المرآة

 

أميمة الخش

 

تجتاحني المواجع. هديرها يضغط أنفاسي. تشدني قوة إلى القاع. أنزلق إليه. ينقطع الهواء عن صدري. أغرق. وفي اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، أنتفض كعصفور يستجدي نسمة.

ذراعاي تمسحان السرير. تتلمسان بلهفة جسم زوجتي القريب. لا تحسان بوجوده! أركل الغطاء بقدميَّ وأهبُّ واقفاً بجسم يختلج. تمتد أصابعي المرتعشة إلى مفتاح الضوء. تصلني همهمات تأفف. أدير رأسي صوب السرير. يطالعني الفراغ! أقترب من المرآة. أنظر في صفحتها اللامعة. تنعكس في عينيَّ صورة. أحملق مذهولاً. من يكون الرجل؟

أقترب أكثر. أكثر... أصرخ بصوت مكتوم! عيناي، جبهتي، أنفي، فمي، تقاطيعي متناثرة!! ذرات تبحث عن مواضعها الصحيحة في صحراء وجهي. أين وجهي الذي تبدلت ملامحه الأزلية؟!

أعاود التحديق. تنفر الدموع من الكوتين التائهتين. تتدفق بسرعة وغزارة. يشتعل في جبهتي المصدوعة بريق ذكرى قديمة. رعد، وعواصف، ومطر. مطر غزير، وشارع طويل معتم. اثنان متلفعان بشالين من صوف، ومعطفين داكنين، وحذائين يخبَّان على الأرصفة المبقَّعة ببرك الماء المتهاطل، وحديث ينتقل مباشرة مع حركة الشفاه المتتابعة.

أقرع الباب في صباح تالٍ، وشفتاي ترددان أغنية ثورية. يفاجئني وجه نائلة الأصفر بعينين متورمتين. لا ألقي عليها التحية. لا أسألها عن شيء. ألتفت عائداً وقدماي متيبستان على درجات تُمَّحى عن ناظري. لماذا هو وليس أنا؟ سؤال سخيف. فالموت بالقرعة لا يحتاج لمثله! أتوارى خلف أحزاني دهراً. وفي كل يوم أتقيأ السؤال ذاته مع توالي الجثث من غير أكفان. أرفع جفنيَّ المتهدِّلين وأعاود النظر في المرآة. تتلامع أمام مقلتيَّ المشروختين خارطة وطن. تتناهش دماغي أفكار وحشية. أئنُّ تحت أنيابها تمزق أنبل خلايا كياني. متى كان السواد يبرق؟ متى كانت تستهويني التضاريس الداكنة؟ خرائطي كانت دائماً ملونة أمام عيون تلامذتي المشرقة.

أطيل التحديق، أتلمس عبر السواد بقعاً بيضاء مضيئة. أغرس عينيَّ في المرآة. أغوص عبر النتف والشروخ والرمال السوداء اللامعة. ينكسر بصري ويضيع بين الفتات! أمد أصابعي المحمومة أتلمس شروخ المرآة. تنغرس حوافها في عروقي. تنز أصابعي دماً داكناً. ترتد واجفة إلى شفتيَّ، تلعقان الدم النازف. يتجمد في حلقي كقطعة صوان.

أفتح باب الغرفة هارباً كلص. تلحق بي تأفُّفات وحشية تصفع جلدي بسياطها. تستقبلني الصالة المضاءة بشعاع منسرب من غرفة الكابوس.

تمد المرآة يدها المرتعشة. أندفع صوبها عن غير وعي، فرحاً كطفل يتعثر بخطاه. مرآة جديدة، ووجه جديد. أقف أمامها مرتعشاً من المجهول. يطالعني وجه مشروخ! يزداد ارتعاشي كورقة تغالب الهوجاء. أخفي عيني المتباعدتين براحة كفي، يرتد نظري إلى الداخل. تنبعث من المخيلة تلاوين صور لا تزال حية تنبض.

جماعات من البشر بأفواه فاغرة. أنفاسهم اللاهثة مشبعة بروائح سكر وعقاقير من كل صنف. عيونهم مفتوحة على الفراغ. تحركهم آلية من يسير في نومه. حزن نظراتهم الغائمة، المشوب بحقد مكتوم، يثير في نفسي الرغبة في التقيُّؤ. أضع يدي على معدتي، وأنهزم إلى مكان آخر. تطالعني الجموع ذاتها. تدوي في رأسي المثخن أصوات الطائرات، المدافع... تبعثرني الجراح وأنهر الدم. أفتح عينيَّ لأرى الغرفة البيضاء خاوية إلا من الأسرَّة المكتظة، والشراشف الملوثة ببقع الدم. أين الأهل والأحبة؟ لا يجيبني إلا الصدى! أنا وحيد مع الزلازل، وطوفان الدماء، وخيبة الأمل، ودموع الرجال المحبوسة خلف الجفون!

أخرج إلى الطريق شاهراً سيفي المثلوم. تفاجئني الحشود الهادرة هازجة للنصر المحقق!

أنزع ضمادي، وأترك دمائي تنزف. أبتلعها قطرة، قطرة. لماذا ترفع الجماهير الشعارات؟ لماذا تهلل لحاضر تجاوزها، وأصبح ماضياً في أعراف السادة؟ لماذا تجذبها الأرصفة المتضاربة، فيصيبها العشى، فتجترىء على جميع المحرَّمات؟ لماذا تسير معصوبة العيون إلى المقاصل؟ أهل الكهف يمدون أيديهم ليخرجوا من سباتهم، وهي تدخل كهفاً من نوع آخر!

تنغرس يداي مرة أخرى في شروخ المرآة. يزداد نزيف عروقي. لا ألعقها هذه المرة. فحلقي غير قادر على الحركة!

أصوات كتل أتعثر بها في كل درب يصم أذنيَّ، فيفقدني حاسة السمع من الخارج. يرتد سمعي متغلغلاً ضمن أحراش كثيفة. دعوة إلى التقدم، إلى الدنيا، إلى الحداثة! أتفرس في قاماتهم الممسوخة، أنظر إلى ما وراء المشهد: جلابيب ولحى، رواد ملاهٍ وركَّاب جمال، ساكنو خيام وطالبو ثأر، طبول حكام وأبواق سادة، ورفاقي يذهبون إلى المقصلة... وأنا؟!

رفاق المدرسة يبحثون في جيوبهم مع بداية كل شهر من غير ما جدوى! يختبئون تحت المقاعد أو وراء الطاولات، في غرف الحمام، هروباً من نظرات دائنين تقضُّ عليهم المضاجع. وأنا مثلهم فارٌّ. ولكن إلى متى؟ إلى متى تظل عينا هدى اللائمتان تطاردانني بنظراتهما الحزينة العاتبة؟ أنا لم أقصد ما فعلتُ يا ابنتي. أنا عاجز فقط. متى تصدِّقين؟ مرضك أضناني. غير أني لم أكن أستطيع أن أفعل أكثر مما فعلت. بعدتِ عني، وانسقتُ من يومها إلى المقصلة. لكن رأسي لم يُقطَع. حدُّها هشَّم تقاطيع وجهي فقط. ومنذئذٍ وأنا أبحث عن ميتة لا تعذِّب!

يعتصر قلبي الأسى، أحدق ملياً إلى وجهي. أين أذهب بهذا الوجه المشروخ؟ كيف أقابل به رفاقي؟ الناس؟! وأهلي؟! أقهقه بفجور. أهلي؟! تلوح يد أبي أمام ناظري، تنزل بسكِّينها المسنون على صدري، تمزقه من غير رحمة. يدق سمعي صوته هادراً وحشياً: "أين هو ذلك المجنون؟"

لم يكن أبي إلا هارباً آخر من حدِّ مقصلة تختار بالقرعة! تنساب دموع أمي كنهر لا ينضب. أمي لم تتعلم في حياتها كيف تتقن لغة أفضل! وامرأتي أيضاً. الفرق أنني لا أرى الثانية أبداً إلا من خلال حلم!

أحس بالموت يزحف في خلاياي. هل أنا حيٌّ فعلاً؟ أحرك يديَّ أمام المرآة. تتناثر فوق صفحتها قطرات من دمي. أفكر وأنا في رمقي الأخير: "المرآة مشروخة، ووجهي سليم. لا يمكن إلا أن يكون الأمر هكذا. لابد أن هذا حدث بفعل فاعل. لكن وجهي سليم ولاشك!"

ترتد أصابعي مرتعشة إلى وجهي. أتلمس تقاطيعي. عين هنا، وعين هناك. الأنف يميل إلى الجهة اليمنى، والفم غائب في اليسرى. الجبين مشطور. الأذن اليمنى قرب الجبهة، واليسرى قرب الرقبة!

أمسك بالكرسي إلى جانبي. أتهالك عليه في شبه إغماءة!! ينبِّهني صوت وليد الصغير.

- بابا... أريد ماءً!

أصحو على صدمته متمالكاً نفسي. أقرِّب الصغير مني. أنظر في عينيه. أضمُّه إلى صدري. لا ألمح على ثيابه آثار دمائي. أحمله برفق. أدنو به من المرآة. أنظر إلى صورته فيها. أراها صورة صحيحة وسليمة! أقهقه وأنا أحس بدبيب الحياة في جسمي.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود