|
الثورة
العضوانية
نقاش
في التيارات العلمية الحديثة*
سمير
كوسا
يحوي
هذا الكتاب حواراً مطولاً بين عالمين
إيطاليين هما روبيرتو فوندي، المختص بالعلوم
الطبيعية والأنثروبولوجيا وكاتب الدراسات
النقدية لنظرية التطور الداروينية، وجيوفاني
مونَسترا، الباحث في ميدان الكيمياء الحيوية
والموصلات العصبية. والعجيب في
الكتاب هو تنوع المواضيع والمناهج المدروسة.
فيجد القارئ أحاديث معمقة عن معنى العلم
ومنهجه، عن الفيزياء في أحدث تصوراتها، عن
البيولوجيا في دراستها لظهور الحياة وللتطور
في الطبيعة، عن الفلسفة ومشكلة فهم ومعرفة
الحقيقة، إلخ. والحقيقة أنه يصعب لكاتب أن يلم
بهذا المستوى من العمق والتفصيل بكل هذه
الميادين. وهدف هذه
الأحاديث واضح من عنوان الكتاب. إنه في تقديم
أسس متينة للدلالة على أن عالمنا مؤلف من
كلِّيات ديناميَّة. لكن دعونا نترك الحديث
لفوندي: "... يكمن
المفتاح الوحيد لقراءة المنظومات السيبرنية
في ألا ننظر إليها كإواليات تضبطها سيرورات
حتمية خالصة بل ككلِّيات عضوية تتمتع بـ "برنامج
مُخْبِر" (انتشاره الزماني–المكاني هو
سيرورة مُنظَّمة غير عشوائية تُصحح الأخطاء
والانحرافات بالاستناد الدائم إلى هذا "البرنامج"…)
لا يمكن لفلسفة البيولوجيا الأساسية إلا أن
تكون عضوية. وتستند هذه الأخيرة بالتحديد على
المبدأ الكلاني holistic
الذي عبَّر أرسطو عنه بوضوح والقائل بأن
الجسم هو كلِّية، كلِّية هي أكثر من جمع بسيط
لأجزائها. تتميز الفلسفة العضوية بالمقارنة
مع التصورات الميكانيكية والتجميعية القائلة
بأن الكل يمثل – لا أكثر ولا أقل – المحصِّلة
البسيطة لأجزائه، بأنها تأكيد على الوحدة،
على الشمولية، على الفردية، على التنظيم،
وعلى الجديد في الجسم الحي." ويضيف فوندي مميزاً بين
الجسم الحي والآلة: "أن تسلك الأجسام الحية
أيضاً كالآلات – من حيث إنها تتألف من بنى
تعمل كآلات حقيقية (كالعظم، العضلات، المجاري
الدموية، ... ) – هذا أمر واقع. لكن هذه الحقيقة
لا تعني أن الأحياء آلات. توجد فوارق أساسية بين
الآلات والأجسام الحية. 1. الآلات تُصْنَع،
الحياة تنمو. 2. ينتج نشاط الآلة حصراً عن
بنيتها في حين أن البنية في الأجسام الحية
تنتج عن نشاط سيروراتها. 3. الآلات مصنوعة
لأننا وضعنا سوية عدداً محدداً من الأجزاء في
صورة دقيقة ومحددة مسبقاً، في حين إنه يمكن
للأحياء – رغم أنها تُظهِر أشكالاً ونماذج
سلوك محددة جيداً – أن تتمتع بدرجة عالية
أحياناً من المرونة والليونة (إلى حدٍّ أنه لا
يوجد جسمان حيان يمتلكان أجزاء متماثلة تماماً). 4. تعمل الآلات
وفقاً لسلسلة خطية من
السبب إلى النتيجة، حتى إنه إذا عطلت يمكن
عادة أن نجد سبباً واحداً مسؤولاً عن العطل.
على العكس، يُسيِّر عمل الأجسام الحية دفق
إعلامي دائري يُعرَف بدورات الارتجاع biofeedback.
يمكن مثلاً للجزء آ أن يؤثر على الجزء ب،
يمكن لـ ب أن يؤثر على ث، ويمكن لـ ث
أن يرتجع على آ، مغلقاً الدورة بصورة
منسجمة. وبصورة عامة، ينشأ الاضطراب في نظام
من هذا النوع عن عوامل متعددة يمكنها أن تتضخم
بصورة متبادلة عبر دورات مترابطة من
الارتجاعات. لا يجعل هذا الترابط غير الخطي في
الأجسام الحية من محاولات الطب التقليدي في
مقارنة الأمراض بأسباب محددة إشكالية فحسب،
بل إنه يبين كذلك – في جملة أشياء أخرى –
الصفة الخاطئة لعقيدة البيولوجيا المركزية،
أي المعتقد الذي يقول بأن البنى المختلفة (مادية
وعقلية) لجسم حي فردي يضبطها أو ينص عليها
وبصورة وحيدة التعيين الـ DNA.
تسمح لنا الرؤيا العضوانية أن نفهم بوضوح أن
الـ DNA
لا يحدد في صورة غير عكوسة irreversible
عمل جسم حي كما
تحدد النوابض والحلقات
المسننة عمل الساعة، بل إنها تنتمي إلى عملية
وعليها أن تلتزم بالتنظيم المنظومي لهذا الكل..." تسمح هذه الفقرة المقتبسة
أن نفهم إلى أين يريد فوندي أن يقودنا. ولكن
يخطئ من يعتقد أن فوندي لا يزيد شيئاً على
التصورات الكلانية. فلا يوجد تصور كلاني واحد.
وليست طروحات فوندي بالسهلة كما يمكن للفقرة
السابقة أن توهمنا. إنها حقاً ولوج إلى قلب
الأفكار ومعناها. ولا أقصد من ذلك أن فوندي
وضَّح كل شيء، بل أن أفكاره جدية تستحق
الدراسة والتأمل. والغريب أن أحداً لم يعر
اهتماماً لهذا الكتاب. ومردُّ ذلك في اعتقادي
هو أن الوسط العلمي يخشى الذين يمتلكون معرفة
واسعة تفيض بكثير عن حقل اختصاصهم (ما شأن
فلان بهذا الموضوع؟) – فكيف إن خالفت هذه
المعرفة التصورات السائدة؟ ***
*** *** تصوير:
طوني الحاج
*
نقاش بين روبيرتو فوندي
وجيوفاني مونَسترا، دار نادي كتاب
اللابرانث، باريس 1986، 288 صفحة.
|
|
|