|
الصورة
المتوحشة للقرن العشرين!
ضرورة
إعادة النظر بغائية العلم والتطور
من
أجل إنسانية أغنى وأنانية أقل
كرم
الحلو
في أواخر القرن التاسع عشر كتب المفكر
النهضوي فرنسيس المراش في الجنان، وكان
بين جميع النهضويين الأكثر إعجاباً بالقرن
التاسع عشر وإنجازاته العلمية والسياسية
والاجتماعية والاقتصادية، مقالاً بعنوان "التمدن
المتوحش" قال فيه: "هو ذا لسان هذا القرن
الجاري جعل يبشِّر ركب العالم البشري بوصوله
إلى قمة جبل التمدن بعد مسيرة نحو ستين جيلاً،
وهو ذا لسان هذا القرن عينه أخذ ينذر الآن هذا
العالم العظيم بهبوطه في هاوية التوحش [...]
فبئس التمدن الذي به قد اتصل الإنسان وهو على
قمة الكمال إلى استحداث أشرِّ الآلات
الجهنمية لقتل نفسه والفتك بها، وبئس التمدن
الذي وهو يهتف ببوق الأفراح والغناء تُسمَع
حوله ولاول الأرامل وعويل اليتامى وحسرات
الفقر." إذا كان هذا ما
استنتجه المراش وهو يتأمل فيما أفسد تمدن
القرن التاسع عشر وشوَّه إنجازاته العظيمة من
حروب وثورات دموية خلَّفت الفقر والخراب
والمآسي لأمم العالم المتمدن، فإن صورة هذا
القرن [العشرين] وهو يدنو من نهايته ليست أقل
توحشاً على الرغم من كل ما تحقق من اختراعات
واكتشافات وإنجازات فاقت في حجمها وثوريتها
أضعاف كل ما أنجزته الإنسانية في تاريخها
الطويل، وعلى الرغم من كل التقدم الحاصل في
العلوم والعمران والطب والتكنولوجيا. إذ إن
قرننا هذا كان الأكثر عنفاً ودموية منذ بداية
الوجود الإنساني على هذا الكوكب، فقد أزهقت
حروبه ونزاعاته أرواح حوالى مئة مليون إنسان
وخلَّفت عدداً أكبر من الجرحى والمعوقين،
وتسببت بآلاف مليارات الدولارات من الخسائر
المادية، وهي خسائر لا مثيل لفظاعتها في كل
الحروب الغابرة. وما ذلك إلا لأن التقدم
التكنولوجي طوَّر آلات القتل والإبادة
الجماعية وابتكر من الأسلحة الذرية
والهيدروجينية والجرثومية والكيماوية ما
يكفي لإبادة كل أنواع الحياة على الأرض مرات
عديدة. ألم تكن قنبلة هيروشيما الذرية، التي
أبادت في ثوان أكثر من 75 ألف قتيل، نموذجاً
صارخاً لمستوى الوحشية الذي بلغته تقنية
الحرب والعدوان في هذا القرن؟ أليست الحربان
العالميتان الأولى والثانية، ثم حرب فيتنام،
أدلة ساطعة على تفوق غريزة القتل والعدوان
والاستئثار في الإنسان على إرادة التعاون
والتسامح والسلام، وعلى جعل التقدم العلمي
أداة للقهر والجريمة بدلاً من أن يكون سبباً
لرفاه وراحة وسعادة البشر؟ إن ما تميَّزت
به حروب القرن العشرين من ضراوة وشراسة وسفك
للدماء يثير تساؤلات كثيرة حول حقيقة تمدن
هذا القرن، كما يبعث الكثير من القلق
والمخاوف على مستقبل الإنسانية. فعلى الرغم
من كل الأحاديث المطمئنة عن السلام الدولي في
ظل النظام العالمي الجديد لا تزال ذهنية
السيطرة والتسلط تسود العلاقات الدولية وراء
كل المظاهر الخادعة لنهاية الحرب الباردة
وإحلال التفاهم الدولي محل النزاعات والحروب.
إذ لا يزال عالمنا يخضع لشريعة القوة، ولا
يزال منطق الأقوى هو السائد. ففي ظله ووفقاً
لمصالحه تحل كل القضايا والإشكالات من دون
مراعاة للعدل والحق. أليس هذا ما جرى منذ
اغتصاب فلسطين إلى إرغام أهلها على التخلي عن
حقوقهم والاعتراف بشرعية المغتصِب؟ أليس هذا
ما يجري كل يوم وفي كل بقعة من العالم، من فرض
لحلول لا تتلاءم في أكثرها إلا مع مصلحة القوى
العالمية المهيمنة، وليس مع مصالح الأمم
والشعوب المغلوبة على أمرها؟ إن بقاء
الموازنات العسكرية على المستوى المرتفع
الذي هي عليه الآن لا يبشِّر بتغيير جذري في
الروح التسلطية والعدوانية لهذا القرن. فقد
جاء في تقرير الأمم المتحدة لعام 1994 أن
الإنفاق العسكري العالمي عام 1992 بلغ 815 مليار
دولار، أي ما يعادل دخل 49 في المئة من سكان
العالم مجتمعين. ويذكر التقرير ذاته أن
أوروبا الغربية لم تخفض إنفاقها العسكري
وأنها تتابع إنتاج أنواع متطورة من الأسلحة
الباهظة الكلفة، وأن هناك 20 ألف رأس نووي لم
تجر إزالة رأس واحد منها. كما أنه من الملفت في
التقرير أن الدول النامية والفقيرة رفعت حجم
إنفاقها العسكري في النصف الثاني من هذا
القرن، حيث ظلت الجيوش تنتعش وسط بؤس بشري
مخيف وعلى رغم وجود زهاء مليار إنسان على حافة
الموت. وليست الملامح
الاجتماعية لصورة هذا القرن أقل توحشاً من
ملامحها العسكرية والعدوانية. فجحافل
الفقراء والمعدمين تتزايد باستمرار. ويعيش في
عالمنا اليوم زهاء 1.5 مليار إنسان تحت خط
الفقر، بينما كان عدد هؤلاء 400 مليون عام 1970 و800
مليون عام 1980. وهناك مئة مليون إنسان يعيشون
بلا مساكن، و500 مليون آخرين يعيشون في الأكواخ
وبيوت الصفيح، كما أن هناك 1.3 بليون أمي، و192
مليون طفل يعانون من سوء التغذية يموت منهم 12.2
مليون طفل سنوياً. ويعيش في عالمنا 1.3 مليار
إنسان من دون خدمات صحية ويشربون مياهاً
ملوثة أو غير صحية. وبينما يتمركز الدخل
العالمي في أيدي الفئة القليلة الثرية – 20 في المئة من الناس يملكون 85 في المئة من
خيرات العالم، و60 في المئة من الناس يحوزون
على أقل من 5 في المئة من الدخل العالمي – بات العالم الثالث عاجزاً حتى عن خدمة
ديونه التي فاقت الألفي مليار دولار. وبلغ التوحش
ضد الطبيعة في القرن العشرين حداً يهدد وجود
الإنسان على هذا الكوكب. فإبادة الغابات – الرئة الخضراء للأرض – تتسارع بحيث تمَّ القضاء على أكثر من 200
مليون هكتار من الغابات في العقدين المنصرمين.
ويتم سنوياً إبادة 17 مليون هكتار آخر من
الغابات. وفي كل يوم يتعرَّض نحو 20 نوعاً من
الكائنات الحيوانية والنباتية للانقراض، في
حين يتحول 6 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية
إلى صحراء سنوياً. وفي الوقت ذاته بلغت معدلات
التلوث أرقاماً قياسية، حيث تضاعفت النفايات
200 مرة عما كانت عليه عام 1950، وأصبح العالم
يلقي سنوياً 700 مليون طن من المخلفات البشرية.
ويتزايد تلوث الهواء بالغازات السامة وأكسيد
الكربون حتى باتت طبقة الأوزون التي تحمي
الأرض مهددة. وفي كل يوم يزداد تلوث الماء في
البحار والمحيطات والأنهار بحيث إن 50 في
المئة من أنهار العالم أصبحت الآن ملوثة. أما التوحش
الإيديولوجي والعقائدي والعنصري فقد كان
السمة البارزة المميزة لهذا القرن الذي أثمر
عن الصهيونية والستالينية والنازية
والرأسمالية الأوليغاركية... هذه
الإيديولوجيات والعقائد التي أغرقت عالمنا
المعاصر في القهر والرعب والدم، مما شكل
انقلاباً على فكر الأنوار وإسقاطاً لقيمه،
قيم العدالة والحرية والإخاء والمساواة،
لصالح الغرائز المتوحشة في الإنسان، تلك
المتمثلة في الأنانية والجشع والتسلط
والسيطرة والاستئثار. هذا كله يدل
على شراسة العدوان الذي مارسه ويمارسه إنسان
القرن العشرين على أخيه الإنسان وعلى الطبيعة
وهوائها ومائها وعلى سلامة الحياة فوق هذه
الأرض. إنه التوحش في أبشع صوره وأشكاله، توحش
لطَّخ جبين هذا القرن، مهما تبرقع بالعلم
والتكنولوجيا ومهما تزيَّا بشعارات التقدم
والديموقراطية وحقوق الإنسان. ألا يكفي ما
حدث ويحدث في فلسطين المحتلة، وفي البوسنة،
وفي الجزائر من قهر وقمع ومذابح وحشية،
لإدانة الصورة المتوحشة للقرن العشرين
والتشكيك في ما حمله من تقدم علمي واقتصادي لا
يقدر على تغطية أو تبرير جريمة واحدة من
الجرائم في حق الإنسان، وفي حق الطبيعة
ومستقبل الإنسان على هذه الأرض؟ ألا يكفي هذا
التوحش الذي أثمر عنه تمدن هذا القرن، إنْ في
علاقة الإنسان بالإنسان أو في علاقة الإنسان
بالطبيعة، لإعادة طرح التساؤلات التي أقلقت
المراش، من جديد؟ فبعد أكثر من قرن كامل على
تلك التساؤلات نرى أن ما تخوَّف منه المفكر
النهضوي قد تجذَّر وتعمَّق، وأن التوحش الذي
كان قد بدأ يهدد إنجازات تمدن القرن الماضي،
قد استشرى في قرننا هذا، بل بات اليوم أخطر
وأفدح بحيث أصبح القلق على مستقبل الإنسانية
ليس فقط مسألة فرضية بل معطى واقعي تؤكده
الوقائع على الأرض. هل هي دعوة
طوباوية للانسحاب من العصر والانكفاء إلى
المجتمع البدائي المثالي المزعوم؟ ليس هذا ما
نريده وندعو إليه بالتأكيد. ما نريده، أو
ما نحلم به، هو إعادة نظر في العلاقات
الإنسانية، وفي علاقة الإنسان بالكون
والطبيعة، وفي تحديد غائية العلم والتطور.
فعلى مستوى العلاقات الإنسانية يجب أن يسود
التضامن والتكافل بدل الصراع والتناحر، وأن
يهيمن الهم الإنساني المشترك على الفردية
الأنانية التي حوَّلت مكاسب التطور والتمدن
إلى سلاح اقتتال بين الأمم والشعوب والطبقات
من أجل السيطرة والاستئثار. فالتمدن إن لم يكن
لصالح الإنسانية جمعاء سينقلب ضد الناس جميعاً، حتى أولئك الذين يتوهمون أن بإمكانهم
أن ينعموا وحدهم بخيرات العالم. إن ما أنفق في
هذا القرن على الحرب والسلاح لم يجلب السعادة
والطمأنينة لأي شعب أو أية أمة من شعوب وأمم
العالم، وهو كان كافياً لإلغاء البؤس
الإنساني وإزالته من الوجود. وعلى مستوى
علاقة الإنسان بالطبيعة يجب أن يتوجه
الاهتمام إلى البيئة، لا كمعطى خارجي خاضع
لمشيئة الإنسان وإرادته، بل كامتداد للوجود
الإنساني، لا تستقيم الحياة من دونه. وإذا
كانت فلسفة الأنوار قد جعلت الإنسان مركز
الكون، الطبيعة وما فيها مسخَّر له وفي خدمته
وخدمة أهدافه، فقد آن الأوان لإعادة نظر في
علاقة الإنسان بالطبيعة، باعتبار التلازم
الضروري بين سلامتها وسلامة الوجود الإنساني. ومن الضروري
أيضاً إعادة النظر في غائية العلم. فالذي حصل
حتى الآن كان إخضاع العلم وإنجازاته لتحقيق
المصالح الأنانية وتأكيد الهيمنة والتسلُّط
بينما كان من الواجب تكريسه للارتقاء
بإنسانية الإنسان وتحصينه في مواجهة غوائل
المرض والفقر وتحديات الطبيعة. إذ ذاك يمكن أن
ننعم بتمدن مستديم، لنا ولأجيالنا المقبلة،
تمدن لا تهدده الأنانية والتعدي والاغتصاب،
ولا تعكره "ولاول الأرامل وعويل اليتامى
وزفرات الفقراء"، تمدن يتآلف فيه البشر
ويتعاونون ويتكافلون، ويتآلفون مع الطبيعة
ويتحابون. عندها تصدح بلابل التمدن الحقيقي
الذي لانهاية له ولا توحش معه. *** *** ***
|
|
|