يسوع... يا مسيحي...

أكرم أنطاكي

 

 

"... وأنتم، يا من تترصدون لي، هلا استقبلتموني عندكم وكففتم عن ملاحقتي بنظراتكم... لأني الأولى ولأني الأخيرة، لأني المحترمة ولأني المحتقرة، لأني العاهرة ولأني القديسة معاً..."

صوفيا (الحكمة)

 

(1)

إلهي... كم كانت الطريق طويلة حتى وصلت إليك من جديد، كم كانت شاقة ومقفرة... وفي الوقت نفسه أيضاً، كم كانت جميلة ومزهرة. وأجمل ما فيها أنها تقود إليك. فأنت البداية وأنت النهاية...

يسوع، يا مسيحي...

أنظر إلى نفسي اليوم، وأضحك من ذلك الشكل الذي كان له بعض الجمال يوماً... أنظر إليها، أتأمل عينيها، وهي تعلم ذلك. وأنا أعلم أني أحبها، وهي تعلم ذلك. وأنت تذكِّرني كل يوم بأني كنت وسأبقى حتى نهاية حياتي هذه إنساناً...

آه... يسوع، يا مسيحي...

لأني وصلت بنفسي كما أوصلتني إلى نهاية هذا الطريق... وإلى البداية. لأنها في كلا الحالين، كما علَّمتنا، كلمة يجب أن تقال وأن ندفع ثمنها كما دفعت أنت ثمنها.

وأنا متيقن اليوم أني لم أبتعد، ولو للحظة واحدة...

يا إلهي...

(2)

"في البدء...

... كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان هو الله..." (إنجيل يوحنا، 1)

والله هو المطلق، والله هو العدم... ولأننا لا نستطيع تصور المطلق والعدم، جعلتَنا ندرك أنك كنت منذ الأزل، كما أنت الآن وستبقى...

رافقتَنا منذ الخليقة، من خلال الربِّ وما ترمز إليه أحْيَل كائناته إليك؛ من خلال الإنسان الذي على صورتـ[ـك] خلقتـ[ـه] ذكراً وأنثى..." (العهد القديم، سفر التكوين 1: 27)؛ وتحديداً، من خلال قايين وأبنائه، والمعرفة والخطيئة والألم.

وكنت دائماً معنا...

".. ونفسـ[ـك حزينة] على أبناء البشر. لأنهم عميان في قلبهم لا يبصرون، لأنهم جاؤوا إلى العالم فارغين، لا يزالون يسعون إلى الخروج من العالم فارغين..." (إنجيل توما 28)

كنت معنا، من خلال أبنائك وبناتك، الذين تزاوجوا مع بناتنا وأبنائنا. ومن خلال نوح ومن أنقذت معه في الفلك (التابوت) من الكارثة...

كنت معنا، من خلال تلك البشريَّات التي ضلَّت الطريق إلى المعرفة فـ "... بدَّدتَ من هناك على وجه الأرض كلِّها [لتكفَّ] عن بناء ..." (العهد القديم، سفر التكوين 8: 11) المدينة العاهرة... و...

من خلال ملكي صادق وتلميذه أبرام القديس [و] العاهر، الشجاع [و] الجبان، ومن خلال أبنائه من البشر، وأبنائه من المعرفة. و...

من خلال يعقوب (إسرائيل) ذاك الذي تحدَّاك وصارعك ومازال. فأحببتَه وحمَّلته تلك الأمانة التي سبق فعرضتها على "... السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملنها وأشفقن منها [فـ]ـحملها..." مَن "... كان ظلوماً جهولا..." (القرآن الكريم، سورة الأحزاب، 22)

يسوع، يا مسيحي... وأيضاً...

كنت عند الجميع، كما أنت هنا حيث "... التين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين..." (القرآن الكريم، سورة التين، 1-3) كنت في الهند وكنت في الصين... وكنت في بابل وكنت في مصر... في كل مكان سعى فيه البشر، من خلال المعرفة، إليك... وفي كل مكان لم يسعوا فيه، من خلال الجهالة، إليك.

وحين كانت المعرفة تضل الطريق، حين كان آتون يصارع آمون، كنت تحتجب حيث أنت دائماً، في أعماقنا الإنسانية. فقد...

كنت عند الجميع كما أنت هنا حيث "... التين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين..." (القرآن الكريم، سورة التين، 1-3) حيث لقَّن كاهنُك موسى وإخوتُه رسالتك للرعاع، وكان الخروج. وهناك، كنت أيضاً "أربعين عاماً"، ولم تزل، مع من لم يفهمْك، ولم يزل، في صحرائه المقفرة تائهاً. وأيضاً...

كنت حيث الخطاة وحيث العشَّارين... مع داود الزاني، كانت مزاميرك. ومع سليمان الخاطئ، كان نشيد أنشادك. وكان هيكلك على يد "ابن الأرملة".

كنت دائماً معنا، في كل مكان، وفي كل زمان. ولكن...

حتى ذاك الزمان، وعلى هذه الأرض قبل سواها، حين لم يدرك البشر أنك في قلوبهم تحديداً. ولما، ربما، حتى هذه الساعة لم يفهموا. كان في تلك الأيام أنْ...

أضحى الرمز، من خلال معرفة بعضهم المختار أولاً، وصدق إيمان بعضهم الآخر ثانياً، ضرورة. وتجسدت هذه الضرورة واقعاً...

(3)

في الإنسان يشوع...

تقول آنّي بيزنت، نقلاً عن سواها، أنه...

"... قبل 105 سنوات من التاريخ الذي حدده المؤرخون، إبان حكم القناصل بلوبيوس روتيلوس روفوس وجناوس ماليوس ماكسيموس لروما، ولد في فلسطين طفل سُمِّي بيشوع. وقد كان أهله كرام الأصل، رغم فقرهم، فربُّوه على معرفة الكتب المقدسة. ومن بعدُ، دفعتْ جدِّيته وتقواه والديه لتكريسه لحياة الكهنوت والترهُّب. فمباشرة بعد زيارة أورشليم، حيث تجلَّى ذكاؤه الخارق وحبُّه للمعرفة من خلال نقاش رهبان الهيكل، أُرسِل للتدرب لدى التجمُّع الأسِّيني جنوب صحراء اليهودية، حيث بقي حتى بلغ سن التاسعة عشرة. ثم انتقل من هناك إلى دير أسِّيني آخر قرب جبل سربل كان يزوره الكثيرون من أهل المعرفة المسافرين، من فارس والهند ومصر، وحيث كانت مكتبة سرَّانية ضخمة. ومن هناك، وقد درس كتب الحكمة، ذهب إلى مصر حيث أكمل في معابدها ولدى كهنتها تعليمه السرَّاني. فمصر كانت ماتزال إحدى مدارس المعرفة في عالم ذلك الزمان. وفي مصر، كُرِّس يشوع كاهناً.

إنسانياً، كان يشوع طاهراً من بين الأطهار ومن أتقى الأتقياء... مما جعله، وهو بعدُ لم يزل شاباً، يتميز عمن حوله من أناس أجلاف ومتعصبين كانوا ذات يوم من معلِّميه..."

ونتخيل ذلك الإنسان الذي كان طاهراً بين الأطهار. ونتخيل تزاوج الطهارة القصوى، تلك الأقرب إلى الألوهة منها إلى البشرية، بالمعرفة الحقَّة. ونحلم كيف أضحى "ابن الإنسان" يشوع، في ذلك الزمان المظلم، وعلى هذه الأرض المقدسة، إلهاً...

ففي ذلك الزمان، وعلى هذه الأرض، كان فجور وكانت تقوى. كان صراع من خلال حكام محلِّيين صغار بين روما وبين فارس. وروما كانت المدينة العاهرة غرباً. وفارس، كانت مرآتها المشوهة شرقاً. لكن، يبدو أنه...

في ذلك الزمان حصراً – والألوهة لا زمان لها – وعلى هذه الأرض تحديداً – والألوهة في كل مكان – كان أيضاً أناس آمنوا أكثر من سواهم. وكان الأسِّينيون و"معلِّم البرّ"، الملقَّب أيضاً بـ"المشيح"...

وتُدخِلنا مخطوطات البحر الميت التي تم اكتشافها في قمران بدأً من عام 1947 "... إلى قلب تلك الفئة، فتعرِّفنا على طقوسها وعلى مفاهيمها وعقائدها، فتقدم بحراً من المعلومات عن وقائع ومعتقدات لم ينقلها الكتَّاب السابقون، معلومات حول مفكِّرة دينية أضحت اليوم مسيحية، وحول الرجاء المسيحي، المعلَّق خاصة على "معلِّم برّ" غامض حكم عليه بالموت قبل مئة عام من التاريخ الذي يحدده تقويمنا للميلاد، كان أتباعه ينتظرون عودته في نهاية الأزمنة.

ونكتشف، من خلال هذه المخطوطات، أن ما كان يبدو في المسيحية متمايزاً عن الخلفية اليهودية المعهودة، كان استمرارية لمعتقدات هذه الفئة السرَّانية القديمة. ونتعلَّم أن الأسِّينيين كانوا يعيشون في قمران حياة رهبنة وتقشف قصوى، وينتقون أتباعهم من بين الفريسيين. إنما، من خلال ما كانوا يشهدونه من انحلال لدى القوَّامين على الشرع اليهودي آنذاك، باتوا يعتقدون انه لم يعد بوسع /ي هـ و هـ/ التورط مع إسرائيل القديم. وكانوا ينظرون إلى أنفسهم كـ"عهد جديد"، ويؤمنون إيماناً راسخاً أن المسيح سيأتي من خلالهم.

وهذا ما كانت تعكسه كتبهم السرَّانية، كـالأناشيد ونهاية الحرب وخاصة كتاب دمشق...

حيث جاء على لسان "معلِّم البرّ" الذي جاء إلى ربوعها:

... سأنفي ملككم وصوركم من خيمتي إلى دمشق...

والنجمة هي الباحث عن الشريعة...

الذي جاء إلى دمشق، كما هو مكتوب:

يخرج نجم من يعقوب ويقوم صولجان من إسرائيل...

ونتخيل أنه في تلك الأيام أضحى ذلك الإنسان الطاهر بين الأطهار والمدعو يشوع من خلال شخصه مَحَلاً لما لا يمكن أن يدركه البشر...

"... فالأوان [كما تقول محقة آنّي بيزنت] كان قد آن ليتجسَّد على صعيدنا أحد تجلِّيات الألوهة من أجل مساعدة البشر..." و"... كان يجب أن يظهر ابن لله تحديداً. وجميعنا أبناء للألوهة عموماً..."

"... في ذلك الزمان، ابتدأ يسوع يكرز..." (إنجيل متى 4: 17)، ومن خلال الأمثال والصور الجميلة بشَّر، كما يقولون، جموع البشر المتعطشة إلى الكلمة. فكانت...

(4)

الخطبة على الجبل...

قال..

... طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات. طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض. طوبى للحزانى فإنهم يعزَّون. طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم يُشبعون. طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون. طوبى للأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله. طوبى لفاعلي السلام فإنهم بني الله يُدعون. طوبى للمضطهدين من أجل البرّ فإن لهم ملكوت السموات. طوبى لكم إن عيَّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة سوء من أجلي كاذبين. افرحوا وابتهجوا لأن أجركم عظيم في السموات. فإنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء الذين قبلكم.

أنتم ملح الأرض. فإذا فسد الملح فبماذا يملَّح. إنه لا يصلح لشيء إلا لأن يطرح خارجاً وتدوسه الناس. أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة مبنية على الجبل. ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال ولكن على المنارة ليضيء على كل من في البيت. هكذا، فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات.

قد سمعتم انه قيل للأولين لا تقتل. فإن من قتل، يستوجب الدينونة. وأما أنا فأقول: إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة.

قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تزن. أما أنا فأقول: إن كل من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى في قلبه...

... ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير.

سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخلِّ له رداءك أيضاً. ومن سخَّرك ميلاً فامش معه اثنين. من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه.

قد سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وابغض عدوك. أما أنا فأقول: لكم أحبوا أعداءكم واحسنوا إلى من يبغضكم. وصلُّوا من أجل من يعذبكم ويضطهدكم، لتكونوا بني أبيكم الذي في السموات. لأنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنكم إن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أليس العشَّارون يفعلون ذلك؟ وإن سلَّمتم على اخوتكم فقط فأي فضل عملتم؟ أليس الوثنيون يفعلون ذلك؟ فكونوا كاملين كما أباكم في السماء هو كامل.

احترزوا ألا تصنعوا البرّ قدام الناس لكي ينظروكم... فأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك.

ومتى صلَّيتم فلا تكونوا كالمرائين. فإنهم يحبون القيام في المجامع وفي زوايا الشوارع يصلون ليظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. أما أنت فإذا صليت فادخل مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلى أبيك في الخفية وأبوك الذي يرى في الخفية هو الذي يجازيك... و... صلُّوا هكذا: "أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفاف يومنا أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن لمن أساء إلينا... آمين..." وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرائين فإنهم ينكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. أما أنت فإذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفية وأبوك الذي ينظر في الخفية هو يجازيك. لا تكنزوا لكم كنوزاً في الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون. لكن اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا آكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك. سراج الجسد العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً. وإن كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كيف يكون؟ لا يستطيع أحد أن يعبد ربَّين لأنه إما أن يبغض واحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال. فلهذا أقول لكم لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أفليست النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس... فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه وهذا كله يزاد لكم. فلا تهتموا بشأن الغد فالغد يهتم بشأنه. يكفي كل يوم شره.

لا تدينوا لئلا تدانوا. فإنكم بالدينونة التي بها تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم. ما بالك تنظر القذى الذي في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينك. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك وها إن الخشبة في عينك. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تنظر كيف تخرج القذى من عين أخيك. لا تعطوا المقدس للكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزقكم. اسألوا فتعطوا. اطلبوا فتجدوا. اقرعوا فيفتح لكم. لأن كل من يسأل يعطى ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له. أي إنسان منكم يسأله ابنه خبزاً فيعطه حجراً؟ وإذا سأله سمكة يعطيه حية. فإذا كنتم أنمت الأشرار تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأبنائكم فكم بالحري أبوكم الذي في السموات يمنح الصالحات لمن يسأله. فكل ما تريدون أن يفعله الناس بكم فافعلوه أنتم بهم. فإن هذا هو ناموس الأنبياء. ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك والداخلون فيه كثيرون. ما أضيق الباب وأحرج الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون الذين يجدونه. احذروا الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بلباس الحملان وهم في الباطن ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم. هل يجنى من الشوك عنب ومن العوسج تين؟ هكذا كل شجرة جيدة تثمر ثمراً جيداً والشجرة الرديئة تثمر ثمراً رديئاً. لا تستطيع شجرة صالحة أن تثمر ثمراً رديئاً ولا شجرة فاسدة أن تثمر ثمراً جيداً. كل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار. فمن ثمارهم تعرفونهم. ليس كل من يقول لي يا ربُّ يا ربّ يدخل ملكوت السموات لكن الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات هو يدخل ملكوت السموات... فكل من يسمع كلامي هذا ويعمل به يشبه رجلاً حكيماً بنى بيته على الصخر. فنزل المطر وجرت الأنهار وهبت الرياح واندفعت على ذلك البيت فلم يسقط لأن أساسه كان على صخر... ( إنجيل متى، فصل 5-7)

وتجسد السرّ العظيم...

... تجسداً يصح أن يطلق عليه اسم المسيح فكان ذاك الذي عاش وتنقل من خلال ذلك الإنسان يسوع فوق هضاب وسهوب فلسطين مبشراً وطبيباً معالجاً لأمراض الجسد عامة والنفس خاصة. وأيضاً، كان ذلك الإشعاع المنبثق من جاذبية حبِّه الملكي النادر كالشعاع من الشمس، يجذب إليه المعذبين والمضطهدين. وكان لذلك السحر الناعم المنبثق من حكمته اللطيفة أن يظهر ويجعل أكثر نبلاً حياة أولئك الذين احتكوا به. وحوله كانت أقلية نادرة من التلامذة ذوي النفوس الأكثر تقدماً...

ولكنْ... ما أوردتُه قد لا يتعدى، من منطلق ما رُبِّينا عليه من عقل متشكك، كما قد يعترض (محقاً؟) بعضهم – من وجهة نظر ذلك المنطق التاريخي المادي السائد، مجرد شرح لظروف يختلط من خلالها الحدث، بالأسطورة، بالروح... مما قد يفسر بعض الشيء نشوء المسيحية دون أن يثبت قطعاً الحقيقة الأرضية لذلك الذي تدور حوله أسطورتها. ونتوقف قليلاً لنتأمل فيما يدعوه فريديريك إنجلز، مستنداً إلى برونو باور، في تاريخ المسيحية البدائية، من خلال ما يحلو لبعضهم تسميته بالـ...

