درب المريد أو... مسيحية الإسلام
وقفة تأمل أمام سيرة ابي المغيث الحسين بن منصور الحلاّج

 

أكرم أنطاكي

 

1

حين يدمى القلب وتنحبس الدموع. حين يبلغ ألم تمزقنا من صغائرنا حدًا تكاد النفس فيه أن تتقيأ، ويكاد الغضب من خلاله أن يدمر. حين نكاد نيأس من كل شيء، ونكاد الوصول إلى شفير الهاوية. و...

حين نلج أعماق الجحيم لوحدنا. ولا من معين. وتعمى بصائرنا ونكاد لا نلمس لا مطلقًا ولا عدمًا. فلنتفكر قليلاً يا أنا، ياصديقي. فلنتفكر قليلاً، ولنراجع أنفسنا أولاً، وآخرًا.

فما نحصده هو نحن. هو جحيمنا كان ولم يزل. ولكن...

حين يبكي القلب صادقًا وتغسله الدموع. وحين تنطلق من أعماقنا تلك الصرخة الصامتة تنادي أن... ربِّي اغفر لنا، لأنَّا لا ندري ما نحن فاعلون. عندها...

من أعماق جحيمنا، ووحدتنا، نلامس كالوهم شعاعًا من الأمل. ونكون من خلال الألم، والندامة، والمحبة، قد تجاوزنا ذاتنا. ونكون من خلال أنفسنا قد لامسنا المطلق، وقد لامسنا العدم.

إلهي، أليس روحك الذي اصطفيته قد قال يومًا أن...

سـر السرائـر مطـوي بإثبـــــــــــــــــات                   في جانب الأفق من نور بطيات
فكيـف والكيف معروف بظاهـــــــره           فالغيـب باطنـه للـذات بالـــــــــــــــــذات
تاه الخلائـق في عميـاء مظلمــــة          قصدًا ولم يعرفوا غير الإشــــــــارات
بالظن والوهـم نحو الحق مطلبهم          محـل حالاتهـم في كل ساعــــــات
والربّ بينهـم فـي كـلّ منقلــــــــــــــــب                   محل حالاتهـم فـي كل ساعــــــــات
وما خلو منه طرف العين لو علموا        ومـا خلا منهـم في كلّ أوقــــــات

يا إلهي، ماذا نقول ونحن نتجاوز من خلال مسيرة مريدك ذاتنا. ونتابع معه التأمل في دروبك اللامتناهية؟

والقضية كلُّ القضية كانت منذ البدء وستبقى، علاقة الذات بالذات...

والذات هو الكمون والمطلق والعدم. ومن خلاله، ذلك الوجود الذي لن ندركه. كلُّ ما يحيط بنا، والكامن في قلوبنا. أنت يا إلهي...

والذات في نفس الوقت هو الخليقة. ومن خلالها، نحن يا أبعد الخلائق وأقربها. يا أنا، يا أنت، يا صديقي. يا أنت، يا هو، يا إلهي.

والبحث عن الذات من خلال المعرفة، والخطيئة، والمحبة، والألم، قد أوصلني اليوم عن غير قصد إلى الدرب الذي أنا فيه. ومن خلاله، إلى قصة حزينة كالواقع، جميلة كالحلم تقول أنه...

2
في ذلك الزمان..

وتحديدًا في عام 244 من الهجرة الشريفة، ولد في قرية الطور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء، في الجنوب العربي من إيران، طفل اصطفته الألوهة لنفسها. وأسمي كالقدر بالحسين.

وقد كان والده المدعو منصور، (حلاج) قطن، تنقل وهو معه في مختلف مراكز النسيج في الأهواز. ليصل إلى مدينة "واسط" حيث كانت مدرسة قرآنية معروفة، درس طفلنا فيها القراءة والقواعد، قبل أن يغادرها إلى بلدة "تستر" حيث أضحى مريدًا لدى شيخ متصوف وصاحب طريقة تدعى بـ"السالمية" هو، السهل بن عبدالله التستري.

وكان الحلاج قد سمع بالسهل في بلدة واسط، على لسان قاض عجوز من جنديسابور يدعى بالصارفيني. والسهل هذا، كان من أوائل السنَّة الذين حاولوا وضع تفسير روحاني للقرآن.

وقد بقي الحلاَّج سنتين (من عام 260 إلى عام 262 هـ.)، لدى السهل مريدًا، صامتًا ومستمعًا إلى تعاليم أستاذه وإلى ما كان يدور في حضرته من نقاشات هامة مع أتباعه، الذين نعدد منهم، الجريري والبربراهي وعمر بن واصل العنبري، إلخ. وتستر الواقعة كما نعلم في الأهواز، كانت في حينه خاضعة لاختلاجات أول ثورة لمحرومي الإسلام آنذاك. تلك التي عرفت في التاريخ ولم تزل بثورة الزنج.

(تأمل)

ما هي يا ترى تلك العلاقة، أو لنقل، ما هو ذلك الرابط بين الحياة المادية للإنسان في قلب هذا العالم الذي ما زال موحشًا، وفي سبيل تأمين متطلباته الدنيا، وذلك الميل الجاذب إلى المطلق و/أو العدم؟

ثم، كيف يصبح الإنسان مريدًا؟ كيف، وهو من قلب تلك المادة الأصم، يصبح طامحًا إلى الترفع إلى دروب "الحكمة الإلهية"؟

أو بتعبير آخر، كيف تمايزت تلك الذرة من الغبار عن سواها؟ وكيف وعت، وهي المادة كانت ولم تزل روحها؟ وكيف وعت، وهي الغارقة في قلب الملايين والملايين من أمثالها، وحدانيتها؟

إلهي كم راودتني تلك التساؤلات. وكم ما زالت تراودني. أشعر كأني أحترق، وكالوهم أكاد أسمع من الأعماق صرخة صامتة تتمزق محبة وتنادي من غياهب عدمها...

أن سأكون وأتكاثر إلى ما لا نهاية.

ومن خلالها أكاد أتلمس كيف أضحى "الصفر" واحدًا. وأكاد أتلمس كيف أضحى "الواحد" وجودًا وعددًا.

يا إلهي، وما نتلمسه ليس سوى بعض من لا نهايتك.

والعقل، والقلب يقولان أنه حين لا يوجد سوى ذلك الأحد، لا بد من تواجد العدد.

والعقل، والقلب يقولان أنه لكي تعبر تلك "الروح المطلق" عن نفسها، تحتاج إلى تلك "المادة اللامتناهية" التي تشع من ذاتها، وتسعى من خلالها عن وعي إلى العدم من جديد.

إلهي إني أتمزق، ولكن... لتكن مشيئتك، كما في السماء، كذلك على الأرض.

وإرادتك قد شاءت بالنسبة لمريدك، أن يقبع فترة مستمعًا وصامتًا عند قدمي "معلمه الأول". ثم، أن يتجاوز ذلك المعلم ويتابع مساره على خطاك، على ذلك الطريق حيث...

