|
التبادل
الثقافي
بين
الشرق والغرب
دايساكو
إكيدا
نقطة
الانعطاف في الصلات الشرقية الغربية
في عهد الملك أشوكا[1]
أخذت البوذية تنتشر خارج حدود الهند وتمارس
تأثيرها في المجالات الثقافية الأخرى. إلا أن
العملية لم تبلغ نشاطها الكامل إلا قبيل
بداية العهد المسيحي، أو بعد خمسمائة سنة من
وفاة البوذا.[2]
(لا شك أنه ليس لدينا، وقد شرحت ذلك في كتاب
آخر، سبيل إلى تحديد التاريخ الدقيق لوفاة
البوذا، ومن ثم لا يسعنا أن نتكلم إلا
بالأرقام المتوفرة). وإنه لمن الشائق في هذا
السياق أن نشير إلى نظرية العهود الثلاثة بعد
وفاة بوذا. فوفقاً لهذه النظرية التي اقترحها
أساساً بوذيوالمهايانا،[3]
فإن وفاة البوذا قد قُدِّر أن
يتبعها عهد عُرِف بالـشوبو Shobo،
أو "القانون الصحيح"، وعهد ثان معروف
بالـزوهو
Zoho،
أو "قانون الحكمة"، وثالث معروف بالـمَبُّوMappo
،
أو "نهاية القانون". وكما تدل هذه الأسماء، كانت
النظرية قائمة على الرأي بأن فهم الـدهرما[4] Dharma
وممارسته سوف يأفلان خلال القرون
إلى أن يختفيا تماماً. وهناك توكيدات مختلفة
حول كم سيدوم العهدان الأوَّلان. إلا أن
أعمَّها أن أمد العهد الأول هو خمسمائة سنة.
وبكلمات أخرى، فإنه بعد خمسمائة سنة من موت
شاكياموني[5]
سيبدأ الفهم الصحيح لتعاليمه بالأفول. ويُظهِر البحث العلمي أن
الشكل الأصلي للنظرية قد رأى أن عهد "القانون
الصحيح" سيكون دوامُه خمسين سنة. وخلال هذا
الزمن فإن الشومون Shomon،
وهم المريدون الذين تلقُّوا التعليم من
البوذا نفسه مباشرة، سيكونون قد رحلوا عن
الدنيا واحداً بعد واحد، وستدخل البوذية عهداً
جديداً بكل معنى الكلمة، وستواجه "الأخوية"
أزمتها الرئيسية الأولى. والافتراض هو أن
شاكياموني قد قدَّم هذا الرأي لأتباعه على
سبيل النبوءة في الحوادث المقبلة تحذيراً لهم:
عليهم بعد وفاته أن يحرصوا بشدة على أن يروا
تعاليمه تنتقل على الوجه الصحيح إلى العصور
اللاحقة. ومن الواضح أن الأخوية
البوذية قد اجتازت العهد الأول المتنبَّأ به
للأزمة من غير صعوبة كبيرة، وراحت بالتدريج
تعتد أن عهد "القانون الصحيح" لن يدوم
خمسين سنة بل خمسمائة سنة. ويبدو أن أسئلة
الملك مِلِندا Milinda
قد حددت في شكلها الحاضر زمناً يقارب بداية
العهد المسيحي؛ وهي تتضمن المقطع التالي
المتعلق بعهد "القانون الصحيح". فقد كان
المريد أنَنْدا Ananda
قد أقنع شاكياموني أن يسمح للنساء
بالدخول في الأخوية البوذية، رغم أنه كانت
لشاكياموني شكوكه حول حكمة هذا النقل. ثم قال
له شاكياموني: "إن القانون الجيد ("القانون
الصحيح")، يا أنَنْدا، سوف يدوم ألف سنة إذا
لم يُسمَح للنساء بدخول الأخوية. ولكن الآن،
يا أنَنْدا، لن يدوم أكثر من خمسمائة سنة."[6] لعل أية امرأة اليوم ستكون
غاضبة من هذا الموقف المتحامل، حتى ولو لم تكن
مؤيدة لما يسمى تحرير النساء. ولكن ذلك وبكل
وضوح كان في زمن شاكياموني الرؤية المقبلة
عموماً للنساء وتأثيرهن الضار. ويبدو أن النظرية القائلة
بأن عهد "القانون الصحيح" سيدوم خمسمائة
سنة قد قوَّاها الشعور بالخطر والأزمة الذي
ساد حقاً في عهد الأخوية البوذية في ذلك الزمن.
فالمنظمة الدينية التي آمنت أن واجبها
المحتوم هو أن تنقل تعاليم شاكياموني
في شكلها الصحيح قد انقسمت إلى عدد من
الجماعات المغلقة. وتطورت دراسة الـأبْهِدْهَرْماAbhidharma
،
أو الأعمال التفسيرية للشريعة، منعزلة
باطراد عن الجماهير تمام الانعزال. ولم تبلغ
حركة المهايانا شهرتها الممتدة بعد زهاء
خمسمائة سنة من وفاة البوذا إلا بسبب حالة
الشؤون العامة بتأكيدها لأهمية المؤمن
العلماني. وسأدرس فيما بعد بتفصيل أكثر
العوامل التي أدت إلى نشوء حركة المهايانا.
ولكنني قبل أترك موضوع العهود الثلاثة قد
أشير إلى أن نسخة النظرية السائدة في اليابان
قد أدت باليابانيين في أواخر العصر المهياني،
في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، إلى
الاعتقاد بأنهم قد دخلوا في عهد الـمَبُّوMappo
.
ولا ريب أنه قد عززت هذا الرأي الأوضاع
الاجتماعية المتردِّية في ذلك الزمن، ومن ثم
أصبح مؤثِّراً بعمق في الدين والحياة. وفي
الصين كذلك احتل الذروة في بعض الأحيان الرأيُ القائل بأن العالم يدخل عهد "نهاية
القانون" حيث كان البلد في مرحلة الفوضى
الاجتماعية والانحطاط. وما أودُّه الآن هو أن أدرس
الصلات الثقافية بين الهند وجاراتها في هذه
الفترة بعد خمسمائة سنة من وفاة البوذا. لقد
رأينا في عهد الملك أشوكا في القرن الثالث قبل
الميلاد أنه قد أرسل الرُسُل لنقل المعرفة
بالبوذية إلى الدول في الغرب، ومن هذه الفترة
وما تلاها تبدو الهند
محافِظة نسبياً على عملية التبادل الثقافي مع
هذه الدول. ولفهم الخطوات التي استطاعت
البوذية بها أن تتطور إلى ديانة عالمية
رئيسية، فمن الأهمية بمكان أن ننتبه إلى هذا
التبادل الثقافي بين الشرق والغرب. ويقدم لنا كتاب أسئلة الملك
مِلِندا مثالاً يوضح كيف مارس الفكر البوذي
التأثير في العالم الإغريقي. ولكن علينا ألا
نتغافل عن أن العملية سارت كذلك على النحو
المعاكس، وأن الغرب مارس في بعض الأحيان
تأثيراً قوياً في العالم الهندي. ولنتذكر أن
الإسكندر الأكبر قد غزا الهند في القرن
الرابع قبل الميلاد، والتأثيرات التي بعثتها
هذه الحادثة قد أصبحت في الزمن الذي ندرسه
واضحة في الهند في الوجوه الكثيرة المختلفة
من الحياة الهندية. ولم يمكث الإسكندر نفسه
أكثر من بضعة أشهر، ولكنه ترك حاميات عسكرية
ثمة وفي مساحات باتجاه الغرب، واستمر الحكام
من هذا الصنف أو ذلك، وعلى نحو متقطِّع، في
السيطرة على أجزاء من الهند في السنتين
المائتين التالية. وبعد سقوط الممالك
الإغريقية تابع السيذيون، الذين قد تأثروا
كثيراً بالثقافة الهيلينية، مهمتهم في حكم
أجزاء من الهند عدة قرون أخرى. وبنتيجة هذه
الغزوات الإغريقية والسيدهية أصبحت البوذية
على احتكاك ثقافي بالعالم الهيليني. ومن هذه
النتائج النحت البوذي للتماثيل على المدرسة
القندهارية،[7]
الذي ازدهر في الهند الشمالية الغربية برعاية
السيدهيين. ومن الشائق أن نلاحظ
أن شاكياموني لم يُصوَّر
البتة في الفن البوذي الذي سبق هذا التأثير
الهيليني القوي. هكذا، على سبيل المثال، فإن
التمثال المنحوت الذي يصور إحراز البوذا
للتنوُّر ليس فيه سوى شجرة الـبودهي Bodhi
التي كان يتأمل تحتها
والحصير الذي كان يجلس عليه حين وصل إلى
التنوُّر. وهذان الشيئان يرمزان إلى حضور
شاكياموني. ولكن في مدرسة قندهار Gandhara
صُوِّر شاكياموني بتمثال على الأسلوب الذي
كانت تُصَّور به آلهة الإغريق والرومان.
ويُظهِر لنا ذلك مثالاً على طرق التفكير
الغربية التي مارست التأثير في الذهن الهندي.
وقد قيل أيضاً إن بعض سمات المذهب البوذي
المهاياني قد اسُتمِدَّ من الفكر الغربي، إلا
أننا سنرجئ البحث في هذه المسألة إلى بحث آخر. إنه في هذا الزمن الذي ندرسه
الآن كانت ديانة عالمية أخرى، هي المسيحية،
آخذة في الظهور في فلسطين. ولأن العالم الشرقي
كان يتمركز حول الهند والعالم الغربي حول
الإمبراطورية الرومانية، بدا ذلك العصر عصر
اضطراب وتحول. ففي الهند كان الملوك الإغريق
قد استُبدِلوا بغيرهم من الغزاة الأجانب،
وفقدت البرهمنية والبوذية حيويتهما
وتصلَّبتا في شكلانية صارمة. وفي الغرب أخلت
الجمهورية الرومانية السبيل للإمبراطورية
الرومانية، التي بسطت هيمنتها على كل بلاد
البحر الأبيض المتوسط وخارجها وأرهقت الشعب
الواقع تحت حكمها كثيراً، ولا سيما الشعوب في
البلاد المفتوحة على امتداد الحدود. وفي عصر التغيير وعدم
الاستقرار هذا، كان الناس يتطلعون إلى ظهور
بطل يعقدون عليه الآمال أو يبحثون لهم عن مخلص
للأرواح. ففي الهند كان الناس يترقبون ظهور
البودهيساتفا مايْتريا[8]
Buddhisattva
Maitreya الذي تنبأ شاكياموني
بمجيئه إلى العالم في المستقبل ليأتي
بالخلاص، على حين كان اليهود يتطلعون بشوق
إلى ظهور مسيحهم. ولا يسع المرء إلا أن
تستوقفه وجوه الشبه هذه بين الشرق والغرب
التي تعكسها هذه الحالة من القلق والترقب. كان زمناً للظلام الروحي
واليأس. إلا أنه في تلك الأزمان التي يكون
فيها الظلام عميقاً، وتبدو المدينة مواجِهة
لقدر مشؤوم، يتوق الناس بكل حماسة إلى ظهور
فلسفة عظيمة أو ديانة جديدة. والمفكر العظيم
أو الزعيم الديني، ولو استجابة منهما لذلك،
يظهران فعلاً لينيرا للبشر الطريق. وفي فلسطين كانت ديانة
جديدة قائمة على التعاليم اليهودية، ولكنها
موجَّهة إلى كل الشعوب في كل مكان، تنبثق إلى
الوجود. وفي الهند كانت حركة المهايانا تعبر
عن ظهورها. ولو ظلت البوذية في مرحلة التطور
ممثلة بمدرسة الهِنايانا[9]
في ذلك الزمان، فمن المحتمل أنها لن تصبح
ديانة عالمية رئيسية. ولكنها، بفضل القوى
الدافعة لحركة المهايانا، أصبحت ديانة نشيطة
في التبشير، تمتد نحو الشرق إلى الصين
واليابان، ونحو بلاد الغرب كذلك. البوذية
والمسيحية
اتجه جُلُّ الدراسات
المقارنة للبوذية والمسيحية في الماضي إلى
التركيز على الفوارق بين الدينين، كما فعل
فوميو ماسوتاني. وكان المناخ الثقافي والفكري
يختلف بشكل طبيعي في الشرق عنه في الغرب، فمن
الطبيعي أيضاً أن تختلف الأديان التي انبثقت
من المنطقتين. وعلى أية حال، فإنه من الشائق
كثيراً أن نشير إلى أن هذا الميل أخذ يتبدل
حديثاً وأن العلماء بدؤوا يؤكدون النقاط التي
تشترك فيها هاتان الديانتان. ولعله قد مضى ذلك
الزمن الذي نستطيع فيه أن نستمر في التفكير
بلغة هذه الثنائية الصارمة والثابتة بين
الشرق والغرب. والمطلوب في عصرنا الحاضر
هو وعي الوحدة والاتحاد العالميين. وهكذا،
وعلى الرغم من أننا قد نستمر إلى حد ما في بحث
النواحي التي يختلف فيها الشرق عن الغرب،
فالأهم بكثير أن نتحدث عن وجوه الشبه
الأساسية ونقاط الالتقاء. وأشعر بحاجة شديدة
إلى أن أضيف أن تجاوز البحث في الفوارق في زمن
كهذا، مع محاولة إثبات تفوق أحد الأديان على
الآخر، سيكون محض هراء. وعلينا ألا ننسى أن الهند من
الأزمان المبكرة كانت أرض التقاء لثقافات
الشرق والغرب، وأنها تمثل عرقياً كذلك مزيجاً
من الشعوب من كلتا المنطقتين. ولعله لذلك لم
يكن لدى الهنود وعي حاد بـ"شرقيَّتهم"
كما لدينا نحن اليابانيين عادة. ويُحاجِج العالم
الأنثروبولوجي الثقافي تاداو أوميساو أن
منطقة آسيا الغربية، من الهند إلى البحر
الأبيض المتوسط،
يجب أن تُعَدَّ "منطقة
متوسطة" تتميز من كل من الشرق والغرب. وكما
رأينا في بحثنا في أسئلة الملك مِلِندا،
كانت منطقة آسيا الغربية هذه، منذ الأزمان
المبكرة، مسرحاً للتبادل الثقافي المتواصل،
ولعله يجب أن يُنظَر إليها على أنها المنطقة
المتوسطة الوحيدة. فإذا تبنَّينا المقاربة
التي دافع عنها أوميساو أصبحت البوذية
والمسيحية نتاج العالم نفسه. وسواء قبلنا وجهة النظر هذه
أم لا، فلا سبيل لنكران أن المسيحية والبوذية
متشابهتان في أنهما تبشران كل البَشَر برسالة
كونية حول كيف ينبغي لنا أن نعيش. وأصول معظم
الأديان موجودة في مسائل تتعلق بالتضحية
والتضرع إلى قوى خارقة للطبيعة، ومن المعروف
أن مثل هذه الأديان تُظهِر صلة وثيقة بأعضاء
السلطة السياسية في المجتمع القبلي. إلا أنه
لا يوجد مثل هذا العنصر السياسي في نشوء
المسيحية أو البوذية. وعلى العكس، يبدو أن
كلتيهما قد برزتا في مناخ المعارضة للسلطة
السياسية. ولهذا السبب، كثيراً ما تتصف
تواريخهما الخاصة بالاضطهاد على أيدي رجال
السلطة. وبوسعنا القول إن هاتين
الديانتين تقومان على مستوى أرفع من تلك
الديانات المرتبطة بشدة بتأدية واجبات
التضحية لهيئة سياسية خاصة، وهما تهدفان إلى
خلق القيم للبشرية جمعاء. وهذا ما كان يسعى كل
من شاكياموني ويسوع إليه في تعاليمه، وراح
أتباعهما اللذين جعلوا واجبهم أن يضعوا
تعاليمهما موضع الممارسة – وهذا ما تحتِّمه
طبيعة التعاليم – يفكرون بلغة المناشدة
الشاملة ويصورون حدوث الخلاص لكل البشر. وقد اعتقد بعض العلماء
البوذيين أن مفهوم الخلاص في المسيحية
مستمَدٌّ فعلاً من مثال البودهيساتفا، وهو
البوذا بالقوَّة الذي يؤجِّل خلاصه الفردي
لمساعدة الآخرين. وهذا المثال قد تطور في
البوذية المهايانية. وافتُرِض كذلك أنه ربما
كانت ليسوع صلة بالأسِّينيين Essenes،
وهم طائفة يهودية تعدادها أربعة آلاف عضو
عاشوا قبل المسيح بقرن على شاطئ البحر الميت
في مجموعات رهبانية شديدة الشبه بالأخوية
البوذية. وفي الأصل لاشك أنه ما دامت اليهودية
ديانة الدولة والمجتمع اليهوديين، لم يكن
فيها مفهوم الراهب الذي ينسحب من المجتمع
ليعيش حياة التقشف والرياضات الدينية. وقيام
الأسِّينيين بذلك يوحي بأنه، رغم ما وُصِفوا
به عادة من أنهم طائفة يهودية، قد تأثروا
بالمفهوم البوذي للـصانغها Sangha
أو نظام الرهبنة. ويقدم الأستاذ هاجيمِه
ناكامورا عدداً من الأمثلة الأخرى على
التأثير البوذي الممكن أو المحتمل في الغرب.
فوفقاً له، وُجِدت أديرة بوذية في أوروبا
الشمالية. وفي عام 1954 اكتُشِف تمثال بوذي صغير
في السويد. وكان يُفترَض أن البوذية قد امتدت
إلى الجزر البريطانية قبل قدوم المسيحية.
وتستند هذه الفرضية إلى عبارة كتبها أوريجينس
في تعليقه على سفر حزقيال زهاء سنة 230 م تقول:
"في تلك الجزيرة [بريطانيا]، كان الكهنة
الدرويديون Druids
والبوذيون قد نشروا لتوِّهم التعاليم
المتعلقة بوحدانية الله، ولهذا السبب وجد
السكان أنفسهم ميَّالين إلى
المسيحية." ولا يسعنا إلا
أن نندهش من أن التأثير البوذي لا بد قد انتشر
بين الكِلْتيين Celts
في الجزر البريطانية في أقصى الحدود الغربية
لأوروبا. ورغم أن بعض الرهبان والرسل
الذين كانوا مسؤولين عن نشر التعاليم البوذية
في مساحة بالغة الاتساع قد سافروا بالسفينة
أو على صهوة الحصان، فما من ريب أن معظمهم قد
ذهبوا على الأقدام. وإذا قرأ المرء سيرتي
شاكياموني ويسوع فإنه سيؤثر في نفسه كم سار كل
منهما. ولا بد أن الأتباع الذين نشروا
تعاليمهما قد مشوا مسافة أكبر. والرهبان
البوذيون، إذ ألهبهم تصميمهم على أن يجلبوا
الخلاص لكل الناس، انتشروا في كل الاتجاهات
من شبه القارة الهندية وواصلوا طريقهم في أشد
المناطق وعورة. وبمثل هذه الحماسة لدعم
التعاليم البوذية، لا يدهشنا انهم حملوها إلى
مناطق بعيدة كالجزر البريطانية. وقد كشفت التنقيبات عن
الآثار في موقع مدينة قديمة في مقاطعة ويلز
الجنوبية عن عدد كبير من القطع النقدية
الرومانية، وبينها قطعة نقدية من مملكة الملك
مِلِندا. وكما رأينا، فقد حكم الملك مِلِندا (أو
ميناندر Menander)
جزءاً من الهند الشمالية الغربية في القرن
الثاني قبل الميلاد. وسيكون فاتناً لنا إن
استطعنا، بطريقة ما، أن نتتبَّع رحلة القطعة
النقدية وهي تمضي من الهند إلى الإمبراطورية
الرومانية، ومن بعدُ إلى موقعها الغربي في
بريطانيا. عندما كانت القطعة ما تزال
في الهند فمن الممكن جداً أنها شهدت نشوء
الحركة المهايانية. ثم بخروجها من يد أحد
التجار الأغنياء، من طراز المؤمنين
العلمانيين الذين يقومون بذلك كثيراً لتقديم
العون المالي للرهبان المهايانيين، بدأت
رحلتها إلى الغرب. ولعلها في الطريق سمعت عن
الموت المأساوي للمخلِّص في فلسطين. وفي آخر
الأمر وجدت طريقها إلى يد تاجر روماني أو جندي
يجمع النقود النادرة. وهكذا أصبحت واحدة من
مجموعة القطع النقدية الموجودة في ويلز. وعلى أية حال، فإنها ستكون
واقعة ذات أهمية كبرى لو أن البوذية قد
وصلت حقاً إلى بريطانيا في هذا العصر الباكر.
ولقد كانت إنكلترا في الأزمنة الحديثة نشيطة
جداً في الدراسات البوذية. ورغم أن ذلك ناشئ
جزئياً عن الهند، ذات المواقع والآثار
البوذية المقدسة، وقد كانت من قبل تحت الحكم
البريطاني، فإنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من
التساؤل: أليس ذلك نتيجة لصلة غريبة تمت في
الماضي. وهنالك كذلك عدد من
الفلاسفة الأوربيين في القرون الحديثة قد
أولوا اهتماماً كبيراً للبوذية الهندية. وفي
خاتمة كتاب لكنشي هوري، يستشهد المؤلف
بالكلمات التالية للفيلسوف الألماني الكبير
شوبنهاور: "سيأتي يوم يفلح فيه العالِم
الكتابي، المتمكن كذلك، وبكل معنى الكلمة، من
الديانة الهندية، في توضيح الصلات بين
المسيحية وديانات الهند." وقد تركت هذه
الكلمات أثراً عميقاً في الأستاذ هوري عندما
كان شاباً، وراح يكرس السنوات الثلاثين
التالية برمَّتها لقضية توضيح هذه العلاقة. وظهرت حديثاً نتائج بحثه في
كتاب عنوانهBukkyo
to Kirisutokyo .
وفي هذا الكتاب يذكر أنه في سنة 1958 اكتشفت
بعثة أركيولوجية تعمل في أفغانستان مرسوماً
أصدره الملك أشوكا منقوشاً على الحجر
ومكتوباً باللغتين الإغريقية والآرامية.
وأثار هذا الاكتشاف الدوائر الأكاديمية بشكل
كبير وجذب انتباه الأستاذ هوري بوجه خاص بسبب
استخدام اللغة الآرامية. كانت اللغة الآرامية
هي اللغة المشتركة في كل الإمبراطورية
الفارسية التي امتدت في ذروة قوتها من وادي
السند في الشرق إلى جنوب غربي آسيا، وحتى بلاد
النوبة في مصر. وهي وفقاً لذلك لغة فلسطين في
زمن يسوع. ومن الممكن التخمين أن يسوع قد
اكتسب المعرفة بالبوذية من مثل تلك الكتابات
بالآرامية وتأثر بتعاليمها. ونحن نميل طبيعياً إلى
التفكير في كل هذه المنطقة الغربية وآسيا
الوسطى والهند على النحو الذي توجد عليه الآن.
إلا أن الأوضاع كانت مختلفة كل الاختلاف في
القرون التي جاءت قبيل العهد المسيحي وبعده.
لقد كانت آسيا الوسطى، في ذلك الزمن بوجه خاص،
مفترق طرق حقيقي للتجارة والتبادل الثقافي بين
الشرق والغرب والشمال والجنوب. وأدت المدن
على امتداد طرق القوافل دور المراكز لنشر
الأفكار والثقافة المادية، وشق طريق الحرير
المشهور الذي يصل تشانغان
Ch’ang-an في
الصين بروما طريقه إلى المنطقة. وقد دمَّر
المنطقة الغزو المغولي بقيادة جنكيز خان
وتركها قفراً حقيقياً كما هي اليوم، ولكن
الحفريات الأثرية برهنت كم كان وضعها مزدهراً
في الأزمان القديمة. لقد شادت المنطقة بكاملها،
من بلاد فارس إلى آسيا الصغرى في العصر الذي
ندرسه الآن، عالماً ثقافياً عظيماً وفريداً
يتصل بالصين في اتجاه الشرق، وبالهند في
اتجاه الجنوب، وبروما في اتجاه الغرب؛ ولعله
في الواقع أشد تقدماً وعالمية من كل العوالم
الأخرى. ولذلك ليس من الغرابة في شيء ذلك
الافتراض بأن الناس في فلسطين، على التخم
الغربي لهذا العالم الثقافي، قد بلغتهم أنباء
الحركة المهايانية التي ظهرت في الهند
الشمالية الغربية في التخم الشرقي لهذا
العالم. بل سيكون الغريب أن نفترض أنهم لم
يسمعوا بها. ***
*** *** ترجمة:
محمود منقذ الهاشمي [1]
أشوكا Ashoka:
حاكم بوذي من القرن الثالث قبل الميلاد. وهو
الملك الثالث من سلالة موريا الذي وحَّد
الهند كلها تحت حكمه. (م) [2]
البوذا the
Buddha: كلمة سنسكريتية
معناها "المتنوِّر"، وهي تطلق على
شاكياموني Shakyamuni
مؤسس
الديانة البوذية، ومن الممكن كذلك أن تطلق
على غيره. (م) [3]
مهاياناMahayana
:
هي أحد التيارين الرئيسيين في البوذية؛
والتيار الثاني هو هناياناHinayana
.
وتؤكد التعاليم المهاياينية الممارسة في
خضم المجتمع لفائدة كل الناس. وهي منتشرة
بشكل رئيسي في الصين وكوريا واليابان
وفيتنام. (م). [4]
دهرماDharma
:
الحقيقة البوذية. (م) [5]
شاكيامونيShakyamuni
:
معناها "حكيم شاكيا"، وهي كلمة مؤلفة
من مقطعين: شاكيا Shakya،
وهو اسم قبيلة، وموني Muni،
ومعناها "حكيم". وشاكياموني هو لقب
مؤسس الديانة البوذية. (م) [6] The questions of King
Milinda,
T. W. Rhys Davies, tr., Part 4, p. 186. (Sacred Books of the East, vol.
XXXV, Oxford: Clarendon Press, 1890; reprinted by Dover Publications, New
York, 1963). [7]
غندهاراGandhara
:
مملكة في الهند الشمالية الغربية. (م) [8]
البودهيساتفا مايترياthe Bodhisattva Mmaiterya :
هو بوذا المستقبل. (م). [9]
هناياناHinayana
:
أحد التيارين الرئيسيين في البوذية،
والتعاليم الهنايانية ترى أن الرغبات
الدنيوية هي سبب الألم، وتؤكد أن الألم لا
يزيله إلا استئصال الرغبات الدنيوية. (م).
|
|
|