(5)

المسيح التاريخي

في تلك الظروف التي أدت إلى نشوء المسيحية، يقول فريديريك إنجلز: "... لقد اتبع النقد التوراتي الألماني، وكان حتى تاريخه ولم يزل يشكل القاعدة العلمية الأساسية لدراسة تاريخ المسيحية البدائية، اتجاهين اثنين. الاتجاه الأول تمثله مدرسة توبنغن، التي ينتمي إليها د. ف. شتراوس، واستند إليها إرنست رينان. وقد ذهبت هذه المدرسة إلى أبعد ما تستطيعه في هذا المضمار أية مدرسة لاهوتية. فهي تعترف أن الأناجيل الأربعة للشريعة المسيحية ليست شهادة عيان كما يعتقد بعضهم، إنما مجرد تحريف لاحق لأصول أضحت اليوم ضائعةً، وأن فقط أربعة من رسائل بولس صحيحة، إلخ..

أما الاتجاه الثاني، فيمثله شخص واحد هو برونو باور، الذي تجلَّى فضله الأساسي في نقده القاسي للأناجيل وللرسائل، حيث أعار المزيد من الاهتمام للعوامل اليهودية واليونانية–الاسكندرانية وأيضاً للعوامل اليونانية والرومانية التي خلقت الظروف التي أدت إلى تحول المسيحية إلى دين عالمي..."

وباور الذي هو، كما نعلم، من مدرسة هيغل لم ينفِ يسوع كإنسان، إنما حاول، مستنداً إلى حياته كما ترويها الأناجيل، أن يبرهن أن تلك ليست سوى أسطورة خلقها الخيال الشعبي لضرورات القضية المسيحية الناشئة...

ولا يحتاج أي إنسان عاقل اليوم للكثير من التأمل ليستنتج الطابع الأسطوري لمسيح الأناجيل الأربعة التي تعتمدها الكنائس المسيحية – وإن كان لا خلاف حول ما قد يتفق عليه الجميع وأضحى مؤكداً...

أن تلك الأسطورة تدور حول شخص وجد حقاً في ذلك الزمان، وأن اسمه كان يشوع، وأنه لم يكن إنساناً عادياً. ولكن...

أتراه ذلك الذي يتحدث عنه بعضهم من اليهود وغيرهم (آني بيزنت مثلاً) الذي ولد قبل مئة عام من أب اسمه بانديرا، أيام الملك اسكندر ياني وزوجته صالومه، ثم درس "السحر" في مصر، ومارسه، ثم حكم عليه بالموت وصُلبِ (؟) عشية الفصح لأنه "سرق اسم الله من الهيكل"؟!

أم تراه "معلم البرّ" الأسيني الغامض الذي وجد أيضاً في نفس الفترة وكان يدعى بـ"المشيح"، وقُتِل، وكان أتباعه يعتقدون أنه سيعود حتماً في نهاية الأزمنة؟!

أم أنه ذلك الإله الذي ولد من العذراء والروح بعد ذلك بمئة عام في بيت لحم في اليهودية، واعتمد على يد يوحنا المعمدان، وبشَّّر في فلسطين ذاك الزمان. وكان له إثنا عشر رسولاً، من بينهم يهودا الذي أسْلَمَه ليصلب عشية الفصح، ويقوم في اليوم الثالث، كما تتحدث الأناجيل التي تعتمدها الكنائس المسيحية؟!

ويدفعني المنطق إلى قبول الأوَّلَيْن تاريخياً، والقلب إلى ما يمثله الثالث من خلال أسطورته رمزاً. وقلبي يقول لي إن جميعهم في النهاية واحد. فأسجل في هذا السياق وحدي ما سيخالفني فيه حتماً جميع أهل الظاهر، أن بعضهم (من اليهود) ممَّن رفض يسوع علناً، متفق مع المسيحية، من حيث لا يدري، على تأليهه فعلاً. وأتأمل تلك العبارة التي تقول إنه سرق "اسم الله" من الهيكل. فـ"أسماء الألوهة، كما يقول محقاً أحد أكبر أساتذة اليهودية المعاصرين، الراباني أدين شتاينزالت، في كتابه الرائع الوردة ذات الثلاث عشر بتلة، ما هي إلا وسيلة للتعبير عن مختلف حالات تجلِّيات الألوهة في عالمنا، وخاصة، فيما يتعلق بتلمُّس الإنسان لهذه التجلِّيات. ففوق تلك الأسماء جميعاً، توجد ماهية الألوهة المحض، وهذا لا اسم له..." والقباله (سرَّانية دين إسرائيل) تطلق على هذه الماهية تسمية قد تبدو بحد ذاتها متناقضة هي: /أين – سوف قدوس هو/، التي قد تعني – والله أعلم – لمن لم يفهم الرمز بعد، أن الاسم الفعلي للألوهة، المعبِّر عن طبيعتها اللامتناهية، سرٌّ إلهي يفوق إدراك طبيعتنا النسبية أولاً؛ وأن أسماء الألوهة المعبِّرة عن الماهية الحاضرة في كلِّ مكان وزمان لا تحتاج إلى الاختباء في هياكلنا ثانياً؛ وأن من يعرف (أو يتعرَّف إلى، أو يتمكن من "سرقة") هذا الاسم فعلاً، ما هو إلا ذاك "الذي لا اسم له"، ثالثاً. ولكن المقصود هنا أيضاً هو، ربما، ذلك الرمز الذي يقول إنه كان يجب قتل ذلك الذي مزَّق حجاب الشرع وكشف الحقيقة... فحماة الشرع "... أشبه بكلب راقد فوق حصة و[يرتكب؟] ذلك السوء بعدم أكلـ[ـها] وبعدم [ترك] فضلاتـ[ـها] للأكل." (إنجيل توما 102).

وأتابع محاولاً، من خلال عقلنا المادي، تلمُّس ظروف نشوء المسيحية في تلك الأيام. حيث أضحى معظم الباحثين متفقاً اليوم على أصولها الأسينية. فما تم كشفه من مخطوطات البحر الميت يؤكد ذلك، كما يؤكد على حدثين رئيسيين في تاريخ تلك الفئة هما:

-       ذلك الانشقاق الذي حدث حوالى عام 150 ق م في صفوفهم، حيث انفصلت مجموعة بقيادة كاهن أكبر كان يدعى "معلِّم البرّ" واستوطنت في قمران شمال البحر الميت لتحضِّر لمقدم المشيح المنتظر. وأيضاً وخاصة...

-       أنه حوالى العام 63 ق م، نتيجة تعرُّض الأسينيون في قمران لتجاوزات من خصومهم (؟)، انتقل معلِّم البرّ (الذي كان يدعى أيضاً بالمشيح) مع عدد من أتباعه إلى دمشق حيث وُضِع عدد من الكتب السرَّانية. فمن دمشق، طُرِحَت على لسان معلِّم البرّ دعوة "العهد الجديد" من بلاد الشام... نعم، من دمشق التي على أبوابها التقى بولس بالمسيح... دمشق التي في قلبها لُقِّن بولس أسرار المسيحية على يد حنانيا.

فالمسيحية بدأت في حينه دعوتها المعلنة للقلف في أواسط القرن الأول من خلال عدة أحداث، كان أهمها، بالاستناد إلى كتبها (هنا أعمال الرسل):

اهتداء بولس في دمشق أو على أبوابها، حوالى عام 40 للميلاد. و...

مجمع أورشليم الذي انعقد عام 49 للميلاد، وكانت أهم مقرراته على لسان يعقوب: "... ألا يُثقَل على من يرجع إلى الله من الأمم..."، وتكليف بولس بـ"... إنجيل القلف كما اؤتُمِن بطرس على الختان (اليهود)...".

ونتذكر أن اليهودية في تلك الأيام كانت متمردة على روما، وأنه في تلك الأيام أيضاً، أو لنقل بعد 29 عاماً من انعقاد المجمع المذكور أعلاه تحديداً، كانت حملة تيتوس على أورشليم (69 للميلاد)، وتدميره الهيكل، وتشتيت اليهودية المتمردة في شتى أنحاء العالم.

ونتوقف قليلاً هنا أمام ذلك الواقع المريب الذي يقول إن تلك المسيحية التي كانت لم تزل يهودية (وإن بدأت تتمايز عنها)، والتي لم يكن بوسعها تاريخياً تجاوز الظروف المرعبة التي رافقت نشوءها، لم تتعرض في كتبها (ظاهراً) إلى تلك الأحداث؛ الأمر الذي قد يطرح فعلاً تساؤلاً مريباً؟ ونتساءل عن السبب؟؟

وكتب الشريعة المسيحية، إضافة للأناجيل الأربعة (مرقس، متى، لوقا ويوحنا)، هي كما نعلم:

-       أعمال الرسل (التي تُنسب للوقا الطبيب، تلميذ بولس وصاحب الإنجيل المنسوب إليه)، وهو كتاب يفترض أنه تأريخي، كُتِب في ظروف النكبة التي حلَّت باليهودية...

-       رسائل بولس وعدد من الرسائل التي كتبت أيضاً في نفس الفترة...

-       رؤيا يوحنا...

تلك التي تعيدنا، في هذا السياق، مرة أخرى، إلى صديقنا إنجلز الذي لم يكن مخطئاً تماماً من خلال مساهمته المتواضعة في تاريخ المسيحية البدائية، حين استنتج، مستنداً إلى برونو باور، وإلى ظروف تلك الأيام الملتهبة لأواسط القرن الأول الميلادي، أن أهم كتب المسيحية، تاريخياً، هو ربما "رؤيا يوحنا". قال ف. إنجلز:

"... نحن مدينون إلى المدرسة النقدية الألمانية، وحصراً إلى أولد ولوكه وفرديناند بيناري بتفسير تلك النبوءة، وخاصة فيما يتعلق بأحداث تلك الأيام... فالعاهرة الكبرى بابل ما هي في الحقيقة سوى روما ذات التلال السبع حيث جاء "... رأيت امرأة راكبة على وحش قرمزي مغشى بألقاب الكفر له سبعة رؤوس وعشرة قرون..." (رؤيا يوحنا 17: 3) "... هذا معناه وفيه الحكمة. الرؤوس السبعة هي سبعة جبال عليها المرأة جالسة وسبعة ملوك. خمسة منهم سقطوا وواحد موجود والآخر لم يأت بعد. وإذا أتى لا يبقى إلا قليلاً..." (رؤيا يوحنا 17: 9-13) والوحش هو روما المسيطرة على العالم، والممثَّلة على التوالي من خلال أباطرتها السبع الذين جُرِح أحدهم وكاد يموت، وإن بقي حياً فليعود من جديد، ذلك الثامن الذي سيحقق حكم الكفر والتمرد على الإله حيث "... أولي أن يحارب القديسين ويغلبهم وأولي سلطاناً على كل قبيلة وشعب ولسان وأمَّة..." (رؤيا يوحنا 13: 7) "... عدد اسمـ[ـه]: إنه عدد اسم إنسان وعدده ستمائة وستة وستون." (رؤيا يوحنا 13: 18). وأباطرة روما بعد أغوسطوس أوَّلِهم، كانوا: 2. تيبيريوس، 3. كاليغولا، 4. كلوديوس، 5. نيرون، 6. غالبا: ".. خمسة منهم سقطوا وواحد موجود..." إذن نيرون كان ساقطاً وكان غالبا لم يزل موجوداً. وقد حكم غالبا من 6 حزيران عام 68 وحتى 15 كانون الثاني عام 69، لكن حكمه لم يدم طويلاً، حيث تمرَّدت عليه الفرق العسكرية وأطيح به ليحلَّ محلَّه أوتون، السابع من حيث التعداد... أما الثامن، فنستنتج من "حساب الجُمَّل" للرقم 666 أنه كان:

ن = 50، ر = 200، و= 6، ن = 50 (50 + 200 + 6 = 306)، و...

ق = 100، ص = 60، ر = 200 (100 + 60 + 200 = 360)، أي...

306 + 360 = 666

 التي تعني "نرون قصر" أو القيصر نيرون... والمتداول آنذاك، من خلال تلك الفوضى التي رافقت الإطاحة بنيرون وهربه والتمرد على غالبا، كان أن نيرون لم يمت وأنه قد التجأ إلى الفرس..."

وهذا التفسير الصحيح لبعض ما جاء في رؤيا يوحنا إنما يستند إلى ما يدعونه في القباله بالجماتريا (الجُمَّل، بالعربية)، حيث تستعمل الحروف كأرقام، وحيث لكل حرف رقمه. ولكن...

إن لم يكن إنجلز وسواه من أصحاب المدرسة التاريخية التحليلية المادية مخطئين في تحليلاتهم وشروحهم لظروف نشوء المسيحية من قلب العالم الروماني المنحط واليهودية المشتتة فإن ما لم يكن بوسعهم التوصل إليه كان هو الأهم... والأهم، من وجهة نظر منطقهم المادي، قد يكون ذلك التساؤل المتعلق بعدم تعرُّض كتب المسيحية الأخرى لظروف تلك الأيام أن تلك الكتب دُوِّنت أو نُقِّحَت في ظروف لاحقة، أي في ظروف كانت المسيحية فيها قد تمايزت عن اليهودية وأضحت من حيث دعواها موجهة لسواها. وهذا ممكن جدا،ً ولكن ليس هذا أيضاً بالأهم...

فالأهم يبقى، من منظوري، هو الجوهر...

والجوهر وحده بوسعه أن يشرح لنا سرّ تلك العلاقة التي أضحت شاذة بين المسيحية وأصولها اليهودية، أولاً. ثم، من خلال تفهم ذلك السرّ أو، ربما، من خلال الحدس أو المعرفة، تفسير ذلك الأهم المتعلق بـ"تسليم" يهودا للمسيح، ورمزية الصلب والقيامة، إلخ... وأخيراً – ربما – ذلك المتعلق بتجسد "يسوع ابن الإنسان" من خلال الصلب إلهاً...

ولفهم جوهر المسيحية ليس من طريق استحوذ عليَّ كـ...

(6)

طريق الغنوص...

والغنوص هو معرفة الحقيقة، وهو السراط المستقيم الواصل ابن المعرفة إليك...

يسوع، يا مسيحي...

آه... كم صادفت خلال حياتي هذه أناساً يدَّعون الانتساب إلى هذا الطريق، وكم استمعت غلى أقوالهم، لأجد نفسي مراوحاً مكاني في النهاية، حزين القلب وحيداً...

يسوع، يا مسيحي...

كم صادفت أناساً يتعاملون مع الغنوص كـ"ظاهرة تاريخية" مضت، بكل حياد... وكأن الغنوص مجرَّد ظاهرة، وكأنه مضى، أو كأنه يمكن للعارف التعامل معه بحياد...

إنهم "يتلاعبون" مع الغنوص... كأصحاب ذلك المنطق المادي الذي أضحى اليوم شائعاً...

ذلك أن الغنوص، ككل شيء في هذه الحياة، يضعنا أمام خيارين. الخيار الأول هو ذلك السائد والقاضي بالتعامل معه، ربما، كمجرد ظاهرة تاريخية. عندها، لن نكتشف، مهما سعينا، ذلك السرّ المختبئ في الأعماق، ولن نرى من "رؤيا يوحنا"، مثلاً، سوى ذلك التفسير القبالي الظاهر لحدث تاريخي مضى، وسنبقى عاجزين عن الكشف عن ذلك السرّ الأعمق من خلاله، ذلك الذي على لسان صاحبه يقول مثلاً: "... رأيت ملاكاً هابطاً من السماء ومعه مفتاح الهاوية وبيده سلسلة عظيمة فقبض على التنين الحيَّة القديمة الذي هو إبليس والشيطان وقيَّده ألف سنة وطرحه في الهاوية وأقفل خاتماً عليه لئلا يضل الأمم بعد إلى تمام الألف سنة وبعد ذلك سيُحَلُّ زماناً يسيراً..." (رؤيا يوحنا 20: 1-3). لن نستطيع أن نفهم إن لم يكن طريقنا هو الثاني الذي يجعل منا أبناء للمعرفة، إن لم نقل أبناء للغنوص...

في الحالة الأولى، نقف أمام النهر نراقب سير التيار من عَلُ وما على سطحه من خبث. أما في الحالة الثانية، وقد التزمناه وأضحى مسارنا في هذه الحياة، سرعان ما نكتشف أننا قد ألقينا بنفسنا في الماء مع ذلك التيار الذي سيقودنا إلى حيث يقودنا إليه...

في الحالة الأولى، نحافظ على ذاتنا ههنا سالمة. أما في الحالة الثانية، فتجرفنا الأعماق ونلج الجحيم...

V. I. T. R. I. O. L.

"قم بزيارة باطن الأرض، مصحِّحاً باستمرار مسارك، فتجد حجر الحكمة المستورة..."

 

ونصبح، من خلال المعرفة، وحيدين ومحارَبين... كما كنت ههنا، أنت أيضاً، وحيداً ومحارباً...

آه... يسوع، يا مسيحي.

والغنوص علَّمنا أن "باطن الأرض" هو أعماق النفس والجحيم، لأننا نلجها دائماً كلٌّ بمفرده، وبسبب أنانيتنا التي لم نتجاوزها بعد... هو تلك المراجعة الدائمة...

ونعدِّل مسارنا ممزقين وحيدين... ونفهم، من خلال الغنوص، أن علينا تعديله باستمرار... حتى النهاية... لنصل إلى حكمتك المستورة...

آه... يسوع، يا إلهي...

وقد ضللنا الطريق إليك دائماً – وبإصرار – فكنت دائماً في المقابل وستبقى أبداً "غفوراً رحيماً..."

لقد باتت قناعتي، وقد عارضتُ التيار السائد طوال حياتي، أنه ما كان لهذا الإلحاد المعلن، ولا لتلك المادية الرافضة بحق لما أضحى فعلاً "أفيون الشعوب"، أن يوجدا لولا جهالتنا. ولكن...

"... لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض..."

ويعيد الشيوعي السابق النظر فيما كان حتى الأمس مساره وهدفه.

والهدف الذي كان يفترض أن يكون طريقنا ههنا إلى "المسيحية" لم يكن خطأ. ولكن، وقد أضحى من خلال ماديَّته لا يسعى إلا إلى السيطرة على الحاضر ليتملَّك ما يفترضه مستقبلاً، قد ضلَّ الطريق كسواه، على يد أبنائه... أولئك الذين سرعان ما أضاعوا الهدف وأضحى مسارهم الذي حلَّ محلَّه طريق أصحابه إلى الجحيم من خلال ذلك العالم المادي الذي يدَّعون الانتساب إليه. لقد سخَّروا كل شيء من أجل الطريق ونسوا ما هو الهدف... نسوا ما كان عليهم تغييره من حيث الجوهر والكامن في أعماق نفوسهم. وانقطعوا عن الأصول...

ويجبرني الغنوص، من خلال الذات، على تعديل مساري... وسيبقى يجبرني على ذلك حتى النهاية... فمن خلال ذلك الصراع الدائم، المستمر في الأعماق، نعيش جحيمنا الأرضي الذي هو هو الطريق إلى النعيم. لأنه هنا، في هذه الحياة، يجب علينا أن ندفع ثمن معرفتنا بمفردنا وأن نحترق من أجل الآخرين، أيضاً بمفردنا...

والوحدة هي الثمن الأول الذي يجب أن ندفعه ههنا حين نسعى إلى الحقيقة من خلال المعرفة وذاتنا كـ"... أبناء للإنسان..."      

فـ"... الثعالب لها أوكارها والطيور لها أعشاشها؛ لكن ليس لابن الإنسان مكان يحني فيه رأسه ويرتاح..." (إنجيل توما 86)

ويبقى قولك هو البلسم أيها المسيح إلهنا...

أنْ "... طوبى للمتوحدين والمختارين، لأنكم تجدون الملكوت! لأنكم منبثقون عنه، وستعودون إليه مجدداً.." (إنجيل توما 54)

وأتابع مع الغنوص الذي يقودني، ضمن سياق البحث، إلى...

(7)

المسيح الرمز...

(7 – 1)

والرمز، كما تقول آني بيزنت، "... أصدق من التاريخ... لأن التاريخ لا يعطينا سوى قصة أشباح مضت... أما الرمز فيعطينا قصة الجوهر الذي صُنِعت منه تلك الأشباح. ولغته هي من خلال صوره..."

والرمز الأساسي في المسيحية هو ألوهة "ابن الإنسان" يسوع، حيث، كما قال فيرجيل:

... جاء ذلك الزمان الذي تنبأت به عرافة كوماي

فقد عاد مرة أخرى النظام العظيم للأزمنة السالفة

وعادت العذراء ومعها عصر ساتورنوس

ومن أعالي السماء هبط عرق إنساني جديد

ذلك الطفل الذي سيلغي بولادته زمن الحديد

ويعيد العصر الذهبي للعالم أجمع...

ورمز المسيح كان ذلك المنبثق حتماً من قلب ذلك الذي "... رؤس عند الله..." (تكوين 32: 28) أي يعقوب أو إسرائيل...

لأنه، كما كانت حتمية تاريخ روما في حينه مؤدية إلى قيصر، أي كما تمخضت روما، من خلال انتصارها، عن قيصريَّتها، كذلك، كان محتماً أن يتمخض إسرائيل، من خلال هزيمته، عن مسيحيَّتها...

ولأن المسيح هو من قلب إسرائيل، وهو مليكه المفترض، فقد كان طبيعياً جداً أن يكون "... ابن داود ابن إبراهيم..." (إنجيل متى 1: 1) ومن "... سبط يهودا..." الذي "... يداه تقاتلان لنفسه..." (تثنية الاشتراع 33: 7) تحديداً...

ولذلك أيضاً، كان من الطبيعي للغاية أن يتخطى "يهودا"، كما جاء على لسانه: "إن السبت جُعِل للإنسان، وما جُعِل الإنسان للسبت. فابن الإنسان سيد السبت أيضاً." (مرقس 2: 28)

ونتابع مع ذاك الرمز القائل إنه لما كان المسيح هو الإله فقد كان طبيعياً أن يولد (والإله لا يولد) من "... العذراء مريم... الـ... ممتلئة نعمة والمباركة بين النساء..." (إنجيل لوقا 1: 27-28)

واسم مريم قد يكون مجرد اسم. وقد يعني، منبثقاً من حرفه الأول، الميم، /موت/ المصرية أو إيزيس العذراء وأم الإله معاً...

وأم المسيح الحقيقية هي "... تلك التي وهبته الحياة..." (إنجيل توما 101) وهو، وقد عرف أباه وأمه، هل ندعوه بـ"... ابن الزانية..." (إنجيل توما 105)

ثم إن المسيح أيضاً، كما جاء في كتاب أخنوخ (إدريس)، "... كان ابن الإنسان منذ البدء [و] سراً حفظه ربُّ الأعالي في مجده ولم يظهره إلا لمختاريه..."

ولأنه هو الإله وابن الإنسان معاً، فقد كان طبيعياً أن تعلن السماء عن ميلاده، وأن يتلقفه منذ البداية رسل الحكمة من المسارَرين شرقاً. وهذا ما ترمز إليه أسطورة المجوس التي ارتبطت بميلاده...

و"ابن الإنسان" كان ذاك الذي عمَّده يوحنا المعمدان "... بالماء... [ذاك]... الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمِّد بالروح القدس." (إنجيل يوحنا 1: 33) وأيضاً...

ذاك الذي تجسَّد إلهاً على الجبل مع من تفترضهم الأناجيل والعامَّة رسله المقربين: يعقوب وبطرس ويوحنا – الأمر الذي قد يعني، رمزاً – ويعقوب هو اليمُّ أو الماء، وبطرس هو الصخرة أو الأرض، ويوحنا هو الروح – أن يسوع الذي هو العنصر الرابع، أي النار أو الحياة قد تجسد إلهاً من خلال المكونات الأربعة...

ورسالته كانت تلك التي وصلتنا معلنة من خلال دعوته وتمَّ تلخيصها في خطبة الجبل. أما حياته، فقد كانت رمزاً، تلك التي عبَّر عنها إنجيل متى ببلاغة من خلال التجربة حين "أخرج يسوع إلى البرِّية من الروح ليجرِّبه إبليس. فصام أربعين يوماً وأربعين ليلة وأخيراً جاع. فدنا المجرِّب ولم ينجح بإغرائه..." (إنجيل متى 4: 1-3) فالتجربة في حياة "ابن الإنسان" هي تلك الأزمة الكبرى المؤدية من خلال مرارتها إلى الحقيقة. تلك اللحظة التي تستيقظ فيها من أعماق وعينا هذه الشرارة التي تصلنا بالروح الحية للأشياء...

وذروة حياته على هذه الأرض كانت ذلك العرس في قانا الجليل. وذروة حياتنا ههنا هي في تواصلنا بمن نحب. ومن أحب في هذه الحياة كانت "زوجه" التي لم تذكرها الأناجيل، ولم تنفها وجودها أيضاً، و... أمه وأصدقاءه وتلاميذه الذين رافقوه. ومن نحب في هذه الحياة هم أهلنا وأصدقاؤنا. والحكمة أنه حين "... فرغت الخمر [و] قالت أم يسوع أن ليس لهم خمر..." وبعد أن ذاق رئيس المتَّكأ الماء التي حُوِّلت إلى خمر، دعا العريس (الذي تشير كل الدلائل أنه يسوع) وقال له: "... كل إنسان إنما يأتي بالخمر الجيدة أولاً فإذا سكروا فعند ذلك يأتي بالدون ..." (إنجيل يوحنا، 2: 2-10) أما هو، وقد أسكرهم بخمرة محبته، فقد "... أبقى الخمرة الجيدة إلى..." حين أتت الساعة...

ونتابع حالمين، من خلال الرمز، فنتوقف قليلاً أمام ذلك المتمثل برسل المسيح عامة، ويهودا من بينهم خاصة، وأن...

(7 – 2)

عدد الرسل كان كالأسباط رمزاً، أي إثني عشر هم: "... سمعان الذي يقال له بطرس وأندراوس أخوه، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه، فيليبوس وبرتالماوس، توما ومتى العشَّار، يعقوب بن حلفى ولباوس الملقب تداوس، سمعان القانوني ويهوذا الإسخريوطي الذي سلَّمه..." (إنجيل متى 10: 2-4) أما فعلاً، ومن خلال مقارنة دقيقة للأناجيل بعضها ببعض، فقد يتجاوز عددهم هذا العدد.

ورمز الإثني عشر، بحسب الفيدا (أسفار الحكمة الهندية) هو: النار، الشمس، منبع الحكمة الكونية، الكائنات الحيَّة، الأثير المادي، الموت أو شيفا، الأرض، السماء، النار الإلهية، الشمس المخفية، العقل، وأخيراً، ذلك المسار اللولبي اللامتناهي وغير المحدود.

والرمز، من خلال الأناجيل، يقول مثلاً إن اسم متى هو لاوي، واللاوي هو الكاهن وهو الشرع. والإنجيل الذي يُنسَب إليه في الشرع المسيحي هو ذلك الأقرب إلى الشرع مفهوماً...

والرمز من خلال يوحنا هو بنيامين. وبنيامين هو أصغر الإثني عشر ورمز المحبة. والإنجيل الذي يُنسَب إليه هو أكثر الأناجيل سرَّانية. ويمكن أن يطلق عليه اسم "إنجيل المحبة".

واسم بطرس هو قفا، أي الصخرة. وأيضاً وخاصة...

فإن اسم توما أو التوأم، بحسب إنجيل يوحنا، هو يهوذا، بحسب إنجيل توما، أو التوأم. ورمز يهودا بين الأسباط هو الأسد الذي قال عنه الربُّ في إنجيل توما تحديداً أنْ "... طوبى لذلك الأسد الذي يأكله الإنسان بحيث يصبح الأسد إنساناً. إنما ملعون الإنسان الذي يأكله الأسد بحيث يصبح الأسد إنساناً..." (إنجيل توما 7)

ويهوذا كان أيضاً الإسخريوطي وخازن الجماعة الذي سلَّم يسوع. وأيضاً، كان ذلك الآخر الذي لا نعلم عنه شيئاً سوى أنه "... ليس الإسخريوطي..."، كما ورد في إنجيل يوحنا، الذي لم يرد اسمه سابقاً ضمن تعداد الإثني عشر... وأيضاً وخاصة...

من يهودا الذي "... بيديه يقاتل لنفسه..." (تثنية الاشتراع 33: 7) كان المسيح يسوع (ملك اليهود)...

ويدفعني الغنوص والحدس إلى العودة والتمعُّن في أكثر الأناجيل سرَّانية. ذلك المنحول الذي تمَّ اكتشافه في نجع حمادي في مصر، والمعروف بإنجيل يهودا توما أو التوأم. وأتوقف أمام القولين التاليين:

القول 13: "نعلم أنك ستغادرنا. من فوقنا، يكون إذ ذاك الأكبر؟" قال لهم يسوع: "حيثما تذهبون تمضون إلى يعقوب البار من أجله صنعت السماء كما الأرض."

القول 14: قال يسوع لتلاميذه: "قارنوني وقولوا لي من أشبه." قال له سمعان بطرس: "أنت تشبه ملاكاً باراً!" وقال له متى:"أنت تشبه رجلاً حكيماً وفيلسوفاً!" وقال له توما: "يا معلِّم، من تشبه، لأقول لك ذلك، إن وجهي لا يتمكن إطلاقاً من إدراك ذلك." قال يسوع: "لست معلِّمك! لأنك شربت من النبع الفوار الذي فيَّ والذي أرقته." ثم أمسك به وتنحَّى جانباً. قال له ثلاث كلمات. وعندما عاد توما نحو رفاقه سألوه: "ماذا قال لك يسوع؟" فأجابهم توما: "إن قلت لكم واحدة من الكلمات التي قالها لي، تتناولون حجارة وتقذفونني بها، وتخرج نار من الحجارة وتحرقكم!"

فأتأمل من خلال القول الأول كيف تنعكس الشريعة، كممكن، على مستوى أناسها؛ ومن خلال القول الثاني، ما وراء حجاب الشرع الكثيف، كيف تنجلي الحقيقة لأبنائها. وأتلمَّس أن مفتاح ذلك السرّ العظيم كان ولم يزل يتلخص ربما في تلك التساؤلات التي تهرَّب منها الجميع ولم يزل: ماذا لو كان يهودا فعلاً توأم المسيح؟ وماذا قال الإله لتوأمه ولن يفهمه الآخرون؟

وأعود مرة أخرى إلى ذلك التيار...

(7 – 3)

الذي يجرفني إلى حيث أعلم أني يجب أن أصل، والذي يعلِّمني، قبل كل شيء، فهم التضاد. وأنا مقتنع أن لا تضاد في الجوهر. فالجوهر هو الحقيقة... وهو الألوهة... هو، كما قال النفَّري العظيم ذات يوم: "... يا عبد إذا رأيتني في الضدَّين رؤية واحدة فقد اصطفيتك لنفسي..."

وأعود إلى الغنوص الذي لم أجد طريقاً سواه، وأتأمل فيما قاله يوماً الكاتب كارلو سواريث في مؤلفه مذكرات حول عودة الرابي المدعو يسوع على لسان الملك المجوسي بلطشصر: "... لا يمكن التمييز بينهما في النهاية. فقد انتصر يسوع الذي هو إسرائيل. وحصل أكبر حدث شهده تاريخ البشر. فيسوع ويهودا واحد..." وابن الغنوص يفهم تماماً، مع كارلو سواريث، ومع سواه، "... أن البنَّاء هو في الوقت نفسه المدمِّر. وأنه، حين يحلُّ روح الحق، يختفي الإله ويختفي الشيطان معه." وأحاول، من خلال الغنوص، تجاوز مادية ذلك المنطق المادي الجدلي الذي رافقني كالصليب طوال حياتي...

وأفكر في...

(8)

كيف ولدت المسيحية؟

فأستعيد بإيجاز، من خلال ربط الحدث بالأسطورة، مجمل ما أوردنا من معطيات، تاركاً بعض المجال للحدس... لأنه، في هذا المجال تحديداً، لا يمكن الاكتفاء بالمنطق المادي الذي سرعان ما يقود إلى الضلال.

وأفكر أن الحقيقة، حين تنتقل من خلال نسبية الأشياء، لا تبقى على حالها، إنما تتشوَّه أحداثها مع الزمن الإنساني. ولكن الطريف أن ما يصحح الفهم التاريخي، كمنطق أقرب إلى الحكمة الإلهية، هو الأسطورة التي باتت اليوم محتقرة.

وأبدأ مرة بما يفترض أنه المحصِّلة، وأقصد بدء الرسالة المسيحية...

حيث يؤكد حدث تلك الأيام وجود رسل للمسيح قاموا من قلب اليهودية المنهارة بنشر الرسالة لأبنائها، وللأمم. فالحدث، في حينه، يؤكد وجود بولس ووجود أتباع ليسوا بالقلائل للمخلِّص في المنطقة، إن لم نتكلم على وجود كنائس في السنوات الخمسين الأُوَل للتقويم المسيحي.

ويؤكد الحدث انعقاد مجمع لأتباع ذلك المخلص في العام 49 للميلاد. ويؤكد كذلك مقتل استفانوس رجماً أمام عيني بولس الذي لم يكن بعد قد اهتدى.

 وأتوقف قليلاً أمام مجمع أورشليم الذي انعقد آنذاك، حيث كان قرارهم الأساسي، كما سبق وأشرنا، على لسان يعقوب أخو الرب: ".. ألا يُثقَل على من يرجع إلى الله من الأمم..." وأن يكلَّف بولس بـ"... إنجيل القلف (كما اؤتُمِن بطرس على الختان)..." – الأمر يؤكد أن هؤلاء الرسل، الذين كانوا ما يزالون في حينه يعتبرون أنفسهم يهوداً، قد قرروا نشر مسيحيَّتهم، إن لم نقل فَهْمَهُم لدينهم، بين الأمم، ولأبنائه الضالين. والمرجع هنا هو أعمال الرسل الذي يُنسَب للوقا، تلميذ بولس...

وأعمال الرسل، الذي هو أصدق تأريخ بلغة زمانه لكنيسة تلك الأيام، يحدثنا بإسهاب عن أولئك الذين خرجوا من قلب اليهودية وأضحوا المسيحيين الأوائل، لكنه لا يتعرض فعلاً لدمار أورشليم في العام 69 للميلاد على يد تيتوس ولا لتشتيت اليهود بين الأمم. كذلك، لم تتعرض الأناجيل لهذا الحدث الهام جداً الذي تؤكده بشكل رمزي، كما سبق وبينَّا، رؤيا يوحنا...

وهؤلاء المسيحيين الأوائل كانوا ما يزالون يعتبرون أنفسهم ويُعتبَرون يهوداً. وأي يهودي، بربِّكم، كان بوسعه تجاهُل الحدث الذي ذهب بأورشليم وهيكلها وشتَّت أبناءها؟ وخاصة أن تلك الكتب قد وُضِعَت، كما أضحى اليوم ثابتاً، بعد الحدث وفي زمن كان ما زال هذا الأخير ساخناً (أقصد لا يمكن تجاهله)، ومن قبل أناس، إن افترضنا أنهم الرسل أو استمراريَّتهم، كانوا، قبل سواهم، في قلب ذلك الحدث. وأتعمق قليلاً في...

تلك الأناجيل الأربعة للشريعة المسيحية (مرقس، متى، لوقا ويوحنا)، فألاحظ أنها تتحدث عن هؤلاء الرسل الذين حضروا مجمع أورشليم وكأنهم رافقوا المخلِّص خلال حياته العلنية حتى صلبه وقيامته، وعن ذلك الذي كان معلِّمهم المباشر: "المسيح"! وأسجل أن...

بولس الذي حضر المجمع معهم، وكان من أهمِّهم، لا يتحدث من خلال رسائله إلا عن مسيح رمزي وسرَّاني، ولا يذكر بشكل مطلق ذلك الأرضي الذي يفترض أنه كان في حينه المعلِّم المباشر لرفاقه – الأمر الذي قد يطرح ظلالاً من شك على "واقعية" ذلك المعلِّم الذي لم تتعرض له كتب التاريخ العائدة لتلك الأيام...

ذلك التاريخ الذي يتحدث في كتب أخرى عن هيرودوس أنتيباس وعن بيلاطوس البنطي. فقد وجد الاثنان فعلاً؛ وهذا مثبت تاريخياً ولا يناقَش، كما نوقش ومازال وسيبقى يناقش وجود السيد المسيح. وأفكر أن هذا أمر طبيعي. فالتوافه التي هي الواقع اليومي لكل زمان ومكان لا تستحق النقاش...

ذلك التاريخ الذي يحدثنا أيضاً عن يهودية متمردة على روما التي كانت بلغت في حينه ذروة عظمتها المادية كما بلغت ذروة انحلالها... وعن أحزاب يهودية سعت، من خلال العنف الذي اعتبرته طريقاً حقاً، إلى مجابهة مدنيَّتها السائدة، وكيف كانت النتيجة اجتياح "مدينة السلام" التي سادها منطق الحرب، أورشليم تلك الأيام، على يد تيتوس، وكيف كان تدمير الهيكل، وتشتيت اليهودية في كل أصقاع المعمورة...

وأحلم أنه في تلك الأيام، ربما، قرر بعضهم من "أهل المعرفة"، من اليهودية ومن سواها، ممَّن أحس بعمق الأزمة الإنسانية القائمة وبالكارثة المحققة القادمة، الوقوف في وجه التيار المؤدي، من خلال المنطق المادي لبشرية ذلك العصر الحديدي، بتلك البشرية إلى الهلاك...

وأتخيل كيف فهم هؤلاء من أهل المعرفة أنه كان على يهودا الأرضي، من خلال تلك المعركة الأرضية غير المتكافئة أن يُقتَل، وأن يُنثَر رمادُه كالبذار بين الأشواك...

وكيف فهم أيضاً أنه كان عليه ألا يموت، إن لم نقل أن يعود إلى الحياة من جديد، وبشكل جديد، وأن يستمر... وأيضاً...

أفكر أن كل الدلائل تقول أن معلِّماً لرسلنا هو المسيح و/أو توأمه قد وُجِد فعلاً في حينه بينهم لدى نهاية السنوات الثلاثين الأُوَل للمسيحية، وأن هؤلاء الرسل قد أقرُّوا بألوهة صاحب تلك التعاليم التي أقرَّ بها بولس أيضاً. فصدقت الأناجيل، و...

أتعمق في التفكير، انطلاقاً من ذلك المنطق الذي بتُّ مقتنعاً به، القائل إن لا تناقض في الجوهر، فأرى أن من الممكن جداً أن لا يكون هذا المعلِّم فقط كما صورته الأسطورة المسيحية، إنما، ربما أيضاً، كما سبق وبينَّا، قبل مئة وخمسين عاماً من مجمع أورشليم، ذلك الذي ولد من أب اسمه بانديرا أيام الملك ألكسندر ياني وزوجه صالومه، الذي يقال إنه درس السحر في مصر، ومارسه، ثم حُكِم عليه بالموت وصُلِب عشية الفصح لأنه، كما قيل أيضاً، "سرق اسم الله من الهيكل"، كما قال بعضهم في اليهودية. و/أو – والله أعلم – ...

أن من وُجِد فعلاً كان أخيراً من قلب تلك الفئة السرَّانية التي آمنت أكثر من سواها... "معلِّم البرّ" الغامض ذاك الذي كان يدعى أيضاً بالمسيح والذي قُتِل وآمن أصحابه أنه سيعود إليهم في نهاية الأزمنة...

الأمر الذي قد يعني، باختصار، أن من وجد حقيقة، خلال مئة وخمسين عاماً كان عدة مسارَرين، تجسَّد الرمز من خلالهم... مما أدى، في تلك الأيام المظلمة، ومن قلب اليهودية المنهارة، إلى نمو وترعرع رمز... أضحى، من خلال معرفة بعضهم المختار، أولاً، وصدق إيمان بعضهم الآخر، ثانياً، ضرورة... ويعني أن تلك الضرورة قد تجسدت واقعاً...

وأكتفي بهذا القدر الذي يقول أيضاً، من خلال ما ألمحنا إليه من رموز، أن الأناجيل لم تُغفِل ما حدث في حينه، وأقصد دمار أورشليم وتشتيت اليهودية... فهذا كان رمزاً، من منظوري، إلى صلب المسيح...

والأسطورة تقول إنه حين صُلِب المسيح، علًّق بيلاطوس على صليبه أربعة أحرف هي باللاتينية INRI، أي "يسوع الناصري ملك اليهود"... أو من خلال الأحرف نفسها، وقد حُوِّلت إلى العبرية، I أو يـ[ـم]، أي الماء، N أو نـ[ـور]، أي النار، R أو ر[وح]، أي الهواء، و I أي يـ[ـابسة]، أي التراب، العودة مجدداً إلى العناصر الأربعة...

آه... يسوع، يا مسيحي...

وقد مرَّ عشرون قرناً ولم نزل على جهالتنا... يا إلهي...

وما كان ما حصل خلالها من مآسٍ ليحصل لولا تلك الجهالة... ولكن...

"... لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض..." – أن تشرب إنسانيتنا الكأس المريرة كاملة، حتى الثمالة، لتصل إلى حكمتك المستورة...

وتلك لا يمكن ولوجها ما لم نتلمَّس ولو بعض الشيء، ربما، طبيعة ما نعبِّر عنه بـ...

(9)

المسيح الإله

فنتوقف، وقد "... لامسنا هنا (كما تقول محقة آني بيزنت) أحد أهم جوانب القصة المسيحية. هذه القصة التي أسرت حقاً قلوب البشر، فجعلتهم أقرب من البوابة التي تحتجب خلفها تلك التي يمكن أن نكشف من خلالها جانباً من نقاب..." إيزيس العذراء وأم الإله...

وأول تلك الأسرار، على صعيدنا، وآخرها قد يكون، أن كل إنسان هو من حيث الماهية، مسيح بالقوة، أو لنقل، أن في قلب كل إنسان، ومن خلال روحه وعقله، توجد بذرة من ألوهة. وتلك حقيقة في غاية القداسة...

لذلك ترانا نتحدث هنا عن سرَّانية معينة، لأن المقصود هو أقدس ما في المسيحية وفي سواها، ذلك الأعمق فلسفياً، الذي هو جوهر المعرفة، ولا يمكن إلقاءه للخنازير.

والبذرة الإلهية الكامنة في قلب كل إنسان هي الكلمة، أي المسيح...

وهي تتجلَّى وتنمو بأشكال لامتناهية التنوع، كتنوع البشر، من خلال الواعية والقلب عند المريد، ومن خلال الخافية والقلب أيضاً عند من لم يعِ بعد تلك الحقيقة وكان في الوقت نفسه إنساناً صالحاً.

فلما كان المريد هو ذلك التائق دوماً إلى المزيد، ولما كانت الألوهة لامتناهية، نراه، انطلاقاً من قلبه الصافي وعقله النيِّر، دائم السعي إلى ذلك النور في أعماقه الذي يعلم قبل سواه أنه لا يستطيع ولوجه كاملاً، فتكون حياته هي ذلك "الصراط المستقيم" المؤدي إلى "درب الصليب"، من خلال المعرفة الحقَّة، أي الغنوص؛ فيتعلَّم كيف يميِّز دائماً "القشر" من "اللب"، ومن خلال ذلك، يتولد في نفسه ذلك القرف أو الكره لكل ما يبعده عن طريق المحبة... وأيضاً...

يتعلَّم التحمُّل والصبر... فحياتنا هنا صعبة وشائكة... و...

يتعلَّم التسامح والمحبة، ومن خلالهما، الإيمان والتوازن؛ وينفتح أمامه درب لامتناهٍ يسعى من خلاله إلى الأعالي... وأيضاً...

لما كان الإنسان الصالح، أياً كانت قناعاته الأرضية، هو ذلك التائق دائماً إلى الخير، حتى وإن لم يعِ تماماً حقيقة تلك الألوهة الكامنة في أعماقه، فإننا نراه، انطلاقاً من قلبه الصافي وعقله النيِّر، دائم السعي إلى خدمة الآخرين، دون أن يطمع في أي مقابل، فتكون حياته أيضاً ذلك الصراط الآخر المؤدي به، هو أيضاً، إلى درب الصليب من خلال قلبه. تعلِّمه الحياة كيف يسيطر على أفكاره ومشاعره، وبالتالي، من خلالها، كيف يسيطر على أفعاله، وكيف يجابه الشر ويبعده عن تفكيره... و...

الأمر الذي يعني حقاً، أن لا نهاية لدروب الألوهة. فعدد الآلهة، كما تقول هيلينا ب. بلافاتسكي، لا متناهٍ، وإن يكن الجوهر واحد في النهاية، و"الطرق إلى الله كنفوس بني آدم"، كما تقول الصوفية.

يا إلهي...

وقد بلغت ذلك الحد الذي أقف أمامه عاجزاً، كيف أعبِّر عن حقيقتك التي في كل مكان عموماً، وفي أعماقنا تحديداً؟!

وقد لقَّنونا دائماً أننا لاشيء... أننا مجرَّد غبار لا يُذكَر من محيطك اللامتناهي.

ونحن نقرُّ حين نتأمل ما يمكننا تلمُّسه من الخليقة أن هذا صحيح... ولكن...

من خلالك، أيها المسيح الإله، فَهِمْنا أننا لسنا مجرَّد غبار... إنما نحن، بكل تواضع، غبار يفكِّر ويحلم ويحب ويتألم... غبار نعم... ولكن، ربما، غبار نجوم لا تنطفئ، إن لم نقل غبار ألوهة...

فهذا الحب في قلوبنا، هذا الفكر، تلك السعادة وهذا الألم، هو أنت، أولاً وأخيراً، أيها المسيح إلهنا...

ويقول بعضهم من أبناء الروح (أو لنقل المادة اللطيفة) أن كل شيء ينبع من تلك الروح التي لا يفقهونها، فيجيبهم بعضهم الآخر من أبناء الروح الكثيفة (أو المادة) أن لا... فكل شيء يعود إلى تلك المادة التي ليس بوسعهم إدراك ماهية جوهرها.

ذلك الذي ولَّد العدد من الواحد، والواحد من الصفر.

ذاك الذي من مسيرة الجماد ولّد الحياة... ومن الحياة وتفاعلاتها العشوائية ولَّد النظام... وخلق على صورته ذلك الإنسان الذي كان ولم يزل "..خصيمـ[ـه] [الـ]ـمبين..."

وأحلم أنه، على صعيدنا، مع تلك اللحظة التي رافقت ذلك الانفطار البدئي، مع بدء تشكل كوننا المادي وتمايزه عن العدم، كانت الروح من قلب المادة تحدد مسارها نحو الحياة كما يجب أن تكون... فـ...

"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والكلمة كان هو الله..." (إنجيل يوحنا، 1) و...

"في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية على وجه الغمر ظلام وروح الله يرف على وجه المياه... وفصل الله بين النور والظلام..." (سفر التكوين 1: 1-4) وكانت تلك المسيرة اللولبية المتصاعدة التي أدَّت إلى ذلك "... الإنسان (الذي خلقه الله على صورته) ذكراً وأنثى..." (سفر التكوين 1: 27)

وكانت عودة المادة إلى أصولها من خلال المعرفة – وذاك الذي لم يتعرَّف بعد على حقيقته سيظل "يصارعها" من خلال الخطيئة والألم – التي هي درب الصليب، ومشيئة الألوهة وحكمتها التي لم ندركها بعد...

وأحلم بتلك المسيرة التي هي مسيرة الإنسانية عموماً، وكلٌّ من أبنائها الذين بدأت تتكشف لهم الحقيقة من خلال الغنوص تحديداً...

حين يعي الإنسان في البدء، وللمرة الأولى في نفسه، فيض تلك المحبة التي تجعله يتواصل مع كل شيء حي... يكون الميلاد... و...

حين تنمو لديه من خلال قلبه الصافي ومحبته تلك المعارف التي تجعل منه بالنسبة لإخوانه ذلك المعلِّم الذي يوجِّههم بمحبته إلى الصراط المستقيم، وحين تترسخ لديه، نتيجة لذلك، تلك الإرادة التي تجعله قادراً على مواجهة الأعماق في سبيلهم، تكون المعمودية الأولى بالماء والروح، وتعرُّف الإله على "... ابنه الحبيب..." (إنجيل متى 17: 5)

وتكون الرسالة التي هي الحياة في العلن من خلال المحبة والتفاني في سبيل الحقّ من خلال البشر هي التجربة وتجسُّد الروح في المادة...

وتصل تلك الحياة الإنسانية إلى ذروتها من خلال المحبين والأتباع الذين استوعبوا الحكمة في قلوبهم وعقولهم. فيكون دخول المدينة المقدَّسة والعاهرة معاً، وبداية مسيرة الصليب التي يتحتم على ابن الإنسان أن يجابهها ههنا من خلال الجهالة والمادة المسيطرة. فيكون الألم، والوحدة، والصلب، والموت، وولوج أعماق الجحيم... ولكن...

وهو يعلم أنه ابن الله والإنسان معاً، فإن القيامة، بعد انقضاء لياليه الثلاث، هي حتماً النهاية، وانبثاق الوردة من الصليب، وتحقق الحكمة المستورة...

*** *** ***

 

المراجع:

-         الكتاب المقدس، العهد القديم والعهد الجديد

-         القرآن الكريم

-         إنجيل توما

-          La Doctrine Secrète, H. P. Blavatsky

-          Isis Dévoilée, H. P. Blavatsky

-          Esoteric Christianity, Annie Besant

-          Le Sentier du Disciple, Annie Besant

-          Jésus et la Gnose, Emile Gillabert

-          Judas traître ou Initié, Emile Gillabert

-          L’homme qui devint Dieu (Tomes 1, 2, 3), Gerald Messadié

-          The Christ Life from Nativity to Ascension, Geoffrey Hodson

-         Les Grands Initiés, Edouard Schuré

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود