فلسفة الألم

 

ندره اليازجي

 

البحث في الألم بحث في الغبطة. إنه غوص إلى أعماق الوجود لإدراك حقيقة الإيجاب والسلب، حقيقة الخير وانعدامه. ولما كان موضوعنا هذا يطرح واقع العالم، واقع الكون والإنسان، فإننا نتساءل عن حقيقة هذا الواقع، أهو ألم غبطة؟

كل ما في الوجود ألم وكل ما في الوجود غبطة، إنه ألم الغبطة. فكيف يكون الوجود الأرضي ألماً يشتمل على الغبطة؟ وكيف يكون سلباً يحتوي الإيجاب؟

إذا كان واقع الإنسان يشير إلى الألم، فإن وجوده يثير موضوع غايته. فما الغاية من وجود الإنسان؟ أهي تحمل الألم أم هي غبطة الوجود؟ ألا تشير غاية الإنسان إلى تحقيق الغبطة من خلال الألم؟

قبل أن نطرح موضوعنا في كلِّية أبعاده، يجب علينا دراسة عناصره الرئيسية. فلنقسمها من أجل ذلك إلى ستة عناصر رئيسية:

الألم السلبي

الألم الوجودي

الألم الرومانسي

الألم الفلسفي

الألم الإنساني

الألم الإيجابي

1. الألم السلبي

السلب قائم في الوجود، وهو الطريق إلى الإيجاب. ومن خلال السلب يتحقق الإيجاب ونعرف الحقيقة. فكيف يكون الألم السلبي وسيلة للوصول إلى الحقيقة، أو دليلاً يشير إلى وجودها؟

من خلال بحثنا هذا نطرح مشكلتين:

أ. الألم واللذة

ب. التعلُّق والرغبة

أ. الألم واللذة: اللذة تعبير عن تلقائية الأنا في كل اتجاه. والذات تعبير عن سلبية الوجود الإنساني. فاللذة مصدر كل كآبة وألم سلبي لأنها تحمل نقيضها دائماً. ويبدو النقيض في عالم المادة لأن كل عمل من أعمال الأنا ينطوي على فنائه. وتُعرَّف أعمال الأنا بأنها الملذات التي يسعى إليها الإنسان. وتصبح معيشته المادية حقلاً من الملذات يتناوب فيها الإنسان راغباً، ذلك لأن أناه تفرض وجودها.

نستطيع أن نقول: إن اللذة تعني مقاومة المادة المتشكلة في الأنا. وينشط الإنسان لتحقيقها وهو يمتلك القوة الجسدية. أما عندما تغرب شمس الشباب، وتتحول طاقة الإنسان إلى روح، يتأمل الإنسان حياته، فيجد أن لذته لم تكن سعادة، ولم تكن حقيقة أو عقلاً، بل كانت انفعالاً في باطن الأنا، في باطن المادة. وعندئذٍ، تهدأ براكين الأنا وتنطفئ اللذة. وعندئذٍ، يدرك أن اللذة انطلقت من الضعف، لا من القوة، من الجهل بحقيقة الحياة، لا من الوعي، من الجهل لا من المعرفة. لذلك، لم تكن سعادة.

الناس اللذين يحققون أنانيتهم يتألمون لأنهم يفكرون في الشيخوخة. إنهم لا يتحملون عبء الشيخوخة لأنها ستحرمهم من أناهم التي سعت إلى اللذة والرغبة، واعتبرتها خيراً ذاتياً، آنياً. إنهم يتألمون لأن أجسامهم ستذوي ولذَّاتهم ستنقضي، وخيرهم الذاتي – الآني – سينقلب إلى شرّ. فهم يجهلون مبدأ التحول في الحياة ويجهلون الغاية من حياتهم.

اللذة لا تنمو وتترعرع إلا في أحضان الأنا الجاهلة التي لا تعي غاية وجودها. هذا، لأن ضآلة فاعلية الإنسان في نطاق الفهم والوعي يعني انفعال أناه على نحو لذة. وعندما تنعدم السكينة الداخلية تبرز الأنا وتسيطر من خلال الفوضى.

لقد رأيت الإنسان يندم على لذَّاته عندما يكتشف عيوبه وأخطاءه. فهو يُقدِم على لحظة لذة فَقَدَ السيطرة فيها على أناه الراغبة، وعلى لحظة ضعف استسلم فيها لانفعال، وعلى طمع أبداه في مسألة ما وتورط في مشكلة، أو على انتصار أحرزه وعلم أنه فشلٌ واندحار، وعلى أمنية حققها وعلم أنها كانت من فعل الخيال والوهم، وعلى مجد ناله وعلم أنه كان زائفاً، أو على لذة عابرة نتجت عن مصيبة حلَّت بغيره. إنه يندم على اللحظات التي فقد وعيه فيها، فيتألم ألماً سلبياً.

تعتبر حياة الإنسان سلسلة من الآلام. ولما كانت كل لذة تحمل معها نقيضها، أي الألم السلبي، لأنها آنية وغير واعية، فإن الإنسان يصير عبداً لنزواته. ولذلك، تكون الأنا مصدر كل ألم وشقاء لأنها مصدر كل لذة. وهكذا، تصدر اللذة عن تلقائية الذات ولاوعيها. ولما كانت هذه التلقائية لا تعبر عن حقيقة لأنها لا تتصل بالوعي، فإنها تحمل الشقاء والتعاسة. ففي كل لذة تعاسة، وذلك لأن التفكير يعقب اللذة. وعندما نسلط أضواء عقلنا على ملذاتنا، نجدها تافهة فنتألم سلبياً.

يصدر ألم الإنسان عن هذا التأرجح الذي لا يستقر ولا يخضع للقوة المدرِكة فينا. وهكذا، تقاس اللذة بالألم. فاللذة في نهايتها ألم. إنها تصدر عن أحاسيسنا التي لا نعمل على تطويرها – الأمر الذي يؤدي إلى إغفال العقل الواعي والوجدان. نتألم دائماً لأننا نلتذّ دائماً. وكلما وجهنا أضواء إدراكنا نحو ملذاتنا، شاهدنا ضعفنا وسقوطنا. وعندما نبقى في نطاق الأنا نعمل على إبقاء إنسانيتنا في حالة السقوط – سقوط العقل الواعي والحكمة إلى هاوية الأنا.

ب. التعلق والرغبة: ينشأ الألم السلبي من التعلق والرغبة. فلكي يزول الألم السلبي ينبغي على الإنسان أن يزيل الرغبة والتعلق. فمن التعلق ينشأ الألم، ومن الرغبة ينشأ الألم، ومن الرغبة تنشأ الحسرة والأسى.

يتعلق الإنسان بالأشياء، وبزوالها أو فقدها يتألم. ويرغب الإنسان في الأشياء، ومن عدم تحقيقها ينشأ الألم. إن فقدان الأشياء أو عدم تحقيقها وفق ما تفرضه الأنا يؤديان إلى الألم السلبي.

لقد شدد الحكماء على التجرد، وأشاروا إلى تجاوز الإنسان لكل شيء في عالم الأنا. علمونا أن نزهد في كل شيء لكي لا نتعلق بشيء ولكي لا يزداد حزننا أو ألمنا. ولما كان الإنسان يتعلق بأمور الدنيا فإن الحرمان منها يشير إلى الألم السلبي.

إننا نتعلق بأبنائنا واخوتنا وأقاربنا وغيرهم؛ ونتعلق بالسلع وبالمجد، ونرغب بالشهرة والمال والعظمة الفارغة؛ إننا ننحرف إلى الماديات ونبني آمالنا عليها. ولذلك، فإن ألم الإنسان ينشأ، بل يستمر، من فقدان الأشياء أو عدم تحقيقها. ولما كان الإنسان لا يدرك مغزى حياته إلا من خلال تعلُّقاته ورغباته، فإن ألمه يكمن فيها، إن هو حققها أو لم يحققها. فالحصول على أمر والاستزادة منه يعادلان الحرمان منه. ففي حالة الحصول نتعلق، وفي حالة الحرمان نرغب. ويتأرجح الإنسان بين الرغبة والتعلُّق ويرى وجوده خالياً من المعنى والقيمة.

إن التعلق يعزز في الإنسان حالة لا تنتهي من القلق والألم، والرغبة تُنشئ فيه حالة مماثلة. وعندئذٍ، يربط الإنسان العادي وجودَه بتعلُّقاته ورغباته. فيتألم في كلتا الحالتين، زاعماً أن الحياة تتحقق فيهما.

يُعَدُّ الألم الناتج عن اللذة والتعلق والرغبة ألماً سلبياً، يقضُّ مضجع الإنسان وينهش روحه ويرميه في عالم القلق والضياع. إن ألماً من هذا النوع ضياع، ذلك لأن الوجود لا ينحصر في متع "المعيشة" بل يتعداها ويتجاوزها إلى الجوهر والكيان والروح. وهكذا، يزداد ألم من لا يكتفي، لأن الأنا تطلب ملذاتها، فتتراجع "الحياة" المعبَّر عنها بالروح. ومتى أكثرت الأنا من مطالبها ازدادت تعلقاً ورغبة بها. وعندما يعكس الإنسان أنوار فكره على مأساته هذه يجد أن ما يسعى إليه من متع وسلع ومجد ليس إلا وهماً حاكته خيوط الأنا، فتزداد حيرته وتنقلب إلى ضياع... والضياع مظهر من مظاهر الألم.

2. الألم الرومانسي

تشير نوازع الإنسان وأشواقه إلى طاقة داخلية تتحرك. ففي أعماق الإنسان آمال وعواطف تهفو إلى التحقق وتأمل بالاستمرار. إن عواطف الإنسان تتجه إلى تحقيق ذاتها في الآخر الذي يشكل معه وحدة بدئية تحولت إلى ثنائية، وذلك لكي تعبر عن علاقة صميمية بهذا الآخر. فلقد أبدع الشعراء والأدباء في التعبير عن مكنونات القلب الإنساني، وصوَّروا سعادة الإنسان وشقاءه في ظل الحب والتعاطف. ولذلك، فإننا نجد أعظم وأجمل ما عبَّر عنه قلب الإنسان في اللهفة والشوق، في اللقاء والبعاد، في بثّ الخواطر وفي النجوى. فكأن الإنسان يبث لواعج قلبه لنفسه من خلال الآخر الذي هو نصفه الثاني.

الصديق يتألم لبعاد صديقه وفراقه، والمحبُّ يتألم ويتحرق لرؤية حبيبته، والحبيبة تتألم لأنها لا تحقق عواطفها، والأم تتألم لفراق زوجها أو ابنها أو ابنتها، وكل إنسان يجد في الآخرين ملاذاً له، وذلك لأنه يبحث عن نفسه في الآخر. هنالك نداء القلب للقلب، والروح للروح، هنالك نداء عميق للآخر في الإنسان، والإنسان يتألم من عدم تحقيق هذا ا لنداء الداخلي.

ولقد أبان الشعراء والروائيون مآسي الإنسان المتعاطف وآلامه في الملاحم الكبرى العظيمة، وكشفوا عن مأساة البطولة في الحب والعاطفة والتضحية. وندب أولئك الشعراء والأدباء مصير الإنسان الذي تألم في سبيل هذه الأمور. وزيَّنوا العواطف واللواعج والأشواق بأجمل الألفاظ، فحملت هذه الألم في ثناياها، وأشعرتْ من يقرؤها بالألم – ذلك أن الإنسان يشعر بالآخر من خلال وضعه. لذا، نرى الناس يميلون إلى قراءة المأساة ويعرضون عن الملهاة ما لم تكن مأساة بذاتها. فكأن الحياة ألم رومانسي. إنهم يتحركون في عواطفهم، في أعماقهم، ويتوقون إلى، بل "يحبون"، ذلك الألم الصافي.

كان ألفرد دُهْ موسِّه شاعر الألم الرومانسي. كان شاعراً علَّمنا أن الألم العظيم يجعل الإنسان عظيماً... ونستطيع أن نرى في أساطين الموسيقى والرسم والكتابة نماذج أخرى لموسِّه. لقد عبر أولئك عن شعور دفين بالألم. ولم تكن عبقريتهم لتتفتَّق لو لم يتألموا.

لماذا تألم هؤلاء؟ هل تألموا من القيود الاجتماعية؟ هل إن إبداعهم كان وليد حب، أو عاطفة، أو خيبة أمل، أو شعور باطني عميق بالمأساة؟ إنهم شعروا برقَّة الألم وتلمَّسوا مأساة الوجود من خلال صراع داخلي بأن الإبداع لا يتم إلا في الألم.

كان ألمهم تعبيراً عن واقع الإنسان؛ كان تعبيراً عن صدمة الإنسان تجاه الواقع. فالحب الذي لا يتحقق، والفكرة الجميلة التي لا تلقى صدى لها، والمشاعر النبيلة التي تُدفَن، والعواطف الإنسانية التي تخبو، والعبقريات التي لا تلقى الاستحسان، عبرت عن ذاتها بألم رومانسي نبيل ووجداني. ويؤسفنا القول إن هذا الألم الرومانسي المبدع يتلاشى يوماً بعد آخر، ذلك، لأن مشاعر الإنسان بدأت تميل إلى التحجُّر، وتطلُّعاته أمست تتأجج في عالم لا يعبِّر عن حقيقته. إن ألماً من هذا النوع يرفع الإنسان إلى مستوى الشعور بإنسانيَّته من خلال التعبير عن نبل عواطفه وسموها.

3. الألم الإنساني

يعتبر هذا الألم نتاجاً للواقع الاجتماعي المأساوي الذي يحياه الإنسان ويعاني منه. ففي العالم عدد كبير من البؤساء والمحتاجين والمعوزين والمرضى والمظلومين الذين يئنون من وطأة ضغط اجتماعي فُرِض عليهم. وليس شعور الإنسان إزاء هذا الموقف إلا شعوراً بالألم والأسى. هكذا، ينطلق ألم الإنسان من وضعه. وينقسم هذا الألم إلى قسمين: ألم إزاء نفسه، وألم إزاء الآخرين.

إن وضع الإنسان الاجتماعي يحدد مقدار ألمه. فإن كان يعاني من وطأة الضغط الاجتماعي، يتألم، ويكون ألمه تعبيراً عن احتجاج صارخ لفقدان العدالة. وإن كان وضع الإنسان يسمح له بأن يرفَق بالآخرين ويشعر بشعورهم، فإنه يتألم. ويكون ألمه هذا تعبيراً عن احتجاج لفقدان العدالة.

لقد تألم المصلحون الإنسانيون لأنهم رأوا أن ظلام الإنسان الأناني يخيم على المجتمع، أي على الآخرين. تألموا وهم يشاهدون مأساة الإنسان الاجتماعية: هنالك الضغط، ضغط فرد على آخر؛ هنالك الكبرياء والغطرسة؛ هنالك الاستغلال والإحساس بالعظمة الفارغة؛ هنالك الأنانية التي تجيز لإنسان أن يضطهد إنساناً آخر وأن يحرمه معنى وجوده المعيشي والحياتي، المادي والمعنوي. استطاع المفكرون الإنسانيون والمصلحون الاقتصاديون أن يصوِّروا واقع الإنسان الاجتماعي، فعبَّروا عن بؤس هذا الواقع وتألموا من أجله، فشعروا مع المعذبين والبؤساء والمحرومين، وكان ألمهم إنسانياً. ولقد عبَّر المسيح عن هذا الألم، فكان إلى جانب المظلومين.

عندما نتحدث عن الألم الإنساني لا نشير فقط إلى ألم البؤساء والمعذبين من بني البشر، بل إلى ألم آخر نشعر به تجاه الظالمين. فعندما نقول بأننا نشعر مع المظلومين فإنما يعني أن ظلمهم ناتج عن ظلم آخر. وبهذا الصدد، نتألم من أجل الظالمين أنفسهم لأنهم ضائعون: إنهم سبب البلاء والمصيبة. ومن جانبنا، نتألم على إنسان ظالم لأننا نعتبره ضائعاً. وليس ألمنا إلا تعبيراً عن الشر والخطيئة التي يسببها. إننا نتألم لأنانيته وذاتيته وكبريائه، نتألم لأنه لا يحقق إنسانيته، ولأنه أضاع كل قيمة بالشعور الإنساني. فالألم الإنساني تعبير له حدَّان: حدٌّ يصيب الظالم، وحدٌّ آخر يصيب المظلوم. وليس المظلوم إلا نتاجاً للظالم؛ وليس الألم الذي يصيبنا عندما نفكر بالمظلوم إلا ألماً يعبِّر عن ذاته كاحتجاج ضد الظالم ذاته. إننا نتألم لأن الإنسان أضاع غايته؛ فهولا يعرف أنه قد وُجِدَ ليخدم. وعندما يجهل الإنسان هذه الحقيقة ينقلب المجتمع إلى حقل صراع رهيب ينتج عن أنانية الإنسان. فالمتكبر أناني، والمتسلط أناني، والمستغل أناني. إنهم جميعاً أضاعوا إنسانيتهم؛ ولهذا نتألم. أما المظلومون فإننا نتألم من أجلهم لأنهم ضحية الظلم القاسي.

الألم الإنساني ألم إيجابي يرفع الإنسان في درجات إنسانيَّته ليصل إلى روحانيته. فلا يتألم إلا العظيم؛ أما الأناني فإنه يعتبر الموضوع مجرد أمر اجتماعي واقعي. وعلى غير ذلك، يعتبره العظيم شذوذاً عن قاعدة المحبة والمثالية. وهكذا، لا يشعر بالألم إلا صاحب الشعور الإنساني العظيم. أما نتائج هذا الألم فإنها تبدو سلبيَّة بظاهرها، لأن الاحتجاج الصادر عن المظلوم يحمل في ثناياه الإحساس بالتمرُّد والنقمة. إنها نقمة، لا بل هي ألم، نتج عن دافع مأساوي تسبَّب عن أنانية الإنسان الظالم وانحطاطه.

4. الألم الوجودي

ما الغاية من الوجود؟ ما الوجود؟ هل للوجود ماهية؟

يعتقد الوجودي المادي أن الماهية حصيلة الوجود. فما الوجود في رأيه؟ الوجود نزعة تلقائية يعبِّر عن ذاته بذاته من خلالها. وكيف يعبِّر الوجود عن ذاته، بل كيف يكون نزعة تلقائية، مشحونة بالانفعال؟

تلتقي الوجودية المؤمنة والملحدة على صعيد واحد بصدد تحليل نزعة الوجود التلقائية، وتختلفان في تعليل الماهية والوجود. ولما كان موضوعنا بحثاً في فلسفة الألم فإننا نهمل موضوع الاختلاف هذا.

الوجود عبث، الوجود لا مبالاة، الوجود لا جدوى، ذلك لأنه ينتهي بالموت. الوجود غربة، إذن، الوجود قلق داخلي يقود الإنسان باتجاه ذاته.

هكذا، يفكر الوجودي. إنه لا يدري كيف يجيب عن سؤال طرحه على نفسه، ألا وهو: كيف يعبر الوجود عن ذاته في تلقائية أو نزعة داخلية لا تدرك ذاتها؟

إن انقسام الوجودية إلى قسمين، مؤمنة وغير مؤمنة، يجعلنا نتيه في غاية الألم الوجودي. الوجودي المؤمن يعتقد بغربة الإنسان، فيحنُّ إلى مثواه أو إلى وجوده الأعلى، لكنه يرتمي في أحضان القلق والعبث واللامبالاة واللاجدوى. فماذا يقصد الوجودي؟ أليس الوجود نزعة تلقائية، وبالتالي، ضياعاً وألماً؟

والموت: ألا يفغر فاه ليبتلع الإنسان؟ وإذا كان الموت يشير إلى العدم، أفلا يعني أن حياة الإنسان قلق وبطلان؟ وإذا كانت الحياة تنتهي بالموت، بالعدم، فلم لا يملأ الإنسان حياته باللذة الحسِّية، ليحقق نزعته التلقائية؟ وإذا أردنا معرفة الحقيقة نقول إن وراء اللذة ألماً يمزق الإنسان، يعبِّر عنه الوجودي بالقلق والضياع والاغتراب والعبث واللامبالاة ولاجدوى الحياة. ألا تعبِّر هذه المظاهر عن ألم دفين ينهش الإنسان في داخله؟ ألا ينتج هذا الألم عن شعوره بالضياع وعدم تلمس الغاية. يُعَدُّ ألم الوجودي ألماً سلبياً يقضي على حقيقة الإنسان ويضعه وجهاً لوجه أمام عدمه. فإذا كان الوجود قائماً حقاً، فإن العدم غير موجود، وذلك، لأنه لا يوجد سوى الوجود.

وإذا كان الوجود قائماً فإن العبث واللاجدوى والضياع مظاهر لعدم التعقُّل أو عدم الفهم. ولهذا، كان هذا الألم سلبياً يؤدي إلى ضياع الإنسان في وجوده الذي يعبِّر عن تلقائية غريزية لا تعرف ذاتها ولا تتعرف على حقيقتها.

إن الوجودي لا يعرف ذاته. ومن لا يعرف ذاته، يتألم سلبياً. أما من يعرف ذاته فإنه يتألم إيجابياً، وذلك عندما يدرك واقع الإنسانية المعذَّبة التي لا تدرك ذاتها.

5. الألم الفلسفي

يُعتبَر الألم الفلسفي بحثاً في موضوع الشرّ. فما الشرّ وكيف وُجِد؟

يُرجِع بعض مفكِّري اللاهوت الشرّ إلى فكرة السقوط التي نجمت عنها الخطيئة. فالألم في رأيهم يتسبب عن الخطيئة التي اقترفها الإنسان ومازال يقترفها. وهكذا، يوجد الشرّ في قلب العالم، وبالتالي يوجد الألم. والإنسان، في زعمهم، يتألم لأنه يقترف الخطيئة.

إن اعتقاد اللاهوتيين مردود، وذلك لأن "السقوط" حدث قبل وجود الإنسان. وبالتالي، فإن الشر قد وُجِد قبله، والألم قد تأسَّس أيضاً. إن سقوطاً في الأعالي حدث قبل سقوط الإنسان. فهل كان الشرّ عندئذ، وهل كان الألم؟

إذا كان الألم قد تأسس في أصل الوجود، وكان الشرّ متضمناً فيه، فإن الوجود يشير إلى معاناة من الوجود في سبيل تحقيق ذاته. فالوجود ألم، ومن أجل الانتصار عليه والتخلص منه، يحتاج الإنسان إلى تحقيقه. ولكننا، عندما نريد فهم واقعة الألم في الوجود، يجب علينا أن نأخذه من الوجهة الفلسفية المحضة.

في الوجود الأرضي ألم... هكذا، يكون الألم فلسفة هذا الوجود. فكيف نفسر هذه القضية؟

إن مشكلة الشر لا تطرح ذاتها بالمقياس اللاهوتي. فالشر لا يوجد بشكل عيني، بل هو متضمَّن في سلبية الوجود. فلا شيء في الوجود يفصح عن ذاته بأنه شرّ. هنالك إذن سلب متضمَّن في إيجاب، وعلى الإنسان تقوم معرفة هذه الحقيقة. وإذا كان علينا أن نتحدث في هذا الموضوع، فإننا نقدم الأمثلة التالية:

الشر هو انعدام الخير... إذن، لاوجود له بمعنى الوجود العيني أو الواقعي. فالحجر، على سبيل المثال، ليس شراً أو خيراً. إنه حيادي تماماً. ولكن استعماله من قبل وجود عاقل يحدد ماهية الخير التي، إذا انعدمت، تصير تحقيقاً لسلب، أي تحقيقاً لشرّ.

والجهل هو انعدام للمعرفة... إذن لا وجود له. ذلك لأن هنالك طاقة في الإنسان تدعى الوعي وليس هنالك ما يسمى اللاوعي. فاللاوعي، بالمفهوم السلبي، يتحقق متى انعدم الوعي، والجهل يتحقق متى انعدمت المعرفة.

إذا أدركنا كيف يظهر السلب بمظهر الشرّ قلنا: إن الجهل واللاوعي، بمفهومه السلبي، شرّ –

ذلك لأنهما يشيران إلى نقص في ماهية الخير، أي المعرفة والوعي. فالشرّ نقص لماهية الحقيقة، والخطيئة نتاج لعدم المعرفة والوعي... هكذا، لا تكون الخطيئة سابقة لوجود الشر، بل هي نتيجة لعدم تحقيق المعرفة والوعي.

هذا هو الألم الفلسفي... البحث الدائم عن حقيقة الوجود. ولما كان الإنسان يبحث على الدوام، فإن الألم يرافقه، ذلك لأنه، كلما وصل إلى درجة يقين، يجد أن درجات اليقين لم تكتمل بعد. ولهذا، فإنه يتألم لأن النقص في المعرفة مازال قائماً فيه. إنه يسعى وراء إيجابيَّته الكاملة، ولكن السلب مازال قائماً في أعماقه. هكذا، يتألم وهو يسير على طريق المعرفة والحقيقة، طريق الجلجثة، طريق الخلاص.

ينشأ ألمي، لا من الشر المزعوم في الوجود، بل من محاولتي الدائمة لتحقيق الوجود. ولما كنت لا أصل إلى الحقيقة المطلقة، فإنني أتألم. وليس ألمي هذا إلا ظاهرة حقيقية للوجود، ذلك لأنني، دون هذا الألم، لا أندفع مع تيار المعرفة. إنه نداء روحي لمعرفة الحقيقة. إنه عالمي الذي ينشد ذاته.

الألم الفلسفي يشير إلى وجود الألم في قلب الوجود، في قلب العالم. وهذا الألم هو "لعبة" المطلق في الوجود؛ هذا الألم هو سلب الإيجاب في قطبي ذاته. وكلما حقق الإنسان ذاته من خلال ألمه حقق المطلق ووجد نفسه. فالمطلق ذاته يتألم في سلبه هذا. وهذا هو دور الإنسان في عملية تحقيق كمال الإيجاب في عالم السلب، في عالم الألم. فالشعور بالوجود ألم ينشد ذاته في أعماق الوجود... وبقدر ما يتألم يحقق.

يتحول هذا الألم إلى غبطة، ذلك لأن النقص يتضاءل ليصير إلى كمال. إن سعي الإنسان إلى الكمال والامتلاء يُشعِره بالنقص... ولما كان النقص سلباً، كان ألماً، ويتجاوز الإنسان هذا النقص، فيكتمل شيئاً فشيئاً. ففي كل درجة اكتمال يتألم، لكنه يغتبط. وهذا الشعور بالنقص يدفعه في تيارين: تيار الألم السلبي الذي يقضي على الإنسان فيرميه في عالم الضياع والعبث واللاجدوى، وتيار الألم الإيجابي الذي يريه حقيقته، فينشدها، وهو في طريقه إلى تحقيقها، بغبطة تحقيق كمال الوجود.

6. الألم الإيجابي

إن غبطة تحقيق المطلق من خلال ألم الحياة هي الألم الإيجابي. وهذا هو ألم ابن الإنسان.

لماذا يتألم ابن الإنسان؟ ألا يدل هذا على وجود الألم في الوجود الأرضي، الألم الفلسفي والروحي، الذي تعاني منه الحقيقة السامية في سرِّها؟ وماذا يعني ألم ابن الإنسان؟

إن ألم ابن الإنسان يشير إلى شعور علوي يعكس ذاته على العالم. وماذا يجد هذا الشعور في العالم؟ إنه يجد مأساة الإنسان في العالم، في ولادته وموته.

هذا الإنسان الذي لا يحقق وجوده والغاية التي وُجِد لأجلها، لا يعرف "لعبة" الحقيقة السامية، سلبها وإيجابها، ولا يصل إلى حقيقته المطلقة وغبطتها. هذا الإنسان الذي اغترب عن كيانه ليجد ذاته، اغترب أيضاً عن حقيقته، فأضاع ذاته؛ فقلق وتمزق، وحقق عالم السلب. هذا الإنسان يتألم، ويستحق الرأفة والرحمة.

إن ابن الإنسان يشاهد مأساة الإنسان فيتألم. وبألمه هذا، يشعر مع الإنسان ويريد احتضانه ومعانقته، ويريد العودة به إلى نطاق الحقيقة، إلى المحبة، إلى الفردوس الروحي الذي أضاعه؛ كما يريد أن يخلِّصه من مأساته لكي لا يكون أسيرها، ويعلِّمه طريق الخلاص؛ ويريد أن يعود به إلى عالم النور ليقضي على مملكة الظلام. لكن الإنسان يرفضه، مفضِّلاً البقاء في ظلامه، في عالم مأساته وألمه.

ويتألم ابن الإنسان لأجل الإنسان. إنه يتألم من أجل نفسه، على نفسه، لإنقاذ نفسه، أي الإنسان، ذلك لأن ابن الإنسان يرى نفسه في كل إنسان، فيشعر مع الإنسانية جمعاء. وفي هذه الإنسانية يختبر الحزن الممضَّ، يجد الألم. يتألم ابن الإنسان ليحمل وزر هذا العالم، وليطرح بثقله إلى الهاوية.

إن حياة ابن الإنسان وصراعه مع السلب يشيران إلى الألم الفلسفي والروحي، الألم في قلب العالم، ذلك لكي يسمو بهذا العالم وينتهي إلى الغبطة. ولهذا، يعلن ابن الإنسان أن "رئيس هذا العالم قد دين"، ويعني بذلك  أن ألم السلب قد انتهى، ذلك لأنه قد أكمل وأتم.

في ابن الإنسان، نجد ألم العالم وقد تحول إلى غبطة العالم. إن ألم العالم الناتج عن وجود السلب ينتهي، ليتحول إلى غبطة العالم الذي يعبِّر عنه الإيجاب: إنه نزول المطلق إلى العالم، وصعوده إلى كلِّيته ووجوده، من خلال ألم الوجود. إن المطلق يتألم ليعرف ذاته، ليحقق ذاته، ليعود بذاته إلى ذاته، أي بالإنسان إلى الحقيقة. فالألم الإيجابي تحقيق للوجود، تحقيق لمعاناة المطلق من ذاته في شعور داخلي، في محبة العالم، وفي التضحية من أجله. إنه شعور بذاته وهو يعرف ذاته. فالمطلق يتألم في العالم الذي هو سلبُه. وألم المطلق – بل ألم الإنسان – يشير إلى عمق الإنسان في ذاته. إنه يغترب عن ذاته ليعود إلى ذاته، ويتألم من ذاته ليدرك ذاته. فالألم ينتج عن رؤية الإنسان لذاته في مرآة ذاته... إنه يرى السلب... فيتألم ليعرف ذاته. وقد شاهد ابن الإنسان مرآة العالم، فرأى سلبه، رأى الجهل والأنانية واللاوعي والخطيئة، فتألم. ولهذا، نرى أن الإنسان يطهِّر نفسه بقدر ما يتألم. فالألم شعور بالوجود لتطهير الوجود، لخلاصه، ولتحقيقه في نورانية الحقيقة السامية.

الخلاصة

هكذا يظهر الألم في مَعْلَمَيْه: سلبي وإيجابي.

الألم السلبي هو انغماس في سلبيَّة الوجود، يُقلِق الإنسان ويشقيه... هو ألم ينتج عن الرغبة والتعلُّق بكل شيء، بالسلع والمتع والشهوات والماديات؛ هو ألم يشير إلى ضياع الإنسان في عالمه؛ هو هذا القلق الذي يمزق الإنسان في داخله. وهكذا، يظل الإنسان عبداً للعالم.

والألم الإيجابي هو ألم الوجود الذي يعبِّر عن ذاته بمخاض داخلي، باغتراب داخلي وخارجي يتعمق في العالم، بثورة عارمة على الإنسان ذاته، بشعور المأساة والشقاء. هذا الألم الذي يصعد الإنسان في سلبيَّته ليتجاوزها إلى إيجابيته. وهكذا، يتخلص الإنسان من عبودية العالم.

الألم السلبي يعني شقاء الإنسان وتعاسته، والألم الإيجابي يعني تجاوز واقع الإنسان إلى الغبطة، إلى الشعور الكامل بحقيقة الوجود عندما يتجرد الإنسان من السلب.

بين هذين الألمين، يتأرجح ألم الوجودي الذي يميل إلى الانحدار نحو الألم السلبي، والألم الفلسفي الذي يشير إلى ميل نحو تحقيق الكيان من خلال الشعور بضآلة الذات وعذابها في مجرى التطور الكوني والإنساني، وإلى حالة أكثر نقاء.

الألم، في مفهومه الإيجابي، هو السير على طريق الجلجثة، طريق الخلاص، من أجل تحقيق إنسانية الإنسان المتضمَّنة في حقيقة المطلق.

في القديم قيل: "ينعدم الألم متى تساوى الذهب مع الحجر"، أي عندما تخمد نار رغبات الإنسان وتعلُّقاته... ويحقق الإنسان توازنه الداخلي.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود