|
خلاص
الأعمى
سومر إجليقين ابتدأت ساعته
الجدارية دقاتها محفِّزة كل خلاياه
المتبلِّدة. تحولت دقاتها إلى حركة تمتصها كل
الأشياء التي تبعثرت حوله لتعيد استفزازه من
جديد. تنحّت أمام عمائه جدران الغرفة واحداً
تلو الآخر. استطاع أن يرى أسراب الليل تتراخى
على كل منزل تخايل له من نافذته، مطفئة
الأبصار الكسولة عن الحركة والضجيج. "أف…
كانت العيون تصدر صخباً هيستيرياً طوال الوقت.
ما أقبح شخيرها نائمة فوق جميع الحواس!" مازالت أمه وحدها
مستيقظة في الجانب المجاور لسمعه ورائحته. لم يبق ما يسمعه
منها سوى حفيف أقدامها على الأريكة المقابلة
لها، باذلة مجهوداً يستغرق منها سرعة في حركة
أصابعها كي تخترق ثخانة قماش الأريكة تلك،
لتعاود برتابة صمتها حركة جديدة تخفي معالم
لذة مضجرة. اكتشفتْ في
العتمة قبالتها، طريقاً مرتبكاً إلى زوجها.
لم تكن تدري أحياناً كيف تنتفض احتراقاتها
نحوه. نحو شاربه القديم والطريقة التي يمضغ
بها عقب سيجارته المنطفئ. تململت كثيراً من
تلوّنه مع أشكال المشاهد المتلاحقة في
التلفاز المجاور. فخيوط وجهه المتشابكة التي
لم تنته الحياة بعد من حياكتها تعذِّب رحيل
عينيها في تقاطيعه. وجهك
يشبه نحيب الصخور؟! هذه تجاعيد أشجار هرمة! همست بخفوت يشبه
رنين مذياع قديم! لم ينبس ببنت شفة. ظل يحدق في
ارتعاش التلفاز أمامه. لكن شيئاً ثار في
أطرافه. جال في جسده نارياً محرقاً. ثم تجمّع
كثيفاً في أخاديد رغبته القديمة. حيائه
الطفولي. زحف فوق معابر
جسدها كثيراً، وترددت في الغرفة أنفاس
الانتهاء. دوران. بحث مضنٍ عن أرض جديدة لا
تعرفها الأصابع. بدأت في الغرفة
المجاورة دورة الألم والاحتراق الأول لشعوره
بالعذاب، إذ لم يكن متاحاً له أصلاً إلا
الجوار والأمكنة المجاورة حيث تدور ذاكرته
دوراتها اليومية بتلك التفاصيل التي تهيم حول
انتباهه وحقده. كيف يصل إلى هناك؟
هل تكفي تخاريفه تلك أن يعيش هناك؟ لقد كان
هناك يوماً. تذكّر هذا جيداً، تذكّر كثافة
البخار حوله. رائحة الصابون واحتراق عينيه. آه..
ذاك الجسد العاجي مليء بقطرات البخار الفاترة، يحيط
بحيائه، يخفي برودته التي تشبه
شتاء البلاط تحت قدميه! كم كانت ألوان جدران
الحمّام صفراء نحاسية. تذكّر رائحة الطاسة.
هوه.. كان لها رائحة حرارة الماء والمازوت! - ماما لا تصبي
الماء الساخن أرجوك! آخ! أحرقتِني! - كم أنت وسخ! أشمّ
رائحة الدجاج في رأسك. يا لطيف! يا رب! ورائحة
الزبل وروث البقر تفوح من جلدك! انساح الماء على
جسمه وبين أصابعه، ويدها الصابونيّة تنزلق
إلى كل الأماكن. تنساب فيزداد استرخاؤه أكثر.
شعر بحاجة أبدية إلى الالتصاق ببلاط الحمّام.
انزلق من بين قدميها. تخدّرت كل أطرافه عندما
لامست مؤخرته الغضّة برودة البلاط ونعومته. تململ في فراشه
قليلاً وهو يطوف في صوره تلك. "ألم تشعر كيف
كنت أغلي بين قدميها؟ أحمق صغير! بلى، بلى.
أعتقد أنها أدركت ذلك. لم أستحِ أبداً من
تجميع كل فيضاني ونزوحي الدائم إلى الرجوع
للذّتي. لم أستحِ من تجميع كل هذا في يديّ
وأصابعي. في كل مرة أستشعر فيها قوة غريبة
أجعل يدي تتحرك بخفوت وصمت المصادفة إلى
جسمها. آه.. يا إلهي.. يا إلهي.. كيف كانت تستجيب
وهي تبعدها بصمت المصادفة أيضا! تنفضح الأمور
وتنجلي الأشياء عن حياة موروثة منذ الأزل. منذ
ابتعدنا عن هنا. منذ اعتدنا الابتعاد عن كل
متعة حقيقية في حيواتنا الأرضية لنتلذذ
بالانتقام من الآخرين فقط. يا لكرهي الدفين
لكل شرعة تسقط علينا من أي سماء تعلو غشاوة
أدمغتنا! لماذا خلقت؟! لأمنع سيلان الجداول من
الأعالي؟! وهطول الأمطار بين احتفارات الصخور؟!
لأدّعي كيف يكون الجمال في الأشياء؟! فكرت
طويلاً من الخروج من وحشتي. كان مجرد أن تبوح
باسم ذَكَرك في عتمتك لتنقلب المسائل رأساً
على عقب، ويجتاحك ارتجاف لا يزيله إلا رحيق
النرجس·
؟!" اشتدت العتمة حول
امتداداته، يبدو أن أمه أطفأت النور في
الخارج. اعتاد أن يشعر
بالنور رغم عمائه، واستطاع أن يعرف تماماً
كيف تهمد الأشياء وتبرد الجدران حوله عندما
ينطفئ النور، فيشعر بظلمة أخرى تجتاح ظلمته
الأبدية. ربما لم يبق له من الإبصار إلا تلك
الحالة. سأل نفسه كثيراً
عن جدوى الاهتمام بالأشياء التي تسترق
أماكنها من هوائه المحيط به، من ظلمة لا تنتهي
حدود تسلّطها على الأشياء، وكيف تتشكّل الطرق
أمامه ليستطيع المشي بطريقة أغبى من الكائنات
التي تستطيع أن تحتفر لها طريقا بين الأشياء. همس في أذنيه
بصوت خافت: "المتعة في كل هذا أن تتحرك
لتبصر ما حولك. استطعت أخيراً الحصول على لذة
مشابهة؟!" أدار رأسه بسرعة
نحو مخدّته وطمر وجهه معتصراً كل جوانبها،
يكاد يطير من استعادة ذاك الإحساس المفاجئ
بأنه مقبول وغير منفِّر، بل ويستطيع الآخرون
احتضانه في أي وقت. قالت لها: "حمِّميه،
ريم. لقد تعبت كثيراً اليوم. تصوري. مسحت الأرض
خمس مرات، وربما أكثر، ولم تزل متسخة. يا الله!" استجابت ريم،
صديقة أمه، لتلك الطلبات. لكنه هو!! كيف سيبدو
في الحمّام؟ كيف ستكون عليه الحال هناك. وأكثر
ما هنالك أن ريم كانت تربِّت على فخذيه عندما
يجلس إلى طاولة الفطور. كانت هناك ثياب. كانت
هناك حياة عادية جداً كما كان الناس يرونها! تبدأ دورات طاسة
الماء على رأسه من جديد. لكن الحمّام كان عتماً
قليلاً. لم يكن فيه بخار يشبه ضباب
البحيرات التي تسكنها نساء عاريات في أفلام
شاهدها. ترتدي ريم
ملابسها كاملة. أما هو فقد كان عارياً عن كل
شيء، حتى عن أفكاره القديمة. قبل أن يخلع جميع
ملابسه أيقن أنه طفل وأنه يجب أن يكون كذلك.
سيسعى جاهداً ليتقن دور الأغبياء أصدقائه.
كيف سيكون أبله، مثل طفولتهم، وهو يبحث عن شيء
يشبه نهاية ما. ستلعنه ريم، ستقرف منه، ستشتمه. تذكَّر جيداً
يدها تنساب إلى مواطنه الحميمة. سأل نفسه
حينئذٍ: "من البريء فينا؟!" كان وجهه مزروعاً
في الجدار المقابل له الذي ارتصف السيراميك
عليه. راقب التماع الأشياء في الجدار الذي
وراءه على سطوح السيراميك المبتلّة. رأى كيف
انهمكت ريم في تدليك ظهره وقد تجلّت كل
تفاصيله أمامها. "ستقول عني طفلاً. كم هذا
مريح ويقتل خجلي!" انتابته فجأة
ارتجافاته القديمة لتتجمع في كل نهاية من
نهايات جسمه. لقد بدأ يخاف فعلاً أن تدرك
تداعيات إحساساته التي بدأت للتو تنضج ببطء
في ذكورته. امتدت أناملها
إلى بطنه وصدره، ثم انسابت بخفوت وصمت لا
يشبهان المصادفة إلى خجله المحشور بين ساقيه.
أخذت تحوم حول منطقته تلك بالماء والصابون
قليلاً حتى تباعدت ساقاه وسرى شعور
بالاسترخاء في أحشائه كلّها. أدارته بساعديها
القويتين، ونظرت في عينيه بهزء بعيد جداً.
تابعت عملها بصمت إلى أن انتهى الحمّام بين
ذهوله هو وعدم اكتراثها هي! أخذت المنشفة
وجففته كله وخرجت بعدها إلى خارج الحمّام.
لتعود إلى ضجيجها وكلماتها المعتادة. عادت دقات الساعة
إلى الطنين في الجوار. وهو يعرف تماماً كم
تستغرق الطريق المتعرجة من سريره مروراً
بخزانته إلى الصالون حيث تفوح دوامة الأنفاس
المتلذذة الخانقة. توقف لبرهة رغم أنه لم
يتحرك إلى أي مكان. تخنقه في كل لحظة مسافة ما
يكتشفها في ظلمته ليبدأ رحلته في البحث عن
طريقة لامتلاكها. لا يعيقه شيء إليها سوى أنها
تذوب لمجرّد البدء فقط. "كل شيء كان
رائعا مع ريم. لعلها عرفتني حينئذٍ جيداً.
لكنها لم تكن هي!! لم تكن أمي. لم يكن شيء ليشبه
بخارها، وجسمها العاجي. لم يكن شيء ليشبه
ثدييها المعتكفين بصمت صور المتاحف والكنائس.
لم يكن شيء ليشبه طقوس الارتحال معها في
الحمّام. لم أحاول قط أن أستعيد ريم بعد تلك
الحادثة. كل ما أستطيع فعله هو التلذذ بإحساس
خفي ينتابني كلما أتذكر نظراتها." تململ في مكانه
قليلا. تنحى إلى زاوية سريره القريبة من الباب.
عادت دقات الساعة تملأ جوف الفراغ المحيط به
لتزعجه من جديد، فلا يستطيع أن يصيخ سمعه
تماماً. كان يعرف أنها في الخارج مع أبيه! لقد اعتاد صوت
ارتطام شعرها بأي شيء. صوت لهاثها الصامت. صوت
نومها وخفوت عينيها. "هي في الخارج
معه. سأستمع إلى وحشيّته قليلاً." تراءى له
شيء ما فهمس: "يا ابن الكلب! حتى هذه لا
تجيدها؟!" سمع عن موت أبيه
وهو في الثامنة من عمره تقريبا. لم يعد يذكر
هذا. كل ما يذكره صوت موائها تحت جسمه الخشن
الأشعث! "أدفع حياتي
ثمناً لوجوده هناك. إن عمائي لم يخطأ قط حتى في
رحم أمي! صوته! أسمع لهاثه الرتيب على الأرض.
أسمع دورانه. بحثه المضني عنها. حقير هو! لا
يعرف ما تحب. ولا كيف تحب أن تكون الأشياء
حولها. لا يعرف سوى أن يقذف في وجهها لعنته
وينهض يأكله النعاس حتى خصيتيه الجافتين!
أشتهي قتله. يتحدثون عن موته. هه.. أريد قتله
مرات أخرى! أوه.. يا إلهي أسمع حركتها في
الخارج. ليس هذا صوت أريكة، إنه حفيف فراش!
سأقتل كل المسافات إليه في ظلمتي. حتى خيالاته
على أطراف ثيابها سأزيلها. سألعنه إلى أبد
منته. لن يعود بعدها إلى غرفتي وجواري!" قام من مكانه
يوازنه إحساسه بالأشياء التي حوله. ترنح ثملاً من أفكاره. لم يكن ليطيق الوصول عبر
المسافات إلى الأماكن التي يريدها. فهو الذي
اعتاد الحضور في أي مكان، بمجرد أن تتجلى
تفاصيله في ذاكرته. يختزل المسافات التي تحيط
به بالصور التي تتراءى له، فيصبح مسكوناً بين
كل التفافاتها وانثناءاتها. ارتفعت أمام
ظلمته جدران من كثافات يحاول تطويقها بعزيمته.
وفي لحظة ما، كاد يسقط. استند بذراعه على حافة
الخزانة. ارتعدت أطرافه فجأة وسرت برودة
متحفزة إلى كل أفكاره التي تجمعت فوق قطعة
حديدية يعرفها جيداً. أمسك بالمقص الكبير
بيده المستندة إلى حافة الخزانة فانزلق قليلاً في راحة يده. كان العرق
مائياً ينساح
على المقص، فحمله وجففه جيداً. مرّر أصابعه
فوق حدّيه بخفة، ثم أحكم قبضته واستعاد فضاء
الأشياء حوله، فتحركت قدماه صوب الخارج. هواء الصالون هو
نفسه لم يتغير. يشمّه بعمق من شقّ الباب وهو
يعرف تماماً أن فراش الإسفنج على مقربة نَفَس
واحد سريع مقتضب من باب غرفته. لم يعد بحاجة
إلى دقات ساعته الجدارية. فقد تحفزت كل حواسه
والتقطت كل ما يمكن التقاطه. لم يعد هناك شكّ.
لم يبقَ مكان يضع فيه قدم التراجع والانسحاب
إلى سلامه وضجيجه السابق. كل ما تبقى له هو
الانتهاء. والآن، في هذه اللحظة، تبزغ في
ظلمته مسافة جديدة وحيدة مستقيمة تشبه
الانقضاض الأخير للفهد، سينتهي منها قريباً.
سينتهي منها. لفّته صورة جسم
أبيه المتأرجح في الهواء، فارتمى بسرعة
خيالية إلى جوار أمه المستلقية على الفراش
الإسفنجي وطعنات المقص تتتالى، واحدة تلو
الأخرى، إلى جوارها سريعة، قاسية، جافّة، ليس
فيها حياة، لا معنى لها، بينما يتخايل له جسم
أبيه بجوار أمِّه بكامل تفاصيله ومساحته انقضّ يزرع تلك المساحة
طعناً وموتاً ونهاية
متلاشية. كان يطعن الفراش
بكل قوته، وأمه متيبِّسة إلى جانبه، مذهولة،
ترتعد من صبيِّها الضرير وهو يقطر عرقاً
متشنِّجاً، وأنفاسه متلاحقة محتقنة مع كل
طعنة يغمدها بجوارها. توقف قليلاً
ليسترد أنفاسه، وأسنانه تأكل جانبي خدّيه من
الارتجاف والتشنج. "لن يعود ثانية إلى ذلك.
سقطت جميع أرواحه اليوم. لن يعود إلى أذيَّتك
بعدئذ. فهو لا يجيد الحياة. لا يجيد الحب. لا
يعرف سوى أن يدهسك تحت قرفه ويمرِّغك في عرقه
وهدير أنفاسه الخانق!" ظلّ يلهث، وأمه
إلى جواره متيبِّسة، لا تبدي أي أمارات
للحياة سوى ذهولها وخوفها اللذين ينتميان إلى
عالم أزرق بطعم الموت. اقترب بأنفه
يتحسّس الحياة في وجهها، استمع إلى شهيقها
وزفيرها. أبعد بإحدى يديه
المخدة التي كانت إلى جانبها بعد أن أشبعها
طعناً ومزقها، فخرجت أحشاؤها القطنية تملأ
المكان. أدار جسمها إلى
جواره، ثم دفعها إلى جسمه بنعومة رائعة،
فارتعدت قليلاً إذ أحست بصلابة ما في أسفله.
تحركت بعيداً. لكنه انساب إليها كلّها كما
تنساب أنسام الريح بين شقوق الأبواب والنوافذ.
استمر بالانصهار وبدأ رحلة الدوران في ظلمته
التي احتوتها هي. ردّدت في مسامعه: "عشرون
سنة. انتظرتك عشرين سنة. عرفت ذلك وانكفأت في
عزلتي. انتظرتك لتنمو إلى حدّ الموت. لتورق
نهايتي في اكتمالك أنت وحدك. عشرون سنة. عش.. شه..
هه.. هه.." وهي تلهث في صمت مطبق. استمرّ في
حركته حولها. تصاعدت أنفاسها ببطء وقوة، ثم
تلاشت كل الحركات في جسمها إلى جمود ثلجي مخيف. مسح قطرات العرق
التي سقطت على وجهها. كان عرقاً حاراً جداً،
يكاد يتبخّر فوق جبهتها. تلمّس شفتيها
بأصابعه. سرت برودة إلى صدغيه وعظام جذعه
الملتصقة بها. قلَّب وجهها بحركة بطيئة منه
فارتمى على طرف المخدة جنائزياً، وادعاً. بدأت تتسرّب إلى
أنفه آخر روائح الانتهاء والعرق النفّاذة،
تحمل بقوة كل المسافات التي كانت قبل قليل
تتراوح في ظلمته. أحسّ بلحظة الفعل التي كانت
تدور بين أصابعه قبل لحظات. ثمّة مسافة تحاول
الولادة الآن. ليس لها مكان هنا. لا تنتمي إلى
الحياة. ما أسوأ المسافات كلها تحاول أن تجعل
معنى ما لمسيرة تافهة أصلاً. "لا جدوى أراها
الآن من كل هذا. كما في الموسيقى تماماً. كل
الألحان تبحث عن قعر ما تحتمي فيه من الضياع
الكليّ أو الاستمرار المضجر للخلود. يا إلهي!
كم بحثت طويلا عن خلودي! ما أغبى هرولتي هذه!
لاجدوى حقيقية تسحقني منذ ابتدأت دورة المسير
بين المضجرين حولي. لابدّ من نهاية ما
لارتجافاتي وبرودتي." تحرك قليلاً من
مكانه وقد أحس بجسمه مكتسياً بمسحوق جاف ملحي.
تسربت برودة البلاط تحت قدميه بارتعاش جديد.
تذكّر كيف كانت الحياة تنساح فوق بلاط
الصالون في كل يوم. لقد سجلت تفاصيلها برودة
جليدية كثيفة لا يستطيع انتزاع احساساتها من
أخمص قدميه. إنها حياته في هذا المنزل. تشبه
الطريقة التي تعبر أنفاسه بها كل زاوية. تشبه
الطريقة التي أطلق صيحاته فيها على الجدران
القديمة. مشى خطوتين
قصيرتين نحو الأمام، وركل بقدمه فنجان القهوة
إلى جانب الفراش. توقف مذهولاً قليلاً. كيف
غابت عنه رائحته؟! كيف تبدّدت مسافته التي كان
يعرفها تماما في ذاكرته؟! لم يعد هناك طريقة
يقيس فيها المسافة إليه. "لا يهمّ. ذلك يشبه
يوماً مضى عندما ركلت الفنجان وأنا أمرّ
بجانب الفراش. لم أعد بحاجة ماسة إلى مفاجأة
كتلك." اختفى ضجيج الفنجان سريعاً، ليستعيد
زفرة من هواء ليس فيه طعم جديد، يشبه كل
الأنفاس التي رشفها في بيته. دفع بقدمه إلى
الأمام بلامبالاة، ولوّح بيديه في الهواء
يستطلع الطريق. "لقد عدت إلى ذلك الأعمى
الغبي الذي صدّق حكاية عمائه عندما لم يعد يرى
ما يراه الآخرون حوله." لوّح بيديه أكثر في
الهواء. طاحت يده بالتماثيل الفخارية
المرتصفة فوق آلة التسجيل منذ عهد بعيد. "لو
أن لها صوت القنابل فتمحو كل دمدمة لصمت مزيف
كهذا!" دار حول نفسه في المكان يحاول أن
يستعيد مكانه، يحاول أن يستعيد المسافة بين
الباب والمسجِّل." يا لقرفي! فقدت احترافي
القديم في البحث عن طريق آمنة تنبسط بين
الأشياء حولي. لم أعد أذكر حتى عدد الزفرات
التي تفصل بين المسجِّل والباب. من الأفضل لي
ألا أتنفس بعد الآن بطريقة رتيبة كلهاث الريح
بين شقوق الأبواب والنوافذ." تذكّر عندما
كان في التاسعة كيف تدرب لشهور عديدة، حتى
استطاع أن يمرِّر يديه بسرعة خارقة بين
تماثيل الفخار دون أن يمسّ واحداً منها. "لم
تكن هناك جدوى من أي شيء. هه.. البقاء على حالة
الرؤيا البلهاء تلك. لمجرد البرهان على
الحركة المرهفة في المكان. كان عليّ أن أتعذب
بصورة أكثر تشويهاً! يا لتفاهة الخلق وبشاعة
الحياة بأن تبقى لي حواس أخرى تشكّل الصور في
ذاكرتي وترغمني على التمسك بأنفاسي التي
تستهلكني وحدي. هل آمنت بأني ذلك الأعمى حقيقة؟
كان يجب أن تتفتت حاسة الرؤية تفتتاً كلياً
لتصير لي حرية ما في ذاتي، بعيدة كل البعد عن
حماقة العالم حولي. لم أعد أجرؤ على تحطيم
العوائق إلا الآن. كانت الفرصة متاحة من قبل!
متاحة، ربما، بطريقة أصخب وأجمل، عندما كانت
عيون الآخرين تأكل مساحاتي كلَّها، وتفرض
مساحتها هي بسبب وحدتي وعجزي عن اختيار
طريقتي الخاصة بالتنفس. كان صوت ارتطام
وتحطُّم الأشياء يثير الارتجاف المرعب في
جنباتي. أما الآن فلم تعد هناك أية أهمية
لإقناع الآخرين بأن الطريق أمامي هو على
النحو الذي أراه." ودون أن يحدث
الجميع ضجيجاً بكلماتهم ، كان عليه أن يكتشف
قدرة خفية لسير أفضل وطرق أجدى تلائم حقولهم
البصرية فقط. "يا إلهي! كم خدعوني! وخدعت
نفسي المستلقية بين تحركاتهم الدائمة في
المكان المجاور. لم أكن مرة واحدة أعمى حقيقياً يدوس الأشياء أمامه برضى كامل وضمير
محصّن ضد عذاباتهم المزيّفة. يركل كل
المتسلطين حوله، ويبصق مجدداً على كل حنان
يغدقه أبواه، وكل حبّ يغمرانه به." لامست أجزاء جسمه
المتعرية اهتزازت لهواء جديد ينتمي لمكان آخر
من المنزل. يذكر جيداً أن نافذة الحمّام كانت
مكسورة في أحد أجزائها، بحيث تسمح لعبث
الهواء في الخارج أن يبدأ ارتحاله إلى الفضاء
المحصور بين جدران المنزل. لعل هناك مسافة
وحيدة تنتشله من هوائه المختمر هذا، وتبعثه
من جديد. دار ببطء نحو
مكانه المنشود. "ربما كانت بداية جديدة خلف
هذا الباب القديم." غذ خطواته بثقة لا حدّ
لها، متركزاً في أمامه، ليهوي بعد خطوات
قليلة على مقربة من الباب وهو يلهث بسرعة
تستهلك كل إمكانية لتجدد الهواء حوله. "محطة
أخرى في طريق خرقاء. يبدو أني بدأت أشعر كيف
يمكن أن تكون الأشياء جميلة بهذا الشكل. كان
هذا الممر إلى باب الحمّام هو الطريق الذي
اعتدت أن أسكن كل تفصيلاته. أعرف عدد بلاطاته
وكيف تختلف المسافة بين الأشياء على جانبيه.
اعتدت عبوره وأنا في رحم أمي. قالت لي بأني
التقطت أنفاسي الأولى فيه عندما جاءها المخاض
أول مرة. آخ.. آ.. يا إلهي!!" سرى إحساس بالخدر
في جانبه الأيمن، تركّز في كتفه، وبدأ ينبض
ويخزه بقوة يمتصها بأسنانه المنطبقة بشدّة.
تحسس بأصابعه حوله، فلامس جذعاً نحاسياً
طويلاً. كان جذع لامباديرا اعتادت أن تضعها
بالقرب من الباب في زاوية يسرّها جداً أن تنهي
جولتها البصرية بها، فتنتشي لطريقته الفنية
بتكوين الفراغ الذي هو فيه. عندما هوى على
الأرض متعثراً بالأريكة التي أمامه، سقط عليه
مباشرة فوخزه نتوؤه الحديدي في كتفه الأيمن.
حاول أن يغير وضعيّته المشردة بين الأرائك
حوله، فهمّ بتحريك ساعده الأيمن بحذر شديد لم
يمنعه من أن يطلق صرخة هي الأولى في تاريخ
قدرته على الكلام والنحيب. شعر بأن الجدران
حوله بدأت تتصدّع معلنة إفراز الألم من جديد.
صرخ مرة أخرى بقوة أكبر. تصدعت حوله المرايا
ليموت ارتسام الأشياء في الأشياء وتظهر
المرايا عارية عن كل صورة. لوى ذراعه الأيمن
في الهواء. أحس بكل مفصل في جسمه ينخلع من
مكانه. انطلقت كل بقعة تنتمي إلى اهتراء جسمه
تصدح بصراخ سرمدي كاهتزاز الكون حوله. صرخ
بقوة امتصت سنين عمره كلِّها. تحوّل طنين
صرخته في المكان رويداً رويداً إلى ارتجاف
آخر وتقطُّع يشبه طريقته في البكاء صغيراً. أجهش بالبكاء
بطريقة ما. استمع لنفسه وهو يبكي. أحسّ
بارتجاف أنفه وشفتيه وارتعاد أطرافه بين برهة
وأخرى. "يا إلهي! آه.. ماذا فعلت لتوي؟ ماذا
فعلت؟! لا أدري إن كنت قتلت أبي مرّة. أو
اغتصبت أمي. ربّاه! أين السلام في كل شيء حولي،
وقد أصبحت غريباً عن جسدي وذاكرتي. لا أحد هنا.
لا أحد في المكان يصلي على روحي. هل من مسيح
يطهر الحزن؟ هل من خلاص لآلامي؟ أعيش كل الزيف
الذي تمرّغت فيه في كثافة هذه الدقائق من
الفراش إلى الحمّام. أتعثر بحياتي وحياة
الآخرين حولي. هل من مكان يتسع لنهاية رغبتي
وانطفائها؟ هل من مكان يحتويني ويحتوي موتي
كلّه؟! يا للسماء! هل تألّمت للحظة ما؟ كم كانت
وادعة وهي تمتص رغبتي واضطرابي! بقيت أمي.
بقيت كما أرادت هي. تلاشت كما أرادت هي! سألعن
نفسي في كل انتباهة لي في حياة ما! أنا هذا
المشوّه! بحثت طويلا عن راحتها هي، وكيف يمكن
لها أن تهدأ بعد ثورة. بحثت لها عن ابتداء آخر
في ظلمتي، فلم أكن سوى منقار لقلق تعس محشور
بين أعشاب تعلو رقبته. يدسّ غريزته في كل لطخة
خضراء يبحث فيها عن جوعه المستمر وتضوّره
المختنق. اكتملت بها في مرور سريع لكل
إحساساتي. اكتملت بها، وأنا أفترشها تحت
سمائي. تكسرت بهشاشة أرقّ لوح زجاجي." هل من جديد يتاح
له في انتهائه هذا؟ سينجلي الآن عن فضاء
الهلام حوله. لم يكن قادراً على الانبساط أكثر
في رحم الحياة، وقد تقلّص إلى مرحلة القرف
والموت. تستدعيه ذاكرته إلى التكوين النهائي
لنشوته في هذا العالم. انساح دفء دمويّ
بخطَّين منتظمين تحت قميصه على صدره وخاصرته. تحوّلت كثافة
ظلمته لتصبح غريبة عن كل إحساساته القديمة
بها. لم يعد هناك نبض تحت جفنيه. كل ما هنالك
بقيّة من قدميه مستسلمة للاشتعال الأخير
لفكرته. دفع الباب بوهن
وولج حيث أرشدته إشارة الريح الأخيرة.
انزلقت يده بخفة على سيراميك الجدار. برودته
السوداء ذكّرته كيف تموت سحب البخار الحارّة
التي يشتعل بها الجرن الحجري عندما تلامس
الجدار. دارت حوله رائحة
المكان. تمدّد على طاولة خشبية مرتفعة رجل
قديم، اصطبغ بلون الخشب الفاتح جداً. أسبل
جفنيه متعمداً. فَغُر فوه قليلاً. غطّاه
القماش حتى منتصف جسمه. لم يستطع أن ينسى
رائحة قماش كهذا. سأل نفسه حينئذٍ: "ليس
للّون الأبيض فاكهة بمثل هذه الرائحة!" تجمّعت أمامه
ثلّة من النساء والرجال، لبعضها وجوه حدّثته
يوماً عن شيء ما. كانت تنكبّ على جبين هذا
الرجل الممدّد وتسبغ قبلة أو اثنتين، أو ترسل
خيط من دموع واهية فوق جسمه. دفعته أمه وهي تقف
وراءه ليفعل مثلهم. اقترب قليلاً ممعناً
النظر بكل الخطوط التي رسمت الأشخاص من حوله.
نظر إلى شفتي رجل وقف أمامه كيف انضغطتا على
نحو شديد القرف في مواقع كانت تزورها شفاه
الآخرين على جبين هذا الرجل لتختلط الدموع
المالحة باللعاب المر، فتطوف رائحة ازرقاق
وعفونة لا تحتمل. جاء دوره ليزرع
قبلته تلك فوق الغضون القديمة التي يعرفها
جيداً. لم يدر كيف غَلَت معدته بقوة إبريق
الشاي، وتقلّصت أمعاؤه في أسفل بطنه لتقذف
قيئه فوق جسم هذا الرجل. انتفضت الحركة في
كل تفصيل للمكان، وتقشّر الزيف سريعاً عن
دهشة تمحو كل آثار الحزن عن الوجوه،
لتحوِّلها ببساطة إلى سؤال: "لو أننا
تقيأنا جميعاً لزال القرف سريعاً وانتهت
المهزلة." وبينما راح القيء يسيل على دهشة
المتجمعين وجسم الرجل المسجّى، ومضت المساحة
البصرية في عينيه وحده بابيضاض أخير مبهر،
تلاشى في غيبوبة استمرّت يوماً كاملاً. كانت
صفعة قاسية محنَّطة أودت ببصره كلياً! سأل مرة:
"من فعلها؟!" صمت الجميع. حتى ذاكرته نامت
عن الاستجواب ليقول دائما للآخرين: "كان
جفناه يرتعشان، وأصابعه تنكمش لكل اقتراب منه.
رأيت ذلك. لم أحبّه يوماً. فكيف أقبِّل جيفته؟!
فعلها هو. ضربني بيد ميتة. امتصّ حياتي ببعض
موته. لو أني قطعت يده ما استطاع ذلك. لكن.. لكن
ذلك لن يكون، وموته يرتدّ إلى جسمه ليضربني
كلّما سخطت منه وقرفت." تكثّف المشهد في
ظلمته ليستردّ كل لحظات ولادته العمياء تلك.
قال بصوت خفيض وهو يرتشف انسياب دموعه على
زوايا فمه المرتجف: "منذ عشرين سنة وأنا
أحمق أصدق تفاهة يد ميتة تسلبني كل صوري. لقد
كانت هي. وبقيت تجول في المكان نفسه تقودني
عبر المسافات. مات كلانا منذ ذلك الحين. لم يبق
لنا سوى أن ننتظر عشرين سنة تعبث بها أمزجة
الزمن كي تتضاءل أمامنا الحياة إلى اختناق
يشبه أن يخنق المرء نفسه بيديه." أصاخ سمعه إلى
شيئين كانا يهتزان في المكان. قطرة ماء بطيئة
ثقيلة كمرور سنة على انتظار محترق لتسقط
بامتطاط رتيب. وفي الجوار، كانت تجوب المكان
ذبابة حالمة هادئة، تطير لمجرد أن تعبث
بجناحيها دون أن تسبب إزعاجها المعتاد. رسمت
بطيرانها خطوط المكان حوله. "ستكونين أول
زائر لهذا الجسد المتفسّخ. تفصلني عنك مسافة
الخوف من الحركة." حطّت على دم كتفه الأيمن.
انتفض قائلاً: "تتذوقين نهايتي؟! ألا
تصبرين دقائق قصيرة، سريعة، أسرع من المعتاد،
دقائق تساوي مسافة دورانك مرة في الجوار؟!" سار كأنه يزحف
حتى وصل إلى الجرن الحجري القديم. جلس
القرفصاء متمسكاً بحافته حيث لامست أصابعه
الماء. تساءل كيف ستكون صورته الأخيرة على
صفحة الماء. استُنفرت كل خلاياه لثوان
معدودات. "سأتخلص من هذا
الوعي التافه. ربما لن يتاح لي الكلام مع نفسي
ثانية. فلأودّعها بصمتي. أشمّ رائحة أفكاري
تتفسّخ ببطء فلأبدأ بذلك." أمسك رقبته
بإحكام بكلتا يديه، وغرز أصابعه فيها بشدّة
صقر جائع. "لن يفيدني هذا في شيء. لن أصنع
شيئا أستجدي به موتي." ترك ساعديه تسترخيان
تماماً وألقى برأسه ببطء، دفعة واحدة، في
الماء. ابتدأ احتفاليته الأخيرة بالانتباه. ابتدأت أطرافه
تموت حتى أدقّ تفاصيله. لكنه بقي منتظراً
أن ينطفئ وعيه وتنتهي كل اتصالاته. مات بطنه وأحشاؤه. لكنه بقي منتظراً
أن يموت وعيه. سرى الموت إلى
عروقه ورقبته. استهلك كل نفس يدّخره للعدول عن
فكرته. لم يبقَ له سوى
وعيه. تفسّخت أطرافه
وزاره ذباب كثير.. ن.. لكن رأسه بقي في
الماء. عيناه منفرجتان تبصران بقوة كونية كل
العماء حولها. مازال يذكر إلى وقت مضى كيف
استطاع أن يموت، وأنه منتظر أن يموت وعيه بعد
ثوان من حديث تافه. منتظر ذلك ولم يعد يدّخر
يأساً كافياً لانتظار آخر. ·
عن
حديث للإمام علي (ر): "عليكم بالنرجس،
استنشقوه مرة في العام، فإن في النفس حالة
لايزيلها إلا النرجس."
|
|
|