|
والدي...
ديمتري
أفييرينوس
يداي
خرقاوان إلى حدٍّ لا
يطاق، وهذا يحزُّ في نفسي.
لو كانت لي يدان ماهرتان لتغيَّر قدري.
فالأيدي التي تقوم بعمل نافع تغوص في أعماق
الكينونة وتفجِّر منها نبعاً من الخير
والسلام. ولكن هيهات! لم
أرَ أبي قط، ولم أسعَ قط إلى رؤيته. تزوجتْ أمي
كرَّة أخرى ولم يكن لي من العمر أكثر من سنتين.
ربَّاني زوج أمي الذي دعوته وسأدعوه دائماً
والدي. كان
والدي عامل خياطة، اشتراكي الميول، قديساً.
كان نفساً عزيزة، روحاً من تلك الأرواح
المؤدِّية رسالتها بصمت، بمنأى عن صخب العالم
وسعير شهواته. لم
ينلْ هذا الرجل من التحصيل العلمي شيئاً
يُذكَر، لكنه كان يملك نيِّفاً وثلاثين كتاباً، يحرص على رصفها في خزانة مشغله
الصغير، إلى جانب بكرات الخيوط والمقصَّات
والطبشور والكتفيات والبترونات الورقية. في
هذه الخزانة كان أيضاً يخبِّئ آلاف الملاحظات
المدوَّنة بخط دقيق أنيق على زاوية من زوايا
طاولته، على كرِّ ليالي عمل مضنٍ لا عدَّ
لها. مازلت
أذكره يخفض صوت المذياع لئلا يزعجني وأنا
أؤدي فروضي المدرسية، ويستمع ليلاً إلى
الجهاز يبث الأخبار وبرامج الموسيقى الجادة،
وهو يدوِّن ملاحظاته على طاولته. كثيراً ما
كنت أقرأ له في آخر السهرة الصفحات التي
أسوِّدها والقصائد التي أقرضها، آخذاً من
وقته ساعات طوال يتعيَّن عليه أن يستدركها
قبل طلوع النهار... مهنة لا تعوِّض عن همِّها،
ناهيك عن هاجس التأخر عن موعد التسليم. بيد أن
والدي كان يعشق الفجر، ويعشق الخياطة... كان
يستيقظ، يأكل الجبن والزيتون مع نصف رغيف –
هو "عياره"، كما يقول –، ويُتبِع الكل
بكوب من الشاي الثقيل، ثم يدخل مشغله دخول
المؤمن محراب صلاته. أشهد
اليوم أنه لم يكن يرى في مهنته "مهانة".
كان رجلاً يعيش في عالمين في وقت واحد، منهمكاً في
عمله، وخارجه في آن معاً، حاضراً
في اللحظة، وغائباً في الأبدية... كان بإبرته
ومقصِّه يخيط عالمه الداخلي ويشذِّبه. عندما
نقول إن كرامة الإنسان في قيمة عمله، في مبلغ
مشاركته في العملية الإنتاجية، في مقدار
أتعابه، في عمله من أجل الجماعة، لا من أجل
رأس المال، ربما قلنا شيئاً عن أدوات الإنتاج، لكننا لا نفوه بحرف واحد بخصوص
الكرامة الحقَّة. لهذه المسائل في نظري
اعتبار لا أنكره.. لكن الكرامة الحقَّة شأن
آخر. عندما نختزلها إلى العمل نقرُّ بتسطح
نظرتنا إلى الإنسان. لا فرق ثمة بين العامل في
دولة اشتراكية وبين نظيره في دولة رأسمالية
من حيث طبيعتهما. إنما ثمة فرق شاسع بينهما
وبين والدي، فرق في الكينونة، في التحضُّر
الداخلي. عُرِضَت
عليه ذات يوم وظيفة ألْيَق به وبفطنته. ساعات
أقل ودراهم أكثر. لم يتهرب من المحاولة. لكنه
ما لبث أن ترك الوظيفة بعد أسبوع وعاد إلى
إبرته. سألته أمي: "ألا تريد أن تصعد؟!!"
أجابها ببساطة: "هذه الوظيفة تحطُّ مني
أكثر مما أطيق!" أصيب مرة بثؤلول ضخم
على خدِّه الأيمن، فاستجمع الهمة على إزالته
بالفكر في ثلاثة أسابيع. وبالفعل، زال النتوء
القبيح بدون أن يترك أثراً. لقد أراد والدي أن
يبرهن لي أن "صلاته" كانت حقيقية! ساعات
طوال كل يوم لا يُسمَع خلالها إلا صوت الإبرة
تخترق القماش الخشن، ووالدي منحنٍ تحت
المصباح الساطع، وشعره يصفرُّ، يخيط ويخيط في
صمت داخلي عميق. كان في تلك اللحظات يشعُّ حقاً، وطاولته كانت
مذبحاً. وأنا، على المقعد الخشبي، قبالته،
كنت، من حيث لا أشعر، أقتبل
النور. مات
والدي بين ذراعيَّ. كانت كلماته الأخيرة لي
قبل أن يسلم الروح: "يجب ألا ننتظر من الله
الكثير، ولكن
لعل الله ينتظر منا الكثير..."
عندما
مات اختلَّ محوري الداخلي. قَدِم
ربُّ عمله ليسلِّم على الجثمان. بدا لي يومها
قزماً رمادياً، وجهاً لا يضحك للرغيف الساخن،
فماً كبيراً، غليظ الشفتين، انفرج عن كلمات
تأبينية فاترة: "كان أبوك رجلاً آدمياً...
كان آدمياً، ما في ذلك ريب. لكنه، رحمة الله
عليه، كثيراً ما كان يتأخر عن موعد تسليم
الطلبات." انصرف
هذا الحيُّ–الميت كما أتى، وتركني وحدي مع
الجثمان الطاهر المسبل الجفنين... عندما
نطق "المعلِّم" بما نطق، جاء ردُّ فعلي
الأول سياسياً. واليوم، مازلت أحتفظ بحرقة
الغضب الذي اجتاحني يومئذٍ عند رأس هذا
المسجَّى، المُذَلّ حتى على عتبة راحته
الأبدية. بيد
أن ردَّ فعلي الثاني عاد بي إلى الإقليم الذي
تسكن إليه تلك الروح حيث لا يبلغ ذلٌّ أو هوان...
"بِمَ تشترك ووالدي يا معلِّم؟!"، قلت.
"لم يكن والدي يعمل لحسابك كما تظن. كان
يعمل لحسابه هو، ولحساب الإله الحيِّ في قلبه!
أنت غير موجود إلا في مسامع الناس، أما هو فقد
عاش. البشر جميعاً مائتون، لكن صفوة منهم تحيا، وصفوة هذه الصفوة تهب الحياة... كان
والدي من صفوة الصفوة، وحسبه ذلك فخراً." مات
والدي بدون أن يكف عن الإيمان بالطبيعة
الخلاقة للإنسان والحياة، بدون أن يتوانى في
محبَّته، وفي اختراق العالم الأليم الذي يحيا
فيه بمحبته هذه... مات بدون أن يقطع الأمل في
رؤية النور ينبثق من وراء حجب المادة الكثيفة...
ظل ينتمي إلى جيل الاشتراكيين الرومنسيين...
لكنه كان في الوقت نفسه قديساً، يقف على
التخوم الفاصلة بين التصوف الخالص والعمل
الاجتماعي، مشدوداً إلى طاولته أكثر من أربع
عشرة ساعة كل يوم – وكنا نعيش على حافة البؤس
–، موفِّقاً بين روح نقابية متَّقدة وتفتيش
محموم عن الانعتاق الداخلي. كان يُعمِل في
حركات حرفته – تلك الحركات الموجزة
والمتواضعة – منهجاً من التركيز والتطهير
الذهنيين ترك فيه مئات الصفحات. حضوره، وهو
يصنع عراوي الأزرار أو يثبِّت بطانة على
القماش أو يكوي ما أنجز من ثياب... هذا الحضور،
كان يوحي لناظره برهبة لا لبس فيها. كان رفاقي
يتحلَّقون مساء كل جمعة حول طاولته، منصتين
إليه يتحدَّث عن الزمن، وعن الحضور الكامل في
اللحظة الراهنة، ويستشعرون هذا الحضور فعلاً. قامت
فلسفته الحياتية على أن التطور الإنساني يجب
ألا يلتبس بالحركة الظاهرية للمجتمع لأنه
تطور كلِّي وصاعد لولبياً... تطور تتزايد فيه
كثافة كوكبنا النفسانية بحيث تتأهَّب
نفسانيَّتنا للاتصال بعقول عوالم أرقى من
عالمنا، بل وحتى تقترب، من خلال عدد من
الأفراد المستعدين، من روح الكون نفسها! آمن،
بعقله وقلبه، أن النوع البشري لم يستنفد بعد
إلا جانباً ضئيلاً جداً من إمكاناته المعرفية، ولابد أن يمضي
صاعداً نحو مستوى من
الوعي أرفع، وذلك عبر تصاعد الحياة الجماعية،
والتكوُّن الوئيد لنفسانيَّة مشتركة. كان
لايني يقول إن الإنسان لم يكتمل بعد، ومازالت
أمامه أشواط وأشواط يقطعها. لكن نواميس
تفتُّح الطاقة الخلاقة للبشر تجيز للمرء أن
يتمسَّك على مستوى الكون برجاء عظيم. من هذا
المنطلق، ظل يحاكم بوقار روحي وسكينة مطمئنة
قضايا هذا العالم، مستمداً من الأجمل والأسمى
أملاً وشجاعة مذهلين ينعكسان عملياً على
حياته اليومية وتعامله مع الناس كافة... خيط
خفي كان يشدُّه إلى المصير الروحي للأرض.
دلَّه حدسه الداخلي أن للمغامرة الإنسانية
اتجاهاً، فراح يحكم على الأحداث الجارية من
حيث سيرها في هذا الاتجاه أو حيادها عنه. لم
تكن فلسفته "الكونية" منقطعة عن الدنيا...
كانت التزاماته المباشرة "تقدمية". وكان
هذا يغيظني – أنا "المتصوف" المتمرِّد
على كل القيم الاجتماعية، الغارق في أحلامي
وخيالاتي ورؤاي –، فيفوتني أنه ينفث في
تقدُّميَّته روحانية أكثر مما أتقدَّم في
روحانيتي! رحت أختنق في فكري المنغلق وعالمي
الموصد دون الحياة، بكل آلامها ومسرَّاتها،
أفراحها وأتراحها. أمام هذا الإنسان الكبير،
كنت أشعر أني مفكر سلبي، صغير، أجرد الفكر،
خوَّافه. كان يتفق لي أحياناً، على الرغم من
كل استعلائي، أن أتمنى، في سري، أن أكون مثله،
تتنفس رئتاي على سعتهما مثله، وتكون لي قدرته
على الابتسام في أحلك الأوقات. ولكن... عند
زاوية طاولته، مساءً، كنت أدفع بالتناقض
بيننا إلى أقصاه... أستفزُّه، وفي قرارة نفسي
أمنية خرساء أن تغيِّرني كلماته... تعَبُ
الوالد، متحالفاً مع استفزازي، كان يثير نفسه
الغضبية أحياناً، فيحنق عليَّ، وعلى القَدَر
الذي نفحه حكمة عجز عن نقلها إلى ولده المتمرد.
اعتدنا في تلك الأماسي الافتراق على غضب وأسى.
كنت أدعه وشأنه وأغرق من جديد في كتبي اليائسة.
أما هو فينحني على قماشه، ويعود إلى إبرته تحت
وهج المصباح الذي يزيد ما ابيضَّ من شعره صفرة.
ومن غرفتي الصغيرة أسمعه يرعد ويزمجر، ثم لا
يلبث على حين فجأة أن يبترد غضبُه مثلما
استشاط، ويأخذ بين أسنانه، بعذوبة آسرة،
بتصفير المقاطع الأولى من نشيد الفرح الشهير،
ولسان حاله يقول، من وراء الخندق الذي يفصل
بيننا، إن المحبة أسمى ما في الوجود! أفكر
فيه مساء كل يوم، ساعة كنا نختصم، وأعيد سماع
زمجرته التي تنتهي دائماً إلى لحن شجي... ثم
إلى سكينة لا قرار لها... ها
قد مضى اثنتا عشرة سنة على موت والدي. وها أنذا
قد بلغت أعتاب الأربعين... آه، لو فهمته إبان
حياته، لكنت إذَّاك وجَّهت قلبي وفطنتي على
غير ما فعلت. لم أكفَّ طوال السنين المنصرمة
عن البحث. واليوم أنضم إلى معسكر الرجل الذي
ربَّاني بعد رحلة طويلة محفوفة بالمهالك
وبالهيام على الوجه. لو فهمت كلامه ومراميه
آنذاك لصار بوسعي مذَّاك أن أوفِّق في نفسي
بين شغفي بالحياة الداخلية وبين حب العالم
المتحرِّك. لاستطعت أن أشعر بنفسي، كما أشعر
اليوم، روحانياً، ومتضامناً في الوقت نفسه مع
مسيرة الحياة الكبرى، أن أمدَّ الجسور بين
عالم الداخل وعالم الخارج... لكن أنَّى كان لي
وقتذاك أن أفْقَه هذه الأمور وتمرُّد الشباب
يسري في دمي؟! أجل،
كان والدي، رحمه الله، مناضلاً بالمعنى
الحقيقي للكلمة. ناضل نقابياً في سبيل المزيد
من الحرية والكرامة للعمال. لكنه ناضل أيضاً
في سبيل حرية وكرامة لا تدينان للمجتمع بشيء.
"فيما يتعدى الوعي الطبقي، ثمة الوعي
الإنساني الشامل والوعي الكوني،" كما كان
يقول. صَرَعه في النهاية شرطه العمَّالي،
لكنَّه انتصر في شرطه الإنساني. ممتلئاً
محبة، رضياً، رافضاً إنجاب طفل لكي يكون
بكلِّيته لي، دافئاً دفء الرحمة والفضيلة،
ارتحل والدي بعد أمي بستة أشهر، وحزن عميق
يغشى قلبه النقي – مع أنه وإياها لم يكونا من
طينة واحدة! ظلت تحبه على طريقتها، لكنها لم
تفهمه قط. تحيا في نوره مثلما يحيا الكفيف،
عالماً بوجود الشمس، يستدفئ بحرارتها ولا
يبصر ضياءها. كانت ذكية، رهيفة الحس، رقيقة
الحاشية. غير أن الحياة الروحية كانت غريبة
عنها، بينهما تنافر كتنافر الماء والزيت. "كلما
تحدَّثتَ في هذه الأمور أحس بشيء يرتج عليَّ
هنا..." – تقول ذلك وهي تطرق بسبابتها على
صدغها طرقات متوالية سريعة، بينما ترتجف
شفتها السفلى بسبب صعوبة البعد عن حياة قريبة
منها إلى هذا الحد! سكن كل من والدي وأمي في
عالم مختلف، لكنهما كانا لا يفترقان. ماتت
أمي بسرطان الكبد. كانت النهاية صعبة تاخمت
الجنون. مازلت أذكرها مسمَّرة في فراشها،
نحيلة كالقصبة، يكاد رأسها يخلو من الشعر.
كانت سعيدة في عالمها الأخير الذي نسجته
بهذيانات مرضها، تحسب نفسها، وقد أثْرت،
تقدِّم الحلوى لكل عنبر المستشفى. كنا نوصي
بصينيات المعمول ونجيئها بها، فتوزع منها على
رفاقها المرضى. كانت تنوي شراء أوتمبيل، وبيت
في الضيعة، وتوصي بأثاث جديد للبيت. لقد أحبت
كثيراً أشياء الأرض. أما الحياة مع روح محضة،
فهذا ما كانت تقبله على مضض... الخيرات التي
حرمتها إيَّاها الحياة وهبها إياها الاحتضار
مجاناً. ماتت وابتسامة رضيَّة مرتسمة على
وجهها، بينما طفلة صغيرة في الخارج تغني. في
قلبي اليوم مثوى لأمي وآخر لوالدي... هكذا
أحيا... متوازَعاً بين هذين الكائنين،
المختلفين، لكنْ المتحابَّين والمحِبَّين
بقلب واحد. أنا من هذه الدنيا،
ابن أمي... لكني لست منها أيضاً، ربيب والدي... عندما
كانت أمِّي تقول: "أحس بشيء يرتج عليَّ هنا"،
كان والدي يقبِّل صدغها. حياتي
اليوم تتلخص في هذه القبلة التي كان والدي
يطبعها على صدغ أمِّي! *** *** *** |
|
|