الأصدقاء!

 

لوسي خير بيك

 

أتت صديقتي في أحد الأيام ووجهها يطفح بالبشر والسعادة. كانت تطير، تطير كما حلمت دائماً أن تفعل. قالت: "أخيراً سطع النور في نفسي ليضيء جوانبها المظلمة. إنه في كل مكان! في كل مكان!!"

استمعت إليها صامتة. أنا أعرفها... تلك الحبيبة إلى قلبي. عشت معها سنين وسنين... شهدت تألقها وانحطاطها... عشت معها أملها وبؤسها وشقاءها.

نعم أعرفها، وأعرف كم عانت وكم كتمت من آلام وأحزان! هي إنسان حساس. منغلقة على داخلها بقدر ما هي منفتحة على العالم الخارجي. أنا لا أمتدحها، ولكنها ليست بالإنسان السيء. بها نزوات وهفوات كثيرة، وعانت التمزق النفسي والغربة الروحية، وما تزال.

عندما أتتني طائرة، فرحة ومشرقة، فرحت لها كثيراً، حتى إني خفت عليها من تلك السعادة الطارئة، تلك السعادة التي هجرتها منذ زمن. قالت لي بعد فترة بأنها وُعِدت بأن تلتقي بأناس حقيقيين. "الآن يا صديقي سيكون لي أصدقاء حقيقيون! والله إنها لنعمة كبيرة!! ترى كيف هم؟ هل سأتقبَّلهم؟"

ضحكت منها. فهمت معنى تلك الضحكة. قالت: "هل سمعتني؟! سألتقي بأناس حقيقيين! ترى هل سيتقبلونني؟"

وراحت ترسم الصور عن أشكالهم، عن عالمهم وعن كلامهم، وعن أشياء كثيرة حولهم. ترى كيف ستلقاهم؟ آه... أخيراً ستكون إنساناً لها أصدقاء غير أصدقائها الخالدين.

"إلهي! المجد لك! لقد كنتَ دائماً هنالك في قلبي. ولكني أهملتك ولم أستمع لصوتك الحنون حيناً، الغاضب الهادر أحياناً... وها أنتذا مجدداً تضيء شمعة في قلبي وروحي لتنير لي الأيام المتبقية في حياتي الحالية..."

وتمضي الأيام، وتمر سنة، وألتقي بصديقتي الحائرة دائماً... وتمر سنة أخرى... وها هي ذي سنة ثالثة تنتهي، وصديقتي تجترُّ حزنها حتى سكنها. كنت معها كما كنت في الماضي، ولكنها في هذه الأيام مختلفة تماماً.

إن روحها تتألم، ترتجف... إنها باردة، جائعة، عطشى... ولكنها أكثر هدوءاً وأطول بالاً وصبراً. ولكنني لا أعرف إن كان هدوؤها هذا يأس، أم هو انتظار وترقُّب.

أقف إلى جانبها، أشجعها على المضي قدماً... "سيري أيتها الصديقة، ولا تلتفتي للوراء إلا لتتعلَّمي... تقدمي بشجاعة، واذكري ذلك النور وتلك الشمعة في قلبك وروحك."

خاطبتني بدموع عينيها قائلة: "أذكر؟! وكيف لي أن أنسى؟!"

وتنهض صديقتي ثانية، فإذا بها فرحة، خفيفة... وتدخل في حالة السعادة المتواضعة. "إلهي – أقول في نفسي – كم تكون هادئة وجميلة عندئذٍ، والأمور واضحة صافية..." في حالتها هذه يستوي لديها الفرح والحزن، والألم والسعادة. كلها تصير في حالة انصهار، وذلك النور يشع ويسطع بوضوح فينير بصيرتها. تحاول جاهدة أن تبقى على حالتها النفسية الرائعة تلك. إنها تحب الحياة... تريد أن تركض... أن تطير وتحلق عالياً...

"طيري يا صغيرتي!"

وتطير بعيداً عالياً... لتهوي من جديد، ولتدخل ثانية حالة الألم شاعرة بذاك النور يحرقها ويعميها، وبتلك الشمعة تلتهب في دمها وتذيبها، والوردة في قلبها لا تريد ماءً لريِّها وإبقائها طيبة فوَّاحة، بل تريد دمعاً ودماً وحزناً.

في أحد الأيام جلسنا نتحدث. كانت في حالة غضب عارمة. قلت لها: "ماذا حدث لهؤلاء الأصدقاء؟ هل التقيت بهم؟"

قالت: "لا! ولا أعرف لماذا. وهذا سبب حزني. لا أعرف لماذا لم يُطلَب مني الاجتماع معهم. بدأت أشك أنهم من البشر. وإذا كانوا من البشر فهم ليسوا مثلنا. ليسوا على صفاتنا..."

وطفقت صديقتي تحدثني عن الصورة التي كوَّنتها عنهم.

تابعت تقول: "إنهم متكاملون وكاملون، يشددون من عزائم بعضهم بعضاً. يتعاطفون بعضهم مع بعض، لا يشعرون بالوحدة والعزلة لأنهم قوم متماسكون. وإذا اتفق لأحدهم أن يشعر بها، سارع الجميع للوقوف معه لتخفيفها عنه، وللاتصال الدائم معه للاطمئنان عنه ودفعه إلى الأمام.

"ارتقاؤهم الروحي سما وعلا. وهاهم يحلقون في سمائهم الصافية، ينظرون إلى القطيع تحتهم وهو ينوء تحت حمله الثقيل.

"هم لا يهبطون إليك، ولا يطرقون بابك... هم غير منتبهين لك، لا يسمعون شكواك ونحيبك. كيف هذا وأنتِ من القطيع، من الخراف الضالة. وإذا اتفق – مصادفة – أن تحدث معجزة وطُرِق باب أحد الخراف، يجب أن يظل طوال الدهر يشكر العليَّ القدير على هذه النعمة... ولكن الباب يُطرَق مرة واحدة، ويُسمَح لكِ بالاستماع لوقت قصير. ثم تبدأ مهمتك الصعبة وامتحاناتك، وتبدئين بالمسير... وخلال مسيرك لا علاقة لهم بكِ. فهم لا ينظرون إلى الوراء وأنت سائرة، ولا يهتمون لأي من الصعوبات التي تصادفك... لا تفسير عندهم للأسئلة.

وهم مستعدون لجرحك، وإيلامك، وإهمالك، وعدم النظر إليك طوال الطريق. وعندما ينهكُكِ المسير ويضنيك الألم، تصرخين، تثورين طالبة التريُّث قليلاً وإيضاح ما يجري... ولكن لا جواب، لأنه لا آذان تصغي إلى هذرك وكلامك. بل لعل صوتك غير مسموع حيث هم، أو لعله من الأصوات القبيحة الشاذة التي لا يحتملون نبراتها... أحياناً يهبطون إليك ويحدِّقون بأعينهم الجميلة، الهادئة، الباسمة، كأنهم يقولون لك في سخرية: "ما المشكلة؟ كأننا سمعنا صوت صراخك؟!"

وتهزمك روحهم القوية المسيطرة. تنكمشين على نفسك، تتقاذفك الأمواج، ثم ترميك على شاطئ مهجور، لتتقوقعي كالحلزون... تنسحبين إلى داخلك المحترق، المتمزق. تبكي روحك التائهة... ثم تصمت أعماقك وتمسين وحيدة، غريبة... تشكين للقمر وللشجر، لأحبائك الصامتين الأزليين. تشكين همك، تبوحين بأسرارك وأفكارك. يهجرك النوم والطعام، فتشعرين بأنك صغيرة، ضعيفة... النار في داخلك تخمد... تشعرين بأنك تتحولين إلى رماد."

وتسرح صديقتي قائلة: "إنهم حقاً قوم مميَّزون، مختارون. إذاً لأسمِّهم، إذن، "الشعب المختار"."

تعاود صديقتي التكلم والألم يعتصرها... تقول لي: "هل تعرفين كيف أشعر الآن؟ أشعر وكأنني فأرة في المختبرات، أُجريت عليها تجارب وفحوص... وماذا كانت النتيجة؟ غير مقبولة!"

إنها لا تنطبق عليها الشروط المطلوبة: "مزيفة، ضعيفة، مريضة نفسياً، مستهترة أخلاقياً، وقد تكون مدسوسة علينا. لا... هيهات أن تنضم إلينا. إنها تحتاج لعدة أعمار للوصول إلى مكاننا."

"طبعاً، إنهم نسور – تقول صديقتي –، يحلِّقون ويسكنون الأعالي... يغرفون المعرفة من ينابيعها، ويمتلكون الأسرار. وهم دائماً في سباق مع الزمن، يريدون الاتحاد والانصهار. آه... يا لهذا الحزن العميق!"

قلت لها: "يا إلهي! ما هذا الذي تتفوهين به. إنه هراء! أنت لا تعين ما تقولين!! إنك تظلمين نفسك وتظلمينهم... تعلمين كم أنت طيبة... لم تكن روحك شريرة في يوم من الأيام... تقولين بأنك تتألمين. تألمي يا صديقتي... فإن آلامك وحزنك ما هي إلا تطهير لروحك. وإذا لم تطهرك الآلام وتصقلك، وتعلو بك وتسمو بروحك، فلا فائدة منها.

"وأنتِ، أيتها الحبيبة، لا تتحاملي على نفسك وتظلميها، فإنها عانت منك الكثير. ارحميها قليلاً.

أما بالنسبة لمن تسمينهم "الشعب المختار"، فافرضي أنهم مميزون عن سواهم، كما تقولين. ما المشكلة في ذلك. اسعي إليهم إذا لم يفكروا يوماً بالسعي لأحدهم... اطرقي أبوابهم إذا كانوا لا يطرقون الأبواب... فهي مفتوحة بالتأكيد. تسوَّلي المحبة، كما قيل لك يوماً ما."

قالت لي بأنها منذ مدة التقتْ مصادفة ببعضهم. لم يعيروها انتباهاً... وهي خجلة حساسة... فماذا تفعل؟ إنها تلتزم الصمت وتنتظر السماح لها بالدخول.

وسعت إليهم... كسرت خجلها وتجاهلت حساسيتها، واجتمعت مع بعضهم.

"ماذا تقولين؟ خيبة؟! ولماذا الخيبة؟!!"

أجابتني: "هي ليست خيبة، إنها تساؤلات.

"عندما يتكلم الإنسان عن الجوع وهو شبعان، فما معنى كلامه؟! وعندما يتكلم عن البرد وهو في بيته ينعم بالدفء، فما معنى كلامه؟! وعندما يتكلم عن الحرمان، وعن الظلم، وعن الإهانة، وعن التشرد، وهو يتمتع بالحياة ويسافر ولديه عمله الناجح ويتلفت حوله وكل شيء مؤمَّن لديه... فما معنى ما يقول؟!! كيف يتكلمون عن احترام مشاعر الآخرين، وهم لا يكترثون لمشاعر أحد؟!"

وقالت لي صديقتي بأنها مرة كانت معهم وهم يتحدثون عن "رحلة" سيقومون بها، وأنها بينهم جالسة، فلا يُطلَب منها المجيء معهم أو الانضمام لهم... ومع هذا، فالأمر بنظرهم أقل من عادي، وهم يندهشون منها عندما تحزن لهذا الأمر!

"لا أدري يا صديقتي... لم أعد أدري إذا كنت حقاً مريضة أم لا..."

"إني أتساءل يا صديقتي... عندما يولد إنسان ما ويكبر، ومعظم الأشياء مؤمَّنة له... ثم يبدأ بالكلام عن الوجود وعن الإنسانية، ويكتب عن المثاليات وعن إمكانية تحقيقها، فهل هو حقاً يشعر بها ويعيشها ويطبِّقها؟!"

هنا ثُرتُ في وجه تلك الغبية وصحت بها: "يا سلام! ما لك تحاسبين الناس وكأنك خلقتهم؟! ما لك وشأنهم؟! هل أنت مقسِّمة الأرزاق؟!!"

"أكيد أن الكثير منهم منافق ويدَّعي المثالية، ويدَّعي الإنسانية، ولكن القسم الآخر صادق جداً بأقواله ومشاعره، وهو لا يريد غير صالح البشرية. إنه لا يجبر أحد على الأخذ بأقواله وأفعاله..."

هنا قاطعتني صديقتي موضحة: "لا، لست بمقسِّمة الأرزاق، وكل شيء مكتوب منذ بدء التكوين. لا، لست بالحاسدة التي تحسد الناس على أرزاقها، ولم أكن من الحاسدين يوماً ما. فالأشياء المادية لا أوليها اهتماماً – ربما لأني عانيت منها واستفدت من تجربتها الكثير الكثير.

إنها، كما قلت لك، تساؤلات عن مدى صدق الأقوال والمشاعر إذا لم يعش الإنسان التجربة ذاتها.

"أعرف بأن الكثيرين ناضلوا من أجل عمل شريف وحصلوا عليه لأنهم يتمتعون بالمواصفات المطلوبة. لقد تعبوا وجدُّوا وسهروا الليالي لكي يزيدوا من معرفتهم... وخلال عملهم كان شعارهم الصدق مع نفسهم ومع الآخرين... ولأن تفتحهم الروحي والعقلي في أعمارهم السابقة ترقَّى للأفضل، فقد أتوا هذه الدنيا الآن مع ذاك المستوى، وعملوا خلال حياتهم الحالية على رفعه أكثر وأكثر... ولكن... هل معنى هذا أنهم يجب أن يُخضِعوا غيرهم باسم المحبة لشتى أنواع التجارب ويعاملوهم بإهمال؟!

من هنا فكرت كثيراً في هذا الأمر وتوصَلت إلى ما يلي: إذا كانوا قد ارتقوا بأرواحهم، وبعد قليل سيتَّحدون وينصهرون، ألا يمكن أن يأمرهم صوتهم الداخلي بأنه يجب أن أُعامَل بهذه الطريقة وبأن روحي شريرة... فأنا لا أعلم بعد.

أما إذا كان الأمر كذلك، فما عليهم إلا أن يقولوا لي إنه ما عليَّ إلا الانسحاب بهدوء... وإذا كان الأمر غير هذا، فما عليهم أيضاً إلا أن يعطوني تفسيراً لما يجري..."

قلت لها أخيراً بعد أن أتعبتْني: "أعلم أنك تقولين هذا لأنك متألمة. اهدئي، وتأملي جيداً، ودعك من أوهامك. لا تنتظري السعادة تأتيك من أشخاص. المشكلة تكمن فيك يا صديقتي... فأنت لست صديقة نفسك بعد. حاولتِ وستحاولين كثيراً... لا تيأسي... إن قلبك كبير وليست لديك نوايا عدوانية أو سيئة... اطردي تلك الأوهام فهي لن تدعك تعيشين بسلام...

انظري إلى النور... فهو ليس، كما قلتِ، لي يعميك ويحرقك... إنه يشير إليك... لا تخافي من الاقتراب منه، ولا تنكمشي على نفسك. ومادام إيمانك كبير، يا صديقتي، فسيأتي يوم تنتهي فيه آلام روحك وقلبك..."

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود