|
التكوين في الحضارات
القديمة
نفسانية البدء بين
الأسطورة والعلم
موسى
ديب الخوري
يستلهم الإنسان من شعوره العميق بلامحدوديته
الأشكال والمعاني القصوى لمعرفته! فهو لا يقف
أبداً عند حدود الشكل ولا يقبل بالحلول
المنتهية، ولا يتردد أبداً في سبر التخوم
الإدراكية وفي الارتحال عبر مغامرة
اللانهائي! إنه لا ينفك يبحث عن معاينة كماله
الداخلي في كمال وجوده… وهو بذلك إنما ينتصر
لحقيقته الأعمق – أن شعوره لانهائي التفتح
وأنه يحمل بذرة الإبداع الكلي… إنه يرى إلى
لانهاية الكون، وتستولد فيه هذه الرؤيا دهشة
الخلق والإبداع. وهكذا فإنه، عبر أعماله كلها، إنما يجدد هذه الرؤيا ويعيد إبداع
الكون بأسره! إن بحث
الإنسان عن معرفة غير محدودة هو باني أسطورته
الأولى. فنفسانيَّته لم تقبل عبر مراحل
تفتحها إلا بتقصي أمداء لانهائية عبر كافة
أشكال التعبير الممكنة. وفي الجوهر، كان
الإنسان يلج أمداءه الأعمق، وكانت
نفسانيَّته تتفتح باستمرار عبر كافة أعماله
الإبداعية على المشهد البكر الذي كان يعيد
إبداع الخلق الأول بأشكال لا تنتهي! كذا، تلج بنا
الأسطورة عالمنا الداخلي، وتكشف لنا صيرورة
تفتحنا النفسي والعقلي والروحي، فتضعنا وجهاً لوجه أمام الماضي الحاضر
فينا، أمام
البدء الدائم التجدُّد والمنتهى الذي لا
ينتهي! نحن نبني عالمنا المعرفي عبر تفتحنا،
وفي الجوهر نحن نبني أنفسنا. إننا لا ننفصل عن
معرفتنا، لأننا ما نعرف… نحن معرفتنا، ليس
عقلياً فقط، بل ونفسياً وروحياً أيضاً. وكلما
توغلنا أكثر في معرفة أنفسنا، تفتحت فينا
أبعاد نفسية وعقلية وروحية جديدة. إن هذه
اللحمة بين تطورنا الداخلي والحقيقة
اللانهائية تعكس قانون وجودنا الأبسط
والأعمق، قانون وحدتنا… ومن هنا تبزغ
الأسطورة، من هذه الوحدة، من هذا الغوص أكثر
فأكثر في عوالم لاوعينا الجمعي… إن أسطورة
وجودنا كله تبزغ من هذه اللحمة الأزلية بين
تعبيرنا عن شعورنا الجمعي الأعمق وتفتح
الإمكانيات الكامنة في لاشعورنا. وهذه اللحمة
بين إبداع الحقيقة والحقيقة نفسها هي التي
تعطي الأسطورة قداستها. إننا لا ندخل عالم
المقدس إلا عبر وجودنا الأسطوري، وعندها
نكتشف أن كل ما هو موجود مقدس. إن أسطورة
وجودنا وخلقنا هي أسطورة معرفتنا، أي أسطورة
تطورنا وتفتحنا… إن وجودنا هو
أكثر من عمرنا الأرضي! نحن أكثر من تاريخنا.
نحن أكثر من المعلومات والإنجازات. نحن
معرفتنا الأعمق التي لا تنفك تطوِّرنا
وتنمِّينا، والأسطورة التي لا تنفك تستولدنا
وتبدعنا، وتشعُّ عبر نفسانيَّتنا. ولهذا
علينا، عندما نلج عالم الأسطورة، أن نتجاوز
حدود الكلمة والسرد، وإطار الحدث والتاريخ
والزمن. فأسطورة الماضي لاتزال عابقة فينا
اليوم بمعانيها كلها… وفي الحقيقة، فإن
أسطورة التكوين لا تقوم في الماضي بل في
الحاضر! ولا يمكننا، بأي حال من الأحوال،
إنكار حقها علينا، أنها هي علمنا الأكمل. إننا
نشتاق للمعرفة الكاملة, لكن لولا شعورنا
العميق بالمعرفة الكاملة الذي تهبنا إياه
الأسطورة، لما أمكننا المضي خطوة واحدة على
هذه الدرب اللانهائية… إننا نشعر في أعماقنا
بالقدرة على المعرفة، وبناء الأسطورة هو في
الحقيقة تفتح هذا المثال فينا – مثال الكمال. تشتمل أسطورة
البدء على المعاني القصوى كلها في معنى فريد
أول… إنه مثال الكمال الذي نصبو إليه،
والنهاية الغاية التي نحنُّ لبلوغها! أسطورة
البدء هي أسطورة تفتح الإنسان وشعوره بالمثال
القائم فيه وولوجه إلى الكون من خلال شعوره
بوحدته معه… إنها أسطورة وعيه لأمدائه
وانفتاحه على لانهاية أعماقه. البدء
في البدء لم
يكن ثمة سماء ولا أرض. كان ثمة فقط مادة
لامتمايزة هي المياه الأولى، أو العماء
المائي. ومن هذا العماء بزغ مبدآن أوليان هما
أبسو وتيامات بحسب الإنوما إيليش،
أسطورة التكوين البابلية. أبسو هو المبدأ
المذكر الممثَّل بالمياه العذبة، وتيامات
هي المبدأ المؤنث الممثَّل بمياه البحر. ومن
المياه المالحة خرجت الكائنات كلها. إن البدء في
معظم أساطيريات التكوين يفترض صورة مماثلة
للعماء سبقت الموجودات والمخلوقات كلها، كما
هي الحال في التكوين الفينيقي أو في الأساطير
الأورفية. وفي عدد من الأساطير الأخرى، نلحظ
هذا العماء بصورة فراغ وهوَّة أولية
تكتنفها الظلمات، كما في الإدا Edda السكندينافية. إن هذا الشواش البدئي Chaos
هو في الحقيقة طاقة كامنة، وهو لا
يشير إلى الفوضى بقدر ما يعني اللاتمايز
والهجوع واللافعل. إن محيط المياه المظلمة،
أو الهوة السحيقة التي لا نور ولا حركة فيها،
يمثلان دون شك ذلك العالم الأعمق في النفس
البشرية الذي سيؤدي تفتُّحه شيئاً فشيئاً إلى
ولادة الوجود، أي إلى معرفة النفس! تشير النصوص
المصرية القديمة أيضاً إلى عماء سابق للخلق،
عماء كان يشتمل في ذاته بشكل كامن على المادة
الأولية التي سيتم بها الخلق. وكان هذا العالم
المستغرق في ذاته يحوي خالِق العالم، أو
ذميورجوس Demiurge
الأفلاطوني، القوة المولِّدة، غارقاً في هذا
العماء. وكان على هذه القوة أن تعي نفسها
لتستفيق إلى الوجود. وهكذا، تشترك كافة
أساطيريات الخلق المصرية بوجود امتداد مائي
مطلق كمظهر وحيد قابل لوصف العماء. إنه نون
الحاوي على بذور الخلق المستعدة للتفتح. هكذا، تعبِّر هذه الصور للعماء الأول عن الشواش
اللامتمايز للظلمات المائية واللاوجود. وكان
فعل الخلق يقتضي انفصال المياه وبزوغ الأرض
وانبعاث النور. ويشير هذا الفيض الأسطوري إلى
التمايز الذي كان يتحقق نفسانياً في الإنسان
القديم. إن أساطير البدء، بما فيها أسطورتنا
المعرفية الحديثة، ممثَّلةً بالعلم، تمثل
ولوجاً إلى عالم النفس وسبراً للأعماق
البدئية في لاوعينا. ويتفق العلم الحديث إلى
حد بعيد مع الصورة الشواشية للبدء في
الأساطير القديمة. فالانفجار الكبير Big Bang
تمخَّض في اللحظة الأولى تقريباً عن شواش
هائل، وكانت التشكيلات الشواشية، كما يقول
ستيفن هوكنغ، التي يمكن أن يتخذ العالم أحدها، أكثر بكثير من عدد الحالات المنتظمة.
ومع ذلك، فإن عالمنا اليوم يخضع لقدر كبير من
الانتظام. ويتساءل هوكنغ عن سبب كون عالمنا
منتظماً إلى هذا الحد، ويجيب: "إننا نرى
العالم على ما هو عليه لأننا موجودون"! وفي
الحقيقة يمكننا أن نهذب هذه الإجابة التي
تضفي الصفة البشرية على العالم على الشكل
التالي: "إن التكوين لا يزال مستمراً"!
ترى، ألا يحمل لنا إدراك الشواش البدئي، عبر
الأسطورة والعلم معاً، دليلاً صريحاً على أن عملية
الإدراك نفسها هي غوص مستمر في أعماقنا
النفسية والروحية؟ أفلا نستطيع، بالتالي،
أن نواحد بين لاشعورنا الكامن وبدء التكوين،
وبين تفتح قدراتنا النفسية وتطور الكون
وتطورنا؟ وإلى أي حد نستطيع أن نفصل عملياً
التخوم التي نصل إليها عبر الكون والأعماق
التي نسبرها في لاوعينا؟ إن البدء كامن
فينا، وهو بدء دائم التجدد، ومنه تفيض عبر كل
لحظة عوالمنا اللانهائية. إننا في الحقيقة
نبحث عن البدء لأنه الحقيقة الأولى التي لا
تزال تبدِعُنا. وهكذا، فإننا لا نرضى في قرارة
أعماقنا ببدء محدود بالزمان والمكان. وحتى
نظريات البدء العلمية تنحو اليوم لاكتناه
الزمن اللانهائي الذي كان كامناً في لحظة
البدء، وإلى استكشاف المراحل الكونية التي
سبقت ولادة كوننا. إننا ببساطة لا نستكين
لانطواء المعلومات التي حملتها الأكوان
الماضية معها، ونحن، عبر لاوعينا الكوني، لا
نخلق كوننا الجديد وحسب، بل ونحلم بالبدء
الذي لا يمكن بلوغه! هذا ما نلحظه
تماماً في أساطير التكوين التي تحمِّل البدء
عدة بدايات! وبشكل أدق، فإن البدء الأول يظل
عصياً، ممتنعاً عن الإدراك، ومحتجباً خلف
بدايات تالية له! كذا، فإن تيامات أتت من
المحيط الأول، العماء الأول، لكنها في الوقت
نفسه الشخص الذي يمثل العماء، بل هي أم
الشواش، ومنها تفيض الموجودات! كذلك نكتشف أن نون،
المحيط الأول في الأساطيريات المصرية، أتى من
وجود أسبق له، ومن عماء أكثر بدئية! وبالتالي،
لا بد لنا أن نقر بأن حاجاتنا النفسية
لاستخراج الأنماط الأكثر بدئية من لاوعينا
ورؤيتها مجسدة في عالمنا تدفعنا باستمرار إلى
توحيد كافة هذه الأنماط في نمط بدئي أول يظل
قابلاً للتكوين والإبداع إلى ما لانهاية! إن شخصية تيامات
تقدم لنا نموذجاً فريداً على ذلك. فـتيامات،
القطب المؤنث في عملية التكوين الأولى، تتصف
بشكلانية معقدة جداً. فهي ذات قوى خارقة تجيز
لها خلق النماذج والأنماط كافة من شواشها! وهي
تمثَّل بكائن أحدي الجنس، أي أنها مكتفية
بطاقة اللاتمايز، وأبسو، المبدأ المذكر،
ليس سوى الكاشف الذي يمكن أن تتفاعل معه فتظهر
إلى الوجود! إنها في سلبيتها شيطان، وأم
للشواش الدائم، لكنها مع ذلك كانت تمثل
جنيناً كونياً وكانت بذرة العالم! إن تيامات
باختصار هي الشخص الأول، قبل أن ينطق فيكون
العالم! هي اللاشعور قبل أن تحرضه شكلانيَّته
الأولى فتفيض منه الأنماط الكونية كلها! كذا، فلعل علة
التكوين متأصلة في تشخصن المبدأ الأول نفسه.
إن التمايز الأول، حتى وإن حافظ على
اللاتمايز البدئي، فإنه حرَّض إمكانية
التمايز. وهذه الإمكانية ستفجر أزمة أشبه
بالانفجار الكوني الذي تصفه الفيزياء
والكوسمولوجيا الحديثتين، مع فارق بسيط
وجوهري في آن واحد، هو أن هذه الأزمة لن
تنتهي، وستؤدي عبر كل لحظة إلى بدء وولادة
جديدين. ويمكننا القول إن هذه الأزمة هي
باعثنا الأوحد على المعرفة! إن سؤال البدء
لايزال يحكم منهج بحثنا. ونحن لانزال أسرى
نفسانية باحثة عن الأصول الأولى. بل لعل
معرفتنا اليوم ليست في جوهرها إلا انعكاساً
للأسطورة الداخلية على الظاهرة الكونية…
إننا لانزال نبحث عن صيرورة تفتح اللامتمايز،
ويبدو أننا لم نعِ بعد أن اللامتمايز يتفتح من
خلالنا. إن مغامرتنا العلمية تبدأ عند هذه
النقطة بالذات. نحن لم نطرق بعد آفاق البدء
الأول الهاجع فينا والذي لا يزال يغيرنا كلما
اقتربنا منه… نحن مطالبون
اليوم، عبر معرفتنا العلمية، بتحقيق أسطورة
خلقنا. لابدَّ لنا من إدراك هذه اللحمة بين
الإنسان وحقيقته. إن أساطير الأقدمين، بما هي
تعبير عن إدراك نفسي سليم لهذه اللحمة، تقدم
لنا المثال على إمكانية خلق هو معرفة في الوقت
نفسه. إن خلق الأسطورة المعرفية المتناغمة مع
لاوعينا هو الأساس الصحيح لتذوُّق معنى البدء! وهكذا، يظل
تقدم معرفتنا العلمية مرهوناً من حيث أصالتُه
بقدرته على بناء نفسانية الإنسان المقبل بناء
سليماً. علينا ألا نترك للإنجازات البراقة
للعلم التطبيقي أن تستحوذ على مشاعرنا وتعمي
أبصارنا عن رؤية الحقيقة؛ ألا إن المعرفة
الحق أسطورة تنبع من الداخل وتساهم في بنائه
وتفتحه! الخلق
"الطاو
ولد الواحد، الواحد ولد الاثنين؛ الاثنان
ولدا الثلاثة؛ الثلاثة ولدوا العشرة آلاف
كائن؛ والعشرة آلاف كائن يحملون اليِن على
ظهورهم ويعانقون اليَنغ." الطاو هو المبدأ الأسمى في الحكمة الطاوية، وقد
صدر عنه أولاً الواحد. والواحد يمثِّل بشكل ما
في الطاوية اللاتمايز والشواش المتجانس. وعنه
صدر اليِن واليَنغ، القطبان المندغمان في
وحدة كلية. وبهما تشكَّل الثالوث، أو أنفاس
الطاقة الثلاثة، النَفَس النقي والنفس النجس
والنفس المختلط. وبها تشكل بالتتالي السماء
والأرض والإنسان. ومن السماء والأرض معاً ولد
العشرة آلاف كائن. السماء قدَّمت البذور
والأرض حوَّلتها والإنسان رعاها وغذَّاها. تثبِّت الحكمة
الصينية فكرة الصدور كما تثبتها معظم
الأساطير الأخرى. إن الصدور يتضمن فكرة
جوهرية، وهي معانقة اللانهائي والمتعدد
للواحد وللكل. إن العالم يصدر عن الطاو
ويعود إليه عبر وحدته معه. وبكلمة أخرى، فإن
البدء كامن في ذاته. وانبثاق الأنماط البدئية
في تنوعها اللانهائي يحفظ لها وحدتها في نمط
بدئي واحد يحافظ على لاتمايزه ويستمر بالصدور
عبر قطبي تمايز المبدأ الأول في قطبين، وعلى
انكسار التوازن بين هذين القطبين، مما يؤدي
إلى صدور تعددية هائلة هي الصور اللانهائية
للواحد. تنقل لنا
الأساطير المصرية صيرورة الصدور هذه بأشكال
مختلفة: الانبثاق من أكمة أو الخروج من بيضة
كونية أو التفتح مع زهرة لوتس أو عبر إشعاع
الإله نفسه. وكان أول شيء تم خلقه هو جزيرة أو
أرض. إنها أسطورة تتكرر على ضفاف الأنهار، من
النيل إلى الفرات ودجلة وحتى نهري الأمازون
والأصفر. إن تيارات ودوامات الماء القوية
كانت تشكل باستمرار مساحات صغيرة من الأراضي
تمثل باستمرار ظهور الموجود من الشواش.
ويذكرنا هذا المشهد بالدراسات الحديثة
للفيزياء حول الدوامات وإمكانية انبثاق
منظومات منتظمة من الشواش. كما لا يغيب عن
ذهننا أن لحظات الإبداع تأتي غالباً عبر شواش
معلوماتي هائل. ولعل الآلام النفسية كثيراً
ما تولِّد حالات من الصحو والرؤيا عرفها
الصوفيون على مر العصور… تلكم لحظات قليلة
يتفجر فيها خلق الأنماط، ويصبح التواصل فيها
مع الأعماق أكثر شفافية. وعبر هذا التواصل،
يمكن تحقيق نجاح كبير في العلاج النفسي، كما
يمكن في حالات أخرى تحقيق تفتح لطاقات جديدة
ولتحوُّل نفساني جديد عبر ولادة أو بدء
جديدين مصدرهما عالم لاوعينا الأعمق! إن النون
نفسه ليس سوى الخزان اللانهائي الذي تنبثق
منه البحار والأمطار والأنهار، كما والنيل
وفيضانه. وتعطي صحراء مصر لفيضان نون معنى
الحياة والولادة والخلق الجديد. نون إذن
هو الذي يغمر البحر والسماء، وفيه تسير الشمس
قبل أن تنطفئ خلال الليل، لتعود في الفجر كما
كانت في المرة الأولى ساطعة مشرقة. كذا, فإن
ارتفاع رع، الإله الشمس، في السماء أدخل
النور إلى قلب المياه المظلمة. ذلكم هو سر
التكوين. فالخلق إبداع ينعكس على ذاته أولاً!
إنه مرآة الذات للذات. وهكذا، لا يشكل
ظهور رع، الإله الخالق للحياة، تعارضاً
مع أسبقية نون. إن البدء الأول يتجلى هنا
بأبهى صوره. فهو كامن في ذاته ومتجدد في ذاته.
وإبداعه للمعنى لا ينقص شيئاً من قيمته
الأولى التي تظل عصية على الإدراك! نقرأ في كتاب
البقرة السماوية أن رع ينادي الإله نون: "آه،
أنت، يا أقدم الآلهة، يا مَن خرجتُ منه!"
ويجيب نون: "بنيَّ رع، أنت، الإله
الأكبر من أبيه ومن مخلوقاته…". فيا له من
اعتراف متبادل بين إله الشواش وإله النظام…
إنه اعتراف يشير بشكل من الأشكال إلى القيمة
القائمة في اللحمة بين الإبداع الظاهر والنمط
البدئي الكامن فيه والمتفتح به. وهذه القيمة
هي التي تمنح وجودنا وأسطورته مغزاهما. تشكل ولادة رع
العملية التي أعادت التوازن النفسي لمعنى
الخلق. فالصدور لا يمكن أن يتم دون رحم أول؛
وهكذا يمكن أن تكون البقرة التي ترجع إلى أقدم
العصور في الفكر الفرعوني أماً لـرع.
وبذلك يكتمل ثالوث الخلق، ويعطي الشواش نفسه،
نون، الرحم الذي سيلد الشمس. يمكننا هكذا
أن نستشف إلى أي حد كان بناء الأسطورة يعني
في آن واحد استكشاف المعنى الذي ينطوي عليه
وجودنا وبناء عوالمنا الداخلية بناء
متوازناً. كان لابد للإنسان أن يحقق في ذاته
التوازن الطبيعي الذي يلمسه في دورات الحياة
المتجددة. وكان لابد له بالتالي أن يخلق "الوحدة
المبدعة" في ذاته، الإله الأول، أن يراه
ويعرفه دون أن يقصيه عنه. وهكذا، فقد استولده
من عماء أعماقه، واستنهضه ليبني له، على مثال
الصور الكامنة في لاشعوره، وعبر مبدأي الوجود
المبدعين للأشياء، كافة أنماط حياته
الداخلية والخارجية. وهكذا، فإن أسطورة
التكوين تعكس في جوهرها عملية الخلق، ويصبح
الإله الخالق إلهاً مبدعاً عبر تفتح نفسانية
كونية هاجعة في أعماق الإنسان! ويتخذ التفتح
النفسي هكذا اتجاهين متكافلين رغم تعارضهما
الظاهر، اتجاه نحو الداخل الأعمق، نحو الإله
الذي لاينفك يستولد نفسه فينا من نفسه،
واتجاه نحو العالم الظاهر يتمثل في توازن
الطاقات المولودة فينا ونموها وبناء عوالمنا
النفسية والعقلية وتطورها. ولابد لنا لكي
نفهم صيرورة الخلق النفسانية هذه أن ندرك أن
نفسانية المعرفة تحتاج دائماً لصورة
متكاملة، موحَّدة، لا تفصل بين خلق الإله
نفسه وخلق الأشياء. فالإنسان في أعماقه لا
يريد أن ينفصل عن الطبيعة ولا أن يكون منقسماً
على نفسه. إنه لا يستطيع تقبُّل ألوهة مفارِقة
دون أية صلة بها، ولهذا فإنه كخالق لأبسط
الأشياء يريد أن يكون إلهاً كامل الصلة مع
كائناته. وبذلك فهو يقيم علاقة حقيقية مع
الكائن المقدس القائم فيه. إن الإنسان يريد أن
يرى إلى الصلة التي تربطه مباشرة بالبدء.
ومعرفته كلها تستند على هذا المبدأ، أن شعوره
الأعمق ينبع من البدء نفسه. نلمح بشكل
جليٍّ هذه الصلة بين التكوين النفسي وصدور
الأنماط البدئية من خلال تشكل مجمع الأرباب
في الإنوما إليش. فمن تيامات وأبسو
وُلِدت الآلهة الأخرى والكائنات. المبدآن
المؤنث والمذكر يعطيان التنوع النفسي الأغنى
واليِن واليَنغ يخلقان في صراعهما تنوع
العالم وانسجامه. وهذا الصراع هو الأرض
الخصبة لبذرة المعرفة. وعبر هذه البذرة ستولد
أنساق وأشكال الوعي المختلفة… وهكذا، نلحظ
خطاً تطورياً في ظهور أنسال الآلهة تحدِّثنا
عنه الإنوما إليش. إن الجيل الثاني من
الآلهة غامض، ولايزال يسيطر عليه مبدأ
الثنائية. أما الجيل الثالث فيُبرِز بوضوح تشخصن
المبدأين المتعارضين في شكلين كلِّيين غير
محدَّدين تحديداً واضحاً، هما أنشار وكيشار،
الاسمان السومريان اللذان يعنيان "كلِّية
الأرض" و"كلِّية السماء". ومع اكتمال
الشكل الأساسي للكون كان لابد من انتظار
اكتمال مجمع الأرباب الكلاسي. ولا يمكننا إلا
أن نتأمل هذا الانتظار بكثير من الإعجاب
والدهشة. فقد مضى زمن طويل قبل ظهور أنو
إله السماء الذي استطاع التفوق على أسلافه.
وعند هذا الحد، كان التطور النفسي للإنسان
القديم قد بلغ أحد منعطفاته الحاسمة دون شك.
فاكتمال شكلانية الكون في الأسطورة يعكس
بالتأكيد تطوراً وإفصاحاً يمكن ملاحظتهما
عبر تطور ونمو البنى الفيسيولوجية والنفسية
والعقلية للإنسان. كان لابد إذن من انتظار
آلهة جديدة؛ وفترة الانتظار هذه تشير بوضوح
إلى مرحلة النضج التي لابد منها لهضم التكوين
الأسبق والاستعداد للتكوين الجديد. كان لابد،
إذن، من قدرة من الطبيعة نفسها، إنما أكثر
تطوراً على المستوى الداخلي، لتكتمل حلقة
التوازن بين اليِن واليَنغ… أو بالأحرى،
لتحريض إبداع جديد يترافق مع ولادة جديدة.
وهكذا، كان تفتح الأنماط البدئية لا يخلق
صوراً جديدة فحسب، بل ووعي جديد وطاقات
إدراكية جديدة. إن أدوار التطور النفسي
للمجتمعات عبر العصور تعكس – ولو جزئياً –
صورة هذا التطور على مستوى البشرية ككل. وهذا
هو السبب الحقيقي لتلاقي الأساطير وتوازيها! عبد البابليون
في المرحلة الأخيرة من تشكل مجمع أربابهم
ثالوثاً مؤلفاً من أنو وإنليل وإيا.
ويمثل هذا الثالوث النسل الرابع من الآلهة.
وقد حكم أنو السماء وإنليل الأرض وإيا
المياه. وكان أنو كبيرهم، في حين أن إيا
هو الذي خلق الإنسان. أما إنليل فلم يرد
ذكره كثيراً لأن مردوخ ابن إيا امتص
شخصيَّته تماماً. وهكذا تحول إله الأرض إلى
إله كوني: إنه البطل ابن المياه المزمع أن
يأتي ليعيد الخلق. لقد أدى تناسل الآلهة في
مجتمعات الشعوب القديمة إلى تعددية هائلة،
لكن المعنى الجوهري لهذا التوالد كان يهدف
باستمرار إلى ولادة الإله البطل، القادر على
الغوص إلى أعمق الأعماق والعودة منتصراً على
ظلمات وشواش المحيط الأول. إن الخلق المستمر
والبدء الصادر في ذاته بلا نهاية. تلكم هي
أسطورة معرفتنا وتطورنا التي لا تنتهي! الأزمة
لم يكن بناء
العالم قد اكتمل بعد إذن. وكان ثمة عدم توازن
واضح بين القوى البدئية والقوى الجديدة. وفي
الحقيقة، كانت سيطرة الجانب المؤنث ممثلاً بـتيامات
لاتزال تُغرِق العالم في شواش هائل. إن مبدأ
اللافعل والكمون هو الذي كان سائداً حتى ذلك
الوقت! وكان على الطاقات المتفتحة حديثاً أن
تثبت وجودها وفاعليتها، لا بل وإن تعيد خلق
العالم وتعطي لهذا الخلق معنى أكثر جلاء. إن مصطلح "الانفجار
الكبير" الذي شاع في الفيزياء الحديثة لوصف
لحظة ولادة الكون الحالي يذكِّرني للوهلة
الأولى بأزمة رهيبة عصفت بالنقطة الأولى التي
تفجر منها الكون. وتلك الأزمة كانت – ولاتزال
– جوهر كل أزمة تعصف بعوالمنا الداخلية وتؤدي
إلى خلق جديد! إننا لا نعرف شيئاً عن لحظة
البدء، لكننا نعرف القليل عن لحظة تالية لها،
حيث إن الإشعاع والحرارة ولدا من قلب النقطة
المظلمة. وفي هذه الدرجة من الحرارة الفائقة،
كانت القوتان النوويتان الشديدة والضعيفة
كما والقوة الكهرطيسية موحَّدة في قوة واحدة.
كان العالم في حينه خاضعاً لشواش رهيب. ومع
تزايد توسعه، ابترد الكون وانخفضت طاقات
قسيماته. وفي النهاية، بلغ مرحلة الانتقال
الطوري، وانكسر التناظر فيما بين قواه
الأساسية. وتمثل مرحلة انكسار التناظر الأولى
هذه، التي أدت إلى خلق جديد أكثر انتظاماً، كل
مرحلة تمايزت فيها النفس وتكشفت فيها طاقات
جديدة. إن ارتباطنا بالبدء هو ارتباط جوهري،
وفي الحقيقة، فإن صيرورة البدء هي صيرورة
تفتحنا نفسها! إن أزمة البدء ماثلة في حاضرنا
أبداً، وهي تتسنَّم ذروتها حين يشتد الصراع
بين حدَّي تكويننا النفسي، بين حاجتين
متأصِّلتين فينا، إحداهما للعودة إلى المحيط
المظلم والأخرى للانفتاح على عالم النور! هكذا، فإن
الأزمة الكونية لا تنفصل عن الأزمة
الجَّوانية. إن الكون لم يكتمل بعد، وتفتح
العالم الداخلي لايزال مستمراً. ومع تفاقم
الصراع في الإنوما إليش، قتل إيا أبسو،
ومن الـأبسو حيث مات الإله ولد البطل مردوخ.
ونلاحظ أن إيا لم يقتل تيامات بل أبسو،
وهو الجانب الأضعف منها. لكن مردوخ، البطل
المنتظر، الذي سيقدم الفداء لاحقاً، ولد من
هذا الضعف. وسرعان ما ستتحول الهزيمة إلى نصر.
إن الإنسان لا يعرف في غوصه في أعماقه أي سبب
للتراجع أو للتخاذل… وقد أعطى أنو قدراته
كلها لـمردوخ. إنه صورة الشمس، ورمز قوى
التجدد والربيع الآتي. وهكذا، استأنف أنو
مع مردوخ الصراع ضد تيامات. وعندما
علمت تيامات بعزم الآلهة على جلب النظام
إلى ملكها صمَّمت على القتال. وكانت قد خلقت
من العماء مردة جبارين يملكون قوة مخيفة
للتدمير. فما كان من أنو إلا أن أرسل
الرياح على هذا المحيط الهائل فتلاطمت أمواجه. كون متوسع،
يحفل بالشياطين المتعددة الأشكال وبالقوى
الهائلة، والممزق أو المكسور التناظر، تسبح
فيه طاقات هائلة حديثة الولادة وتسود فيه
حالة من الاضطرام والمواجهة بين قوى الشواش
وإرادة الانتظام! ذلك هو الانطباع الذي
يعطينا إياه الرقيم الأول من الإنوما إيلش. وهذا
العماء هو الذي كان على مردوخ البطل أن
يضبطه وينظمه. وتسرد لنا الملحمة مراحل كثيرة
من الصراع حتى غلبة مردوخ. ففي الرقيم
الرابع تأتي المرحلة الحاسمة بلقاء مردوخ
وتيامات. عندها، أمر مردوخ الرياح
الأربع الجبارة أن تحارب إلى جانبه. فتقدمت تيامات
وفغرت فاها الرحيب لابتلاعه، فأتاحت بذلك
الفرصة لكي يسوق الرياح الشديدة إلى فمها،
فجعلت جسم الإلهة التنين ينتفخ حتى لم تعد
تستطيع حراكا؛ً – يا له من تصوير رائع لتوسع
كوني بدئي! وعندئذ قضى عليها بأسلحته؛ – ويا
له من انتصار أولي على قوى الشواش وإعلان لبدء
النظام! وكان على مردوخ أن يقرر ماذا يفعل
بهذه الجثة الهائلة. فقطعها وشكَّل منها
السماء والأرض. وفي السماء بنى مردوخ
قصراً للـأبسو الذي نشأ منه. إنه المكان
المقدس الذي نولد منه باستمرار، الرحم الذي
كان قائماً في الأم الكبرى، وقدس الأقداس في
معابدنا وفينا أيضاً، حيث نلج إلى داخلنا
ونتجدد دائماً. لقد أعاد مردوخ بذلك
التوازن لمعنى البدء، وأصبح المبدأ المؤنث
واحداً مع المبدأ المذكر. ذلكم هو انتصار مردوخ
الحقيقي! إن اللوح الخامس من الإنوما إليش
يُخصَّص لإبراز هذا العمل العظيم، وهو يحوي
معظم المعارف البابلية الفلكية والتنجيمية
التي لا تنفصل في جوهرها عن معنى العبادة
والطقس. إن انتصار مردوخ
على تيامات لا يُعَدُّ ولادة جديدة فحسب،
بل ثمة تطور أيضاً، وتفتح للطاقات المنبثقة
من العماء التي أصبحت قادرة على ضبط الشواش
وتنظيم نفسها في صيرورة خلق مستمر. لكن الأزمة
لم تنته! والطقس المتأصل في عملية البدء
المستمر لاينفك يطلب الأضاحي… وكان على مردوخ
أن يقدمها… الذبيحة
عندما أنهى مردوخ
خلق الآلهة العظمى خلق الإنسان. وكانت الغاية
من خلق الإنسان تثبيت الخدمة الإلهية
بالعبادة والتضحيات، كما وتخليص الآلهة
الذين حاربوا إلى جانب تيامات من الهمِّ
الذي ركبهم. وقد ولد البشر من دم أحد هذه
الآلهة الذي رضي مردوخ التضحية به
لافتداء الآخرين. وهكذا حمل الإنسان عبء
خطيئة لم يقترفْها! وفي الحقيقة، فقد حمل
الإنسان مسؤولية إتمام عمل الآلهة في الخلق،
أي تخليص الكون من عمائه! إن فكرة
الذبيحة أو القربان تُكسِب الخلق معنى فريداً.
فالتكوين لم يعد مجرد إنشاء للوجود، بل أصبح
يعني فداء الحقيقة الأولى بالمعرفة. إن
شعورنا بالحاجة إلى تقديم شيء ما باستمرار
إلى الآخرين هو التعبير الأبسط عن معنى أعمق
وأكثر تأصلاً فينا – أننا بكلِّيتنا قربان
كوني على مذبح المعرفة، معرفة الذات. إن
نفسانيَّتنا، لا بل ومنطقنا العقلي، لا
يقبلان بمعرفة لا تعيدنا إلى البدء الأول.
والحق أن معنى البدء الذي لاننفك نبحث عنه في
أسئلتنا عن أصل وجودنا ماثل في الذبيحة
الأولى التي قُدِّمت مرة واحدة ولم تنتهِ
أبداً. نستطيع أن
نستشف معنى التضحية الإلهية بوضوح في أسطورة
التكوين الفارسي، كما وفي الفيدا الهندية
وفي أساطير أخرى كثيرة. والتضحية هنا ليست
مجرد ذبيحة أو قربان، بل هي فعل ذاتي له دلالة
ووظيفة إبداعية. فالتضحية هي التي خلقت
العالم. وهكذا، فإن النظام في الطبيعة
والنظام الطقسي يتوافقان من خلال بناء المذبح
الذي يشير إلى بناء الكون. إن العالم يفنى دون
تقديم الذبيحة–التضحية. وأي لفظ أو ممارسة
طقسيين لا يُقدَّمان بشكل صحيح يؤثران سلباً
على بناء العالم! وفي الحقيقة، فإن بناء
العالم هو بناء عالمنا الداخلي بالدرجة
الأولى، ولهذا، فإن كل فعل نقوم به هو تضحية
يجب أن تُقدَّم بكمال على مذبح المعرفة. نحن
مسؤولون عن تطورنا الخاص، وعلينا باستمرار
تقديم أضاحي معرفتنا، وأية إساءة لأنفسنا أو
لمحيطنا هي إساءة لعملية الخلق المستمرة فينا. لم يكن قد
وُجِد شيء بعدُ حين قدم الزورفان (الزمن)
الذبائح لمدة ألف سنة لكي يحصل على ابن، هو هرمزد.
وبعد مضي هذه الفترة شكَّك زورفان في جدوى
قرابينه. وفي هذه اللحظة التي شك فيها تشكل
طفلان في رحم الأم الأولى، هرمزد ثمرة
التضحية المقدمة عبر ألف عام، وأهرمان
ثمرة لحظة من الشك. وسرعان ما نشأ الصراع
بينهما، ومعهما بدأ التكوين. نلمح بوضوح في
هذه الأسطورة صيرورة انبثاق الثنوية.
وتشير الغاتا Gathas،
وهي الجزء القديم من الأفستا،
كتاب المزدكيين المقدس، إلى
الأصل المشترك للعدوَّين. لكن كتب البلفي
الأحدث تنكَّر لهذا الاعتقاد. فمنذ الأزل،
كان هرمزد موجوداً في النور، وأهرمان
في قلب الظلمات. وهكذا، تعطي المزدكية
للثنوية دوراً بالغ الأهمية منذ البدء. كان هرمزد
يعرف أن أهرمان سيأتي يوماً لقتاله، وكان
يُعِدَّ العدة لمواجهته. ولهذا خلق العالم في
حالة سماوية روحية جنينية. وبعد ثلاثة آلاف
عام أبصر أهرمان مصادفة شعاع النور
واكتشف بذلك وجود خصمه وما يُعِدُّه من
تكوين، فقرر مواجهته. وما كان من هرمزد
إلا أن خلق الزمان والمكان اللامحدودين. ولما
ردد صلاة الأهوفار Ahovar المقدسة استطاع أن يحسم نتيجة المعركة
سلفاً. وعندما ردد أهرمان الصلاة نفسها
عرف أنه سيُغلَب. ووجد نفسه حبيساً في قلب الظلمات. وكان
عليه أن يحارب حتى يستنفد قواه. وقد أصابه
الشلل مدة ثلاثة آلاف عام. وخلال هذا الوقت
استمر هرمزد بالخلق وطوَّره إلى حالة الجيتي
gêtê (أي الحالة الأرضية والمادية).
وعندما أفاق أهرمان من شلله عاد للهجوم،
فقتل البقرة المقدسة، البقرة الأولى، وبعد
ثلاثين سنة الإنسان الأول (غايومار Gayômart)،
وبذلك دنَّس الخلق. واستمر الصراع لمدة ستة
آلاف سنة أيضاً. وفي منتصف هذه المرحلة ظهر زردشت
الذي علم الناس الدين الحق. تنتظم هذه
الأسطورة مراحل التكوين نفسها التي
ميَّزناها في الأساطير السابقة، إنما ضمن
أدوار واضحة هي في الواقع مراحل طقوس الذبيحة
التي عبرها تتفتح المعرفة ويتخلَّق الوجود
الحق. إن هذا الصراع هو في جوهره صراع طقسي.
وغياب أحد قطبي الوجود لفترة ونشاط الآخر
يشير إلى تلك المراحل الدورية التي تنظم
صيرورة الخلق. إن تناوب اليِن واليَنغ هو الذي
يخلق طقس الذبيحة. وعبر هذا التناوب، يستمر
الصراع والإبداع وتستمر التضحية. لقد خَلَقَ
الروح القدس العالمَ عبر الذبيحة. وعندما
يؤمن البشر كلهم بالدين القويم، أي عندما
يتمِّمون الطقوس على أكمل وجه، وتصبح كافة
أعمالهم قرابين كاملة، تكتمل التضحية
الأخيرة. وعندها يأتي المنقذ المستقبلي ليقدم
ذبيحة سيكون مذبحها الكون كله. تلك هي القيامة
الأخيرة، وتجدد الخلق! ويتم ذلك كله خلال
الأيام العشرة الأخيرة في السنة الأخيرة من
العالم. وباكتمال الذبيحة في يوم هرمزد من
شهر رفرتين، أي في اليوم الأول من فصل الربيع،
يزول الموت والتغير من العالم! إن الزمن يحكم
العناصر كلها. وأدواره تهيمن على طقس الذبيحة.
ومنذ لقاء الضدين وحتى إتمام ذبيحة التجدد
لابد من مرور السنة الكونية. كذا، فإن الموت
يخلخِل كون هرمزد، لكنه ضروري ومفيد في
النهاية. إنه يعطي التضحية الكونية معناها! إن العَوْد
الأبدي، والخلق المتجدد، يجدان معناهما
الأكمل في طقس الذبيحة الكونية. إن الإنسان
الذي أتى ليفتدي الخلق بالمعرفة لا ينفك يجدد
طقوسه الداخلية وعباداته، ويعلن عبر أسطورة
معرفته أن البدء الكامن فيه صائر إلى التفتح… نفسانيَّة التكوين
لابد لنا من
الاعتراف أن محاولة سبر التطور النفسي
للإنسان والتفتح المعرفي لديه لا تتم بمجرد
إسقاط مفاهيمنا النفسية على رموز الأسطورة.
نحن نحتاج إلى رؤيا بالدرجة الأولى. إن
أسطورتنا تُبنى أساساً على التطور الداخلي
الذي يغيرنا باستمرار، ومفاهيمنا لا تكتسب
أصالتها إلا عبر هذا المنظور الداخلي. يقسم مرشيا
إلياده أساطير التكوين إلى عدة أصناف أهمها:
خلق العالم بواسطة الكلمة والتدفئة،
وأساطير الغوص في أعماق المحيط الأول، وتلك
التي تخلق الكون عبر تمايز مادة أولية غير
متمايزة، والتكوين الناجم عن تجزئة جسم عملاق
لحيوان أسطوري… لكن هذا التصنيف يقلِّص
برأينا المعنى الأسطوري المشترك بين كافة هذه
النماذج، ولابد لنا، لكي نرى إلى المعنى
الأعمق للخلق، أن نضع نصب أعيننا التجربة
الداخلية المشتركة للإنسانية عبر تنوع
رموزها وأنماطها. إن المعنى الأعمق للحظة
الخلق يتمثل بتلك اللحظة التي بدأت النفس
فيها تدرك ذاتها. إن الكلمة
التي خُلِق بها العالم هي في آن واحد الكون
والمعنى. إن الصدور الأول هو الحقيقة الأولى
نفسها وقد رأت نفسها: تلك هي اللحظة التي
التفتت فيها الذات، فإذا بها تدرك وجودها!
