|
اتبعني...
واترك
الموتى يدفنون موتاهم
آلان
الصالحاني
اتبعني،
ودعِ الموتى يدفنون موتاهم.
يسوع
بن يوسف الناصري
يا لتفاهة
الدنيا! لم أعد أستمتع بشيء. وليس السبب رخص
هذا الفرج ولا ترهُّله، لأنهن جميعا متشابهات.
قذرات كلهن قذرات. لم أعد قادراً على تمييز
وجوههن ولا هذه الغرف. أعرف فقط أنني أشعر
بالبرد كلما دخلت إلى هنا. وهذا القواد ابن
العاهرة يؤكد لي كل مرة أن الشوفاج يعمل بلا
توقف. لست نشيطاً اليوم. أصبح الأمر عادياً.
لست مضطراً لأن أبرهن لهذه على رجولتي لأنها
أساساً ليست من النساء. ولولا الخوف من أن
أبدو غبياً لخاطبتها بالمذكَّر، أو بالأحرى
لاختلقت طريقة جديدة للتحدث إلى هذا الصنف
الحقير. لابد أنها الآن ستطلب زيادة. على ماذا
يا ترى؟ دوماً أتساءل، ولا أجد إجابة مقنعة.
هي تعرفني جيداً وتعرف أنها حين ستطلب زيادة
سأبصق في وجهها المجعد المنكمش من ثقل الطلاء
الرمادي. وجهها رغيف عفن مطموس بالطحين. نعم،
هكذا هو وجهها! فلتذهب إلى الجحيم! لن أدفع لها
شيئاً. *** وجوه وجوه تغني الوجوه
وتسبح تكرُّ تفرُّ وأبقى فتبقى فأهرب فلا
تلاحقني وتبقى فأتعب فأبقى. فراغ ينفث بخوراً وصمتاً
وحقداً. تبين من الأرواح الوجوهُ، والجسد
يبقى وحيداً، يتيه بين الفراغ والصمت والحقد
على أنغام البخور. مشنوقٌ كأنما، مخنوقٌ
كأنما، كأنما صامتٌ لكنه يبكي. *** -
ماذا
هناك؟ -
لا
شيء… إنه يبكي. -
لماذا؟ -
لا
أدري. -
وكيف
تدرين أنه يبكي؟ -
لا
أدري. -
وماذا
تدرين؟ -
لا
أدري. -
لماذا
لا يبكي؟ -
لا
أدري. -
سيبكي
إذن بعد برهة. عليك بالصبر. إليَّ أنا بالإناء!
لابد من جمع بعض الدموع لكي تتندَّى عيون
البشر علينا بالخوف والامتنان. *** "رمان... رمان... رمان..." -
بكم
الرمان يا معلم؟ -
لا
تسأل بكم، بل اسأل لماذا هو أحمر كشفاه هذه
العذراء الجميلة! -
ليست
عذراء وليست جميلة لأن صديقي هذا لم يترك
عذراء في هذي المدينة، ولأن النساء بلا
استثناء لا يعرفن معنى الجمال، لأنك وأمثالك
تحرقون الجمال في أطراف المدينة مع أكوام
القمامة الأخرى. بكم الرمان يا معلم؟ -
وكم
تدفع أنت؟ -
أنا
لا أدفع شيئاً بل يدفع صديقي هذا وأشتري أنا
لأنه ملَّ الشراء وأنا مللت دفع نقود لم
أملكها يوماً فلننجز الصفقة وليمضِ كلٌّ منا
في حال سبيله. بكم الرمان يا معلم؟ -
ألا
تود أن تتذوقه قبل شرائه لكي تعرف قيمة ما
تشتري؟! -
أنت
تعرف أفضل مني أن ما أشتريه لا تبيعه أنت وأن
كل الأصناف هنا بطعم الرحيل وأن بضاعتك هذه لا
يشتريها أحد ربما خوفاً وربما لأمل واهٍ بأن
الوقت لم يحن بعد وتعرف أيضاً أن أكل الرمان
لن يقدم شيئا ولن يؤخر فاصمت وقرر: بكم الرمان
يا معلم؟ -
ما
بك تكرر كالأطرش وتبربر بكم الرمان... بكم
الرمان... ألا تسمع؟ أقول بخمسين ليرة، خمسين.
وأخذ يومئ بأصابعه البدينة، الملتحمة في كفٍّ
بلون التراب والحديدِ إذ يصدأ، أنْ: خمسون،
خمسون فقط... تلاحقني كلماته ويضحك بجنون: "مجنون
معتوه غبي مجنون." *** جميلة أنت أحبك أعشق فيك
عينيك اللتين بلون فحم الجحيم تتلظيان طوراً
وطوراً تجمد في قرارهما دمائي وأرى نفسي
مسمَّراً مسلوب الحقوق لا أملك أن أتعذب ولا
أن أموت ولا أن أُبعَث لا أملك أن أحب بل أكره
أكره الدنيا وأكره مهجتي إذ تدق بلُّور عينيك
لتخرج وتجد المخرج لكنها تبقى فأبقى فنسكت
وأبكي. لا أطلب منك الكثير أريد أن
أنشق بعض رمادك أريد لكل ذرة فيه أن تحرق كل
خلية فيَّ بالنار المقدسة الأبدية التي
أحرقتك حين ظننت أن قرابين من أرواح البشر
ستجعل محيَّاك الذي لا يشيخ يشيخ لكن أرواحهم
شاخت وماتت وأنت بقيت رمادك منثور في كوننا
الضيق المستكين يريد أن يخرج ويجد المخرج
لكنه يبقى وأبقى فأنشق منه فأشيخ فأبكي وثم
أعود. *** -
شاهدتُ
أختك اليوم معه. -
أين؟ -
في
الحديقة خلف المدرسة. -
أين؟ -
في
الحديقة، أقول لك، في الحديقة! ما بالك هل
أصابك شيء؟ -
لا
شيء. -
وماذا
إذن؟ -
لا
شيء. -
أقصد
ماذا ستفعل بها؟ -
وماذا
علي أن أفعل؟ -
أنت
اليوم لست على ما يرام! -
ماذا
تثرثر يا كلب؟ ثم من طلب منك أن تتجسس على أختي؟ -
لا
أحد. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تستعين
فيها بخدماتي. لم تسأل يوما سؤالاً كهذا ولم
تتعفف. -
ها
أنذا أسأل وأتعفف وأضيف أيضاً أنني لو رأيتك
يوما تتعقَّبها مشياً، أو حتى بالنظرات،
فاعلم أنك جثة أو بالأحرى هباء. *** -
لا
تضربني أرجوك، لا تضربني! أسألك بالله العظيم! -
لن
أضربك اليوم، ليس لأن الله العظيم يريد ذلك،
بل لأني مشغول. ولكن أجيبيني الآن وحالاً
لماذا تلتقين به؟ -
يحبني. -
يكذب! -
أحبه. -
تكذبين! -
وما
أدراك أنت ما الحب كي تعرف إن أكذبُ كنتُ؟ -
لأنني
أعرف. -
تعرف
ماذا؟ -
أعرف
ما تريدين، ولكن اعلمي أن شرفك ملك لي، وإن
كنت ستنحدرين فأعطني ما لا تملكين. -
هل
جننتَ؟! ماذا تفعل؟ اتركني! اتركني! *** وصمت مهيب... ترتجف أصابعه
المستعارة وتجحظ عينان غير عينيه وتخنق حلقَه
كلمةٌ ليست له بحثت عن مخرج، وجدتْه، لكنها
بقيت توقفُ مجرى الهواء: "ساقطة!" فتضحك
وتضحك وتصيح: "تعال ما بالك؟!" ويعرف فيها
وجهاً أليفاً، رغيفاً، ويصمت. فتمدُّ يدها
وتومئ: "ادفع!" فيبكي وتضحك. *** يخرج من تابوت قديم يقول له
السيَّاف إن الوقت حان. يستقبل الخبر بهزة رأس
ويعطس يقول إن المكان مغبرٌّ يحتاج إلى تنظيف، يجيب السيَّاف بأن خدمات التنظيف باتت
غالية هذي الأيام وأنه نفسه هنا بدافع وجهد
شخصي لأن النقود المدفوعة سلفاً لم تعد تصلح
في هذا الزمان. ينظر إلى السيَّاف نظرة
المستيقظ تواً من نوم عميق، يتثاءب ويسأله:
"أين سيفك؟" يجيب السياف بحزن: "سرقوه." -
من؟ -
لا
أدري. -
لماذا؟ -
أتقصد
لماذا لا أدري أم لماذا سرقوه؟ -
وما
رأيك أنت؟ -
إذن
تريد أن تعرف لماذا سرقوه؟ -
فحلٌ
والله كما عهدتك دوماً. وتبدو ابتسامة على
وجهه الجاف الحزين. -
وماذا
سنفعل في هذه الحال؟ -
لا
أدري. -
أما
زالت ذراعاك قويتان. -
كما
ترى. يريه ذراعين معروقتين لم يبقَ منهما إلا
العروق. -
لم
تعد ملفوف الذراعين كما كنت، أم أن عينيَّ لا
تريان. -
عيناك
لم تخذلاك يوماً، ولن تخذلاك اليوم يا أمير
المؤمنين. -
ما
نحن فاعلون إذن؟ أمامي أعمال ومسؤوليات كثيرة
أمام الإله وخلقه والوقت كما تعلم لا يسعفني
البتة. وأنت لا سيفك معك ولا على الخنق قادر
أنت. لماذا أيقظتني إذن؟ -
تلك
كانت أوامرك يا أمير المؤمنين. -
لكني
لا أذكر أني أمرتك أن تضيع سيفك... -
سرقوه
والله... -
ولا
أن تشيخ وأبقيت لك الكثير من الأرواح الزاهقة
أم أنك يا عبداً أسود تركتها تذهب؟! -
مذنب
والله، اغفر لي غبائي هذا. -
لا
بأس. علي دوماً أن أعتمد على أغبياء مثلك. هذا
عذاب الإله، يرسل بأخطائه إليَّ لأصلحها. لعن
الله هذي الحياة! أعمل خادماً ولمن؟ خادماً له!
وتكملة لكل مأساتي يرسل إلي بأمثالك
ليسمِّموا نومي ويقظتي وحتى انشراحي حين تئن
تحتي الجواري. طبعاً لأني خادم ويحق له أن
يطلبني في أية لحظة. لا بأس. سأعطيك بعض
الأرواح من حسابي الخاص ولنبدأ العمل. -
أرجوك
يا أمير المؤمنين. أرجوك. ويقبِّل قدمه
المتقرحة. -
ماذا
أيضاً؟! -
لا
أريد أرواحاً. يكفيني ما علق منها في عنقي
خلال هذي السنين. تخنقني كل ليلة وأطرش من
غنائها، أصمُّ أذني بحمم البراكين لكنها تبقى
هنا وتغني، تغني بصوت فتاة صغيرة. تعرف أني لا
أخاف غناء الصغار ولكن هذي الصغيرة، في
عينيها، في وجهها ألمح تقاطيع لا تبدو غريبة،
أعرف فيها شيئاً أليفاً، رغيفاً... وتمد يدها
الصغيرة وتضحك، أسنانها الصغيرة تضحك، وتقول
لي: "ادفع!" تقول لي: "ادفع!" تقول لي:
"ادفع!" وينهار بكاءً فينظر إليه بصمت
ويستل سيفاً من تحت العباءة ويقطع رأس
السيَّاف. *** -
لماذا
لا تشرب؟ -
لا
أريد. -
ومتى
كنت لا تريد أن تشرب؟ يصمت ويمسك كأسه ويشرب. *** -
لماذا
لا تشرب؟ -
لا
أريد. -
ومتى
كنت لا تريد أن تشرب؟ لا يجيب يمسك كأسه وينظر فيه
ويخرج منه بعوضة ما تزال حية يسحقها فيظهر دم
على إصبعيه. *** -
ما
بالك؟ -
ما
بالي؟ -
أنائم
أنت؟ -
لا
أدري. يغني أغنية سمعها اليوم لا
يعرف أين يحاول أن يتذكر. *** -
وماذا
حصل بعد؟ -
ذهبت
إليها، سألتها لماذا تلتقي به. *** -
ما
بالك؟ لا يجيبه، يحس بوخزة، يصفع
بعوضة، تنتشر بقعة دم على يده اليمنى. *** -
أختُكَ؟!
ما بالها أختك؟ -
رأوها
اليوم مع شاب في الحديقة خلف المدرسة. ينظر في عينيه يسأل نفسه
لماذا يراه أمامه الآن في هذه اللحظة يبصق
يلعن شيئا غير محدد يترك الطاولة ويرحل. *** كان علي أن أعرف، كان علي أن
أعرف أنها ستفعل ذلك يوماً، أنها مثلهن
جميعاً... -
وما
الذي كنت تنتظره منها يا أبله؟ -
هربت
منك تواً فماذا تريد؟ ارحل. -
لن
أرحل. -
إذن
فاصمت على الأقل. -
لن
أصمت. -
كما
تشاء. -
ماذا
حصل؟ -
تعرف،
لماذا تسألني؟! (يبتسم الآخر) تعرف يا ابن
العاهرة لا تنكر! -
لا
أعرف. -
كاذب!
تعرف. -
كما
تشاء، لكني لا أعرف. -
كيف
لا تعرف؟ ألا تعرف ما الذي حصل اليوم؟ -
لا
أعرف. لا أذكر إلا أنك دخلت عليها. -
لماذا
تنكر؟ هيا قل لي لماذا تنكر؟ يضحك، يغني أغنية سمعها
اليوم لا يعرف أين، يحاول أن يتذكر، يتذكر،
يبتسم، يتذكر. *** يسير، تبدو المدينة صغيرة
جداً، قذرة جداً، مقفرة مكفهرة، يبحث عنه
يجده حيث أراد. يبحث بين أكوام القمامة بلا
جدوى منذ بدأ "هو" البحث عنه وإيجاده،
يسبح فيها، يطيل السباحة والاستلقاء وشرب
الشامبانيا، يغني أحياناً ويبكي، يهرب
دوماً، ربما منه، لكنه يعرف أنه سيجده دوما
حيث أراد فكأنه لم يجده يوماً. *** -
عما
تبحث؟ -
وما
شأنك أنت؟ -
وماذا
ستخسر أنت إن أجبتني أنت؟ -
وما
شأنك أنت؟ -
شأني
أنني أبحث عنك وها قد وجدتك. -
ومن
قال لك أنني أنا لا أبحث عنك وها أنذا قد وجدتك
أيضاً. -
أنت
تبحث عني في أكوام القمامة هذه؟! -
وأين
تبحث عني أنت؟ -
في
أكوام القمامة. -
وأنى
الخلاف في رأيك؟ -
لا
أدري فهذا ليس من شأني. المهم أنني كنت أبحث
عنك ووجدتك. يفكر قليلاً ويضيف: -
بل
ها أنذا قد وجدتك. -
وماذا
إذن؟ -
لاشيء،
يبدو أنك اليوم سيئ المزاج إلى اللقاء. -
بل
وداعاً. -
بل
إلى اللقاء. -
كما
تشاء. *** الطقس ليل طويل لمن يريد
والنجوم تحدِّق بفضولٍ منتظرةً انفجارَ كونٍ
جديد. بين السير والركض والهرولة بين
البَيْنِ ينتقل بين حوانيتَ قديمة تنتظر
بحَّارة لم يعودوا لأن من عادوا في غنى عن
الانتظار. هو ليس بحَّاراً، هو لن يعود ورائحة
الخشب المتملِّح تذيب صدغيه والبحر لا يحب
البحارة العائدين وهو لن يعود. الطقس ما زال ليلاً وليلاً
سيبقى، الطقس صمت مالح ينساب في أذنيه في
منخريه في فيه، صمت ينساب وليل طويل وموت
ينساب كالاستمرار وثم هواء... هواء. يلعقه
بلسانه، يجلده... زفير... زفير... شهيق زفير. *** تدور الاسطوانة، في عالم
الماء في عالم الانسياب والاستمرار تدور
الاسطوانة، التانغو هنا ذهاب إياب ثم توقف،
التانغو هنا سيقان وأذرع وأعناق تلتف كما
المرجانُ، تتشعب. ويبقى هو مسمَّراً في
الانسياب، يسمع التانغو، لا يرقص. ***
*** *** ملحق: هذا
الملحق لا أكتبه لكي أبدو ذكياً جداً، أو لكي
يظن بعضهم أن كتاباتي عظيمة لدرجة أنها تحتاج
للشرح المطول. كل ما أبتغي من هذا الملحق هو
نقل ما أستطيع نقله من تصورات ومشاعر أود لو
يشاركني إياها من سيقرأ هذا العمل، لأنه في
النهاية، وإن بدا لبعضهم غبياً تافهاً أو حتى
سهلاً، "عمل"، شاؤوا أم أبوا. من
الواضح بعد القراءة الأولى (وأنا أؤكد على أنه
لابد من قراءة واحدة على الأقل قبل البدء
بقراءة هذا الملحق) أن العمل يبدو مقسماً إلى
قصة – فلنقل واقعية – هي الأساس، وإن كانت لا
تشكل على الإطلاق القسم الأكبر، وإلى أجزاء
أخرى – فلنقل غير واقعية أو متخيَّلة.
والواقع أني وددت لو أن القارئ (أقول "وددت"
لأني لا أريد أن أقسر أحداً على طريقة محددة
في التفكير)، لو أن القارئ يتصور هذه اللقطات
كما لو أنها تمثَّل على خشبة مسرح، ولكن دون
وجود المسرح؛ أي أن يحاول القارئ أن يرى هذه
الأحداث مسرحية، بغض النظر عن طريقة إدراكه
للمسرح. ولي ملاحظة أخرى، وهي أن العمل يمكن
أن يقرأ بطريقتين اثنتين: الأولى أن يقرأ
العمل على أنه جزءان منفصلان، أحدهما القصة
الأم، والآخر مجموعة الأحداث – وسأسمح لنفسي
بأن أسمها مسرحية –؛ وبالطبع، ليست هذه غايتي
لأنه كان بالإمكان أن أكتب كلاً منهما على حدة.
والطريقة الأخرى، وتكمن في أن يحاول القارئ
أن يلحم الأحداث في كلٍّ متكامل، الواقعي
منها وغير الواقعي. وهنا أكون أنا قد حققت
غايتي من هذا العمل. ***
*** ***
|
|
|