الثورة العقلية هي الثورة!

حوار مع المفكر

ندره اليازجي

 

حاوره: مصطفى علُّوش

 

ندره اليازجي مفكر وباحث في قضايا الفكر والثقافة والفلسفة. من أهم مميِّزاته الفكرية أنه لم ينغلق في إيديولوجيا معينة أو منهج تفكير محدد، وإنما أخذ من كل نظرية أفكارها الإنسانية المضيئة والخالدة، ومن هذا التأليف الانتقائي أنشأ رؤيته الفكرية المتكاملة – ومحورها علاقة الإنسان الجوهرية بالكون. فاليازجي يعتقد أن الإنسان وُجِد ليعرِف، ومتى عَرَف فقد أصبح حراً، ووَعَى أن الكون كله يتمثَّل فيه. فقد وُجِد ليعرف نفسه، ومتى عرف نفسه عرف الوجود. ولا تتيسر معرفة النفس أو تتحقق إلا بالتساؤل الدائم والشك المعرفي.

الحياة عنده قضية رئيسية – الحياة التي تعبِّر عن الكيف (مقابل "المعيشة" التي تعبِّر عن الكَمّ). لذلك فإن اليازجي يتجاوز الفرد إلى مفهوم الإنسان، ويؤمن أن تصوُّفه العقلي يجعل منه طاقة طبيعية وكونية فاعلة في المجتمع.

لم يترك اليازجي مشكلة إنسانية إلا وتحدث فيها وقدَّم آراءه الفلسفية المستندة إلى رؤيته الشاملة. أصدر مؤخراً المجلدين الرابع والخمس من أعماله الكاملة. المجلد الرابع عبارة عن بحوث فلسفية تناقش وحدة الفكر الإنساني وفلسفة الإنسان الثائر، بينما يضمُّ المجلد الخامس فكره اللاهوتي.

عن قضايا الفكر والإنسان، وفلسفة الإنسان الثائر، كان هذا الحوار مع الفيلسوف الكبير.

***

* الفقر آفة اجتماعية تنهش جسم المجتمع. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب – كرَّم الله وجهه: "لو كان الفقر رجلاً لصرعتُه." والمعروف أن لك رأياً بخصوص علاج الفقر. فهلا حدثتنا عن هذا العلاج؟

** في الهند حكيم اسمه أتشاريا فينوبا، كان تلميذاً لغاندي، وكان غاندي يحترمه كثيراً. كان فينوبا يذهب لأغنياء الهند ويقول لأحدهم مثلاً: كم ولداً عندك؟ يجيب الغني: عندي أربعة أولاد. فيتابع الحكيم: وعندك مائة هكتار. إذاً حصة كل ولد 25 هكتارا.ً لنفرض أن عندك ولداً خامساً هو الأمة الهندية؛ ألا يحق لها عشرون هكتاراً من أملاكك؟ وغالباً ما كان الحكيم فينوبا يحصل على أراضٍ، أسَّس بها جمعيات تعاونية للفقراء تُعَدُّ بالآلاف، انتشل بها الكثيرين من غائلة الفقر.

من جهة أخرى، صدر كتاب يتحدث عن النتائج السيئة للحرب العالمية الثانية؛ ومن معلوماته أن ما أُنفِق على السلاح في تلك الحرب كان كافياً لبناء منزل لكل أسرة في العالم، لا تقل مساحته عن مساحة خمس غرف، ولتشييد مستشفى لكل 15 ألف نسمة.

* المعلوم أنك اتُّهِمت بالمثالية، وقد بُنِي الاتهام على تلك التصورات الفكرية التي تقترحها للتخلص من المشاكل الواقعية الضاغطة على الإنسان، باعتبارها جزءاً من إشراطات مزيَّفة. كيف تدافع عن نفسك؟

** قلت في جوابي على الاتهام: نحن نريد المجتمع الأفضل. مثلاً، قلت مرة لبعض الرجال والنساء من مجتمعنا السوري: أنتم تحتفلون بعيد الميلاد كل سنة. لو قلتم لأنفسكم مرة واحدة: لا نريد أن ننفق شيئاً على الأطعمة والهدايا والألبسة، إنما سنوزع هذه الأموال على الفقراء. لو حدث ذلك، ربما لم يبقَ فقير بيننا. وقد قلت في كتابي رسائل في حضارة البؤس: "ألا تخجلين أيتها المرأة أن تضعي على جسمك فراءً غالي الثمن، وتفتخرين به، وهو مصنوع من جلد حيوان بريء. وأنت، أيها الإنسان، ألا تخجل من مدِّ وليمة طعام لنفسك يمكن أن تُشبِع عشرات الفقراء."

* إنك تعترض على التعريف الكلاسي الفلسفي للمادة، وتقول إن المفهوم القديم قد تغيَّر. ضمن أي إطار يمكن فهم اعتراضك على التعريف القديم؟

** هنا يتدخل علم الدلالة ليقول: إن الكلمة بقيت لكن المضمون اتَّسع. فالمادة لا تعني المعنى نفسه الذي حملته في القرن التاسع عشر. لذلك وُجِدَت صعوبة في تقبل آرائي عندما كنت أحاضر في الستينيات، طارحاً هذه المقولات الجديدة التي فقدت دلالاتها القديمة، ولاقيت مقاومة شديدة.

* الفكر العلمي يؤمن بالصراع كمحرِّك لعملية التطور، بينما تقول أنت بمفهوم آخر كمحرِّك للتطور، هو التكامل. كيف توضح ذلك؟

** إنجلز تحدث عن جدلية الطبيعة المادية، وسماها صراعاً. وأنا أعتقد أن القطبين المتقابلين ليسا قطبي صراع. مثلاً: السلب والإيجاب، الرجل والمرأة، الخ. على هذين القطبين أن يتكاملا. فمثلاً هناك توازن وتكامل في الطبيعة، ويجب أن يكون هناك تكامل في العقل الإنساني؛ فما هو طبيعي هو عقلي، كما قال هيغل يوماً. نحن ندرس الطبيعة حتى نتوازن مثلها. فمحل كلمة الصراع أحللنا كلمة التكامل.

التكامل يعني التوازن. ففي علم النفس توصل الباحثون لأهمية التوازن في الوظائف النفسية. فمتى اضطربت وظيفة من الوظائف، فإن خللاً ما يصيب الشخصية ويبلغ الانفعال أقصاه: كذا شأن التكبُّر الناجم عن تجمُّع عاملين أو ثلاثة. فلا يوجد عنصر واحد يشكلأ التكبُّر. فالغنى وحده لا يشكل التكبُّر، لكن تضاف إليه العائلة، أو الطبقة، مع الجمال الجسماني. ولا يوجد إنسان متكبِّر إلا ويعاني من عقدة نقص. لذلك أدعو إلى القوة، ولا أقصد بها العنف، إنما أعني بالقوة التكامل الداخلي، حتى لا نكون ضعفاء. الضعف يُترجَم إلى عنف.

* وُصِفت يوماً بأنك بوذي. ما هي القصة بخصوص هذه المسألة؟

** يومها سألت الذي اتَّهمني: هل تعرف معنى البوذية؟ قال: لا. فأجبته: البوذية تعني الاستنارة. وإذا قُصِدت الاستنارة، فأنا بوذي، يعني أنا مستنير. إضافة إلى ذلك، قال عني بعضهم إني "يوغي"، ولا يعرفون معنى اليوغا. اليوغا يشير إلى التكامل الداخلي، وإلى توحيد الوظائف النفسية.

* كيف هي علاقتك بمؤسسات المجتمع الفكرية؟ هل تزعج آراؤك المتعلقة بالسرَّانية بعضَها؟

 ** في حياتنا الكثير من المؤسسات الفكرية، ويجب أن تبقى. لكن على الباحث أن يهزَّها بين الفينة والفينة حتى يحسِّنها. بالمناسبة، لا شيء إلا وسيُعلَن في العالم. فالاتفاقيات السرِّية مسموحٌ نشرُها بعد ثلاثين عاماً. فقد صار معروفاً للعالم اليوم ما دار بين هتلر وستالين في الثلاثينيات. هذه المعلومات لا تسمَّى أسراراً. السر يعني العمق، والسرَّانية تعني العمق؛ وكلما تعمَّقتَ وجدتَ عمقاً آخر.

* الابتكار هو تقديم الأفكار الجديدة. لكن هل هناك شيء جديد كلياً؟

** "لا شيء جديد تحت الشمس." اعتقدت مرة أن أحد الآراء قد أتيت به منفرداً. بعد فترة وجدت من سبقني إليه في الكتب القديمة. التأليف، في حقيقته، مجرد صياغة بأسلوب خاص بك.

* في مجلدك الرابع تحدثتَ عن فلسفة الإنسان الثائر. كيف تفهم الثورة؟

** أتساءل: ماذا أمثِّل في هذا المجتمع؟ هل أنا ثائر على هذه الأوضاع؟ عندما بدأت بسبر أعماقي وجدتني، من باب المحبة، أريد أن يكون العالم في وضع أفضل، فوضعت تأملاتي في هذا المجال تحت عنوان فلسفة الإنسان الثائر.

 قلت عن نفسي إنني فعلاً إنسان ثائر: ثائر على التعصُّب، ثائر على الطبقية، ولكن بالمفهوم الهادئ.

 سأضرب لك مثلاً واقعياً. أنا أنتمي لعائلة كبيرة وعريقة. في طفولتي لم يكن لدي أي صديق من عائلتي، بل كان أصدقائي من عائلات أخرى. بعضهم من أقطاب عائلتي قالوا لوالدي: لماذا يصادق ندره أولاد العائلات الأخرى؟ أي أنني لم أستطع أن أحتجز نفسي ضمن أي قوقعة، أو حتى ضمن أي منهج فكري بعينه. قلت لنفسي: سأقرأ الفلاسفة كلهم، الحكماء جميعاً، وسأحاول أن أؤلف بينهم جميعاً في ذاتي. لذلك قيل إنني أستعمل الديالكتيك في تفكيري.

* في كتابك فلسفة الإنسان الثائر اعتبرتَ أن الثورات سبع، وأن الثورة السياسية هي جزء من هذه الثورات. ليتك تعرِّفنا بأنواع الثورات؟

 ** عندما نقول "ثورة"، تتبادر إلى الذهن مباشرة الثورات السياسية. إنما أنا أقول إن هناك سبع ثورات:

أولها، الثورة الفكرية: وتتمثل في معارضة الوجود ومحاولة سبر أعماقه، في محاولة دائبة لمعرفة المجهول، وفهم كل ما يقع إلى ما وراء الحس؛ وتتمثل أيضاً في سعي الإنسان إلى المعرفة وتفهُّم صيرورته وسرِّ وجوده. ولما كان المجهول متضمَّناً في كيانه ووجوده، فإن ثورته تعني السعي الدائم لفهم نفسه.

2. الثورة النفسية: وهي مقولة وجودية لتَعارُض الإنسان مع نفسه؛ وهي محاولة مثابرة تستهدف تجاوز التجزئة والفصام الداخلي إلى تكامل الوظائف النفسية، وتُعتبَر جهداً فاعلاً من أجل تقويم الدوافع المنحرفة إلى رغبات وشهوات والعواطف المنحرفة إلى انفعالات، وتحقيق التوازن النفسي. وهي عملية دائمة تسعى إلى معرفة الإنسان لقواه وطاقاته، وتتمثل بتألق الوعي والوجدان، وبانتصار الإيجاب على السلب، وتحقيق وحدة الكيان.

3. الثورة الاجتماعية: وتقوم هذه الثورة على معارضة العنف باللاعنف، وإيقاظ ضمائر الحكام وحثِّهم على العمل المنتج، وتطبيق الآراء الإنسانية التي تؤمن بالتقدم والتطور، والاعتماد على كل الفئات التي تكون مؤهلة للعمل، وعدم تفضيل فئة على فئة أو مصلحة على مصلحة، وتقليص أنانية الفرد والعمل على تقويضها أو تجاوزها، والإيمان بالحرية التي ترفع العقل إلى درجات سامية على سلَّم الإنسانية.

4. الثورة العلمية: وتشير إلى متابعة البحث العقلي في نطاق المعرفة. وسوف يتابع العقل طريقه ليعمل بجد ونشاط، وليدرك أنه سيعلم أو سيحقق في نهاية الأمر كل ما ابتغاه، على الرغم من أن طريق العلم طويل ويحتاج السائر عليه لأزمنة مديدة ليبلغ الغاية القصوى. والثورة العلمية، في أصلها، ثورة فكرية. وإذا توخَّينا الدقة قلنا إن الثورة العلمية هي الثورة الفكرية وقد وُضِعت موضع التجربة. وتُعتبَر الثورة الاجتماعية نتاجاً للثورتين الفكرية والعلمية.

5. الثورة الصناعية: وهي النتاج المادي والتقني للثورة العلمية. وهي، بقدر ما هي عظيمة، وقادرة على جعل الكرة الأرضية فردوساً، بقدر ما سبَّبتْ من مشاكل للناس، فصار الإنسان يلهث وراء الأشياء الاستهلاكية، وأنزل ببيئته الطبيعية أضراراً لا رجعة فيها.

6. الثورة السياسية: وهي تأليف للنواحي الإيجابية للثورات قاطبة. والثورة لا تعني أن يقتل الإنسانُ الإنسانَ، بل أن يساعده على التحرُّر من القيود التي تكبِّله.

7. الثورة الروحية: وتُعَدُّ الجامعة للنواحي الإيجابية للثورات كلها، العلمية منها والفكرية والنفسية. ونستطيع القول إنها هي الثورة السياسية عندما تتبنى الجوانب الإيجابية في الثورات السابقة.

* كيف تفرق بين مفهوم الاجتماعية وظاهرة التجمُّع؟

** الاجتماع يصحُّ على عشرة صادقين، علماً ومثلاً. فلقاؤهم يتخذ معنى الاجتماع. بينما التجمُّع يصحُّ على عشرة متعصبين أو مستغِلين وجشعين. فلقاؤهم تجمُّع وحسب.

* هل يمكن فهم الحرية بعيداً عن الزمان والمكان الاجتماعيين؟

** الحرية تعني التفكير الواعي. وعندما يفكر الإنسان بوعي، يرى، ويشاهد، ويحس، ويلمس، ويشعر، ومن بعدُ، يحوِّل هذه الصور النفسية والعقلية إلى مُثُل ومبادئ. ولما كان التفكير الواعي يؤدي إلى المعرفة، فإن الحرية تتلازم مع المعرفة؛ فهي الطاقة التي تفعل في أعماقي وتوجِّهني إلى الكمال. الحرية لا تتحدد بالمكان والزمان، إلا في حال إخضاع الحرية لمعيار النسبة. فأنا أحيا خارج المكان لأنني وجود كلِّي ومتَّحد، أعبِّر عن حقيقة مجردة من التحديد. وينبثُّ مكاني المحلِّي، ويتَّسع، حتى يطاول اللانهاية المطلقة، لأني متصل معها ولست منفصلاً عنها. أنا حرٌّ أن أنطلق في الزمان الأبدي، وأن أغوص في أعماق الوجود الذي هو وجودي.

إني أريد الوجود؛ إذن أنا حرٌّ. إني أفكر؛ إذن أنا حر. الحرية هي الانطلاق في عالم المعرفة والفضيلة. وأنا عندما أدرك جهلي، أتحرر منه. عندئذٍ تتفتح أمامي آفاق جديدة أشاهدها ببصيرتي وأسمو إليها.

* ما هي الثقافات المتنوعة التي نهلت منها، وساهمت عندك بإبراز وحدة العقل الإنساني؟

** في كياني تلتقي ثقافات العالم لتشكل مركزاً تتكامل فيه الوقائع الظاهرية العديدة المتضمَّنة في هذه الثقافات في إلفة الحقيقة الواحدة التي نشاهدها كلما توغلنا إلى أعماق الحكمة أو السرَّانية التي تتوطد عليها القاعدة الأساسية للوجود الإنساني. في كياني تتحد فروع المعرفة كلُّها، تتصل دون أن تنفصل. ويشير هذا الاتصال إلى توحيد الثقافات في أنماط المعرفة العالمية، في تآلف يبلغ ذروته في وعي كوني شامل.

 لقد ولجت محراب الحكمة اليونانية المتمثِّلة في تعاليم وأسرار دلفي، ومدارس الفلسفة اليونانية التي أنارت سبل التفكير الإنساني؛ وغرفت من معين الهند وحجمتها الخالدة؛ ودخلت بيت الحكمة الذي بناه الفكر الصيني ومثاليته الأخلاقية؛ وأخذت من شرقنا القديم، وبحثت عن خفايا ما انطوت عليه حكمته، فوجدت في عمقه قمة ما توصل إليه العقل الإنساني؛ وصمَّمتُ على معرفة الرواقية والأبيقورية؛ وشدتني الأساطير إلى رمزيتها الظاهرية، وباطنها السرَّاني، فنهلت من معين الميثولوجيا اليونانية، والهندية، واليابانية، والمصرية، والكنعانية، والأفريقية، والأمريكية الوسطى والجنوبية، المتمثِّلة بأساطير الأزتِك والإنكا والهنود الحمر، والأوروبية الشمالية.

 وأدركت وأنا أبلغ هذا المستوى من الإطلاع والدراسة والبحث أنني أمثِّل ثقافة عالمية، تتألق ثقافتي العربية الخاصة في وسطها، وشعرت أن الثقافات الأخرى تحيا فيَّ وتستغرق كياني.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود