ترميني بنظرات وقحة؟!

- كاذب. ليس هناك وقاحة بعد وقاحتك.

- صدقني، يا ابن العاهرة، لن تعيش كثيراً أنت وأصحابك!!

 وتراشق الفريقان بالسباب والشتائم، واستل بعضهم السيوف والخناجر على سبيل الترهيب. وشعر الزعيم بانزعاج شديد وانتابه نوع من الضجر. واحتار فيما يمكن أن يقول.

- لا أريد مشاكل علنية في القبيلة. أي خلاف يُحَلُّ عندي في الخيمة، أي أحد يتعرض للشتيمة أو الإهانة يأتي لعندي. أما الآن فقد انتهى الموضوع، وكلٌّ إلى عمله. ضحك في نفسه وتساءل لماذا كل هذا الكلام ما دامت اللعبة ستنتهي قريباً؟!

سأل عن صاحبه فقالوا له إنه رحل ولا أحد يعلم متى يعود ولا إلى أين ذهب. وعاتبه في نفسه وقال: كيف يتركك وأنت في هذه الحال؟! شعر أنه وحيد، لكن ليس لوقت طويل، إذ تذكر أن هناك زوجته وحبيبته. هَمَّ عائداً إلى خيمته. صادف في طريقه عدداً من وجهاء القبيلة. اقترحوا عليه أن يمضي السهرة معهم، لكنه اعتذر بالتعب. فتهامسوا بأن الرجل مجنون بزوجته ولم يشبع منها بعد.

***

شرب معها كأساً من الشاي وهو يحكي لها ما حصل. ثم قال وفي عينيه رجاء:

- هل تحبينني؟!

- أنت حياتي ودنياي.

- وماذا لو لم أكن زعيماً؟

أجابته بعتاب لطيف:

- كيف تسألني هذا السؤال وقد كنت أحبك قبل أن يحصل ما حصل؟!

ابتسم وقال:

- أتذكرين تلك الأيام؟!

أجابته مستغربة وهي تضحك:

- ما لك تتكلم عنها وكأن دهراً قد مضى عليها! طبعاً لم أنسها!

قال متجاهلاً تعليقها:

- كانت جميلة... لا تنسى...

- القادمة أجمل يا حبيبي...

لاحظت أن صفاء نظرته تعكَّر. قال لها بلهجة جادة:

- سأفصح لك عن رغبة تنتابني منذ البارحة...

نظرت إليه باستغراب. استطرد وهو يستجمع قواه:

- أنا لست مرتاحاً للأحداث والتغيرات الخطيرة التي حصلت. أنا لا أريد الزعامة، لست لها...

نظرت إليه بحنان، وهي تمسِّد شعره، وقالت:

- لماذا يا حبيبي؟ كيف لست لها والناس لم يكفوا عن الهتاف لك من يومين؟! الكل يحبك ويريدك ولا يصلح أحد غيرك أن يكون زعيماً.

- أنت لا تفهمينني...

أجابت برقة:

- كيف لا أفهمك؟! ومن يفهمك غيري إذن يا حبيبي؟!

خطر بباله أن لا أحد يفهمه. لكنه قال:

- أريد أن أعيش حياة سعيدة بعيدة عن هذه المشاكل. أنسيتِ أحلامنا؟ ألم نتعاهد أن نهرب معاً من هذه القبيلة ونمضي حياتنا عاشقين يتخاطبان بالشعر؟! ألم نتعاهد أن نصبح أشهر شاعر وشاعرة؟!

ردت عليه بإشفاق:

- الوضع تغير، اليوم ليس كالبارحة!

- ولم يكون اليوم مثل الغد؟!

- أنا فعلاً لا أفهمك... ما الذي تريده؟

- أن نرحل.

رفعت حاجبيها مستغربة وقالت:

- إلى أين؟!

- إلى الأرض الواسعة!

- أنت زعيم هذه القبيلة!!

- فلتذهب الزعامة والقبيلة إلى الجحيم.

وصمتت وهي تنظر إليه مبهوتة. ثم سألها وكأنه يريد أن يبتَّ في الأمر:

- ما جوابك؟!

أجابت في حيرة وانفعال:

- لا أدري! ما تقوله غير معقول!! أنت زعيم، والمجد بانتظارك... فكيف تخضع لنزوة طارئة وتترك ما أنت فيه؟!!

رأت قي عينيه حزناً عميقاً فقالت له:

- نم الآن، وغداً ستنسى هذه الأفكار الغريبة.

***

في الصباح استيقظتْ ولم تجده. انتظرت حتى الظهر ولم يأتِ. أرسلت أحداً للبحث عنه. انتشر الخبر في القبيلة، وكثرت الروايات والأساطير. أقبل الليل ولم يأتِ. تذكرت حديث البارحة ودموعها تنهمر. بعد يومين، سيطر فيهما القلق على البؤساء لرحيل زعيمهم واختفائه، علت أصوات الفرسان وأُشهِرت سيوفهم. ومقابلها أُشهِرت سيوف أنصار الزعيم المختفي. وقامت حرب استمرت سنة. وكانت مذبحة. وارتوت الصحراء التي لا يرويها شيء بدماء جديدة. وعلى الرغم من كل الدماء التي سقتها على مر التاريخ مازالت جافة، قاسية، لا ترحم، عطشى للمزيد.

استولى أحدهم الحكم. بعضهم قال: إنه من أنصار الطاغية، والآخرون قالوا: بل من أنصار الزعيم المختفي. والحقيقة أن الأمور اختلطت في تلك الحرب، حتى لم يعد يُعرَف من مع من. وحين استولى الزعيم الجديد، لم يحدد شيئاً سوى أن على الجميع الطاعة.

***

أما الزعيم المختفي، فقد حمل معه خصلة من شعر حبيبته، والخنجر الذي قتل به الطاغية، ودمية الطفلة الصغيرة، ووضعها في صرة واحدة، وقرر أن يهيم في الكون وأن يستمر في الابتعاد عن القبيلة بقية حياته...

*** *** ***

جنيف، 8 كانون الأول 2000

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود