|
المنهج
النقدي عند يوسف سامي اليوسف:
مقدمة
للنِّفَّري...
ارتياد
العلو مع المنهجية الصوفية
ماهر
اليوسفي
ينسجم
الناقد يوسف اليوسف مع منهجه النقدي الذي بدأ
مشواره منذ السبعينيات، مراكِماً بدراية
وعناية كل جديد في دراساته ومؤلفاته النقدية
لما في ذلك من رؤيا عالية الوقار لا تنتهي عند
كشف النصوص الصوفية، بل تتخطى ذلك في الشعر
والشعراء التراثيين والمعاصرين، إضافة
لدراساته النقدية المتنوعة في الأدب المعاصر.
ومؤلفه الجديد مقدمة للنِّفَّري، الصادر
عن دار الينابيع بدمشق، يُعتبَر بحق من أهم
الكتب التي استعرضت وشرحت صاحب المواقف والمخاطبات.
إذ إن المكتبة العربية تفتقد إلى مؤلفات كهذه.
وبدوره قام هذا الناقد الفذ، بلغته الممتلئة
ورؤيته النافذة، بقول ما لم يقله أحد بعد عن
النِّفَّري، وكان السبَّاق إلى ذلك دوماً منذ
إصدار كتابه مختارات في بداية الثمانينات، وبعدها كتيِّب ابن الفارض شاعر
الحب الإلهي. وها هو ذا يعود ليضيء التراث
الصوفي – ومع النِّفَّري تحديداً – بـ "مقدِّمته"
الرائعة. وفي تعريفه للـ"موقف"
النِّفَّريِّ، يقول اليوسف: "إنه القبض على
تفتح الذات عن الوجود الداخلي الصرف الذي
تكتنزه منذ الأزل، إنه انكشاف مخبوءات الذات
والوجود وعوالمها أمام الذات نفسها. ففي
قناعة النفري أن الواقف على الحق وفي الحق
يعرف من داخله ولا تنبجس معارفه إلا من أشواقه
وأذواقه. أما غير العارف وغير الواقف فلا
تأتيه معارفه إلا من الأشياء." وجديد
القول عند الدخول في عالم الاستبصار الصوفي
هو أن الدراسات التي خصَّصها العالم العربي
للتراث الفذ الذي تركه محمد بن عبد الجبار
النِّفَّري، المتوفى عام 345 هـ / 965 م الذي لا
نعرف عن مسيرة حياته سوى النزر اليسير، ظلت
شحيحة. ولم يكن هذا الشحُّ من قبيل المصادفة.
فعلى حد تعبير الناقد أن النصوص النِّفَّرية
قد أوغلت في التجديد والعلوِّ إلى حد جعلها
غريبة عن الذهن الحديث الجانح إلى العزوف إلى
المتعاليات. أثناء
مطالعتنا للـمقدمة نلمس بوضوح تبيان
الاختلاف ما بين النِّفَّري وباقي أعلام
الصوفية، من ابن عربي والحلاج وابن الفارض
وغيرهم. فالخطاب النِّفَّري يختلف كثيراً عن
الموروث الصوفي العام، بوصفه "حواراً بين
طرفين يجمع المثنويات، أولهما مطلق وثانيهما
محدود". ويوغل
الناقد يوسف اليوسف في أعماق النصوص الصوفية
لاستكشاف رؤيتها لتصب في كنه الذائقة والمعنى
على السواء. ففي قراءته للنص يقول: "قاعدة
النِّفَّري تتلخص في أن الإنسان، أو العالي
والكامل من البشر، موصول ومحاط بالرعاية دوماً. فإن في ميسورك النظر إليه بوصفه
بطلاً
يرود واقعاً سماوياً لا حياة للروح إلا فيه،
أو بواسطته وحده، إذ لاريب في أن الرجل يأنف
من العالم الخارجي، بل هو يمقت كل ما ينزع إلى
التجسُّد." ولكن إذا ما نظرنا إلى الأسلوب
الذي يمتاز فيه النِّفَّري عن غيره فإننا
نكاد نقرأه قراءة سطحية وتقليدية برغم صعوبة
النص. ويأتي الناقد بدوره شارحاً محتوى
الأساليب التي سنستعرضها لاحقاً. يقول اليوسف:
"لعل ما يميز أسلوب النِّفَّري أنه ينبثق
من طاقة حدسية لا مصدر لها سوى الراقة السرية
الراخمة في أعماق النفس البشرية؟ وللحق أن كل
ما هو أصلي ينبثق من جذر حدسي يتعذر إدراكه
بواسطة المفاهيم والتصورات الذهنية. وبفضل
هذا الزخم الاستبصاري استطاع الرجل أن يحيل
اللغة المنثورة إلى شعر أو إلى برهة تتوسط بين
الشعر والنثر، بل توفق بينهما على نحو مدهش." جوهر
الصوفية
نشأت الصوفية على
شعور الاغتراب. وهذا جذرها الأول. إنها
تقوم على أساس عريق في إظهار المستور والكشف
عن الحقائق. ويعتمد المؤلف هنا في تحليله
تعريفاً يقوم على رؤية تجعل من حقيقة مقولة
"الكون الساقط" التي أوجبت القول
بالاغتراب بسبب عدم تجانس الروح والمادة،
أساس الأسس في فهم الصوفية، في عواملها
الذاتية حصراً. فلقد ذهب أحد الصوفية إلى
تعريف التصوف بأنه "النظر إلى الكون بعين
النقص". يقول اليوسف: "إن الصوفية بهذا
المعنى دفاع ضد الخواء ومحاولة جلَّى لإيلاج
الملاء في صميم العالم..." ويحدد بأن
الصوفية لا تفهم الحرية إلا من حيث هي الله
نفسه، مثلما أنه لا تفهم الله إلا بوصفه
الحرية الخالصة. ولكن ما هو واضح تماماً أن
الصوفية تربط الحرية بالتمرد على المعطى، أو
على الكون وقوانين الطبيعة وكذلك على المجتمع
وما يسوده من قوى تاريخية ومادية. ومما هو معلوم أن
الصوفية دفعوا ثمن تمردهم باهظاً. فهم
مضطهَدون على الدوام. كما أن رفض الصوفي
للعالم هو أساس الحرية الصوفية. ومما هو جدير
بالملاحظة أن اليوسف يذهب في دراسته إلى جوهر
الصوفية الخالص في بناء مقارنة لإظهار مفارقة
جديرة بالتنبه. يقول: "ومن وجهة نظر صوفية،
لا يجوز للمرء أن يعرِّف الإنسان بأنه الكائن
الذي هو برسم الموت. وهذا تعريف وجودي يسعك أن
تستخلصه من كتاب الوجود والزمان للفيلسوف
الألماني مارتن هايدغر. فالصوفية الأصلية أو
النقية لا ترى في الموت إلا الدرب التي تفضي
إلى المحبوب أو إلى الوطن المقصود. ولهذا فقد
عمد بعض الصوفية إلى صنع عرس لمن يتوفى منهم.
وهذا مأخذ أخذه عليهم ابن الجوزي في تلبيس
إبليس وهو كتاب خصصه لدحض الصوفية وإدانتها." وقد تباينت آراء
النقاد المهتمين والمختصين في التراث الصوفي
في تعريفهم للصوفية ذلك منذ القدم. فبخصوص
الأصل الذي جاءت منه كلمة "صوفية"، كما
يبيِّن المؤلف في كتابه، ارتكبت الآراء
النقدية أغلاطاً كثيرة، ولاسيما عند أولئك
الذين عرَّفوا الصوفية بأنها مشتقة من كلمة صوفيا
Sophia
– وهي لفظة يونانية معناها الحكمة. يقول اليوسف: "فإن
كلمة الصوفية مشتقة من لفظة "الصوف" دون
أدنى لبس. ولقد تنبه بعض القدماء من الصوفيين
إلى هذا الأمر وذكروا ذلك صراحة في بعض
الأحيان، فقال السهروردي البغدادي في عوارف
المعارف: "إنهم سُموا صوفية نسبة إلى
اللبسة، لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق
ولأنه كان لباس الأنبياء عليهم
السلام," ثم أضاف: "وهذا الاختيار يناسب
الاشتقاق، لأنه يقال "تصوَّف" أي لبس
الصوف، كما يقال "تقمَّص" أي لبس القميص..."
ولقد أيَّد ابن خلدون هذا الرأي في المقدمة.
ويضيف المؤلف: "إن كلمة الصوفي هي نسبة
عربية صحيحة. والجدير بالتنويه أن الجنيد حين
رسخ الأركان الثمانية للتصوف قد جعل لبس
الصوف واحداً منها. والحقيقة أن الصوفيين ما
لبسوا الصوف لوفرته في المجتمعات الرعوية
وحسب، ولا لخشونته بحيث يصبح أداة لتحقيق
الرغبة في إذلال النفس والجسد وكفى، بل لأن
الصوف رمزية مستترة في جوهر الشأن. فكلُّنا
يعلم أن الأغنام التي يؤخذ منها الصوف هي
الحيوان الذي يغلب استخدامه ضحية للإله منذ
عهد قديم. وعلى أية حال فإن لبس الصوف ينطوي
على نزعة قربانية. ومما تشير إليه المصادر
الصوفية أنه كان من لباس السيد المسيح، وهو من
كان لقبه "حمل الله" [agnus
Dei].
ومن شأن هذا المعنى أن يعزز العلاقة القائمة
بين الصوف والقربان، وأن يؤكد أن لبس الصوف قد
كان رمزاً ذا دلالة عميقة في مرحلة من مراحل
التاريخ القديم." ولعل فهمنا
يتزايد مع الصوفية في حالة الاستنطاق الذاتية.
يوضح مؤلف المقدمة أن ثمة فكرتين مهمتين
لا تملك أن تفهم الصوفية إلا بهما: "أما
الأولى، فخلاصتها أن الروح في المنفى، وأن
صبوتها إنما تنصب على موطنها الأصلي الذي هو."
وأما الفكرة الثانية، "فمؤداها أن مقولة
"الوجد الصوفي" هي المقولة السيدة في كل
تجربة صوفية نقية أو أصلية. والوجد والوجدان
تشتقهما اللغة العربية من مصدر ثلاثي واحد
كما تشتق كلمة "الوجود" من المصدر إياه.
وهذا يتضمن ما فحواه أن الوجد هو الوجود على
الأصالة، وأن كل حياة بغير وجد هي حياة
الاتِّضاع. وما الاتِّضاع والغثاثة سوى
الافتقار إلى الماهية والأصالة." بهذا تقودنا
تعريفات يوسف اليوسف إلى مبنى ومعنى بذات
الوقت في المفهوم الصوفي. وبرأينا أن الرجل قد
أجهد نفسه في النظر إلى الأعماق والجوهر،
ربما في نظرة التأمل الذاتي التي من شأنها أن
تدخل بواطن الأشياء بمنهجية الرؤية النقدية
عنده، التي شقها على نحو عسير وبصلابة
وكبرياء. وهنا تقودنا هذه النظرة إلى استخلاص
جوهره: "حين يرفض الصوفي الدنيا يتجرد
لتجربة الوجد أو تجربة الوجدان والوجود
الأصيل، فإنه لا يرفض شيئاً إلا غربته ومنفاه
وخواء الكون وضحالته، ولكنه في الوقت نفسه
يعزِّز حنينه المنهوم إلى الوطن الحقيقي الذي
لا يشعر بالسكينة والطمأنينة والحرية
والألفة إلا إذا دخله واستقر فيه إلى الأبد.
وههنا بالضبط يتبدى الإنسان بوصفه الكائن
المتناهي الذي يشتاق إلى اللانهاية، والزائل
الذي تتصبَّاه الديمومة." الصوفية
وعصر النِّفَّري
يشير
المؤلف إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ في
النصف الجنوبي من العراق، أو حصراً في الكوفة
والبصرة. فعلى هذا الإقليم ازدهرت أقدم
الحضارات في التاريخ البشري، ولاسيما
الحضارة السومرية والأكادية والبابلية. ولقد
كانت بابل هي عاصمة الديانة المانوية ومركزها
المقدس. إذ صُلِب ماني في تلك المدينة التي
أصبحت بعد موته عاصمة المانوية تماماً. ولقد
نمت الثقافة في الكوفة خلال النصف الأول في
القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، ولا
أدل على ذلك من ظهور مدرسة النحو الكوفية، ومن
كون تلك المدينة مركزاً للشعر العربي آنذاك.
وإن ثمة إجماعاً بين المهتمين بتاريخ الصوفية
على أن أبا هاشم الكوفي، المتوفى عام 150 هـ / 768
م، هو أول مَن سُمِّي "الصوفي" في
التاريخ الإسلامي كله. وقد جاءت الصوفية
الإسلامية كرد فعل على الفساد المتفشي آنذاك،
وكان الطابع الغالب على الصوفيين الأوائل هو
الطابع الأخلاقي، كما جاءت كتابات المحاسبي (المتوفى
857 م)، الذي هو رأس المدرسة البغدادية في
التصوف وأول المؤلفين. وقد سُمِّي الحارث بن
أسد بـ"المحاسبي" لأنه اعتاد على محاسبة
نفسه. ويشير اليوسف في معرض تدقيقه التاريخي
للصوفية إلى أنها "ظهرت صراحة في النصف
الثاني من القرن الثاني الهجري أو الثامن
الميلادي. ففي هذا الطور عاشت رابعة العدوية،
وهي امرأة من البصرة توفيت عام 185 هـ / 801 م،
بعدما استطاعت أن تؤسس التراث الصوفي المكتوب
لأول مرة في تاريخ اللغة العربية. وللحق أن
التراث الصوفي قد بدأ مع هذه المرأة البصرية،
إذ إنها تركت أشعاراً وجدانية. ولعل أهم ما في
أمرها أنها زودت الصوفية بركيزتها
الوجدانية، وأقصد مقولة الحب الإلهي الذي
يفضي إلى كشف المحب وتجلِّي جمال المحبوب." وعند مطلع القرن
الثالث الهجري، كان التصوف قد انتشر في
الكثير من البلدان الإسلامية كما ظهر ذو
النون المصري وأبو يزيد البسطامي، وهما من
أكابر رواد الصوفية المتطورة. ويوضح اليوسف
في مؤلفه أن التصوف البغدادي في تلك الفترة
صار عبئاً على الدولة وبعض رجال الفقه. وتشير
بعض المصادر إلى محنة حلت بالصوفيين
البغداديين في أواخر القرن الثالث الهجري.
وكانت مدرسة بغداد الصوفية بزعامة الجنيد
الذي كانوا يسمونه "سيد الطائفة" قد
اتخذت من التوحيد موضوعاً محورياً لأقوالها
وأبحاثها. وقد تلاشت هذه المدرسة بعد مقتل
الحلاج سنة 309 هـ / 922 م. ويبدو أن محنة الحلاج
كانت درساً قاسياً للصوفيين طوال قرون عديدة.
ولاريب في أن النِّفَّري وُلد في هذه الآونة،
وربما شهد مقتل الحلاج. وهو ينتسب إلى بلدة
نِفَّر (نيبور) القريبة من بابل والكوفة.
وبدوره، التزم النِّفَّري بمبدأ الحذر
والتنبُّه والتحفظ على ما يكتبه. وربما كان
هذا السبب هو الذي جعله مجهولاً عند كتَّاب
عصره البارزين. الينبوع
الأول
وفي ظهور
التأثيرات وحضور الصفات في النصوص
النِّفَّرية، يقول اليوسف: "كثيراً ما
تُعنى هذه النصوص بجدل الأضداد والمثنويات
المتقابلة والمتنامية." فقد كتب
النِّفَّري في الموقف الخامس: "وقال لي: إن
علمت علماً لا ضد له / وجهلت جهلاً لا ضد له /
فلست من الأرض ولا من السماء." ويوضح اليوسف:
"إن الديانة المانوية هي ديانة تضاد
بامتياز. إذ يعتقد المانويون – بتأثير من
الديانة الزرادشتية – أن ثمة صراعاً أبدياً
بين النور والظلام أو بين الخير والشر. وما
يميز هاتين الديانتين المتأثرتين بالثقافة
الهندية هو ميلهما العميق للزهد وازدراء
المادة. وقد استمرت الديانة المانوية في
الوجود حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وفي الموقف
النِّفَّري تنبثق الرؤيا بحسب المؤلف: "إن
الرؤيا في نهاية المطاف في المنهج النِّفَّري
لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن مقولة "الاستنارة"
البوذية هذه. والجدير بالتنويه أن كلمة "بوذا"
تعني المستنير أو الفرد الذي رأى الحقيقة
الكلية برمتها." كما يورد مقارنة في معرض
رأيه النقدي حول مصدر الرؤية النِّفَّرية
بقوله: "مما هو جدير بالتنويه أن الديانة
الجانيسية التي أنشأها الحكيم الهندي
مهافيرا في أواسط القرن السادس قبل الميلاد
تذهب إلى خمسة مستويات للاتصال وهي: العلم
والمعرفة الرمزية والتبصُّر ومعرفة أفكار
الآخرين ومعرفة الأفكار الشاملة. أما
النِّفَّري، كما نرى، فيعتقد بوجود ثلاثة
مستويات للاتصال بالحقيقة وهي العلم
والمعرفة والرؤية." وهنا يتوضح الفرق
الحاسم بين النِّفَّري وابن عربي: فكلا
الرجلين يستهدف الأحادية، إنما يبتغيها كل
منهما عبر منهجه الخاص. فبحسب المؤلف: "فالأول
ينجزها عبر حذف الطبيعة أو المادة بغية
الإبقاء على الماوراء. أما الثاني فلا ينجزها
إلى عبر حذف هذا الماوراء نفسه، أو عبر إدراجه
في المادة أو في الطبيعة." الوقفة
والرؤية.. اللغة والمعرفة.. تتضح
الغاية التي يجهد من أجلها النِّّفَّري في
مضمار الرؤيا بأنها غاية من غايات الروح التي
لا خروج للإنسان من شقائه إلا بها. ففي قوله:
"الواقف فرد والعارف مزدوج" تأكيد على
هذه الحقيقة. ويقودنا تحليل اليوسف إلى أن
النِّفَّري شديد الاهتمام بمثنوية الوحدة
والانشطار. فهو يصرح في الموقف التاسع: "وقال
لي: رأس المعرفة حفظ حالك التي لا تقسمك / فإذا
انقسمت فما أنت بالعارف ولا بالواقف."
ويورد أيضاً: "وقال لي: ليس من أهل الغيبة
مَن لم يكن من أهل الرؤية." ويقول صاحب المقدمة
في استخدام كلمة "السوى" التي يردِّدها
النِّفَّري كثيراً: "ما من صوفي عمد قبل
النِّفَّري في استعمال كلمة "السوى"،
وهو الذي ابتكرها وجعل منها اسماً بدلاً من
استثناء. والأهم من ذلك أن صاحب المواقف والمخاطبات
قد اتخذها مصطلحاً من مصطلحات مذهبه وعقيدته.
وكما جاء في الموقف التاسع والثلاثين: "والكون
كله سواي" أو "يا عبد، المفازة كل ما سواي"
وقال لي: "إن تبعك السوى وإلا تبعته"." وعن تجربة
النِّفَّري في اللغة يقول: "إنه قلَّ أن
يتمتع بمثلها أي كاتب عربي آخر. فهو شديد
القدرة على التعبير حتى لكأنه قد سَحَر
الألفاظ فصارت تأتيه طوعاً لا كرهاً." يقول
النِّفَّري في الموقف الثامن والعشرين: "وقال
لي: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة / وقال لي:
العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه." وكما جاء
في مخاطبته: "يا عبد الحرف ناري الحرف خزانة
سري / الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف
يخبر عني." وفي منظور النِّفَّري أن
الإنسان لا يبلغ إلى أصالته وغاية اكتماله
إلا بالرؤيا. وحول جدلية الوقفة والمعرفة
يقول: "إذا عرفت الوقفة لم تقبلك المعرفة."
"وقال لي: الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح
العلم والعلم روح الحياة." "كل واقف عارف
وما كل عارف واقف." تحليل
محتوى الأساليب
ثمة
فرادة يتميز بها صاحب المقدمة في طريقة
تحليل الأساليب. وخلفية محتوى كهذا تقوم على
أن اللغة العربية والكتابة عموماً قد شهدت في
زمن النِّفَّري تطوراً على صعيد النثر والشعر.
ويشير المؤلف من خلال تنقيبه ومكتشفاته في
عمق النصوص الصوفية إلى أن الحلاج قد سبق
النِّفَّري إلى تثوير النص الصوفي من جوانبه
الشكلية والفنية، متأثراً بما حدث قبله من
ثورة في ميدان الشعر على أيدي رجال من أمثال
النواسي وأبي تمام. وأثناء قراءته لنصوص
النِّفَّري يلاحظ ما فحواه أن ذلك التراث
الصغير الكمية لم يكتب بأسلوب واحد بل ربما
هناك أربعة أساليب فنية متباينة. يقول أيضاً:
"الغريب أن المقدمة التي كتبها آرثر يوحنا
آربري، وهو محقق كتابي المخاطبات والمواقف
ومترجمها، لم ينتبه إلى هذه الظاهرة، مع أنه
قد أوغل في الأناة حين قرأ المخطوطات السبعة
التي استخلص منها النص المنشور. وفي الحقيقة
أن ثمة بعض الخطورة في الأمر، إذ هناك بعض
النصوص المدسوسة على النِّفَّري التي ليست من
تأليفه قط، بل ليست من تياره على الإطلاق."
أما الأساليب الأربعة التي يوردها المؤلف فهي: -
الأسلوب
المباشر الرائق الصافي الخالي من كل تعقيد. - الأسلوب التجريدي الجاف. - الأسلوب الموحي. -
الأسلوب
الرمزي المدسوس. وحول
موضوع الخيال يعتبر اليوسف أن معظم الصوفية
التراثيين هم أكثر أهل التراث اعتناءً، لا
بصياغة الأخيلة والصورة الفنية فحسب، بل
بمفهوم الخيال نفسه. والحقيقة أن محتويات
الصوفية كلها ليست سوى أخيلة. ويقول أيضاً:
"في الصوفية قبل سواها يكف العلوُّ على أن
يكون مجرد عقيدة أو نظام تشريع أو موضوعاً
برسم التفكير ويتحول إلى تجربة شخصية أصيلة
تنزع صوب الغبطة الصافية التي من شأنها أن
تنعش الروح بما تنطوي عليه من وصال في السرِّ
الحميم." إن
ثمة تأكيداً عند اليوسف على مسألة اللغة التي
يستخدمها الصوفية. فالكاتب الحدسي، أكان
النِّفَّري أم سواه، يسلخ اللغة من حيث
المألوف ويضفي عليها مسحة ميتافيزيقية أو
أسطورية: "وقال لي: معلوم العلم الوجود
ومرئي الرؤية الذات." ناهيك عن أن شهرة
النِّفَّري لم تأتِ بسبب أفكاره بل بفضل
خياله. ولهذا السبب صار تراثه ملهماً للشعراء
في هذه الأيام. إن
النِّفَّري، كما يقول اليوسف في الخاتمة، "هو
الحضور الغزير لروح الحرية المنداحة في
الفسحة التي لا يملك أن يرتادها سوى أصحاب
القامات الشاهقة. وهم سوف يتعرضون دوماً
للسرقة والمحاكاة والتقليد من قبل الضعفاء.
وبما أنه يتوسل الخيال والصورة السريالية
وروح الأسطورة ليصوغ الرؤية الباذخة
النادرة، فقد جاءت نصوصه أشبه بالتمائم أو
الرقى التي يأهلها روح الغموض. ولهذا السبب قد
التبس النِّفَّري في بعض الأحيان واستعصى على
القراءة." لقد
أجاد اليوسف في شرحه للنِّفَّري وتقديم رؤياه
لما يتمتع به هذا الناقد، صاحب المقدمة،
من رؤية نافذة إلى عمق النص الصوفي الذي قدمه
بأسلوب ساحر ولغة جذابة طازجة تبعث الحياة
والروح في داخل النصوص. وهو السبَّاق دوماً
قبل غيره إلى تقديم قراءة جد ناضجة من صلب
منهجه النقدي. ولعل التراث الصوفي الأدبي لا
يدين في عصرنا لأحد دينه لمنهج هذا الناقد
والمعلِّم الكبير: يوسف اليوسف. *** *** ***
|
|
|