سكوت ثـم صمت ثم خرس                 وعلم ثـم وجـد ثـم رمــــــــــــــــــــس
وطين ثـم نـار ثـم نــــــــــــــــور                وبرد ثـم ظـلّ ثـم شمــــــــــــــــــــس
وحزن ثـم سهـل ثم قفـــــــــــر                ونهـر ثـم بحـر ثـم يبــــــــــــــــــس
وسكر ثم صحـو ثم شوق                  وقرب ثـم وفـر ثـم أنــــــــــــــــــــس
وقبض ثـم بسط ثم محـــو                  وفرق ثـم جمـع ثـم طمــــــــــــــس
وأخذ ثـم رد ثـم جـــــــــــــــذب                 ووصف ثـم كشف ثـم لبـــــــــــس
عبارات لأقـوام تســـــــــاوت                  لديهـم هـذه الدنـيا وفلــــــــــــــــــس
وأصوات وراء الباب لكن                            عبارات الورى في القرب همس
وأخر ما يؤول إليه عبـد                             إذا بلـغ المـدى حظ ونفــــــــــــس
لأن الخلق خدام الأمـاني                  وحق الحق في التحقيـق قدس

ذاك الطريق الذي قاده إلى...

3
البصرة وعمرو المكّي..

وقد لعب عمرو المكّي دورًا هامًا في حياة الحلاَّج. فهو الذي أهداه إلى الصوفية كطريق حيث ألبسه الخرقة، وأحلقه شاربيه.

والبصرة كانت في حينه إحدى العواصم الفكرية للإسلام. أمَّا المعلم الثاني لحلاجنا (عمرو بن عثمان المكّي)، فقد كان محدثًا من أصول حجازية. تتلمذ على يد البخاري ويونس بن عبد العلا وربيع بن سليمان. وبويع بالطريقة الصوفية في مكة على يد الجنيد بن محمد البغدادي.

وعمرو كان تاجرًا ناجحًا. كتب في الروحانيات والممارسات الدينية، وكانت له أجوبة هامة في المسائل الرمزية.

وتغيرت حياة مريدنا بهدى معلمه الجديد. فأضحى متنسكًا دون أن ينقطع عن سواه. يسكن في حي مرباد، قريبًا من عمرو، ويصلِّي في "مسجد الأمير" في خمس الخريبة، في حيِّ الزياديين حيث كان يلتقي بأبناء بلدته. وحيث تعرَّف هناك إلى كاتب الوزير من آل الكرنبائي، وعلى صوفي آخر هو أبي يعقوب الأقطع البصري الذي تزوج الحلاَّج من ابنته في نهاية عام 263 للهجرة.

ونلاحظ أن الحلاج، من خلال آل كرنبائي أولاً، وعمّه المرتبط بهم، وبالجنيد ثانيًا، قد أضحى أقرب من تلك الأوساط التي دعمت في حينه ثورة الزنج. ولكن...

مع زواجه الذي لم يستشر به أحدًا، اصطدم الحلاج بمعلمه. فذاك كان يبغي، على ما يبدو، تلميذه المختار لنفسه. والتلميذ كان قد بدأ يشق طريقه إلى الحق وحيدًا ربما. وأيضًا، وهذا ممكن جدًا حسب ماسينيون، ربما كان المكّي قد تخوف من انعكاسات تقارب تلميذه من خلال عمه من آل كرنبائي وأوساطهم المؤيدة لثورة الزنج.

4
الحلاَّج والجنيد..

في العام 264 للهجرة، توجه الحلاَّج إلى بغداد ليستشير الجنيد بما أضحى خلافًا علنيًا بين عمه والأقطع بسبب زواجه. ما يمكن اعتباره، مع ماسينيون، لقاءهما الأول. والذي أضحى الحلاج من بعده، على صلة بالجنيد، وهو بعد لم يزل في البصرة. والجنيد كان قد أمره فيما يتعلق بتلك الخصومة "بالسكون والمراعاة...".

فالجنيد كان حتمًا المعلم الثالث لمريدنا إلى جانب البصري. وقد بقي على صلة به، كما يقال، طوال فترة وجوده هناك، ولبعض الوقت بعد انقطاع صلته بالبصري، كما تقول الأسطورة. ولكن، استمرار الخصومة بين عمه والبصري، مقرونًا بالظروف الصعبة التي كانت تعاني منها البصرة ربما، أدت إلى ترك الحلاج لمدينته قاصدًا مكة لأداء فريضة الحجِّ.

"... وكان أول دخلته..." حيث كما تقول الأسطورة، "... جلس في صحن المسجد سنة، لا يبرح موضعه إلاَّ للطهارة أو للطواف ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر..."، مصاحبًا صوفية مكة. فـ...

ركوب الحقيقة للحق حـقّ                  ومعنى العبارة فيـه يدق

وحلاجنا الذي كان آثر...

ركوب الوجود بفقد الوجود                  وقلبـ(ـه) قسوة لا يرق

كان في جوار الرسول يتأمل في نفسه، باحثًا من خلالها عن طريقه. وهو الذي قال يومًا معبرًا عما يختلجها من حقيقة. أن

افهام الخلائق لا يتعلق بالحقيقة. والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق. الإدراك إلى علم الحقيقة صعب، فكيف إلى حقيقة الحقيقة، وحق الحق وراء الحقيقة، والحقيقة دون الحق.

"فالحقيقة حقيقة، والخليقة خليقة.." والطريق هو، والله أعلم، أن "... (تـ)دع الخليقة لتكون أنت هو وهو أنت من حيث الحقيقة..." فقد...

صيرني الحق ها حقيقة          بالعهد والعقد والوثيقـة
شاهد سري بلا ضميري           هذاك سري وذا الطريقة

[....]
خاطبني الحق في جنابي                   فكان علمي على لساني
قربني منـه بعـد بعــــــــــــــــد                  وخصّني الله واصطفاني

والحق الذي اصطفاه قد قال له، من خلال قلبه:

أنت تهدي إلى الدليل لا إلى المدلول، وأنا دليل الدليل.

ويعود الحلاج من مكة وقد تعمقت تجربته. ويبدأ والله أعلم في الدعوة جهارًا لما يعتقد. مما أثار على ما يبدو تحفظ الصوفية عمومًا، وشيخهم الجنيد تحديدًا. فهؤلاء، كانوا في حينه يتوقّون كثيرًا إطلاع الناس على أسرارهم خشية وقوعها تحت طائلة فقهاء الشريعة من ناحية، وطائلة الدولة من ناحية أخرى. فكانت خصومة الحلاج مع رفاقه القدامى، وكما عبر ببلاغة ومرارة قائلاً أن..

من سارروه فأبدى كلما ستــــــروا          فلـم يراع اتصالاً كان غشاشـــا
إذا النفوس أذاعت سر ما علمت                   فكل ما حملت من عقلها حاشا
من لم يصن سر مولاه وسيـــــــده          لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وعاقبوه على ما كـان من زلــــــــــل                   وأبدلوه من الإينـاس إيحاشـــــــــــا
وجانبـوه فلـم يصلـح لقربهــــــــــــــــم          لما رأوه على الأسرار نباشــــــــــــا
من أطلعوه على سـر فنـم بــــــــــــه                   فذاك مثلي بين الناس قد طاشا
هم أهل سر وللأسرار قد خلقـــــــوا                   لا يصبرون على ما كان فحاشا
لا يقبلون مذيعًا فـي مجالســـــــهـم          ولا يحبون سترًا كان وشواشــــــا
لا يصطفون مضيفًا بغض سرهم           حاشا جلالهم من ذلكم حاشــــــا
فكن لهم وبهم فـي كـل نائبـــــــــــــة          إليكم ما بقي ذا الدهر هشاشـــا

ولكن، إن كان والله أعلم...

للعلم أهـل وللإيمـان ترتيب                 وللعلـوم وأهليهـا تجاريب

فإن حلاجنا ما كان ليكشف سرًا لو لم تكن "...عروس هواها في ضمير(ه) تجلت..." ونتابع...

فما وصلنا عن هذه الخصومة كان لاحقًا لمأساة حلاَّجنا، وكان نقلاً عن أتباع الجنيد أو متصوفة كالجريري والخلدي وعن عمه الأقطع البصري الذي أضحى الحلاج على خلاف معه، يتحدث ظاهرًا عن رفض الجنيد للحلاج إن لم نقل اختلافهما من البداية إلى النهاية. فمن كان الجنيد في الحقيقة؟ وكيف على ضوء ما وصلنا، نستخلص بعضًا من حقيقة علاقته بالحلاج؟

والحق يقال، أن كل ما ينقل عن الجنيد بن محمد الذي ولد في بغداد عام 225 للهجرة من أب قواريري، يؤكد أنه كان مريدًا للشيخ الشافعي الفاضل أبو ثور الكلبي وعمره آنذاك عشرون عامًا. وأنه، وقد اطلع على ما ندعوه بالطرائق السرانية على يد خاله سري السقطي الذي كان تلميذًا للمحاسبي. وتعمق في العلم مما جعله خليفة أبو جعفر أبو وهب الزيات كمعلم ورئيس للخلوة الصوفية في الشونيزية. ما يؤكد تقاربه من حيث العمق الروحاني مع الحلاَّج.

فعنه وصلتنا عدة مؤلفات نعدد منها: دعوة الأرواح، السكر، الإفاقة، الغناء، الفرق بين الإخلاص والصدق، التوحيد وآداب المفتكر إلى الله. وخاصة، الرسائل...

وهي مؤلفات تعكس بعدًا سرانيًا كبيرًا. حيث تتحدث عن انتقاء الحق لمختاريه من البشر، فيتظلل بهم، ويتجلى لقلوبهم. فيصبح المريد شبح خالقه الذي يعيده إلى نقطة البداية، "يوم الميثاق"، وتلك هي النهاية. وهذه كانت حال حلاجنا التي تلمسها والله أعلم، الجنيد، بعلمه وقلبه. حيث، لما كانت الغاية هي "إفراد القدم عن الحدث"، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالنسبة للمريد المصطفى إلاّ من خلال الـ"فناء في المذكور" و/أو "التوحد مع الربوبية" من خلال التمييز بين "المأمور والمحظور" مما يحقق العودة إلى البدء من خلال الفناء. فإن الألوهة التي تتلبس الولي بجبروتها، تحيله غبارًا قبل أن تميته وتقتله وتدفنه وتعيده إن شاءت إلى الحياة من جديد، تصبح بحد ذاتها، أساس حياة الولي الذي يتقمص روح خالقه ويتحرر من هيكله (جسده).

ونسجل أن هذه الأفكار تتوافق نظريًا، كما نرى، مع مسار الحسين بن منصور الذي كان يومًا مريدًا للجنيد. ولكن، إن كانت تلك هي الحال، فكيف نفسر عندئذ ما وصلنا من مريدي الجنيد من سير تتحدث عن خلافه مع الحلاّج؟

فسواء عن لقائهما الأول "نقلاً عن أحمد الصغير، نقلاً عن ابن الكفيف... نقلاً عن الجريري..." أو، عن لقائهما الأخير "نقلاً عن الهجوري نقلاً عن الخلدي" أو من خلال ما يروونه عن حادثة "أنا الحق" أقوالاً تنسب للجنيد وتستنكر مواقف الحلاَّج وتتوقع له (من حيث الظاهر على الأقل) بؤس المصير. أقوالاً تردد على سبيل المثال لا الحصر أن "أرى في كلامك فضولاً.." و".. أي خشبة تفسدها؟.." ما يؤكد، من حيث الظاهر على الأقل، أن خلافًا بالعمق كان قائمًا فعلاً. ولكن، لم لا ندع المجال قليلاً لحدسنا...

(تأمل)

تتعدد طرق المريد بتعدد المريدين، والغاية واحدة. حيث يقضي المريد حياته ههنا باحثًا عن الحقيقة. والحقيقة بين يديه، حوله إن شئتم، وفي قلبه تحديدًا. وما أقربها... وفي الوقت نفسه، ما أبعدها!

والبحث عن الحقيقة بالنسبة للمريد، غالبًا ما يبدأ بالبحث عن المعلم...

وقد يجد المريد معلمه ههنا. وقد لا يجده. فالمعلم الحق للمريد الحق يبقى قبل كلِّ شيء، ذاك الذي في قلبه.

عند قدمي معلمه الأول، يتعلم المريد المنطق ربما. حيث، غالبًا ما تفرض الحياة أن يتلمس ابن الحقيقة في البداية، طريقًا عقلانيًا للاهوته. ولكن، هل بوسع العقل وحده معاينة الألوهة؟

والمعلم الثاني لمريدنا هو ربما ذاك الشيخ الملهم الوقور الذي يرشد خطاه على الطريق. ولكن، هل هذه الطريق واحدة بالنسبة للجميع؟ والمعلم الحق يعلم قبل سواه أن الطرق إلى الألوهة متعددة بتعدد البشر. والجنيد كان كما يقر الجميع، من أكبر معلمي الصوفية. ولكن...

ما هي الصوفية كطريق إلى الحقيقة. ومن أبنائها صاحبنا الذي أنشد قائلاً أن...

ليس التصوف خيلة وتكلفــــــًا               وتقشفـًا وتواجدًا وصياح
ليس التصوف كذبة و تظلمًا               وجهالـةً ودعابـةً ومزاح
بل عفّـةً ومـروءةً وفتــــــــــــــوةً               وقناعـةً وطهـارةً وصلاح
وقفًا وعلمًا واقتداءً وصفـــــــــًا              ورضًا وصدقًا ووقًا وسماح

فالتصوف هو "الحكمة الإلهية". والصوفي بالنسبة للعارف الحق هو الحكيم الإلهي. وهذا ما يثبته بالنسبة للمريد العارف حساب الجمَّل ربما حيث...

ص = 90، و = 6، ف = 80، ي = 10، ما مجموعه 186. و...

أ = 1، ل = 30، ح = 8، ك = 20، ي = 10، م = 40، ا = 1، ل = 30، إ = 1، ل = 30، هـ = 5، ي = 10، ما مجموعه أيضًا، 186...

وهذا إن استخدمنا التعبير اليوناني هو، الثيوصوفيا، أي الحكمة الإلهية. و/أو ما كان وما زال يعرف بالغنوص.

وهذا اقتضى ولم يزل، معرفة الحق من خلال القلب والعقل والتواصل. وهذا لم يمتلكه على مرِّ العصور غير أبنائه المختارين...

فـ

من يملك الغنوص، هو المدعو من الآب. لأن من لم يدع هو الجاهل. وحقًا، كيف بوسعه أن يسمع إن لم يناد؟ ومن يبقى جاهلاً حتى النهاية هو ابن النسيان والعدم... (إنجيل الحقيقة، القول 21)

... أمّا مالك الغنوص فهو ابن الأعالي. وهو العارف اسمه. وهو المبدأ المنبثق من الأب، المدعو بالإبن: فاسم الأب هو الإبن، وهو الذي أعطى من حيث الجوهر اسمًا لمن انبثق عنه. أي لمن كان هو فجعله ابنًا له... (إنجيل الحقيقة، القول 38).

والحلاَّج كان ملهمًا، وعن المكّي اطلع والله أعلم، كما يقول ماسينيون، على سر عظيم. سرًا كان ربما ذلك الذي رفض (البعض) في حينه أن يكاشفه به...

5
DEMON EST DEUS INVERSUS

وأعيد قراءة ما تجسده قلبه الطاهر من حقيقة. وما تجسده من خلال حقيقته قلوب العارفين ههنا. وأبكي مثلما بكى لمأساته ومأساتنا.

و"السيد الغريب أحسن الله مثواه" كان يبكي حين فهم، وهو من أصدق المسلمين إيمانًا أن:

ما صحَّت الدعوى لأحد إلاّ لإبليس وأحمد. غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عين العين...

فإبليس كان ولم يزل، تلك الألوهة التي (سقطت) فتجسدت مادة. ذلك العدم الذي أضحى وجودًا. وتلك اللانهاية التي أضحت مسافةً وزمانًا. فـ"سقط عن العين"... وأحمد كان ذاك النبي الإنسان الذي "كشف له عين العين" كلمح البصر. فتنبه الناس لألوهته التي لم يدركها هو كإنسان.

و"السيد الغريب أحسن الله مثواه" كان يتمزق من خلال مأساته حين يدرك أن:

ما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث ألبس عين العين وهجر اللحوظ والألحاظ في السر وعبد المعبود على التجريد، ولعن حين وصل إلى التفريد، وطرد حين طلب المزيد...

وقلبه الصافي، وهو الغريب عن هذا العالم وابن أعماقه، كان يقطر دمًا حين تلمس مأساة تحقيق "غيب الغيب" لذاته من خلال الوجود. وما الوجود سوى انعكاس الغيب. وما طريقه سوى الفناء والعدم طريقًا إلى الذات من جديد. وأيضًا...

كان قلب "السيد الغريب أحسن الله مثواه"، يبكي لمأساته ومأساتنا، وهو يعني قطعًا ما يقول أن:

قيل لإبليس اسجد، ولأحمد انظر. هذا ما سجد، وأحمد ما التفت يمينًا ولا شمالاً: (ما زاغ البصر وما طغى) /53 – 17/

وقلبه الممزق الصافي كان يفهم أن (التجربة الكبرى) للألوهة المتجسدة هو إغراء السجود لانعكاس ذاتها. وهذا ما كان للألوهة المتجسدة، ولا لأبنائها المختارين مقبولاً. حيث...

إبليس... ادعى تكبره ورجع إلى حوله، وأحمد ادعى تضرعه ورجع عن حوله...

فمصير المادة أن تسعى من خلال مقاومة ذاتها إلى عدمها. كمصير الإنسان الممزق الوحيد أن يعود رغم الخطيئة، ومن خلال الألم والندامة والمحبة إلى أصوله.

وإنّـي وإن هجرت فالهجـر صاحبــــــــــــــــي   وكيف يصحّ الهجر والحب واجد
لك الحمد في التوحيد في محض خالص   لعبد زكـيّ مـا لغيرك ساجــــــــــــــد

يا إلهي، وحكمتك قد شاءت أن لا نكون في عالمنا سوى انعكاس كلِّيتك التي تجلَّت لمريدك الملهم الذي أدرك بفضلك جوهر الأشياء. ففهم تلك الحكمة المستورة التي لن يفهمها الخنازير. تلك الحقيقة الخالدة التي تقتل مريدها وتحييه في الوقت نفسه.

ويعيد المريد الذي تيقظ لحقيقته مساره بنزاهة لامتناهية. يعيد قراءة الأشياء بأعين جديدة، فتتكشف له عن روائعها ومكامنها.

ويعيد مريدنا النظر. ويحاور موسى والأنبياء والبشر. فقد...

التقى موسى وإبليس على عتبة الطور، فقال يا إبليس! ما منعك من السجود؟ فقال: منعني الدعوى بمعبود واحد ولو سجدت لآدم لكنت مثلك. فإنك نوديت مرة واحدة (انظر إلى الجبل) /7 – 143/ فنظرت. ونوديت ألف مرة: أسجد! فما سجدت لدعواي بمعناي.

فإبليس كان معلم موسى. وكان المنادي له على الجبل. وإبليس

... كان في السماء داعيًا، في السماء داعي الملائكة يريهم المحاسن، وفي الأرض داعي الأنس يريهم القبائح...

وموسى، كسواه ممن سبقه وتلاه من الأنبياء كان داعي الأنس لمن دعاه ينهاهم عن القبائح ويسجد لإلهه. أمَّا إبليس، وما كان سوى انعكاس ذاته، "... فما سجد لأحد، ولا أذل لشخص وجسد، ولا عرف ضدًا ولا ولدًا..." ومن مقارنة الاثنين إن جازت المقارنة نجد أن السابق هو قطعًا من اختار الفناء من أجل المطلق واللاوجود من أجل الوجود. فلولاه، لما عرفت المادة ذاتها. ولولاه لما عرف الإنسان أصوله...

لأن الأشياء تعرف بأضدادها، والثوب الرقيق ينسج من وراء المسج الأسود. فالملاك يعرض المحاسن ويقول للمحسن: إن فعلت جزيت. وإبليس يعرض القبائح ويقول: إن فعلتها جزيت مرموزًا. ومن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن.

فإبليس ربما، كان فرعون الذي غرق وهو يردد كما جاء في القرآن الكريم أن "آمنت أن لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل..." /10 – 9 /. وذاك كان ما قدمته الكتب من خلال انعكاسه. وذاك كان ذلك السر العظيم الذي تلمسه مريدنا في حينه ربما، من خلال البصري. والذي يعتقد أن الجنيد قد رفض في حينه أن يسارره به. ولكن، التساؤل يبقى وقد عدنا من جديد إلى الجنيد والحلاج هو...

أحقًا لم يتلمس المعلم في حينه حقيقة تلميذه فتخلى عنه تاركًا إياه ليتابع الطريق وحيدًا إلى حيث نهايته المحتمة؟ وما وصلنا من سير يؤكد أن المعلم قد تلمس فعلاً مصير تلميذه. حيث نجد في كل السير تكرار ذلك التساؤل الذي يقول "أي خشبة تفسدها؟" وما وصلنا من كتابات للجنيد تؤكد أن حال الحلاج تتطابق تمامًا مع تجلياته للقداسة؟!

وأتأمل بما قاله يومًا الأستاذ نهاد خياطة في محاضرة له بعنوان عناصر الفلسفة الدائمة أن:

... إذا كان الموطن المقصود (للمريد) هو الألوهة، فنحن أمام تجربة ميتافيزيقية يسميها بعضهم حجًا أو عروجًا، ويسميها بعضهم الآخر كشفًا أو تصوفًا، كما يسميها آخرون حكمة. ومحصلة هذه التجربة هو دائمًا إما تأسيس لدين جديد أو تعميق لنظام ديني طغت عليه سطحية أو حرفية قاتلة، أو تصحيح لخلل أصاب هذا الجانب أو ذاك من النظام. فعندئذ نكون أمام زندقة أو هرطقة تنتهي بصاحبها إما إلى القتل أو إلى النصر. القتل إن طرح محصل التجربة أمام الخنازير التي ما تلبس أن تدوس الورد بأقدامها ثم ترتد لتمزق وتفتك بالذي تجرأ وأعلن خروجه عن المألوف. هذا إذا كان محصل التجربة غير مؤيد بالظروف التاريخية (وأفكر بالسيد المسيح أو الحلاّج فهذه حال جميع المريدين الأقرب بقلوبهم إلى الألوهة الحقة). والنصر (وأضيف، أو البقاء الأرضي) إذا صيغ هذا المحصل صياغة تعبر عما لم يستطع أن يعبر عنه متلقون كانوا يتطلعون إلى نفس ما ترمي إليه التجربة الدينية من معطيات (وأفكر بالجنيد).

وأتابع حالمًا مسار حلاَّجنا...

6
وحيدًا على الطريق...

حيث، لما تمزَّق قلبه الطاهر من جفاء رفاقه القدامى، كان انتقاله مع أسرته إلى تستر مسقط رأسه، حيث بقي معتكفًا ما يقارب السنتين، دارسًا ومتأملاً قبل أن يباشر دعواه.

وقد بدأ الحلاج، كما تؤكد الأسطورة، هذه المرحلة من حياته واعظًا في الأهواز، بالقرب من موطنه القديم، زاهدًا في خرقة التصوف نفسها. متنقلاً من مدينة إلى أخرى، ومن مسجد إلى آخر، مبشرًا أمام العامة بأحاديث ملهمة قصيرة، تدعو من حيث العقيدة إلى الإسلام وتحققه التدريجي في القلوب. ثم توجه إلى "... خرسان وما وراء النهر ودخل سجستان وكرمان ثم رجع إلى فارس..." فتوقف لبعض الوقت في الطالقان في شرق إيران حيث كانت تقوم حكومة شيعية زيدية. وإذ لم تطب الإقامة للحلاج هناك، عاد إلى الأهواز ومنها قصد بغداد بصحبة جماعة من مريديه، ليقيم فيها مع أسرته. ولكن...

يبدو أن الظروف لم تكن في حينه مواتية تمامًا لإقامة حلاجنا في بغداد. وخاصة، بفعل خصومة الصوفية له. فكان، وقد ضاقت به الحال من جديد، أن توجه إلى مكة ليحج حجته الثانية "... (مع أربعمائة من تلاميذه) وهنا، اتهمه بعض أصدقائه القدامى من الصوفية بالقيام بأعمال سحرية والاتصال بالجن...".

ثم كانت رحلته التبشيرية الثانية الأطول والأوسع والتي شملت التركستان والهند وحتى حدود الصين. وحيث اكتمل نضجه وعلمه حقيقةً ومذهبًا وسلوكًا. يقول...

أشار لحظـي بعيـن عـــلـــــم                 بخالص من خفى وهــــــم
ولائح لاح فتي ضميـــــــــري                 ادق من فهم وهم همـــي
فخضت في لج بحر فكري                  أمر فيـه كمـر سهـــــــــــــــم
وطـار قلبـي بريش شـوق                   مركب فـي جناح عزمــــي
إلى الـذي إن سـألت عنــه                 رمـزت رمـزًا ولم أســـــــــــــــم
حتـى إذا جـزت كـل حــــــــــد                 في فلـوات الدنـو أهمــــــــي
نظـرت إذ ذاك فـي سجـــــل                 فمـا تجاوزت حد رسمــــي
فجئـت مسـتسـلمـًا إليـــــــــــه                 حبل قيـادي بكـف سلمــــي
قد وسم الحب منـه قلبـــــي                 بميـم الشـوق أي وســـــــم
وغاب عنـي شهـود ذاتــــي                 بالقرب حتى نسيت إسمـي

"ومن هناك، عاد إلى مكة حاجًّا للمرة الثالثة والأخيرة. والمعروف في جوهر الحجِّ هو الوقوف في عرفة ثم التضحية منها... وهناك... وقف حلاجنا – حيث يذكر المرء أسماء جميع من يحبهم حتى يغفر لهم – وصاح صيحة الجميع (لبيك!) وساءل الله أن يزيده فقرًا، فيجعل الناس تنكره وتنبذه حتى يكون الله وحده هو الذي يشكر نفسه بنفسه من خلال شفتي الحلاج.." يقول...

يا لائمي في هواه كم تلم فلــــــو  عرفت منه الـذي عانيـت لـم تلــــــــــــــــــــم
للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني   تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تطوف بالبيت قوم لا بجارحـــــة   بـالله طافوا فأغناهـم عـن الحــــــــــــــــــــــرم

ويعود حلاّجنا إلى بغداد وقد قطع عهدًا مع ذاته أن يبذل حباته في سبيل تلك الحقيقة التي "يهديـ(ـها) مهجتـ(ـه) ودمـ(ـه)".

(تأمل)

أنت الآن وحيد يا صديقي، وفي قلبك تتوقد شرارة لن تنطفئ. أنت الآن وحيد، وتتأمل في العالم المحيط...

والعام المحيط هو الخليقة. هو تحقيق "المطلق-العدم" لذاته. والدرب من حيث نحن طويل وصعب ولكن... ما أجمله إن فهمته، وإن وعيته فهل من سواه؟

والدرب هو من خلالك يا صديقي. يا أنا وأنت يا إلهي. و يلبي المريد الحق نداء أعماقه. فـ..

لبيك لبيك يـا سـرّي ونجوائــــــــــــــــــــــي                 لبيك لبيـك يـا قصدي ومعنائــــي
أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهـــــــل                 ناديت إيـاك أم ناجيـت إيائـــــــــــي
يا من علقت به روحي فقد تلفــــــــــــت                وجدًا فصرت رهينًا تحت اهوائي
أدنـو فيبعدنـي خوفـي فيقتلنـــــــــــــــــــــي                شوق تمكن في مكنون أحشائـي
وليس يعلم متا لاقيـت مـن أحـــــــــــــــد                إلاّ الذي حلّ مني في سويدائـــــي
ذاك العليم بما لاقيـت مـن دنــــــــــــــــــف              وفي مشيئته موتـي وإحيائــــــــــــــــي
يا غاية السؤل والمامول يا سكنـــــــي                يا عيش روحي يا ديني ودنيائـــي
قل لي فديتك يا سمعي ويا بصـــــــــــري               لم ذا اللجاجة في بعدي وإقصائي
إن كنت في الغيب عن عيني محتجبًا                فالقلب يرعاك في الإبعاد والنائــــي

وقلب المريد هو في النهاية راعي الألوهة وملاذها ههنا. وهدفه بات تزاوج القلب والواعية من أجل تحقيق وعي الذات للذات من خلال الخليقة.

وينطلق مريدنا إلى العالم من خلال دعواه...

والحق نقول، إن المريد الحق المنطلق بدعواه إلى سواه هو ذاك الذي اكتشف الألوهة من خلال قلبه. ذلك الذي اكتشف في أعماقه "قدس الأقداس" حيث يسكن ذلك الذي يمكن وصفه كالهندوس بـ "معلم الإنسانية" أو الـ"ـغورو".

والمريد الحق في عالمنا هو إنسان من هذا العالم. يعيش أفراحه ومآسيه، يعاني من الظلم ويرفضه لنفسه ولسواه. يحزن، يفرح، يحب، يتألم، ويحلم كسواه من البشر. مع ذلك الفارق الذي يقول إن أعماقه تتسع لأكثر بما لا يقاس مما يستوعبه سواه من حزن وفرح ومحبة وألم... وألوهة...

من خلال طبيعته البشرية، يفترض أن يحب المريد في عالمنا أشياء من هذا العالم. ولكن، من خلال ما في أعماقه، يكتشف المريد قدسية الأشياء وما يتجاوزها. إن لم نقل طبيعتها الإلهية.

وتدفعه محبته اللامتناهية وحيدًا من خلال الفداء إلى جحيمها...

وحلاجنا المنطلق من أعماق إسلامه كان قد اكتشف وكاشف الحق من خلال قلبه كما كاشفه رسوله من قبله. وعلى مثال رسوله وكلِّ الرسل، كان انطلاق مريدنا إلى العالم ليحقق من خلال ذاته ودينه ودنياه ما هو مرسوم منذ الأزل ولم يتحقق بعد. ما استوجب أن يكون حتى تتحقق الغاية من الخليقة. أقصد...

7
المسيح أو ألوهة الإنسان..

والمسيح وفق المسيحية التي أعني ليس ربما ذلك الشرع الذي يحمل اسمها والذي أنتمي من حيث الأصول الأرضية إليه. وقد لا يكون أي شرع آخر سواه. مع التأكيد أني لا أنفي على أبناء أي شرع حقيقتهم. إنما...

هو "الكلمة" الذي كان في البدء. الذي كان عند الله. والذي هو الإله. لا إله إلاّ هو. ذاك الذي...

ما وحد الواحد من واحـــــــــد                إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نطقه                 عبارة أبطلها الواحــــــد
توحيـده إيـاه توحيــــــــــــــــــــده                ونعت من ينعته لاحـد

هو "جوهر الشرع"...

هو "الحقيقة" المستورة في اعماقه...

هو "الصليب" مفتاح الحياة ورمز تقاطع الروح والمادة من خلال الحقيقة الواعية لذاتها. ومن خلال كل هذا...

هو "الحياة الأزلية" المنبثقة من موت الإله. إن لم نقل...

هو "الفداء" الذي جعل " السيد الغريب " يصيح من أعماق إسلامه، وقد تجلت الحقيقة أمام عينيه...

ألا ابلـــــــــــــــــــــــــغ أحبائـي بأنــي  ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي   فلا البطحا أريد ولا المدينـة

يا إلهي، وقد قضيت جلَّ حياتي عن جهالة باحثًا عنك بكل عقلي، لما جعلتني أصرخ ألمًا، عن وعي، بعين قلبي أن لا إله إلاّ أنت يا إله آدم وقايين وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب...

أنت تحديدًا، ومن يحدك، يا إله موسى وبوذا وعيسى وأحمد...

وحكمتك شاءت، وقد مايزت ابن الدم والطين عن سواه من خلال عقله، أن تعيده إليك من خلال قلبه. فآدم كان منذ البدء على صورتك، إن لم نقل كان انعكاسك، واستمراريتك كانت من خلال قايين الخاطئ الذي حميته، وشيت الذي انتقيته، ونوح الذي هديته وأنقذته. وأيضًا...

من خلال إبراهيم، وإسماعيل و/أو إسحق، ومن هذه الأرض "... حيث التين والزيتون وهذا البلد الأمين..." كانت مسيرة أبناء عصرك الحديدي.

نعم، وبكل محبة، أقول مع أبو المغيث، أن المسيح وفق المسيحية التي أعني هي ذلك السرُّ الأعظم، وأول الأسرار في عالمنا وآخرها. ذلك الذي يقول أن كل إنسان هو من حيث الجوهر مسيح بالقوة. أو لنقل، إن في قلب كل إنسان، ومن خلال روحه وعقله، توجد بذرة ألوهة. فـ...

سبحان من أظهر ناسوته                  سر سنـا لاهوته الثاقــــب
ثم بـدا لخلقـه ظاهــــــــــــــــــرًا                في صورة الآكل والشارب
حتى لقـد عاينـه خلقـــــــــــــه                 كلحظة الحاجب بالحاجـب

وهذا هو جوهر جميع الديانات. ذلك الذي جعل " السيد الغريب " يقول محقًا أن...

تفكرت في الأديان جدًا محققًا              فألفيتها أصلاً له شعب جما

وما نقوله، وسبقنا "السيد الغريب " إليه قد يكون من منظور أهل الظاهر كفرًا. ولكن...

إذا بلـغ الحب الكمال من الفتـــــى                   ويذهل عن وصل الحبيب من السكر
فيشهد صادقًا حيث أشهده الهوى                   بـأن صلاة العارفيـن مـن الكفـــــــــــــــــر

والمريد حين "يذهل عن وصل الحبيب من السكر" يكون قد لامس حقيقته المستورة في أعماق جحيمه. ويكون قد تجاوز الأنبياء من خلالها، وقد تجاوز البشر. ويكون قد قارب ههنا في عالمنا، من...

8
المصير المحتم...

حيث، يقال أنه لما عاد الحلاج هذه المرة إلى بغداد، "صرَّح برغبته في أن يموت (كمن سبقه على الصليب) من أجل الجميع..." قائلاً...

أقتلونـي يا ثقاتـــــــــــي             إن في قتلي حياتي
ومماتـي في حياتــــــي             وحياتي في مماتي
آن عندي محو ذاتي             من أجل المكرمات

وكان أيضًا كما يقال أن

أقام في بيته كعبة مصغرة، وفي الليل كان يصلي عند القبور (قبر ابن حنبل)، وفي النهار، كان يلقي على قارعة الطريق في بغداد بأقوال غريب. فكان يصيح في الأسواق وهو في حال من النشوة والطرب: يا أهل الإسلام أغيثوني! فليس يتركني ونفسي نفس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دليل لا أطيقه...

وكأن مريدنا الشاعر بقرب مصيره المحتم، قد بات تواقًا إلى ذلك المصير. خاصة، أنه مع ازدياد حلقة مريديه، كانت تزداد دائرة أعدائه. وبعضهم، كان كما رأينا من رفاقه القدامى من المتصوفة. والبعض الآخر كان من الشيعة بسبب "رسائله ذات الاتجاه المذهبين والتي يقال أن الحلاج قد كتبها من قبل عن موضوعات كانت مثار خلاف وجدل معهم (حول الأئمة الاثني عشر ربما)..." وبعضهم الآخـر كان مـن أهل السلطة الذين تخوفوا من دعواته الصريحة للإصلاح الديني والدنيوي من خلال رسائل بهذا الخصوص إلى الحسين ابن حمدان، ونصر ابن عيسى، وأخيرًا كما يقال، بسبب عواطفه، إن لم نقل، صلاته القرمطية.

وكان اعتقاله لأول مرة على يد القاضي محمد ابن داوود الذي طالب حكمًا بقتله. ولكن "... اقتراحه هذا، وقد وقع عليه آخرون، اصطدم بمعارضة قاض آخر شافعي، هو ابن السريج الذي قال أن مثل الإلهام الصوفي، لا يدخل في اختصاص المحاكم الشرعية. مما أنقذ الحلاج..." مؤقتًا...

وتتصاعد الأحداث، فإلى تلك الأيام ينسب قوله الخالد والي يروى من بين قصص أخرى أنه قاله بحضور مريده وصديقه الشبلي في جامع المنصور بغداد...

9
"أنا الحق..."

... وأقف خاشعًا، إذ أتلمس الحقيقة وقد تجلَّت لمريدها. وكل ما قاله وعاشه وكان ينطلق منها، بات يعود إليها. أقف خاشعًان مسترجعًا بعضًا من أحوله تقول:

يا سـر سـر يدق حتــــــــى                   يخفى على وهم كل حي
وظـاهـرًا باطنـًا تجلـــــــــــــى                  لكـل شيء بكـل شـي

إن اعتذاري إليـك جهــــــل                  وعظم شك وفرط عـيّ
يا جملة الكل لست غيري                  فما اعتذاري إذن إلـي

فأنا...

لست أنا ولست هو              فمن أنا ومن هو
لا وانا ما هو انــــــــا              ولا انا ما هو هو

إنما...

أنا من أهوى ومن أهوى انا               نحن روحان حللنا بدنا
فـإذا أبصـرتنـي أبصرتـــــــــــــــــه              وإذا أبصرته أبصرتنـا

خاصة انه قد...

وحدني واحدي بتوحيد صدق               ما إليه من المسالك طرق
أنا الحـق والحق للحق حقّ                لابس ذاته فما ثم فـرق
قد طلعت طوالـع زاهــــــــــــرات               يتشعشعن في لوامع برق

حيث...

صيرني الحق بالحقيقـة           بالعهد والعقد والوثيقة
شاهد سري بلا ضميري           هذا سـري وذا الطريقة

وكان ذاك (هو) سره فعلاً. وكانت تلك (هي) طريقته التي أوصلته (إليه) حقيقة...

وأسترجع بعضًا مما أورده بهذا الخصوص يومًا الأستاذ نهاد خياطة أن

... قد جاءت قولة الحلاج هذه متضمنة في كتابه الطواسين الذي ألفه في السجن ولم يكشف عنه النقاب إلاّ بعد استشهاده. يقول الحلاج في هذا الكتاب:

(إن لم تعرفوه /الله/ فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبدًا بالحق حقًا. وإن قتلت او صلبت أو قطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي...)... [حيث...]

واضح من هذا التعليل الذي يقدمه الحلاج أنه يعتبر العلاقة بين المؤثر والأثر ذات طبيعة عضوية لا ميكانيكية، أي أن الثر غير منفصل عن المؤثر من كل وجه، أو أن العلة مبطونة في المعلول، وبالتالي إن الثر دليل على المؤثر لا يعرف إلاّ بما ينتج عنه من آثار. حتى ليمكننا القول إن هذه اللوحة هي الفنان التي أبدعها وليست به في نفس الوقت. فهي هو من حيث إنها ذاته وقد أصبحت موضوعًا في العالم الخارجي، وهي ليست به من حيث إن ذاته ظلت محتفظة بجوهرها بما هي صرفة في معزل عن تجلياتها أو إسقاطاتها أو إبداعاتها.

فأنا الحق الحلاّجية ليست مطلقة من كل وجه، بل هي مطلقة من جانب ونسبية من جانب آخر: مطلقة بما تمثل الذات الإلهية في (تجلياتها الأسمائية)، ونسبية بما هي (محل هذه التجليات) فهي (مطلقة نسبيًا)، على حد تعبير ف. شيون. إذ لو كانت مطلقة من كل وجه لكانت حلولاً بما هو امتصاص للمبدأ بتجلياته.

ويوضح الأستاذ خياطة هذه الفكرة في بحث آخر قائلاً:

في المطلق، حيث تتآلف المتضادات لا كفر ثمة ولا إيمان، لا خير ولا شر، لا نور ولا ظلام. وبالتالي، لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار. أمّا في النسبي، حيث الحجاب مسدل على الحقيقة، أو إن شئت على القلوب والبصائر، وحيث المتناقضات على احتدامها، والمتباينات على تفردها، فلا سبيل إلاّ الشريعة يعمل الإنسان على هدى منها، ولا طريق إلاّ العبادات يتطهر بها من أوضاع الحياة اليومية ومن متطلبات الغرائز. والصوفي المتحقق، إذ يرجع من الطلق إلى النسبي، إنما يكرر (الخطيئة الأولى)، التي هي قدره، مثلما كان قدر أبويه آدم وحواء. كل ما يقوله أو يفعله في النسبي فهو نسبي، فإن كان خيرًا انطوى على شر، وإن كان إيمانًا انطوى على كفر، وإن كان صلاة كانت صلاته من (الشرك الخفي)، او الكفر. وعند الصوفي، الانتقال من الجمع إلى الفرق، كاهبوط من السماء إلى الرض، خطيئة. من هنا كانت / صلاة العارفين من الكفر /!

ولصلاة العارفين في هذا العالم النسبي مصيرها المحتم الذي استوجبته حتى الساعة عمومًا. وعلى هذه الأرض حيث "التين والزيتون" تحديدًا. فكما للسيد المسيح عليه السلام من أرضية الشريعة الموسوية سابقًا، كذلك للسيد الغريب أحسن الله مثواه من أرضية الشريعة المحمدية لاحقًا. كان ما كان منذ الخليقة وسيبقى حتى نهايتها، درب صليب العارفين. وذلك...

10
الفصل قبل الأخير...

وتتلاحق الأحداث، ففي عام 296 هـ. كانت محاولة فاشلة في بغداد للسنة الداعين إلى الإصلاح لإقامة خلافة حنبلية. تلتها عودة الخلافة إلى المقتدر الذي كان غلامًا صغيرًا. وترأس الشيعي ابن الفرات الوزارة. وكان أمر منه باعتقال الحلاج وعدد من اتباعه الذين كانوا على صلة بأصحاب المحاولة الفاشلة. ثم قبض على الحلاج الذي بقي متخفيًا بعد ثلاث سنوات من ذلك. وجيء به إلى بغداد ابتدأت قضيته النهائية التي استمرت تسع سنوات. والتي نوجزها مع ماسينيون كما يلي..

... سنة 301 هـ. – 913 مـ. جاء وزير جديد هو علي بن عيسى القنائي، وكان أحد أعضاء وزارته وهو حمد القنائي، ابن عمه حلاّجيًا صريحًا، فأفسد القضية مؤقتًا، ومنع كبير القضاة من النظر فيها. وأطلق سراح تلاميذ الحلاّج الذي كل ما استطاع خصومه الظفر به كان عرضه مصلوبًا ثلاثة أيام بحجة كاذبة هي أنه داع للقرامطة. ثم حبس في دار السلطان. ولكن، سمح له بأن يعظ في المساجين، فروجوا في القصر رسالة للوارجي تصف شعبذة الحلاج وحيله السحرية.

ثم كانت وزارة ابن الفرات الثانية ما بين 304 و306 هـ. وحيث لم يجسر هذا الأخير

... أن يعيد فتح القضية من جديد خوفًا من والدة الخليفة... وفد استطاع الحلاج وهو في حبسه أن يكتب مؤلفاته الأخيرة، وأحدها...، هو "طاسين الأزل" الذي يبين لنا المرحلة الأخيرة من تطوره الفكري... [ثم...]

"... كانت الأزمة المالية التي أدت سنة 307 هـ. إلى تشكيل وزارة ائتلافية سنية، دخل فيها حامد، وهو محصل خراج قاس إلى جانب ابن عيسى الذي كان فيزيوقراطي فاضل. وانتصر ابن عيسى في أول الأمر، فخفف من قسوة الضرائب بفضل بيان لميزانية الدولة الإسلامية صار مشهورًا بحق. فجاء حامد وأراد صد هذا الهجوم بأن أغرق الخليفة بمضاربة مروعة في المخزون من القمح المحتكر. وكان جواب ابن عيسى على هذا بإثارة فتنة شعبية ضد (ميثاق الجماعة) وفيها أطلق نصر القشوري، حبل العمل للحنابلة. فقامت نقابات الصناعات الصغيرة في بغداد كما في البصرة ومكة والموصل من قبل، وهاجمت المحتكرين والمخازن، وفتحت السجون. ويقال هنا أن الحلاج رفض في حينه الفرار من حبسه. وارتحل حامد إلى واسط حذرًا وفطنة. ولكن، بعد بضعة أسابيع، استفاد حامد من عودة مؤنس كبير القواد إلى بغداد، كيما يعود إلى المدينة. وكان مؤنس الذي أنقذ الدولة العباسية في مصر من الفاطميين في المغرب، قد عاد ليحميها في إيران شرقًا من تهديد الديالمة...

وكان شبه انقلاب في الاتجاه السياسي من خلال "التشدد في جباية الضرائب وزيادتها..." وكان حلفًا بين مؤنس وحامد الذي "... قرر استئناف النظر في قضية الحلاج...".

... وبدون تفطن، تظاهر الحنابلة ضد حامد، ودعوا على هذا الوزير في شوارع بغداد، احتجاجًا على سياساته المالية ومن أجل إنقاذ الحلاج في نفس الوقت. وذلك بتحريض من أحد الحنابلة الذي كان من أنصار الحلاج وهو ابن عطا...

... وكسب حامد المعركة، من خلال دعوته للمحافظة على النظام. فصار بوسعه أن يقدم ابن عطا للمحاكمة امام تلك المحكمة التي لم تستطع أن تجد شهادة حاسمة ضد الحلاّج... و... أسيئت معاملة ابن عطا الذي مات مما أصابه من الضرب...

وجاء دور الحلاّج... وقد

... استطاع حامد ان يتآمر مع القاضي المالكي، أبي عمر الحامدي، المعروف بتملقه لسلطان القائمين بالأمر، على الحكم الذي سيصدر بإعدام الحلاج وأسبابه، وذلك بالتحجج بمذهب الحلاج في الاستغناء عن الحج ليشبه أمره بأمر القرامطة الثائرين الذين أرادوا هدم الكعبة. وفي الجلسة، نطق القاضي أبو عمر، وقد استحثه الوزير بالحكم فقال ( يا حلال الدم).

وفي اليومين التاليين بذل نصر أمير البلاط ووالدة الخليفة سعيهم لدى الخليفة – وكان مصابًا بالحمى – فبدل حكم الإعدام. ولكن حامد لوح امام الخليفة بشبح ثورة اجتماعية حلاّجية. وفي الغداة، وقع الخليفة أمره بإعدام الحلاّج.

وفي الثالث والعشرين من ذي القعدة، أعلنت الأبواق أن الوزير يتهيأ لتنفيذ حكم الإعدام. وأسلم الحلاّج إلى رئيس الشرطة بن عبد الصمد، واتخذت الاحتياطات للحيلولة دون اندلاع ثورة.

وفي الرابع والعشرين، بباب خرسان، وبحضرة مجلس الشرطة، وامام جمع غفير، جيء بالحلاج، وضرب ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم صلب وهو كان ما زال حيًا. ولم يأت أمر الخليفة بالإجهاز عليه إلاّ عندما وافى المساء. فأجل الإعدام إلى صبيحة الغد حتى يستطيع الوزير حضور نطق الحكم. وكان...

أن حامدًا قد وجد من الحكمة أن يخلي نفسه (هو والخليفة) من المسؤولية فدعى الشهود الموافقين على الحكم بصوت عال وكانوا مجتمعين أما المقصلة حول ابن مكرم – وهم المثلون المخولون للأمة الإسلامية – وطلب منهم أن يصيحوا قائلين: (نعم اقتله! ودمه في رقابنا). وسقطت رأسه، وصب على جزعه الزيت وأحرق بالنار، والقي رماده في دجلة من أعلى المأذنة...

وقد كان ذلك في اليوم الموافق لـ 26 من آذار 922 لميلاد السيد المسيح. ولكن، يقال...

ان من على خشبة صليبه، وكالسيد المسيح، سامح "السيد الغريب أحسن الله مثواه" مضطهديه، فعنه تنقل الأسطورة عشية مقتله هذا القول البليغ:

هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك، وتقربًا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عنّي ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل، ولك احمد فيما تريد!

(تأمل وصلاة)

أنعي أليك نفوسًا طاح شاهدهـا            فيما وراء الحيث بل في شاهد القدم
أنعي إليك قلوبًا طالما هطلــــــــت           سحائب الوحي فيها أبحـر الحكـــــــــم
أنعي إليك لسان الحق مذ زمـن            أودى وتذكاره فـي الوهتم كالعــــــــــــدم
أنعي إليك بيانـًا تستكيـن لـــــــــــــه           أقوال كـل فصيـح مقـول فهــــــــــــــــــــــم
أنعي إليك إشارات العقول معـــــــًا           لم يبقى منهـن إلاّ دارس الرقــــــــــــــــم
أنعـي وحبـك أخلاقتًا لطائفــــــــــــــة           كانت مطاياهم من مكمـد الكظـــــــــــــم
مضى الجميع، فلا عين ولا أثـر            مضى عـاد وفقـدان الألـــــــــــــــــــــى إرم
وخلفوا معشرًا يحذون لبسهـــــــم            أعمى من البهم بل أعمى من النغم

آه أبا المغيث... وقد مضى ما يزيد عن ألف عام على مأساتك، ماذا بوسعنا أن نقول، سوى التأمل بمرارة والترداد ببلاهة أن قد ازددنا ابتعادًا وازددنا جهالة!

آه أبا المغيث... وقضيتك كانت ربما على صعيد ماديتنا، قضية شريعة تجاوزتها، أو "ثغرة أحدثتها... ولم يسدها إلاّ رأسك" كما قال من كان يفترض أن يكون في حينه أول أتباعك. وأيضًا، ربما كانت على صعيد روحانيتنا التي لم تكتمل، أن لم يتعرف الوجدان الجمعي من خلالك في حينه على مسيحه كما لم يتعرف سواه...

آه أبا المغيث... وقد كنت تعلم حين صلبت أن الصليب هو مفتاح الحياة. وأن نهايتك ههنا لن تكون سوى البداية. ولكن...

ربما كانت النهاية دائمًا عودة إلى البداية. ربما، كلاّ قطعًا هي كذلك! ففي النهاية، كما في البداية، يبدو كلَّ شيء وكأنه وهم. وهم ذلك الذي كان متواجدًا منذ الأزل وسيبقى هو...

أنت الذي لا يذكر اسمك ولا ينطق. أبانا وإلهنا...

حيث ربما كانت مأساتك تجسدك من خلال ثنائيتنا امرأة ورجل... ربما، كلا قطعًا هنا أيضًا، وما من أحد منا بوسعه إدراك كامل مقاصدك، حين تجسدت من خلال البيضة الأولى، وولدت ومت كما تولد وتموت هي.. التي ندعوها مريم أو إيزيس... أم ابنها وزوجه...

هي... سيدة الأفراح والمآسي. أمنا وأم إلهنا الذي هو ابنها الذي كان متواجدًا منذ الأزل وسيبقى، السيد المسيح الغريب الذي يقتل كل يوم على يدنا، ويولد كل يوم في قلوبنا من جديد.

فسلام عليك أبا المغيث وقد أضحيت مسيحًا وإلهًا...

سلام عليك وقد فهمت وحققت كونك الحق حقيقة.

*** *** ***

المراجع:

-       ديوان الحلاّج، جمع لويس ماسينيون.

-       الطواسين، الحسين ابن منصور الحلاّج.

-       شخصيات قلقة في الإسلام، عبد الرحمن بدوي.

-       الحلاّج بين فنائين، الأستاذ نهاد خياطة.

-       نماذج من شطحات الصوفية، الأستاذ نهاد خياطة.

-       عناصر الفلسفة الدائمة، الأستاذ نهاد خياطة.

La Passion de Hallaj , Louis Massignon, tomes 1 .. 4

La Doctrine Secrete, H. P. blavatsky

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني