|
العجوز
معن
عبد السلام
كان
العجوز، يتبعه ثوره الذي تصل قرونه أول الكون
بآخره، وحيدين، لا أحد يؤنسهما غير بعض
النيازك السيَّارة، والأقاليم الفلكية. كان
يحب ثوره كثيراً. فمن حياته المليئة
بالمغامرات في أرجاء الكون لم يحظَ إلا بهذا
الثور الصديق الذي يشبه ألف كوكب أسود ملتحمة
بعضها مع بعض، كبيراً ضخماً، يأكل الشهب
الهاربة ويشرب السحب الكونية. صوته كصوت
مغارة عظيمة لا حدود لفيها. أما حدقتاه
فمدوَّرتان، تبرقان كشعلة فيها ألف ألف شجرة
تحترق. كان
العجوز يحمل عكازاً تعينه على المسير المرهق
في أرجاء الكون الشاسع الذي لا تحدُّه معرفة.
فكَّر في حياته الفارغة من الرفقة والأصدقاء.
طويلاً فكَّر، وراح يدقق في مجالات الكون،
لعلَّه يجد أحداً ما يتحدث إليه، أو حتى مكاناً يستريح فيه من سفره المستمر منذ الزمن
البدئي. أما الثور فكانت همَّته من همَّة
صاحبه، مطأطئ الرأس دائماً، حزيناً كحزنه،
وحيداً كوحدته. في
يوم من الأيام، وبينما العجوز مع ثوره يسيران
في مجرة درب التبان، وجدا ضوءاً في البعيد
ينبض. ركضا مهرولين، الرجل على عكازه والثور
يلحق به، إلى أن وصلا حيث تكمن الشمس، ترتفع
منها حبال ذهبية تنير
ملايين الأميال من المجرة. أحس
العجوز بدفء يغمر قلبه وبفرح يتملَّكه. لم
يفهم لِمَ انتابه هذا الشعور. فلقد شاهد في
حياته مئات الأنجم التي تلتهب وتشعُّ كما
الشمس تماماً. إلا أن الأمر هنا كان مختلف
تمامَ الاختلاف. فهذه الشمس تعطي، بالإضافة
إلى الحرارة، مرحاً غريباً من نوعه، و إلفة
تستوطن شغاف القلب. توجَّه
العجوز مخاطباً ثوره: "يبدو
يا صديقي العزيز أننا سوف نقيم في هذا المكان
بعض الوقت!" كان
الهدوء بادياً على ملامح الثور، حتى إن
حركاته الضجرة كانت أقل بكثير. "لكن…؟" فكر العجوز،
"عليَّ أن أجد مكاناً يؤوينا. فمن غير
المعقول أن نبقى ملتصقين هكذا إلى الشمس! فمن
الممكن أن أسهو قليلاً. وحينئذٍ
قد تلتهمنا الشمس في برهة
واحدة. تلفَّتَ
حواليه وراح يدور حول الشمس عدة دورات، ويده
قابضة على الحبل المربوط إليه الثور. أحس
بقشعريرة تسري في بدنه. وكلما التفَّ أكثر
ازدادت هذه القشعريرة، وتحولت إلى حماس جميل
يغمره بدفء لذيذ. لم يكن يرغب أن يتوقف. طاقة
كبيرة كانت تفيض من قلبه. تدعوه إلى الدوران
والالتفاف حول الشمس. هكذا، راح يدور، والثور
مربوط بحبل يدور معه. كانت البهجة تزداد كلما
دار دورة كاملة، وكان الفرح يغطي جسده بأكمله.
كانت
الشمس ما تزال تفيض بالنور والدفء، وهو ما
يزال منبهراً. قلبُه يرتعش. ظل يدور حولها إلى
أن أحس أنه وقع في حفرة. لكنها كانت حفرة
تستطيل حول الشمس، فتجعله ينساب وكأنه واقع
في ساقية من الألوان الحريرية. شعر
بجسده يلتف، يدور في الساقية التي تلتف، تدور
حول الشمس. دوارٌ في رأسه استيقظ، وآلام غريبة
بدأت تسكن جسده حين أحس أن العكاز أخذت تلتحم
ببدنه لتصير قطعة من كيانه. "آه،
ماذا فعلت بنفسي؟! كيف سجنت جسدي في هذه
الهاوية؟!" سريعاً
كحركة دولاب في الفضاء كان. عيناه زائغتان
تنظران إلى الثور المسكين الذي وقع في هوة
أخرى كالتي وقع هو فيها. إلا أن يديه لم تفلتا
الحبل. فقد كان هذا أمله الوحيد في الخلاص. هكذا
قبع العجوز عدة ملايين من السنين يدور حول
نفسه وحول الشمس، ومن حوله الثور الرفيق
والحبيب الذي صار يُسمَع خوارُه يملأ أرجاء
الكون كافة. غضبٌ
شديد بدأ يخرج من قلب العجوز. لَعَنَ الساعة
التي فكَّر فيها بالبقاء قرب الشمس، ولعن
الهوة الغريبة التي لا فَكاك منها. كان
غضبه حاراً جداً لدرجة أنه نسي حرارة الشمس
أمام حرارة قلبه. أحسَّ بالدماء تفور من جسمه
كله، وأحس أن بقعاً حمراء صارت تتكون على جسده، لتنفجر بعد حين على شكل براكين كبيرة
تنفث ناراً حاميةً، وأشكالاً من الغضب لم
يسبق له أن عهدها من قبل. كان
ينظر برأفة إلى ثوره العزيز وهو يتكوَّر
ويتكور من شدة الدوران، والنيازك اللئيمة من
حوله تضربه، وتأكل من جسده بلا رحمة ولا شفقة.
بعد حين، كف الثور عن تأوُّهه ولم يعد يُسمَع
له صوت. خاف
العجوز وانتابه حزن شديد: "أيمكن؟!... آه، يا
ثوري الحبيب. أيمكن أن تكون مُتَّ؟ إنني
السبب، إنني السبب... سامحني يا حبيبي، سامحني
يا صديقي..." إلا
أنه انتبه لعيني الثور تبرقان كهلال جميل
مبتسم، فأحس ببرودة في قلبه، وشعر بفرح غامر
يداعب أوصاله التي صارت متصلة ومكوَّرة بعضها
على بعض. أحاسيس
جميلة وجديدة لم يختبرها من قبل باتت تنبت من
روحه. راح اضطراب قلبه يخفت رويداً رويداً،
والبراكين تنطفئ الواحد تلو الآخر، إلى أن لم
يعد هناك شيء يُذكَر... حتى إن جلده أخذ
بالتحول إلى صخور صلبة يكسوها الجليد البارد
المنعش. لم
يعد حزيناً، ولم يعد فرحاً. صار يحس بجوهر
حقيقي يتكون في داخله. صار كائناً آخر، وعليه
مهمة معرفة كينونة هذا الكائن. ظل
العجوز يرقب الثور بين الفينة والأخرى،
وبتعاطف عميق، يرسل إليه، عبر الحبل الذي ما
يزال مربوطاً إليه، محبته الكامنة في صدره.
لاحظ أن الثور، صديقه، يتغير ويتبدل أيضاً.
صار يرى مبلغ جمال صورته وشكله، وكم هو ساحر
وأخَّاذ بريق عينيه. وفي
لحظة صمت عميقة، حين هدأت أفكاره وهواجسه عن
الانفعال، راحت سكينة نديَّة تستقر في أعماق
فؤاده، فذرف دموعاً غزيرة، دموعاً لا تنمُّ
عن سخط، أو حزن، أو حتى عن فرح، بل كانت دليل
قبوله، ودليل تجربته الحقيقية، ونشوته بهذه
التجربة. [ومن هذه الدموع تكونت الينابيع
والبحار الواسعة.] أحس
برطوبة تعشش على جسده، وأحس بحرارة الشمس
تلتهم هذه الرطوبة بسرعة كبيرة لتحوِّلها إلى
سحب بيضاء ورمادية تغلِّفه، وتجعله وسيماً،
كما لم يكن من قبل قط. محبة
وسلام فاضا من روحه، فتلألأت النجوم، وأزهرت
العكاز حكايات وأعراس، وأزهرت أغانٍ فضية
كلون عيني الثور البراق. *** الهدوءُ صار سكوناً والحزنُ تحول قلقاً والقلق حباً والحب أرضاً كتفاحة وردية قضمتْها أنثى
وقضمَها ذكر فصارت بيتاً، ووطناً، وصارت
أنشودةً، ونافذةً تطلُّ على حقلٍ، وتطلُّ على قمرٍ دافئٍ
يبتسم لصاحبٍ وحبيبْ *** *** ***
|
|
|