وتلك اللحظة لاتزال مستمرة حتى اليوم! بحسب أسطورة
لهنود الوينباغو Winnebago،
خُلق العالم بواسطة الفكر. وبحسب الأويوتو Uioto في
كولومبيا، كان كل شيء في البداية وهماً
وخيالاً. وكان الآب نفسه يحلم، لكنه نجح من
خلال أحلامه في ضبط الوهم وتحويله إلى وقائع.
وفي أسطورة بولينيزية، لم يكن ثمة في البدء
سوى المياه والظلمات. وقد فصل الإله الأسمى إيو
المياه بواسطة فكره وكلمته فظهر النور.
وتحدثنا إحدى الأساطير المصرية عن إله خلق
الكون بقلبه وبلسانه. وفي الحقيقة يقترن
الخلق بالكلمة إلى حد بعيد بفكرة الحرارة
والدفء النابع من قلب الإله… كذلك نجد في الرغ
فيدا (X، 129) أنه لم يكن ثمة في البدء أحد.
اللاكائن والكائن كلاهما لم يكونا موجودين.
وفي الظلمات والعماء ولد الواحد بقوة الحرارة.
وتفسر الشاتاباتا براهمانا ظهور البيضة
الذهبية كنتيجة لاضطرام وشوق المياه الأولى.
وبحسب التيتريا براهمانا، لم يكن ثمة شيء
في البدء. وحده اللاكائن كان موجوداً، وعبَّر
عن وجوده بكلمة، إذ قال: "فلأكن". وعندها
تدفَّأ، ومن حرارته وُلِد الدخان. وازداد
تدفُّأ فولدت النار. وبزيادة الحرارة ولد
النور ثم العناصر، وأخيراً ولد براجابتي
الذي خلق كل شيء. كذا، تقترن الكلمة بالتوق
الأعمق للإله، إنها أكثر من تعبير ومن لفظ،
إنها الوجود وقد شعر بنفسه… ونجد هذا
التوق – هذا الحلم نفسه – في أساطير الغوص في
أعماق المحيط لجلب قبضة من تراب. إنها أسطورة
قديمة للغاية منتشرة عند معظم الشعوب في
العالم. إنها تعبير جلي عن سبر الذات للذات،
وعلى استخراج الصور المجسِّدة لها من الأعماق.
ويتكرر الغوص إلى الأعماق بصور مختلفة. ففي
الهند يتم غالباً عبر تجسد الإله في صور خنزير
بري. ويكون الحيوان الغاطس عند هنود أمريكا
الشمالية طائراً مائياً أو زواحف أو أسماكاً.
وفي سيبيريا وآسيا الوسطى يقوم الإوز بهذه
المهمة. وفي أساطير أخرى يصادف الإله في
تحليقه فوق المياه إنساناً أو شيطاناً،
فيأمره بالغوص وإحضار حفنة تراب، لكن الشيطان
يحاول الاحتفاظ بحفنة التراب لنفسه، وهكذا
يولد الشر مع ولادة العالم. إن الغوص في أعماق
الشواش والعودة بقبضة من المادة يشير إلى
تمايز نفساني واضح يحمل في ذاته بذرة التفتح
العقلي. فثنائية الإله والمحيط تشير مرة أخرى
إلى عملية خلق جديدة، وهي هذه المرة تشير على
الأرجح إلى التمايز العقلي الأولى عبر
لاشعورنا. إن أسطورة الغوص ترجع بسبب قدمها
وانتشارها إلى فترة قريبة جداً من ظهور
الإنسان العاقل. وينطبق ذلك أيضاً على الصور
والنماذج البدئية الأساسية المرادفة لهذه
الأسطورة، كولادة النظام أو الزمان من
الشواش، وتمايز النور من الظلمة، وانبثاق
الكون من البيضة الأم. وأسطورة البيضة الأم
الحاملة للشواش الذي تمتزج فيه الأرض والسماء
كانت منتشرة بشكل خاص في معظم أنحاء العالم.
إن هذه الأسطورة بنماذجها المختلفة تحمل بذرة
الأزمة والشقاق والصراع الذي سيؤدي إلى غلبة
البدء الجديد على العماء الأول، العماء
المستمر. وهكذا، تتحول هذه الثنائية الأولى،
عبر تجزئة جسم العماء (ممثَّلاً بشيطان أو
بعملاق) إلى بناء عالم تحكمه القوانين
السرمدية. إن رموز الخلق
الأساسية، المياه الأولى والعماء، ثم الكلمة
والتوق والتحرق للولادة عبر الغوص في المحيط
الأول، ثم العودة بثمرة الوجود وتفتح كمون
الأنماط البدئية عبر أنسال متدرجة من القدرات
والطاقات – هذه الرموز، حتى في صراعها وخرقها
للتوازن الأول بين قطبي الوجود، إنما تعبر عن
تجربة فريدة لتفتح نفسانيَّة كونية عبر
نفسانيَّة بشرية وطبيعية. إننا نحمل بهذا
المعنى هذا التوق في أعماقنا، ولابد أننا في
غوصنا في المحيط الكوني أملاً بالعثور على
أرضنا الجديدة، إنما نغوص في لاشعورنا
ونستولد منه طاقاتنا وقدراتنا الجديدة. إن
عمق تجربتنا يستمد أصالته من هذه الفرادة
الكونية وليس من مجرد تمايز قدراتنا النفسية
والعقلية. كذا يشتمل
التكوين في جوهره على بناء نفسانية كونيَّة
تترسخ عبر أدوار أساسية من اللاتمايز والحنين
والتمايز، ثم عبر أدوار معاكسة من
التَشَخْصُن personalization والمعرفة والتَجَمْعُن
collectivization. وكما ينطبق ذلك على البشرية
بأسرها وعلى المجتمعات، فإنه ينطبق أيضاً على
الأفراد. وفي الجوهر، لا تنفصل تجربة الفرد
المعرفية عن تجربة الجماعة. إن ولوج الأنا
الفردية إلى عالم اللاشعور يكافئ إلى حد بعيد
تواحد الفرد مع المجتمع. وهكذا، فإن تحقيق
الفرد لبدء جديد، وإيقاظه لطاقة كامنة فيه
يعد عملاً على مستوى الإنسانية كلها! إننا في
الحقيقة نعقد الولاء في كل ما نفعل لقانون
التلاقي الكوني هذا. ليس ثمة بدء نقيمه في ذات
منفصلة، وليس ثمة معرفة لا تتحقق ولا تُختبَر
على مستوى الكون كله. إن البدء لا يكتمل إلا
عبر التلاقي في كلية التجربة الكونية. تمثل صيرورة
التَفَرْدُن individuation process خطاً تطورياً نازلاً من البدء
اللامتمايز إلى اللانهاية من التعقيد
المتمايز، وتمثل صيرورة التَجَمْعُن أو
التلاقي convergence خطاً تطورياً صاعداً من التعقيد
اللانهائي باتجاه الفرادة الأولى. وكلاهما في
الحقيقة يمثل البدء نفسه. إنها حلقة واحدة
تمتد عبر اللحظة. ونستطيع أن نتحقق في كل
آن، عبر تجربتنا الداخلية كما وعبر تجربتنا
المعيشة، أن اللحظة تحمل لنا باستمرار
إبداعاً نفسياً وعقلياً ينطوي على خلق الكون
بأسره وعلى معرفته. وفي قلب هذه اللحظة،
يمكننا أن نستشف دائماً تلك الأزمة الهائلة،
تلك الآلام الكونية المتفجرة من صراع الآن
والزمن، الواحد والمتعدد، وعبرها انتصار
الوجود وإبداعه. خاتمة
لعلنا نستطيع
دائماً استشفاف الغايات في البدايات. لكن ما
نأمل طرحه يظل غالباً طي الحلم المتفرِّد في
أعماقنا البعيدة. وما يجلوه كلامُنا ليس سوى
بعض ظلال ومشاهد من الرؤيا الأعمق. إننا لا
نستطيع التعبير دون أن نشوِّه المعنى. ولهذا
فإن لغة الرمز تظل الأقدر على نقلنا إلى عالم
الحلم. وفي الحقيقة، نحن لا ننفصل عن الحلم
الأول. إن ما يدفعنا للتعبير هو صيرورة
التواحد والخلق المستمر فينا. هكذا فإننا
نشتاق لرؤية الأبعد والأكمل والنهائي الذي
يقع فوق وإلى ما وراء أية لانهاية. نحن
نتحرَّق لولوج العمق الخفي فينا، لكننا لانني
نستنهض لذلك أشكال التعبير التي لا تحمل سوى
بذور انفصالنا عن حقيقتنا! ولعل عزاءنا
الوحيد أن تعبيرنا الجمعي لاينفك يستولد
أسطورة الأعماق ويحرر فينا المعنى الأنقى. لا يرتبط
التطور الإنساني فقط بتطور كوني نعجز عن تصور
آفاقه. بل هو نقطة الوصال الصاعدة أبداً على
درب التلاقي بين الظاهر والباطن، بين الوجود
والبدء. ولئن كان يغيب عنا في لحظات كثيرة –
هي معظم حياتنا – أننا نشتاق عبر أفعالنا
وأهوائنا بل وكافة مشاربنا ومعتقداتنا لوعي
دربنا التطورية الصاعدة، نلمح مع ذلك في
لحظات نادرة العبق الذي ننتشي به كلما استيقظ
فينا الشعور بالولادة المتجددة، أو كلما
اجتاحنا ألم الموت العاصف لشدة ابتعادنا عن
الشعور بالرضى والمعرفة الكاملة. ما من أحد
يستطيع أن يعلن رضاه الكامل أو أن يدَّعي
معرفة نهائية، والألم الذي يسبِّبه ذلك لا
يقل عن آلام مخاض الكون، ولا عن فرح الولادة!
لكن هذه الآلام هي فداء معرفتنا الفردية
والجمعية. تلكم هي، في
الواقع، صورة الإنسان عبر آلاف السنين. لم
تتغير كثيراً اليوم. ومع ذلك، فقد عانت خلال
القرون، بل والعقود القليلة الماضية، تحولاً
هام جداً قد تبرز آثاره خلال فترة قريبة جداً.
إننا في الحقيقة نتحضر لتفتُّح نفسي جديد،
وعلومنا الحديثة تساهم في ذلك مساهمة ثرَّة. إن التواصل
الحقيقي بين تجربتنا الفردية وتجربتنا
الجمعية لا يتم إلا عبر ولوجنا مرحلة جديدة من
تفتح وعينا ندرك معها أن نفسانيَّتنا هي
نفسانيَّة كلِّية في الجوهر، وأن فرادتنا هي
فرادة الكلِّية في كل منا. ولعلنا
بولوجنا إلى بداية هذا التحول ندرك إلى أي حد
نستطيع أن نسبر أعماق الماضي عبر وجودنا
الحالي. فتواصلنا مع إنسانيَّتنا يعني
بالدرجة الأولى فهم الإيقاع الذي بات ينتظم
تطورنا. بلى، نحن على عتبة جديدة، ودور جديد…
فقدراتنا المعرفية تتخطى مرحلة كاملة من
النضج النفسي، ولغتنا تتطلع إلى مرحلة جديدة
من التعبير النفسي والعقلي. إننا ننهي
المرحلة الأسطورية التي طرحنا فيها سؤال
الخلق، ونحن على عتبة رحلة جديدة لا نعرف كيف
سيكون خلالها شكل الأسطورة التي سوف نحكيها
جيلاً بعد جيل. نحن نحتاج
اليوم إلى سؤال جديد، سؤال يعيدنا إلى مرحلة
أسبق في البدء الأول.. إننا نحتاج إلى تجديد
أسطورتنا وإلى مغامرة تقودنا أبعد في عوالم
لاشعورنا… إننا نتخطى دائرة القبْل والبعد،
ونتجاوز مسافة الأزمنة الأولى، لنقف اليوم
أمام عالم بِكر، ونعقد العزم على سبر المعنى
الكامن وراء المفاهيم نفسها، وراء الآلهة
التي طالما خلقناها وخلقتْنا، وننشد حقيقة
ليست خاضعة لمنظورنا… إننا نستلهم في الواقع
حقيقة تطورنا، ونعبِّر، من الآن فصاعداً،
درجة درجة، عن تفتح الداخل الأكثر عمقاً،
البدء الكامن في كل لحظة والغاية المتحققة في
الآن! إننا نشارك،
كما كنا دائماً، في الأسطورة، لكن مشاركتنا
اليوم لم تعد لتقف عند حدود الطقس. إننا ندخل
في صميم الخلق والتكوين، ويتحول طقسنا إلى
سحر من المعرفة الواعدة بوصال الكلية. الحلم… بلى،
الحلم الأول، ذاك ما يتفجر فينا لحظة نسعى إلى
البدء. إنه الحلم العتيق نفسه بعد أن تفتح عبر
بدء كامن في اللاشعور إلى بدء فاعل في الشعور. قد تمضي أزمنة
كثيرة قبل أن يتحقق الحلم ويكتمل. وما يهمنا
الآن هو التحول الكبير الذي نعاينه اليوم –
ويا للدهشة! – أننا نشهد البدء والنهاية
ونشارك فيهما. إنه المخاض
النفسي والعقلي والروحي الكبير الذي يفوق بما
لا يوصف مخاض ولادة الكون نفسه. أساطير كثيرة
بُنِيَت قبلنا وظلت ماثلة في لاشعورنا الجمعي
وفاعلة في تفتح وعينا، وأساطير كثيرة ستُبنى
بعدنا. تلك آلام وأفراح الولادة التي لا تنتهي.
وعلينا اليوم أن نحيا ألم وفرح ولادتنا وأن
نستولد أسطورتنا… *** *** *** المراجع -
ستيفن واينبرغ،
الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون،
بترجمة محمد وائل الأتاسي، وزارة الثقافة،
دمشق، 1986. -
ستيفن هوكنغ، موجز
تاريخ الزمن: من الانفجار الكبير حتى الثقوب
السوداء، بترجمة د. أدهم السمان دار طلاس،،
دمشق، 1990. |
|
|