المحور النفساني من كتاب

"المبدأ الكلي: لقاء الحكمة القديمة

والعلم الحديث"*

ديمتري أفييرينوس

لا ريب في أن القرن العشرين هو قرن الثورة في عالم الفيزياء. والفصل الثالث من كتاب المبدأ الكلي الذي يحمل عنوان "الفيزياء الحديثة: مضامينها وتطبيقاتها في علم النفس" هو الفصل الذي ينبري فيه المؤلف لتحليل الأسباب العميقة الكامنة وراء سعي الطرائق العلمية والاجتماعية الحديثة إلى توسيع منظورها الفلسفي بما يمكن تلخيصه في تجاوز الفيزياء الحديثة للنظرة النيوتونية-الديكارتية إلى العالم؛ تلك النظرة القائمة على ثنوية الروح والمادة، الأنا والوجود، التي تتصور هندسة العالم وفق نموذج إقليدس: مكان مطلق يسيل فيه زمان مطلق مستقل عنه، وتحكم حركةَ الأجسام السابحة فيه (التي يمكن ردّها جميعاً إلى كتل بناء أساسية) قوانينُ الجذب الثقالي بما يجعلها تنصاع لحتمية سببية لا محيد عنها. لقد كان الكون وفقاً لهذا التصور أشبه بآلة ضخمة منفصلة الأجزاء، الأمر الذي أوجد مسوِّغاً كافياً لفكرة توصيف "موضوعي" للعالم، أي مستقل عن الوعي الإنساني.

لقد كان لآراء ديكارت في الفصل بين العقل والعالم أثر حاسم على العلوم، ولاسيما على الطب وعلم النفس والطب النفسي، فظل الاتجاه السائد في علم النفس، وقد استمد طريقته من الفيزياء النيوتونية، مرسِياً قواعده على المنهج التجاربي empiricism الذي يتنكَّر لكل معرفة غير متحصَّل عليها عن طريق التجربة. فقد قام علم النفس القديم، ممثَّلاً بالمدرسة السلوكية behaviorism، على اعتماد تجاربية صارمة تفترض وجود مراقِب معزول وأداة مراقبة محايدة غير متفاعلة مع الظاهرة المراقَبة، نجم عنها إرجاع الإنسان ككل إلى بنية زمكانية "موضوعية" هي الأخرى، تنتظمها سببية حتمية لا سبيل إلى الإفلات منها، فنظر بالتالي إلى البنى الحية نظرته إلى آلات تستجيب للمنبِّهات الخارجية؛ بينما كان من نتائج النظرية التحليلية الفرويدية اختزال المنظومة النفسية إلى كتل بناء من تصوُّر فرويد، وإرجاع الباثولوجيا النفسية إلى أسباب في غاية المحدودية، واعتبار المحلِّل منفصلاً عن المحلَّل، شأنه شأن الراصد الفيزيائي للظاهرة المرصودة.

بيد أن طبيعة النفس العصيَّة على التحديد وعجز النموذج الاتِّباعي عن تفسير العديد من الخبرات الإنسانية العميقة وحشره إياها في زمرة الاضطرابات الفصامانية schizoid ما كانت لتسمح لعلماء النفس بالاستمرار في هذا المنحى؛ فبدأت صيحات الاحتجاج تعلو، يطلقها من أبوا على الإنسان أن يكون مرتَهناً لسلوك خارجي لائق ليس في الأعم الأغلب إلا محاكاة لنمطية اجتماعية تسلبه كل أصالة وإبداع وتبتليه بالعصاب، وبدأ علماء النفس الإنسانيون والظواهريون–الوجوديون phenomenologists-existentialists والعبرشخصيون transpersonal الضيقة يستلهمون الحِكَم المشرقية، من حيث إن هذه قد سبرت منذ القديم عالَم النفس وعرفت مداخله ومخارجه – بل إن الحكمة ذاتها هي صفة من عرف نفسه واكتنه سر وجوده – وقدمت تصوراً محكماً عن طبيعة الوعي الإنساني ومنزلة الإنسان من الطبيعة والكون.

ولقد أمدَّتنا الفيزياء الحديثة، من جهتها، بهيكل تصوري كلاني holistic عن بنية شاملة، يلتقي ووجهات نظر الحكم المذكورة في كل العصور والمذاهب، وينسجم مع خبرات أفراد تجاوزوا بخبرتهم الداخلية أبعاد شخصيتهم المحدودة. وهكذا عكف عدد من البحاثة على إبراز نتائج الثورة التي أحدثتها الفيزياء الحديثة بنظريتيها الكبريين – نظرية النسبية والميكانيكا الكوانتية – في مفاهيمنا وتصوراتنا عن العالم (وثوق الصلة بين الزمان والمكان، الطبيعة المزدوجة لظواهر العالم الأصغر، مبدأ هايزنبرغ في اللاتعيٌّن indetermination واللاحتمية) مؤكدين على ضرورة إعادة نظر جذرية فيها بما يمكن أن ينعكس على علم النفس انعكاساً مباشراً.

تتلخص النظرة الجديدة في اعتبار الكون جملة عمليات عضوية متناسقة، عصيَّة على التقسيم من حيث الجوهر، اللهم إلا على نحو تصوري محض، وتؤلف فيما بينها منظومات ذاتية التوازن على مستويين اثنين: مستوى العلائق الداخلية القائمة فيها، ومستوى اتصالها بالمنظومات الأخرى جميعاً.

تعلِّمنا الفيزياء الكوانتية احتمالية العالم الأصغر وانتظامه في "أحوال" لا تخضع للسببية الحتمية، إنما تحكمها قوانين إحصائية تحدد الاحتمالات الممكنة لوقوع أحداث تتعلق بديناميَّة الجملة الفيزيائية ككل. وهذا يعني، فيما يعني، أن فهم الجزء متعذَّر بمعزل عن الكل. لقد قوَّضت الفيزياء الحديثة التصور القديم عن الذرة، السائد أيام ديموقريطس، بوصفها مادة صلبة، واستعيض عنه بنماذج ديناميَّة متحوِّلة على نحو موصول، وأصبحت المادة بعامة ذات طبيعتين، موجية وجسيمية، وتوحَّد الزمان والمكان في متَّصل واحد لا ينفصل عن المادة السابحة فيه؛ وأصبح الراصد في الفيزياء الكوانتية مشاركاً في إبداع الظاهرة التي يرصدها، بما يجعل فهم العالم بمعزل عن الوعي الإنساني أمراً متعذراً. وهذا ينسحب على علم نفس جديد يتعاون فيه الكون والإنسان في بناء المنظومة النفسية للفرد، ويصبح الإنسان، إذا جاز التشبيه، "جسيمياً" خاضعاً للحتمية في سلوكه الظاهر، البدني والفكري، لكنه "موجي" غير خاضع لها في إرادته الحرة ومواهبه الوجدانية والعقلية والحدسية. وبهذا الصدد تصبح الإرادة الحرة هي الوجهة أو السيَّالة الطاقية التي يتخذها الوعي نحو غاية تنسجم مع القصد الباطن.

يتقاطع هذا التصور مع حكمة الفيدنتا الهندية التي ترى في الإنسان اجتماعاً بين صورة مادية وحقل قوة للطاقة الفاعلة. والفيدنتا في منهاجه التأملي يعتمد الاستغراق في النفس سبيلاً إلى تنمية التركيز وتوجيه الفكر إرادياً نحو ما يتخطاه في الإنسان والكون. وبذلك يسقط التناقض المزعوم بين القائلين بالإرادة الحرة والآخذين بالحتمية المطلقة، ويجتمع المفهومان في مفهوم واحد بحيث يحتِّم الفكر المشتت على الإنسان السلوكَ على نحو "جسيمي" بينما يفسح الفكر الحاضر، المستغرِق في موضوعه، المجال له للإفصاح عن طبيعته العقلية "الموجية".

هكذا نجد على الصعيد النفسي عين الوضع الذي وصفه هايزنبرغ بمبدأ اللاتعيُّن الذي يتعذر وفقاً له تحديد وجود الجسيم في مكان معين إذا عُرِفت سرعته بدقة، ويصير الحديث فيه عن احتمال أو "ميل إلى الوجود". كذلك شأن السلوك الإنساني الذي يستحيل ضبطه بحتمية خطِّية نظراً لوجود ذلك الوجه الموجي الذي هو أبعد ما يكون عن الحتمية السببية، ويصبح فيه اللقاء بين إنسان وآخر ضرباً من "التفاعل الداخلي" (يمكن نظرياً وصفه رياضياً بتحليل فورييه) عندما يوجِّه أحدهما أو كلاهما إرادته الحرة نحو الآخر. ويعبِّر المؤلف عن ذلك بقوله: "هكذا نجد أنفسنا نواجه علم نفس اجتماعي كوني متنوِّع يشتمل موضوع مادته بالضرورة على الأنماط الديناميكية للتفاعل البشري والعمليات العضوية الوظيفية المتضمنة في تكوين هذه الأنماط."(ص67)

ويعقد ندره اليازجي مقارنة بين فرويد ويونغ باعتبار الأول ممثلاً للنظرة النيوتونية الخطية–الميكانيكية والثاني للنظرة اللاخطية-الديناميكية التي لا تتنكر للنظرة الأولى بل تحتويها. ويقدم يونغ بفكرته عن لاوعي جمعي (أو"خافية جماعية" Collective Unconscious) إلماعاً إلى الحلقة التي تشدُّ الإنسان إلى الإنسانية جمعاء، وتصله عن طريق هذه بالكون بأسره. وبذلك تصبح النظرة إلى النفس نظرة إلى "منظومة ديناميكية [...] هي عضو مندرج في منظومات أوسع [...] تُعرف بأبعادها المادية والاجتماعية والحضارية والثقافية" (ص87).

والواقع أن الفيزياء الحديثة، بفضل الثورة التي أحدثتها في مفهوم الزمن، قد تتيح تطوير هذا المفهوم ليشمل علم النفس الذي لابد أن تتجسد فيه فكرتا الزمن الخطية واللاخطية، ممثَّلتين بزمن الواعية (=الشعور) وزمن الخافية (=اللاشعور)، بما يؤلف بين وجهتي النظر السببية واللاسببية في تفسير الظواهر النفسية (التزامن synchronicity).

جدير بالذكر أن من السبل المتاحة لتطوير علم النفس استلهام ما تقوله الفيزياء الكوانتية عن العلاقة بين المراقِب (الراصد) والمراقَب (المرصود)، بحيث يصبح اللقاء الشخصي الودي بين المعالج والمتعالج، في تفاعل يشمل كلِّية المنظومة النفسية عندهما، أساساً مكيناً للعلاج النفسي، وبذلك يتحقق التوازي بين وجهة النظر هذه ووجهة نظر الحكمة المشرقية في العلاقة الديناميَّة بين الحكيم ومريده.

والحق أن النتائج المترتبة عن مثل هذا التصور عن النفس البشرية هائلة وبعيدة المدى، ولابد لها كيما تؤتي أُكلها أن توحِّد الفلسفة والأخلاق وعلم النفس والدين والمباحث الأساطيرية من منظور عبرمناهجي، بما يؤسس لمنهاج نفساني علمي، نظري وتطبيقي، يشتمل على المظاهر العليا للطبيعة الإنسانية والحياة إجمالاً، ويأخذ بالحسبان لا ما هو متحوِّل وزوَّال في الإنسان وحسب، بل وما يضرب فيه بجذوره عميقاً في الأبدية.

*** *** ***