|
ندره
اليازجي
في
كتابه رسائل في مبادئ الحياة
نبيل
محسن
كتاب
رسائل في مبادئ الحياة لا ينتمي، كما يمكن
أن يدل عليه العنوان، إلى أدب المراسلة، وهو
ليس مجموعة من الخواطر والآراء المتفرقة، ولا
كتاباً في علم الأخلاق والتربية. إن الأستاذ
ندره اليازجي، من خلال هذا الكتاب، يتجاوز
الأدب بذاتيَّته والعلوم بموضوعيَّتها
المزعومة ليقدم لنا خبرة إنسانية بأبعادها
الأخلاقية والفلسفية والروحية، هي عصارة
حكمته التي امتص رحيقها من مصادرها الأصلية.
والحق أني ما إن انتهيت من هذا الكتاب حتى
أيقنت أن الأستاذ اليازجي قد حوَّل قلبه عبر
سطور هذا الكتاب،
كما في نبي جبران، إلى شجرة كثيرة
الأثمار، فأخذ يقطف ويعطي ساعياً، كلمة فكلمة، إلى وضع المحبة موضع التطبيق الفعلي. ولابد من أن أشير
هنا إلى أن رسائل الأستاذ اليازجي لا تحمل
عنواناً ولا تحمل تاريخاً. لقد حرَّرها من
علاقتها بظرفي الزمان والمكان. كما أن الصديق
الذي يراسله الأستاذ اليازجي ليس إلا الإنسان...
الإنسان الذي يتجاوز الجنس أو الطبقة أو
الوطن أو العقيدة. وما السبب في
ولادة هذا الكتاب إلا شعور الأستاذ اليازجي
بدافع قوي يحثه على الخوض في المواضيع التي
تشغل بال كل إنسان. ولكنه لا يطرح معالجتها
على هيئة قانون أو شريعة فهو يعتقد أن في ذلك
إثارة للجانب السلبي في الموضوع. إنه يدعو إلى
إعادة النظر في وضع الإنسان والتأمل في مصيره، لكي ينعتق من الإشراط والنهي
والترويع، ويتبع شريعته الداخلية – أي تنشيط
الطاقة الفاعلة والموجبة في داخل كل منا. ويقوم الأستاذ
اليازجي بمعالجة الإشكاليات المطروحة
انطلاقاً من العديد من المفردات المرتبطة
ارتباطاً وثيقاً بالحياة وبالنفس الإنسانية.
وهو إذ يعرب عن الصعوبة التي واجهته في تعريف
الحقائق المتصلة بالكلمات (ص 52)، فقد عرف كيف
يوظِّف اللغة وعلم الدلالة لإيضاح الكثير من
الأفكار والمفاهيم، مفرقاً بين "الصعوبة"
و"المصيبة"، بين "الوجود" و"الوجوب"،
بين "اللذة" و"السعادة"، بين "الرفعة"
و"الكبرياء"، بين "الشخصية" و"الفردية"،
بين "الدافع" و"الرغبة"، بين "المعيشة"
و"الحياة"، بين "الحب" و"المحبة"،
بين "المحاكمة" و"الحكمة"... وتتسم مقاربة
الأستاذ اليازجي للمواضيع المطروحة
بالسرَّانية، أي بالعمق. والكتاب، ككل كتب
الأستاذ اليازجي، يُقرَأ على عدة مستويات،
والمصادر التي يستقي منها هي مصادر الحكمة
القديمة والعلوم الحديثة وخبرته الشخصية.
ونشير هنا إلى أن الأستاذ اليازجي كتب عن
المسيحية واليهودية والفلسفات الشرقية وحاضر
عن ابن عربي. ونذكر من كتبه: المبدأ الكلِّي:
لقاء الحكمة القيمة والعلم الحديث، الصادر
عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، الذي يتحدث عن
التقاء العلوم الحديثة بالحكمة القديمة،
وحيث عرف المؤلف كيف يوظف الموضوعية العلمية
لتصبح ذات فعالية إنسانية. وهاأنذا أعرض
خلاصة وجيزة لمضامين مفعول الكتاب: فلسفة
الصعوبة:
إن اعتبار المصاعب التي يواجهها الإنسان في
حياته مصائب قد يدفعه إلى اعتبارها مصيبة
واحدة هي الوجود. ويرفض الأستاذ اليازجي هذا
الموقف ويدعو صاحبه في رسالته في الصعوبة إلى
اعتبار الحياة صعوبة يمكن الانتصار عليها
من خلال الوعي والإدراك ودراسة قوانينها.
أما المصيبة فهي عدم التخلص من الصعوبة. لقد
استطاع العقل من خلال تدرُّج الصعوبة تجميع
القوانين في منظومة متماسكة ومتصلة لتستفيد
الإنسانية من خبرة الأجيال السابقة في تجاوز
الصعوبات التي تعترضها في مسيرتها. ولابد لنا
من التمييز مع الأستاذ اليازجي بين الصعوبات
الخارجية، أو الكوارث الطبيعية المتمثِّلة
بالبراكين والزلازل والفيضانات التي يستفيد
منها الإنسان على نحو نسبي (الطمي، المياه،
والحمم الغنية بالمعادن)، والصعوبات
الداخلية، كالكراهية والاستغلال والكبرياء
التي لا تعرف حداً للتهديم والشر. لذا، فإن
الإنسان مطالب بالتحكُّم بصعوباته الداخلية
قبل التحكم بالصعوبات الخارجية. ويقول
الأستاذ اليازجي: "تنتهي الصعوبات
الخارجية ما أن تنتهي الصعوبات الداخلية." *
فلسفة الصداقة:
يتساءل الأستاذ اليازجي عن سبب تحول العلاقات
العامة بين الناس إلى علاقات عداء في كثير من
الأحيان. وهو لا يوافق على القول بوجود صداقة
كاذبة، وصداقة حقيقية لأن الصداقة لا يمكن أن
تكون كاذبة، وبالتالي فلابد من تأمل العلاقات
القائمة بين الناس وطبيعتها بعيداً عن
الانفعال. وهذا ما قاد الأستاذ اليازجي إلى
تبني مجموعة من المبادئ يرى أن الصداقة تقوم
عليها: 1.
قول الحق 2.
التحمل
والتسامح 3.
المحبة
والتضحية 4.
صداقة
جميع الناس 5.
صداقة
النفس. فإذا كنتَ تسعى
لبناء علاقات سليمة عليك قول الحق بألطف
طريقة ممكنة، وتجنب قول الحقائق غير المفيدة
التي لا تمت للإنسانية بصلة، كما يجب قول الحق
عند الضرورة وعدم التستر عليه. أما التحمل
والتسامح والتجاوز والاحترام فتحمل
بمضامينها معنى واحداً. ويميِّز الأستاذ
اليازجي بين التحمُّل والصبر لأن الصبر يشكل
قبولاً ظاهراً ورفضاً داخلياً، أما التحمل
فهو موقف عقلي منفتح ومتفهم. والتسامح هو
تجاوز الخطأ الناتج عن تصرفات الآخر وهو
حصيلة فهم وافٍ للذات والآخر. ويتوقف الأستاذ
اليازجي في رسالته هذه عند معاني الحب
والمحبة. فهو يعتبر الحب عاطفة انفعالية قد
تتحول في وقت ما إلى كراهية تقوم على الرغبة
والشهوة. أما المحبة فهي لا تخضع للانفعال ولا
تتحول إلى كراهية، وهي تشتمل على التحمل
والتسامح والاحترام. ويتساءل الأستاذ
اليازجي عن معنى صداقة الآخرين إذا كان
الإنسان عدو نفسه. إن صداقة النفس تتطلب
الابتعاد عن الأنانية والظلم والاستغلال.
وفيما يتعلق بصداقة جميع الناس يدعو المؤلف
إلى الانفتاح العقلي والقلبي. *
السعادة واللذة:
يعتبر الأستاذ في رسالته هذه أن اللذة يتلوها
دائماً شعور بالخيبة والألم السلبي، وذلك لأن
اللذة مؤقتة وآنية، واللهاث المستمر وراء
لحظات اللذة دون رضى ودون اكتفاء، يجعلها
منهكة ومدمرة. ويميز بين الألم السلبي والألم
الإيجابي: فالألم السلبي يتلو اللذة عادة
لأنها انفعال وانحراف عن الواقع أو العاطفة
السليمة، وهو ليس إلا الإحساس بالضيق
والتعاسة واليأس والاشمئزاز. أما الألم
الإيجابي فتضحية وتسامح ومحبة وسمو. وعلى
خلاف الألم السلبي، فالألم الإيجابي ينتهي
بالراحة والطمأنينة. ولابد لنا أن نفرق أيضاً
بين الفراغ النفسي الطاغي عند أصحاب اللذة
وبين امتلاء الشخصية الإنسانية بأمور
إنسانية عظيمة تضفي مزيداً من المعنى والوجود.
يضعنا اليازجي أمام أحد اختيارين: إما اعتبار
الإنسان كائناً منفصلاً عن الوجود الكلِّي،
أو كائناً متصلاً بالوجود الكوني. الاختيار
الأول يُغرِق الإنسان في التفاهة والعدمية
والعبثية، ويدفعه إلى مزيد من الأنانية
والتمركز حول الذات. أما اتصاله بالكون فيشير
إلى عظمة كلِّية الوجود المملوءة بالمعنى
والقيمة، بل بالقيم. *
الترفع:
تُعتبَر الكبرياء انفعالاً يضمِّخه الخيال.
وغالباً ما تستعمل غطاءً لعقدة نقص أو لتضخيم
بعض الأوهام التي قد يعتبر الفرد أنه يتمتع
بها، مثل المال والجاه، والذكاء والسلطة.
وينضوي الاستغلال والتمايز الطبقي والعرقي
تحت مفهوم الكبرياء. ويوضح اليازجي التناقض
الكبير بين الترفُّع، أو الرفعة، والكبرياء.
فإذا كانت الكبرياء تتجه من الإنسان إلى
الإنسان وتقلص القيمة الإنسانية، فإن الترفع
لا يقلل من القيمة الإنسانية، وذلك لأن
الترفع فعل يقوم على تقدير القيمة الإنسانية،
ويتمثل في مظهرين أساسيين: محبة الآخر
والترفُّع عن أعماله الدنيئة، والقدرة على
الاستمرار في مد يد العون إلى الآخرين. فكيف
ولماذا يكون الإنسان كاذباً أو متكبراً
وظالماً وهو صادق ومتواضع؟! وفي جوهره أن
التجاوز يتم بالركون إلى الجوهر الإنساني دون
الارتكاس الانفعالي أمام زلات وأخطاء
الآخرين. ويضرب الأستاذ
اليازجي مثالين هامين على الترفع والرفعة هما
المهاتما غاندي والسيد المسيح. فمن خلال
تواضعه وترفُّعه حرر غاندي الملايين من
المنبوذين. إن ترفعه عن كبرياء المتغطرسين
ومحبته مكَّناه من رفع الظلم عن المنبوذين.
وكذلك السيد المسيح أحب العشارين والخطاة،
ولكنه ترفع عن أعمالهم وخطاياهم التي استغلها
الفريسيون ليقيِّدوهم بها. وقد ترفع أيضاً عن
كبرياء الفريسيين فمدَّ اليد للعشارين
والخطاة ليرفع من مستواهم. *
المحاكمة والشخصية: يؤمن الأستاذ
اليازجي بدور العقل وقدرته على إجراء محاكمة
عادلة. وهو يقف إلى جانب ديكارت الذي يقول بأن
العقل يستطيع أن يصل إلى نتائج صحيحة بشرط عدم
الخضوع للانفعال. ويفرق في هذه الرسالة بين
الدافع والرغبة. ومع علماء نفس الأعماق يعرف
الدافع بأنه طاقة حيوية تفعل في الكيان من
أجل تحقيق غاية. أما الرغبة فهي انحراف
الدافع عن غايته بحيث لا يتساوق مع العقل.
