|
الكلبة
بشار
عطا الله البطرس
1
عاد
ابن ناطور بنائنا من عند البقال تتبعه كلبة
ضخمة. سألته والدته من أين جاء بها. أجاب بأنها
لحقت به، فأطعمها شيئاً من الشوكولا حتى وصلا
إلى هنا. منذ ذلك الوقت، انقسم سكان بنائنا
إلى قسمين، لا بسبب تجديد محرك المصعد
المتعطل أو إصلاحه، بل بسبب الكلبة وبقائها
في البناء. لم
يحدث قط أن انقسم السكان بهذا الشكل، ولم يقف
أحد منهم موقف المحايد. 2
"الكلبة
حامل!" هكذا قالت زوجة الناطور لابنها الذي
راح يبحث عن مكان تأوي الكلبة إليه. كان سبب
تمسك الولد بها تأكيد جارنا الطبيب الصياد
أنها من النوع البوليسي chien-loup
(الكلب الذئب)، أليفة، سبقت
تربيتها في منزل ما، مهذبة وذكية، وستلد جراء
ثمينة بعد أسبوعين أو ثلاثة. لقد
أخذت الكلبة على عاتقها اعتباراً من يوم
مجيئها، كما أفهمها ابن الناطور وزوجته، مهمة
المساعدة في جمع أكياس القمامة من أمام شقق
البناء في ظروف تعطل المصعد. 3
بدأت
المشكلة من الطابق السادس، حيث يقطن إحدى
شقتيه محامٍ متزوج من امرأة لا تنجب أولاداً.
لذا فهي تتلهى بتربية ثلاث قطط، وبأعمال
يدوية تشغل وقتها. في
يوم وصول الكلبة، فتحت الزوجة باب الشقة
لتتأكد أن ابن الناطور قد أخذ كيس القمامة،
فإذا بها تفاجأ بكلبة مرعبة! ويبدو أن الكلبة
فوجئت هي الأخرى. هذه المصادفة لم يكن لها أن
تحدث لولا أن الكلبة، حين همَّت بحمل الكيس
بين أنيابها، اشتمت رائحة القطط، وأطالت
المكوث، مادَّة رأسها إلى عتبة الباب، ملتزمة
بغريزة عداء الكلاب للقطط... وهناك، عندما
فُتِح الباب، حصل ما حصل، بشكل طريف ومرعب،
سترويه الزوجة بمبالغة، وصلت حدود الادعاء
بانقطاع نسلها – لو لم تكن عاقراً – لتصير
أولى معارضي وجود الكلبة في البناء. 4
جارنا
الطبيب، أثارت الكلبة أشجانه، فهو صياد محترف... إننا
نذكر خلافاته مع زوجته حول أمور الصيد، وردود
فعلها على هوسه به، وانتقاداتها المستمرة
لتربيته الكلاب وقرفها المطلق منها... إلى أن
وصلت أمورهما إلى الطلاق بعد فشل الأقارب
والجيران في تقريب وجهات النظر. تعاطف
الرجل مع الكلبة. صار، بخبرته في الموضوع،
يدللها ويتفاهم معها، على الرغم من أنها ليست
كلبة صيد. وفي إحدى المرات، تجمهر مؤيدوها
أمام مدخل البناء. قام بعرض ساحر معها، جعلنا
جميعاً ندهش ونقدِّر ذكاءها، إذ جعلها تتعرف
على ساكني البناء بأسمائهم. لذلك لم يجد ابن
الناطور فيما بعد عناءً في إرسالها وحدها إلى
الشقق، حين يعلن أصحابها عن ضرورة التخلص من
قمامتهم. كان
الطبيب أول من وقف في وجه جارته، زوجة المحامي،
مدافعاً عن الكلبة. 5
بسبب
موسم الصيف، وغياب بعض السكان في المصايف،
فرغت الشقق من شاغليها. إلا أن نسبة المؤيدين
لبقاء الكلبة ظلت مساوية تقريباً لنسبة
المعارضين. رجع
رئيس لجنة البناء من مصيفه. ركض ابنه ذو
السنوات الثلاث نحو الكلبة التي كانت في
الاستقبال، عانقها وعانقته، كأنهما يعرفان
بعضهما بعضاً منذ زمن طويل. لحسته وشمته. طار
ذيلها في الهواء معبراً عن سعادة عظيمة،
والطفل، لم يقصِّر في التربيت على ظهرها أو
مداعبة رقبتها، الأمر الذي أثار استغراب أبيه، فسأل عن
الكلبة، وأبدى إعجاباً شديداً
بها. وبصعوبة استطاع إسكات زوجته التي
استشاطت غضباً، وخافت من احتمال أذية الطفل،
أو نقل المرض له، خصوصاً حين لم تستطع
الاقتراب لتخليص الصغير، بسبب القرف لا بسبب
الخوف! وهكذا صارت الكلبة صديقة وفيَّة
للصغير، يقضي معها ساعتين يومياً، حين تنبح
أمام باب شقة أهله، مما جعل والده، يقف في صفِّ استبقاء
الكلبة، على الرغم من معارضة
زوجته المطلقة. 6
اقترح
جارنا مهندس الديكور، الفنان ذو اللحية
الطويلة دائماً، الإعلان عن وجود الكلبة
لدينا في الصحف الرسمية، أو في صحيفة
الإعلانات. فلابد أن لها أصحابها الذين
يبحثون عنها. وما تعلُّقها بابن رئيس لجنة
البناء سوى دليل على وجود طفل بالعمر نفسه في
الأسرة التي كانت تعيش معها. لذا فإن الواجب
الأخلاقي يحتم إرجاع الأمانة لأصحابها. أجابه
رئيس لجنة البناء، في حديث على انفراد، بأن
موضوع الكلبة لا يقرره شخص، بل يجب أن يقرر
الجميع مصيرها، "عدا عن أنني شخصياً أريد
الاحتفاظ بها، قال، فقد صارت مرفقاً هاماً من
مرافق البناء، ولا يدخل في ذلك محبة ابني
ومحبتها له." لم
يطرح المهندس المسألة كرهاً بالكلبة، بل
لأنها نبحت على إحدى صديقاته الجُدُد حين
خروجها من البناء ليلاً، مما جعل الفتاة لا
تعيد الكرة بوجود كلبة تميِّز الوجوه الجديدة
الداخلة والخارجة من البناء! 7
قادت
مديرة المدرسة، زوجة الصائغ، الحملة ضد
الكلبة بشكل مسعور، معتمدة على زوجة المحامي
كرئيسة أركان. أطلقت لسانها السليط على
الجميع في محاضرات عن ضرر الكلاب وقذارتها،
وكأنها في صفٍّ يجمع كسالى تلاميذ مدرستها.
ولم يكن ينقصها، هي التي تفهم في كل شيء، سوى
أن تقرر بمفردها، بدل لجنة البناء، التخلص من
الكلبة. والسبب في ذلك تفضيل أولادها اللعب مع
الكلبة على وجودهم معها، وتقاعسهم في أداء
واجباتهم المدرسية الصيفية في دورات اللغة
والرياضيات... حتى إنها، دون أن تقصد، وضعت
نفسها في مقارنة، لم تخف على النبهاء منا، مع
الكلبة. لقد
أثبتت المديرة أنها أفضل بنات جنسها في إدارة
لواء المعارضة! 8
في
حديث منفرد مع رئيس لجنة البناء، أعرب
الناطور عن قراره بطرد الكلبة، لما رتَّبه
وجودها معهم من خلافات مع الأساتذة والمدامات
وأثَّر على تعاطفهم معه، وعلى انخفاض دخله،
وكأن حرباً خفية تشن عليه. وهو الآن يخاف
الطرد من العمل، وبالتالي فقدان المأوى.
لذلك، سيضرب عرض الحائط بمحبة ابنه الوحيد
للكلبة، وتعاطف زوجته معها، وكذلك المؤيدين
لها. غمز
رئيس لجنة البناء وابتسم... أقنع الناطور بأنه
صار كالمنشار الذي يأكل على الطرفين: من
المؤيدين بحجة الاعتناء بالكلبة، ومن
المعارضين بهدف تجويعها وتهجيرها. وبذلك فقد
ازداد دخله. وليس كلامه إلا محاولة ابتزاز
جديدة لكلا المعسكرين. 9
احتلت
مشكلة الكلبة المساحة الداخلية والخارجية في
حياة أسرنا، واكتشفنا جميعاً سخف مشاكلنا
الثانوية التي وُضِعت على الرفوف أمام سيرة
الكلبة: كيف تصرفت، وماذا أكلت، وكيف لعبت...
حتى إن زياراتنا البينية ازدادت ألفة، على
الرغم من التعارض في وجهات نظر الزوجات
والأزواج حول موضوع الكلبة. صرنا
أكثر حيوية، حيث يدور النقاش والتندُّر
والطرافة، مما أدى إلى توسع معسكر مؤيدي
الكلبة، وتَمَتْرُس المعارضين الأوائل في
مواقعهم، إلى أن وصل بهم الأمر، في وضع يسوِّف
فيه رئيس لجنة البناء عقد الاجتماع لأسباب لا
تخفى على أحد، إلى طرح تدخل الشرطة كحل نهائي. 10
تقرر
عقد اجتماع لجنة البناء الموسَّعة، بحضور من
يرغب، على أن يصوَّت بالأكثرية على الموضوع.
فقام الفريقان لآخر مرة برصِّ الصفوف، وحشد
أنصار جدد، متذرعين بالوقائع الجديدة،
والحجج المستجدة. صبيحة
يوم الاجتماع، فوجئ سكان البناء بنبأين... الأول:
ولادة الكلبة لأربعة جِراء جميلة. لقد احتجبت
الليل الفائت، وساعدتها زوجة الناطور في
تأمين ملاذ للولادة. وضعت لها طعاماً يليق
بكلبة ولود مرضع. انتشر النبأ رداً على سؤال
عن أحوال الكلبة حين الذهاب إلى العمل
الصباحي، أو حين تأخرها عن جمع أكياس القمامة
ليلاً. والثاني:
مجيء رئيس لجنة بناء في حي آخر يسأل عن كلبة
ضائعة تشبه أوصافها كثيراً أوصاف "كلبتنا".
أما بحثهم عنها فلأنهم طردوها بسبب خلافهم
حولها، ونَدَمهم بعد ذلك. كان
على لجنة بنائنا أن تقرِّر قراراً حاسماً، لا
تندم عليه في المستقبل، آخذة بالاعتبار
مستجدات الأمور. لكنها، قررت تأجيل الاجتماع
لحين فطام الجِراء. فليس من الإنسانية في شيء
أن تُطرَد كلبة مرضع – هذا إذا توفرت لأحد
الشجاعة على طردها! *** *** *** 15/3/1999
|
|
|