|
مقالة في التقمّص
قراءة
نقدية
هفال يوسف
مقالة
في التقمّص هو
عنوان الكتاب الثاني من سلسلة "الحكمة"
للباحث ديمتري أفييرينوس، صدر عام 1998
بالتعاون مع دار مكتبة إيزيس بدمشق. يحوي
الكتاب، بالإضافة إلى "مقالة في التقمّص
بحسب التعاليم الثيوصوفية"، ثلاثة نصوص
للمفكر الثيوصوفي وليم ك. دجدج تحمل عناوين
"العَوْد للتجسُّد" و"كَرْمى" و"حِكَم
في كَرْمى"، قام بترجمتها إلى العربية
توفيق شمس وديمتري أفييرينوس. يقع الكتاب في
112 صفحة من القطع المتوسط. موضوع
البحث، في حقيقته، يتجاوز سؤال التقمُّص،
الشائك والعسير، وذلك لأن قضية كهذه لا يمكن
فصلها عن مجمل الأسئلة والأسرار الوجودية حول
حقيقة الإنسان وماهيّته، حول الحياة، معنًى
وهدفاً، وحول الوجود بكلِّيته، وما يكتنفه من
مجاهل معرفية لاتزال تحتفظ بعذريّتها، بعيداً عن متناول الفضول الإنساني. يتماسّ
التقمُّص مباشرة مع الموت وما يفرزه من
تساؤلات وقضايا شغلت معظم الفلاسفة والعلماء
والمفكِّرين على مرّ العصور. يقول الراحل دَغْ
همِّرشولد، الذي كان أميناً عاماً للأمم
المتحدة: "لو ذهبنا حتى جذر الموضوع، فإن
فكرتنا عن الموت هي التي تقرر إجاباتنا على
جميع الأسئلة التي تطرحها الحياة."[1] في
محاولته لتجاوز الموت، وفي أثناء بحثه عن
ينبوع الحياة والخلود والأبدي، طرح الإنسان
إجابات عدة بقيت محلّ جدل طويل. بعض تلك
العقائد والأفكار لاتزال محتفظة بحيويتها في
وقتنا الراهن، وخاصة تلك التي اعتمدت مفهوم
التقمّص أو "العَوْد للتجسد" لبنةً
أساسية في بناء منظوماتها العقائدية
والفكرية. يرتبط
التقمّص ارتباطاً وثيقاً بعلم "النشوريات"
eschatology، أي الاعتقاد باستمرار الحياة
بعد الموت، أو، بالحري، اعتبار الموت سيرورة
من سيرورات الوجود؛ فهو، بالتالي، تحوُّل
وانتقال، لا إلى عالم آخر مفارق، بل إلى حالة
أخرى – ذلك لأن من المبادئ الأساسية للثيوصوفيا، التي ينطلق منها المؤلف في
دراسته للتقمُّص، النظر إلى الكون بوصفه "كائناً
واحداً لايتجزأ، لايولد ولايموت، أزلياً غير
محدود…" (ص 16). وبالعودة إلى الكتاب الذي بين
أيدينا، لايحاول المؤلف مَنْطَقَة أو ’’فَكْرَنة
آرائه، ذلك لأنه يتناول ما يتجاوز حدود
المنطق والفكر، ولأن الكلام على المطلق
واللاتناهي والأزل والأبد إلخ يقع خارج حدود
التذهُّن والتصوُّر. يؤكد ذلك الحسين بن
المنصور الحلاج في "طاسين الفهم"، إذ
يقول: "أفهام الخلائق لاتتعلق بالحقيقة،
والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق،
وعلائق الخلائق لاتصل إلى الحقائق."[2]
من هذا المنطلق فإن المؤلف، عبر شرحه للمبادئ
الأساسية التي يقوم عليها "دين الحكمة" – الثيوصوفيا
–، لا يحاول إقناعنا بقدر ما يحاول
تعريفنا بهذه العقيدة التي ترى الكون كائناً
واحداً لا يتجزأ، وهو "حيّ وعاقل ككلّ… تجلٍّ لمكوِّنه الذي هو "الله"
أو الواحد أو المطلق." (ص 16) هنا، لا خوف من
الوقوع في الإشكالية الأرسطية حول حدوث
العالم أو قدمه، لأن "الله، من هذا المنظور، ليس "كائناً"
مستعلياً transcendent على الكون…" (ص 16). بيد أننا هنا نقع في المحذور،
حيث يجب اجتناب كل محاولة لتقديم تعريف، وذلك
لأن أي محاولة للتعريف بـ"الله" بوصفه
خالقاً لابدّ أن تقود إلى التعريف بما ليس هو
"الله". ولقد نبّه ديونيسوس الأريوباغي
إلى هذا الأمر حين قال: "ليس لأحد، ممّن
يحبون الله فوق كل حقّ، أن يجوز له أن يمجِّد
جوهر الألوهية السامي – الذي
هو الوجود الأعلى والخير الأسمى – وعلى أنه كلمة أو عقل أو حياة أو ماهيّة،
بل على أنه مفارق لكل وصف وحركة وخيال وتخمين
ولفظ وفكر وتصوُّر وماهية ووضع وثبات ووحدة
وحدود ونهائية، بل وبأي شيء آخر على الإطلاق،"[3]
–
الكلام الذي ينسجم مع القول الهندوسي: "ليس
هذا، ليس ذاك." ولكن، كما سبق وقلنا، لا
يحاول المؤلف إقناعنا، الأمر الذي يدفعه إلى
الحديث عن خلود الكون حيث "كل ذرّة حيّة فهي
لاتفنى، لكنها في تطوّر (تفتّح) أبدي" (ص 17). الخلود،
بمعنى سرمدية أزلية-أبدية، مفهوم نظري غير
قابل للتذهُّن، وبالتالي فإنه ينضوي ضمن
المحتوى الإيماني، لا المعرفي. وفي الحقيقة،
إن كوناً لامتناهياً، مكاناً وزماناً، هو شيء
غير معقول، لكن الثيوصوفيا، باعتبارها هذه
الوحدة بين "الله" والكون، لا تتناقض مع
ذاتها، وذلك لأن "القوانين سارية في كلّ
شيء، من الذرة إلى المجرّة… تناغم الكلّ تناغم واحد غير منقسم"
(ص 17). أحد هذه القوانين هو قانون كرمى karma الذي سنعود إليه لاحقاً. غير أننا
نجد أنفسنا أمام معضلة غير قابلة للحلّ في
العلاقة بين الـ"كائن" الذي هو "شعاع Ray
في الكلّ ومنه"، والذي "ينطوي بالقوّة
على كافة صفات الكلّ ومقوِّماته"، وبين هذا
"الكلّ"؛ وذلك لأن كون "الشعاع"
ينطوي بالقوّة على صفات الكلّ لا يعني البتّة
أنه يساوي الكلّ، أو أنه قادر على أن يكون كلاً بذاته. فاللامتناهي لا
يُدرَك، وإنما
يُتناهى إليه؛ الأمر الذي بيّنه ابن عربي في
شرحه لمقولة سهل التستري حين قال: "إن
للألوهية سراً، لو ظهر، لبطلت الألوهية" إذ
قال الشيخ الأكبر: "الألوهية مرتبة للذات
لا يستحقّها إلا الله."[4] ترى
الثيوصوفيا في الحياة مدرسة يتعلّم فيها
المرء "لبلوغ مستوى من الوعي – هو الوعي المنعكس على ذاته، أي وعي الوعي
– … وعندما يخترق [المدرك] حدود ظاهر الأشياء
إلى بواطنها يتعرّف، كشفاً، وجود العاقلة
الصادرة عن أصل الوجود – في نفسه وفي غيره من البشر الفانين الذين
يتجلّى من خلالهم الإنسان الخالد" (ص 18-19)؛
ولأنه "لاحدود للحكمة وللتعلم" (ص 19)،
فالإنسان بحاجة إلى حيوات عدّة
لحدوث
هذا التجلّي. بيد أننا نسأل من منطلق "لاحدّية"
الحكمة أو لامحدوديتها: هل يتوقف التطور عند
"الإنسان الخالد"، أم يستمر؟ والإجابة
طبعاً ستكون: "يستمر"! عندئذٍ نتساءل:
ماذا بعد الكمال؟ في
البحث عن الأصول الكتابية الأولى لعقيدة
التقمُّص، يعود بنا ألبرت شفايتسر إلى
الأسطورة القمرية التي تقول: "كل أولئك
الذين يغادرون هذه الأرض يذهبون إلى القمر.
فنفوسهم تملأ البدر، والهلال المتناقص
يجعلهم يولدون من جديد. إن القمر باب السماء،
وعندما يعرف المرء كيف يردّ عليه يترككم
تمرّون. ومن لا يعرف الجواب يحيله إلى ماء
ويعيده مطراً إلى الأرض. وهناك، بحسب ما قدّمت
يداه وبحسب ما يملكه من معرفة… والحقيقة أنكم عندما تصلون إلى
القمر يسألكم: "من أنت؟"، عند ذلك يجب أن
تجيبوا: "أنا أنت". وكل من يقدم هذا
الجواب يتركه القمر يمرّ."[5]
ويعيد شفايتسر هذه الأسطورة تاريخياً إلى
السكان البدائيين السابقين للآرية، حيث يؤكد
عدم وجود أي أثر لها في الأناشيد الفيدية،
وكونها تبدو غريبة على التصوف البراهماني. كذلك
نرى أن أزلية الوجود هي من ضمن تعاليم كريشنا
لأرجونا في الـبهغفدغيتا Bhagavadgîtâ، حيث يقول: "غير أني لم أكن غير
موجود، ولا أنت ولا أولئك الرجال الحكماء،
ولن يتوقف أي منا أن يوجد هنا."[6]
ويقول في موضع آخر: "لاوجود لما لم يوجد،
أما ما هو حقيقي فإنه لن يكون غير موجود…"[7].
أما بخصوص التقمّص فيقول كريشنا: "كما
يتخلص المرء من ملابسه ويلبس ملابس جديدة،
كذلك الروح المتجسدة تتخلص من الأجساد وتدخل
أجساداً جديدة."[8]
وأما عن دورة الولادة والموت فيقول: "حيث إن
الموت مؤكد لمن يولد، فإن الولادة مؤكدة لمن
يموت…"[9]. بالعودة
إلى الكتاب قيد القراءة، نرى المؤلف يستنتج
"بالقياس العقلي" أن "الكون… صادر عن المطلق" (ص 19). وعلى
الرغم أنه لم بشرح كيفية هذا الصدور، يمكننا
مقاربة هذه الكلمة مع "الفيض"
الأفلوطيني. ولكن، ألا يفترض هذا الصدور عن
المطلق مبتدأ زمانياً؟ وبالتالي منتهًى
زمانياً أيضاً؟ الثيوصوفيا تقول: لا… لأن المطلق ليس مفارقاً للكون،
ولأن الكون قابع أصلاً في كمون المطلق، ومادة
الكون "مجلى من مجالي واحدية ما بعد الروح
الذي يمكننا أن نسميه الحياة" (ص 20). وبما أن
المادة والروح تجليان للمطلق الكلي الخالد،
فهما غير قابلين للفناء، وبالتالي فـ"الحياة
كلية الحضور… غير
قابلة للزوال" (ص 21). ويرى
المؤلف أن الحياة طاقة، وأن الطاقة تخضع
لقوانين طبيعية. من هذه القوانين الراحة
والنشاط؛ وبالتالي، وبما أن كل فعل هو طاقة،
فإن هذه الطاقة سترتدّ علينا مساوية لفعلنا،
مما يعني توازناً وتناغماً وتواكلاً "بين
كل واحدات الحياة المتساوقة في التطور" (ص
22)، الأمر الذي ينفي "الصدفة" أو "الحظ"،
ليحل محلّه القانون الكوني الذي هو "قانون
لا يخطئ وغير شخصي…" (ص 23). هنا يقع المؤلف في تناقض
حين يقول: "من هنا ليس لأي صلاة أو التماس
مرفوع لـ"إله" أو "شفيع" أن يمنع
القانون من السريان" – نقول تناقض لأن الصلاة أيضاً "فعل"؛
فإن كانت الصلاة "صالحة" فلِمَ لا تعود
على صاحبها بالخير؟ أليس هذا هو القانون؟ ينطلق
المؤلف، بعد ذلك، إلى رصد الحركة الدائرية أو
اللولبية في الطبيعة ليصل إلى إثبات سريان
هذا التواتر في الإنسان عبر مفهومي التقمّص
وكرمى – موضوعي الكتاب. في
إطار شرحه لـكرمى يوضح المؤلف أن "الجذر
السنسكريتي kri يتضمن معنى "الفعل"، ويدل
ضمناً على دورة العلّة والمعلول. كرمى هو
قانون الدينامية الروحية" (ص 24). ويستشهد
الطبيعة وظواهرها كتعاقب الليل والنهار،
والفصول، وأطوار القمر، إلخ، ليدل على دورية
التطور الكوني، وليصل بالتالي إلى أن هذه
الدورية تستوجب الولادة بعد الموت، بهدف
الوصول بالإنسان إلى غايته الأسمى… الألوهة. وبالتالي فالكون مدرسة، والبشر
فيها تلاميذ يتعلمون ويختبرون، وتستمر دورات
الولادة والموت حتى التخرُّج من مدرسة الكون
الشاسعة. وهكذا فقانون العلّة والمعلول "سارٍ
أبداً، سواء وعيناه أم لم نعِه، وبسريانه
تصاغ مصائر الأشياء" (ص 30)، الأمر الذي قد
يقودنا إلى أن النتيجة معروفة مسبقاً، فيما
ذهب إليه الجبريون. لكن المؤلف يبيِّن أن هذا
"السريان المتواصل للقانون يتولّد من
إرادة الإنسان الحرّة وحدها ويتوقف عليها"
(ص 30)، وبالتالي فكلّ علّة "هي معلول
معلولها"، على حد قول ابن عربي. ويبدو كرمى
قانوناً لاجبرياً، يعتمد على سيرورة أفعال
الشخص الاختيارية. لكننا
نعود إلى الاختلاف مع المؤلف في حديثه عن
المعجزات التي ينفي وجودها، وذلك لأن كل شيء
"واقع تحت حكم القانون، وهذا يعني بالضرورة
أن "الله" لايستطيع خرق قوانينه…" (ص
33). وهذه الفكرة تقترب من عقيدة المعتزلة
والفكر الأرسطي حول ضرورة الفعل الإلهي تبعاً
للقانون. ولكن، هل يمكن الحديث عن "إله"
مقيَّد الإرادة بقانونه؟! وباعتبار
أن كل القضايا الآنفة الذكر تعتمد في
معالجتها على السؤال المركزي: "ما هو
الإنسان؟"، فإن المؤلف يتحدث عن الإنسان
بوصفه كائناً سباعيّ البنيان، لكنه يقتصر على
أبعاد ثلاثة في نقاشه، ألا وهي الجسم والنفس
والروح. ولأن النفس هي ما يجعل الإنسان بشراً،
فإنه يوضح هذه الفكرة بقوله: "النفس… نفسان: نفس دنيا… زائلة… تسميها الثيوصوفيا أنيّة الشخصية… ونفس عليا… تتصف بالديمومة… يُصطلَح على تسميتها بأنيّة الفردية…" (ص 37). وبطبيعة الحال، فالنفس
الأبدية هي التي تتجسَّد، أي أنيّة الفردية
أو "الذات الواعية للإنسان قبل الولادة
وبقائها بعد الموت" (ص 39). انطلاقاً من
التعريف السابق للإنسان، فإن "الإنسان
السويّ يعمل في ثلاثة عوالم - الجسماني
والنفساني والذهني" (ص 39)، ويتم الانعتاق من
إسار القانون عندما يبلغ الإنسان بوعيه مرتبة
الروح. يحتاج الإنسان للعديد من الدورات
الحياتية للوصول إلى هذه المرتبة، وبالتالي،
فدورات التقمُّص "هي الامتداد الزمني
الضروري لسريان قانون السببية" (ص 43).
والسؤال هو: كيف؟ ولماذا؟ يقول
الكتاب: "تشتمل الولادة على سرّ مزدوج… سر نموّ المضغة… واتحاد النفس بالبدن" (ص 55). ولذلك يتم
التأكيد على ضرورة تأمين محيط مناسب لنمو
الطفل لأن "الجسم العاجز قد يحوي نفساً
أينعت حكمة" (ص 58). إنما يجب على هذه النفس
المولودة أن تحقق استقلالها عن المحيط عندما
تصبح قادرة على تحقيق كموناتها تحقيقاً حراً. تجري
الحياة في تيارين عبر المسار الإنساني: "أولهما
جريان النفس (العليا) الخالدة عبر أجسام
متعاقبة…
وثانيهما جريان الحياة من جيل إلى جيل…" (ص 59)، تحقيقاً لهدف الإنسانية في
التطور وصولاً إلى الكمال: "العودة إلى بيت
الأب"، بحسب تعبير المؤلف المقتبس عن
الإنجيل. هذا التطوّر الذي يواصل عمله في
التأكيد على الأخوّة الكونية بين الموجودات… أي من
خلال قانون النموّ، وذلك لأننا "ننمو
بوحدتنا مع كل شيء" (ص 35). فالصلاح هو "القيام
بالأعمال المتناغمة مع التناغم العام للكون"
(ص 34)، بينما الطلاح هو "الأفعال والخواطر
والمشاعر غير المتناغمة" (ص 35). وبالتالي،
فالقانون " ينسحب على الصعيد الأخلاقي
بمقدار ما ينسحب على الصعيد الجسماني" (ص 35).
يتمّ هذا النموّ بدورات الولادة والموت. تميِّز
الثيوصوفيا بين النوم والموت، على الرغم من
أن " الموت ليس مختلفاً جداً عن النوم" (ص
60). فالنوم انسحاب مؤقت للوعي، بينما الموت
يعني مغادرة الجسم نهائياً. وتؤكد هذه
التعاليم أن الموت الحقيقي يحصل قبل الموت
الظاهري بمدة طويلة، وذلك حين تتبيَّن الذات
العليا انتهاء مهمة "شعاعها" في البدن. ويسير
بنا الكتاب في رحلة يصف خلالها حوادث ما بعد
الموت، بدون براهين بطبيعة الحال، إنما
بالاعتماد على التعاليم الثيوصوفية وخبرات
الحكمة القديمة، وصولاً إلى تصفية الحساب مع
الطبيعة، ليتم التطهُّر من الرغبات والمنازع
الشريرة، ولتكون النفس قادرة على مصاحبة
الذات العليا للسموّ إلى "أرض الآلهة –
Devachan" (ص
64)، حيث "يتحدّد مستوى الـديفاخان الذي
ستقيم فيه النفس طرداً مع مستوى الوعي الذي
بلغته على الأرض" (ص 64). وهكذا يتحدّد نعيم
المرء أو جحيمه بحسب ما قدّم فيما سلف. ويتم
التأكيد صراحة على أن الفردوس وجهنّم حالتان،
وليستا مكانين. ويقول المؤلف، بجرأة يُحسَد
عليها: "تلكم هي قدرة الفكر." (ص 64) أما
مسيرة ما بعد الموت، فتتم عبر مراحل من
التأملات، ابتداءاً بالأشكال والصور، وصولاً
إلى معاينة "الذات" وجهاً لوجه. يحاول
المؤلف الإفادة من حالات "الموت السريري
المؤقت" للتدليل على صحة هذه الفكرة
وصوابها. لكني لا أعتقد أن الأمر بهذا الوضوح
وبهذه البساطة. استناداً
إلى ما سبق، يوصي المؤلف بضرورة مساعدة
المحتضر على الانسحاب من جسمه، وعدم إطالة
الحداد عليه. يختتم
المؤلف مقالته قائلاً: "إن العبرة الكبرى
من التقمُّص هي أننا ننطوي على قدرات
لانهائية، وفرص أبدية، وغاية إلهية.
الثيوصوفيا تعلِّمنا أننا شرارات من لهب
واحد، صدرنا عن النبع الأصلي للوجود، ولابدّ
أن نعود إليه يوماً…" (ص 69). "التقمُّص هو إيقاع الوجود
نفسه… التقمُّص تأكيد على أن للحياة
معنى وقصداً…
التقمُّص هو العاتق العظيم…" (ص 71). أما
فيما يتعلق بملاحق الكتاب – وهي
عبارة عن دراسات حول كرمى لدجدج، فلم نرَ
ضرورة للتوقف عندها، لأن معظم الأفكار
الواردة فيها جاءت في المقالة السابقة،
باستثناء ما يتعلَّق منها بميكانيزم عمل
كرمى، الذي هو بحدّ ذاته موضوع شائك يحتاج إلى
دراسة مطوَّلة، آخذين بعين الاعتبار مختلف
الآراء والاجتهادات. عدا عن
ذلك، فالكتاب يحوي الكثير من الأفكار
الجدّية، استطاع المؤلف بمنطقه الهادئ
الدقيق وصل الفقرات والآراء بعضها ببعض
بدراية وحكمة، مما أعطى الدراسة قيمة حقيقية.
أما ما يؤخَذ على البحث فهو توجُّهه إلى
الخواص، دون العوام. وربما كان هذا الأمر ميزة
له لا مأخذاً عليه. ولكن قد تتوفر الإمكانية
لإيصال مضمون البحث إلى أكبر عدد ممكن من
الناس. * ديمتري
أفييرينوس، مقالة في التقمص في ضوء التعاليم
الثيوصوفية، ويليها مقالان في العود للتجسّد
وكرمى و"حكم في كرمى" لوليم ك. دجدج، دمشق
1998، 21×15 سم، 112 ص، 4$ (بما فيها أجور البريد)،
يُطلب من دار مكتبة إيزيس، شارع العابد، جادة
الجزائر، دمشق، ص ب 33226، تلفاكس 00963-11-2322603، بريد
إلكتروني isisbookshop@jahoopa.com [1] نقلاً عن ريتشارد شتاينباخ، معنى
الحياة والموت، ت: هدى موسى، دار الحوار،
اللاذقية، ط2 1996، ص 31. [2] الحلاج، الطواسين وبستان
المعرفة، إعداد رضوان السحّ، دار
الينابيع، دمشق، 1994، ص 47. [3] نقلاً عن جيمس ب. كارس، الموت
والوجود، ت: بدر الديب، المشروع القومي
للترجمة 29، المجلس الأعلى للثقافة، 1998، ص 81. [4] ابن عربي، شرح ألفاظ الصوفية. [5] ألبير شويتزر، فكر الهند،
بترجمة يوسف شلب الشام، دار طلاس، دمشق، ط1
1994، ص 47-49. والأسطورة مأخوذة عن الـكاوستيالي
أوبانيشاد 1. [6] الـباجافادجيتا، ص 30. [7] المصدر نفسه، ص 31. [8] المصدر نفسه، ص 32. [9] المصدر نفسه، ص 32.
|
|
|