فشهوة المجد هي انحراف دافع المجد، كما أن
دافع الجنس قد يتحول إلى شهوة الجنس. ولا
يوافق الأستاذ اليازجي مع علماء نفس السلوك
على أن الخلل في تكامل الإنسان سببُه عدم
التوازن بين العقل والجسد. فهو يؤيد رأي علماء
النفس التكامليون (كارل غ. يونغ) الذين يرون أن
الخلل كامن في عدم التوازن بين العقل والنفس،
حيث إن النفس هي جملة القواعد التربوية التي
يحصل عليها الإنسان (ص 73). وفي نهاية هذه
الرسالة جدول يبين الفروق بين الشخصية
والفردية: فالشخصية تخلو من عقدتي النقص
والعظمة، في حين تخضع لهما الفردية؛ والشخصية
تسعى إلى السعادة والغبطة وتنسجم مع وجودها
الأرضي وتسعى للحقائق المادية والروحية، أما
الفردية فتسعى إلى اللذة وتتمرد على وجودها
الأرضي؛ الفردية تسعى إلى تحقيق المعيشة، أما
الشخصية فتسعى إلى تحقيق الحياة. *
الزواج:
يريد الأستاذ اليازجي مناقشة قضية الزواج
بعيداً عن التقاليد والأعراف الاجتماعية. فهو
يريد مقاربة العلاقة من وجهة نظر مثالية. وهو
يرى في مثنوية الرجل والمرأة ثنائية ظاهرية
ووحدة باطنية. ويعد الدافع الجنسي دافعاً
سليماً إذا اقترن المستوى البيولوجي مع
المستوى النفسي–الاجتماعي والمستوى المثالي.
ففي اتحاد الرجل والمرأة سعي لتحقيق الإنسان
الأول الذي انقسم إلى رجل وامرأة. ويتساءل الأستاذ
اليازجي: "كيف تكون العلاقة بين الرجل
والمرأة صميمية؟" ويجيب بأنها يجب أن تقوم
على ثلاثة مستويات في الحد الأعلى وعلى اثنين
في حدها الأدنى. وهذه المستويات هي المستوى
البيولوجي والمستوى النفسي–الاجتماعي
والمستوى المثالي. المستوى البيولوجي يعبَّر
عنه بالدافع الجنسي، وهو سعي الرجل والمرأة
إلى استعادة الوحدة المفقودة، وهو بالتالي
تعبير عن حقيقة جوهرية كامنة في القلب
الإنساني. ولكن هذا الدافع لا يحقق غايته إلا
إذا اقترن بتحقيق الدافع على المستوى النفسي
والاجتماعي. أما أهمية المستوى النفسي
والاجتماعي فتنبع من كون المجتمع هو الحقل
الذي يحقق فيه الإنسان إنسانيته. أما من يحاول
تأكيد أولوية الدافع البيولوجي فيمكن لنا أن
نتبيَّن خطأ اعتقاده ما إن تطفو الاختلافات
أو ينشأ خلاف أو جفاء بين الرجل والمرأة. وهذا
ما يدفع الأستاذ اليازجي إلى أن يتبنى مع
العالم بول شوشار وعلماء نفس الأعماق وعلم
النفس التكاملي مصطلح "الجنس النفسي"
تعبيراً عن أهمية الدوافع النفسية في اتحاد
الرجل والمرأة. وعلى مستوى أعلى، لابد من
اعتبار العلاقة الزوجية علاقة سامية ونبيلة،
كون الإنسان هو نتاج هذه العلاقة التي هي
الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تجسد
الروح في المادة. ويطلق الأستاذ اليازجي على
هذا المستوى مصطلح "الجنس الروحي"،
ساعياً لرفع الواقع إلى المثال والمادة إلى
الروح (رَوْحَنَتها) في نطاق دافع واحد يجمع
المادة والنفس والروح. *
اليأس:
تبدأ هذه الرسالة بالتمييز بين العاطفة
والانفعال: فالعاطفة التي تطغى على العواطف
الأخرى هي انفعال لأنها فاقت حدها وانحرفت عن
حقيقتها؛ والعاطفة التي ترتبط بمصلحة فردية
هي أيضاً انفعال. هكذا نميز بين الحزن (عاطفة)
واليأس والتشاؤم، حيث اليأس انفعال. وينقسم
اليأس إلى ثلاثة مستويات: 1. اليأس المؤقت، 2.
اليأس الناتج عن أوضاع اقتصادية، 3. اليأس
الفكري أو المطلق. اليأس
المؤقت:
يمكن تجاوزه بسهولة، ذلك أن اللحظة الآنية لا
تشكل كلية الوجود، كما يجب على الإنسان أن
يستفيد منه خبرة وحكمة ووعياً شمولياً. أما اليأس
الاجتماعي الناجم عن الانتماء الطبقي، أو
الوضع الاقتصادي، أو الظلم السياسي، أو
الاضطهاد العقائدي، فتجاوزه يتطلب مجهوداً
أكبر لأنه يتطلب إصلاحاً اجتماعياً شاملاً
وتعديلاً في النظرة إلى الإنسان. أما اليأس
الفكري الذي يعبَّر عنه من خلال مفاهيم
العبث والعدم والاغتراب فيُرَدُّ إلى غياب
قاعدة الوعي الإنساني الكوني. قد يتمرد
الإنسان على الكون وينفصل عنه ولكن ذلك لن
يؤدي إلا إلى مزيد من القلق والشعور
بالانفصال، أما العمل على فهم وتحقيق
الانسجام بين الكون والإنسان فيؤدي إلى تضاؤل
مفاهيم العبث واللاجدوى وينتهي اليأس (ص 107). *
الحرية والوعي:
سبق للأستاذ اليازجي أن بحث في موضوع الحرية
والوعي في مؤلفات أخرى منها بحوث فلسفية والمبدأ
الكلي. وهو يضمِّن مفهوم الحرية كل القيم
الأخلاقية، كالخير والجمال ويقسم الحرية إلى
أربعة مستويات: الحرية الاجتماعية، الحرية
النفسية، حرية الإرادة، الحرية الفلسفية
المتصلة بالوعي. تنحصر الحرية
التي يطالب بها الفرد في المجتمع عادة في نطاق
إشراطات التقاليد والمفاهيم الزائفة، حيث
الحرية الاقتصادية تختلف عن الحرية
السياسية، وحيث هاتان الحرِّيتان تختلفان عن
الحرية الأخلاقية. في حين أن الإنسان كيان
واحد عليه أن يطبق جوهره في كل من هذه
النطاقات تطبيقاً موحداً. وينطبق الأمر ذاته
على الحرية النفسية، حيث تبدأ النفس، منذ
الطفولة، بالخضوع للإشراطات التربوية. فكيف
للمطبوع على الكبرياء أو الاستغلال أو التعصب
أو الأنانية أن يطبق حريته؟! وتأتي حرية
الإرادة – وهي وجه آخر لحرية الفكر لأن
الإرادة تحوِّل الفكر إلى عمل وسلوك – التي
تقتضي تفكيراً سليماً لا يخضع للرغبات
والانفعالات. أما الحرية الفلسفية فهي
الوعي الذي يساعدني على الانعتاق من كل قيد
وإشراط. *
الطموح:
تأمُّل الأستاذ اليازجي في الجهد الذي يبذله
الناس وسعيهم الدائم لتحقيق مستوى معيشي أو
اجتماعي أفضل قاده إلى طرح مفهومي الطموح
والطمع. فالطمع انفعال يتحقق من خلال
الاستزادة من الأمور المادية والمظاهر
الكاذبة دون اكتفاء. أما الطموح فهو سموٌّ
بدوافع الإنسان لتحقيق الصورة المثالية
لوجوده، إدراكاً للغاية من هذا الوجود
واتصالاً بكل ما في الكون. ويفرق الأستاذ
اليازجي بين الطامعين والطامحين في التاريخ:
الطامعون هم أصحاب العقائد التي تفرض نفسها
على بعضهم وتسعى لإلغاء الآخرين، هم فئة
الحكام والرجال المستغلين الذين سيَّروا
المجتمعات بفرض سطوتهم وطغيان أموالهم
لتحقيق رغباتهم وشهواتهم، سالكين طريق العنف
والقسوة، ومؤججين الصراعات المذهبية
والطبقية والسياسية؛ أما الطامحون فهم رجال
العلم والحكمة الذين دعوا إلى محبة الإنسان
لأخيه الإنسان ونبذ الفروق العرقية
والعقائدية والطبقية من أجل دفع الإنسانية
إلى الأمام، وتحقيق القيم الإنسانية النبيلة.
ويقول الأستاذ اليازجي بعبارة مكثفة ومقتضبة:
"إذا كان الطامعون ناجحين فإن الطامحين هم
العظماء." *
فلسفة الوطنية:
يتجاوز الأستاذ اليازجي في تعريفه للوطنية
اللغة والعادات والتقاليد والأعراف،
مركِّزاً على البعد العمودي، أي علاقة
الإنسان بالأرض. فالوطنية هي محبة الوطن،
والوطن هو الأرض التي يعيش عليها شعب ما. وهو
يرى أن هذا المفهوم بعيد عن أن يسمع باستعلاء
شعب على آخر أو قومية على أخرى. في الوطن
الواحد يتعاون الجميع من أجل العيش المشترك،
كما تتعاون الأوطان في سبيل تحقيق عالمية
الإنسان. ويشبِّه الأستاذ اليازجي كوكب الأرض
بالجسد الواحد: فهو وحدة عضوية تشكل الأوطان
المختلفة أعضاءه حيث يقوم كل منها بوظيفته في
نطاق وحدة الفكر والمعرفة والمصير الإنساني. *
الخلود:
يعتبر الأستاذ اليازجي أن الخلود فكرة جوهرية
في الإنسان. فهو – أي الإنسان – يضفي المعنى
على وجوده من خلال الديمومة والاستمرار ضمن
مستويات الوجود المتحولة في صورها
وتعيُّناتها (ص 198). ونقرأ الخلود في هذه
الرسالة من خلال أربعة مستويات: المستوى
المادي، المستوى الاجتماعي والفكري، المستوى
العلمي، المستوى الروحي. أما تحول الدقائق
الأولية اللامتمايزة إلى أجناس وأنواع
متعددة فهو يعني أنها كانت تتضمن في ذاتها كل
الخصائص العقلية والنفسية وفق مستوياتها؛
كما أن انبثاق الحياة من هذه الدقائق يدلُّ
على اتصافها بالحياة والوعي. وهذا يذكِّرنا
بحكمة يونانية قديمة تقول بأن التحول من شيء
إلى شيء آخر لا يتم إلا إذا تضمن الشيء الأول
صفات المتغيَّر إليه (أنكساغوراس)، وبتيار دي
شاردان الذي يقول: كمال الأشياء قائم في
بدايتها. وإن تأمل الأستاذ اليازجي في موت
الجسد وعودة العناصر إلى ما كانت عليه من
تجزئة وحالة أولية دفعه للتعبير عن الاتصالية
والاستمرارية الكونية بقوله: "من الحياة
إلى الحياة"، مؤكداً وجود الخلود على
المستوى المادي. ويشير الأستاذ اليازجي إلى
تطور هابط بانبثاق طاقة انطوت على ذاتها
وبلغت أقصى تكثف لها في المادة، ثم أخذت تسعى
للإفصاح عن نفسها في عملية تطورية أدت إلى
ظهور الوعي. ويذكِّر الأستاذ اليازجي بـخلود
أفكار العلماء والحكماء واستمرارها
بالوجود حتى بعد موتهم وتحلل أجسامهم. أما على
المستوى الروحي، فيميز الأستاذ اليازجي
بين الروح كفاعلية كونية تقبل التحوُّل إلى
كل شيء، والجسم الروحي، وهو الطاقة الكونية
المركزة في نقطة أو بؤرة. والخلية الروحية إذ
تلتقي الخلية بالمادية تعطي الإنسان حياته
ووعيه. ولكن الجسم الروحي يحافظ على شكله
وخبرته حتى بعد تحلل الجسم المادي. *
العودة إلى التجسد:
يؤمن الأستاذ اليازجي بأن العودة مبدأ كوني
يتحقق في جميع المستويات. فالنجوم تموت وتعود
فتُبعَث من جديد، وكذلك الإنسان يموت ويبعث
لأنه لا يستطيع أن يحقق وجوده في دورة حياتية
واحدة. ويقرِّب الأستاذ اليازجي هذا المفهوم
إلى الأذهان فيعطي مثال شخص ارتكب جرائم في
وطنه وانتقل إلى بلد آخر حيث قبضت عليه
المحكمة وخيَّرته بين العودة إلى وطنه
ومحاولة تصحيح أخطائه وبين بقائه في غرفة
مظلمة يخضع فيها لعذاب ضميره. ويرفض الأستاذ
اليازجي فكرة إله شخصي يعاقب على طريقة البشر
ويرفض جهنم كمكان لأن جهنم هي غياب الوعي
والبقاء في المادة. ويتساءل الإنسان لماذا
ولد في بلد دون آخر، وفي أسرة دون أخرى، أو في
فئة أو طبقة أو عقيدة معينة. وتفسر الرسالة
هذه التساؤلات من خلال مبدأ العودة. ويدعو
اليازجي إلى التعديل، لا إلى التغيير،
لأن في التغيير عدم استقرار وخضوع لمركزية
الأنا وهو يُكسِب الإنسان وجوهاً عديدة،
ويؤدي به إلى الانقسام على ذاته. أما التعديل
فقدرة داخلية ديناميَّة تحرر الإنسان وتدفع
به على طريق الوعي والخلاص. *
الصوفية حكمة حياة:
يقسم الأستاذ اليازجي العقل في هذه الرسالة
إلى ثلاثة مستويات يهتم الأول بالمستوى
المادي والثاني يدرس هذا العالم ويجرده (المنطق
الرياضي...) والعقل الثالث الأعلى يستغرق في
الحقيقة السامية. وهو يتبنى مصطلح الصوفية
العقلية، ويؤكد أن الصوفية ليست الزهد والبعد
عن المجتمع؛ بل إن "المجتمع هو النطاق
الصالح الوحيد لممارسة الفضيلة، والحقل
الوحيد لزرع بذور الإنسانية، والوسط الوحيد
لتحقيق الكيان الإنساني والروح السامية..."
(ص 256). وعن الزهد يقول: هو الترفع عن الرغبات
والشهوات. فالحكمة قوة تساعد الإنسان على
التخلص من الرغبات والشهوات المقيِّدة
والمشرِطة. والانسحاب من المجتمع فعل سلبي لا
يتفق مع سرانيَّة الحكمة والصوفية. ويركز
الأستاذ اليازجي في هذه الرسالة على تجاوز
التفاؤل والتشاؤم إلى الأمل، وتجاوز الصبر
إلى التحمُّل، وتجاوز الكراهية إلى المحبة
الشاملة وتقديس الحياة، حتى تستحق أن تعاش،
فيتحقق الوجود من خلالها. وهو يقول: "يقع
الصوفي من العالم موقع القلب المنفتح، والعقل
المنفتح، والمدبِّر المسؤول." (ص 273) وهذا
يعني أن "الحكيم مسؤول عن نقل معرفته إلى
الآخرين، ومد اليد إليهم لأن الإنسان لا يخلص
إلا بخلاص الآخرين." (ص 274). خاتمة:
إذا كان جبران قد اختار أن يتحدث إلى سكان
أورفليس بلسان نبيِّه فإن الأستاذ اليازجي
اختار أن يتحدث مباشرة إلى الجميع. رسائله
مليئة بالأفكار الإنسانية السامية، والقائمة
على شمولية في طرح المواضيع وعمق في
المعالجة، دافعه في ذلك محبة للناس الذين
يعتبرهم أصدقاءه (ص 37). وهو يدعو إلى حوار مبدع
مجرد من الجدل (ص 65) حتى يتمكن القارئ من طرح
التساؤلات والأفكار وتوجيه النقد ومتابعة
البحث. هكذا يصبح الإنسان (الصديق) أهلاً
للسموِّ بإنسانيته من خلال القواعد والمبادئ
المبيَّنة في هذه الرسائل وفي كتب الأستاذ
اليازجي الأخرى كلها، مثل دراسات في
المثالية الإنسانية وتأملات في الحياة
والإنسان. لقد اختار الأستاذ اليازجي أن
يكون شاهداً للحق. وهو كذلك يدعوك أن تكون
شاهداً للحق لا للباطل، فما رأيك، أخي
القارئ؟ *** *** ***
|
|
|