|
وَحْدُنْ
بيِبْقوا... سومر
إجليقين
بدأ
رحيله في الوقت الذي بدأتْ فيه أجنحتُه تبسط
ظلَّها الرمادي على كل أفكاري. تساءلت كثيراً
أي ظلٍّ بقي لهذه الأجنحة؟ لقد غادرني قبل
رحيله الحالي... غادر قبلاً كل مساحاته في
أعماقي... فعن أيِّ ظلال أتحدث؟ تلك كثافة
شعوري تعلن عن أوهام استحالت أصواتاً وروائح
وصوراً ترتجف أمام حواسي، تتحول كرائحة الملح
إلى زبد بحري. مازلت أرفض توقعاتي وحدسي،
تلك الأشياء التي تلاحقني هنا في الداخل
لتتحقِّق، رغم أنفي، رغم كل الضجيج الذي
أصطنعه... والأطياف التي أسرقها لتسرقني...
والروائح التي تستغرقني... رغم ذلك، ستجترح
تلك الأشياء لها غُصَّة وألماً تتلقَّفه
ذاكرتي وتتعشَّقه... أخذتْ أجنحة الطائرة ترسم
مغادرة قاسية على المدرَّج. ابتدأت ظلاله هو
بالتلاشي تارة والتعاظم تارة أخرى... ارتعاش غريب يمتزج بالأشياء
كلما أمعنتُ نظري... أضواء طائرات مرتجفة... لون
رمادي مرتعش يمتد من الأفق فوق المدرجات...
وريح مشوشة ضائعة تتسرب من كل الأماكن.
اخضلَّت كل تلك الصور التي اجتاحتني بدمع
تحجَّر فوق حافة هطوله. سحابات رحيله كانت قد
تجمَّعت في سماء صداقتنا قبل سنة أو أكثر. في مدخل المبنى كانت
تلمُّنا انفعالات صداقة غضة... أحاديث وجدالات
مسهَبة سجَّلتْها جدرانُه العتيقة... زيارات
متلاحقة... لهفة متَّقدة تنهبها خطواتُنا سوية
فوق سلالمه... أشياء للمراهقة خبَّأها كل واحد
في عيني الآخر... آلام صغيرة كانت تمتصُّها
قدرة خفية على الانبعاث والتجدد... ولحظة
ساخرة نقتات بها معاً، ونشبِعُها ضحكاً فسيحاً يحرِّض كل خلية فينا على
البكاء،
معتصرة أقصى احتمالاتها على الضحك. في ذلك اليوم... ابتدأتْ تكفهرُّ المشاعر
وتذوب الصداقة لتشوِّه المعالم وتخفي بريق
الزجاج بكثافة البخار عندما يرسمه الشتاء
فوقه. حدَّثني طويلاً عن خطط تحتلُّ
فضاءاتِه... تحدث عن مشروع "أناه" الوحيد...
عن الفناء بلذة من استشعر الخلود في آخرة
اختلقها لنفسه. هه... عن أي فناء تحدَّث؟! أعن
صحراء يريدها أن تتسع بين رمل يعصف به وطين
راسخ في أحشائه؟ ربما... ربما تلك كانت غربته
وحده... تحدَّث، ثم تحدَّث... أتقن حينها كل
فنون الأحاديث وأشكال الكلام، قال كل شيء...
وابتدأتْ تمطر خفيفة كأيلول. ابتلَّت المقاعد
الخشبية، وفاحت رائحة الطين. لم أعد أسمع
حينها إلا صوت الأوراق الصفر تتفتت تحت
خطواتي الوئيدة في الطريق، وطعم المداخن
الحديدي الصدئ يموج كئيباً فوق جدران مشردة
على سطوح الأزقة، يعتصر حموضة السماء
المحتقنة... تحكُمُنا
الفصول وأمزجة الرياح... تغيِّرُنا الألوان
وتسرقنا الروائح... أهذه أمزجة الحياة؟!
أوتستطيع مفردة تافهة كالزوال أن تذيب أصدق
الأشياء فينا؟! كيف استطاع أن يحدثني بأن
كثيراً من أصدقائه "هنا" ربما هم أسوأ
خيارات له في حياة أفضل تنتظره "هناك"؟! كنت أعلم دائما بأنه سيسافر
ليكمل مشروعه الذي يعشِّش في أحلامه قديماً. لكني لم أكن أريد أن أفهم أن
الثمن الوحيد لمشروعه مغادرةٌ لا روح فيها
لكل أقبية ذاكرته المتخمة بارتجافاتنا معاً...
ارتحال ليس فيه مكان لصوت أو حنين أو صدى... صوت جُمَله الخاوية تلك
تجمعت في مكان قصيٍّ مني لتتحول قليلاً قليلاً إلى احتراق أخير للهشيم. صوت طائرته، حيث التقينا
لمرة أخيرة، أصبح بداية لحن حزين في أغنية
قديمة. كانت عشر سنوات سريعة جداً...
أسرع ما فيها نسيان يشبه طعم جليد صخري تفترشه
الطحالب... عشر سنوات استطاع ببساطة أن
يختصرها بـ"أمزجة الحياة" الهزيلة تلك!
اختصرها بأنانية متبلِّدة فينا مذ أن
تحسَّسنا الأشياء وحدنا... امتد الطريق بين المطار
والبيت مسافة حزن دفينة. حشرتُ نفسي في زاوية
سيارة الأجرة وهي تنهب لحظاتي بسرعة من يريد
أن ينسى... من يبحث عن قدرة خرافية يمتلكها
الآخرون عندما يسحقون ذكرياتهم في عقب سيجارة
واحدة تخبو في صحن مليء برماد شتائي... لم تستطع الشمس أن تشرق ذلك
الصباح... فالضباب اجتاح العيون والأمكنة. لم
يبقَ في الطريق سوى أضواء رائحة وغادية تأكل
الضباب ببصيص خافت. بحثتْ أنامل السائق بمؤشر
المذياع، لكنْ عبثاً... فالطقس لم يسمح
بالتقاط موجة لأي بث. بحث بين أشرطة الكاسيت
القديمة... تناول إحداها سريعاً، حشره في
مكانه وعاد إلى مقوده. لم أشاهد أشجار سرو مصفرَّة
بهذه الطريقة. "... هل يصفرُّ السرو في
هذه المناطق؟!... غريب جداً!" ابتدرتُ الحديث كي أسمح
للبخار المحتبس في صدرينا من إشاعة شيء من
الدفء مكان برودة تأكل الأطراف والجوانب
المخدَّرة. ألقى نظرة خاطفة إلى مرآته،
يستشفُّ ملامحي. "البرد؟! البرد يأكل
الصخور في هذه الأنحاء... فكيف لا يأكل السرو؟!" أجبته سريعاً: "أخطئ كثيراً في تحديد
إحساسي بحرارة الطقس... ربما ليست الحال بهذا
السوء كما يلوح لي مثلاً!" "في مثل هذا الطقس يتغلغل
التثليج إلى عظامك، ولست تملك سوى الإفصاح
عنه بصدق وألم..." هممتُ بالإجابة في لحظات
كَمَن يتابع نفثَه الرتيب على جمرات قليلة
متوهِّجة لتبثَّ حرارتها الخافتة في تكوُّره
وجموده ذاك... "... وَحْدُنْ بيبْقوا
مِتْل زَهْر البيلسان... وَحْدهُن... بيقْطفوا
وُراق الزمان..." غارت كتلتي المتكوِّمة
بائسة في زاوية السيارة... غارت أكثر... وكلما
تضاءلتْ، توهَّجتْ حولها أوشحة فضية تتكسر
برفق عليها. لا أدري أحياناً كيف أتحول إلى
شجرة سرو، أو كيف أستحيل إلى رائحة نفَّاذة –
رائحة قماش المقاعد العتيق مثلاً – تعبق في
بؤس سيارة الأجرة... وربما أبدأ بالارتجاف
كالبيانو – طنيناً متخامداً لعلامة ما – ...
أتلاشى وراء الألحان لأنتهي بها أو تنتهي بي... نظر سريعاً في مرآته. التقط
بحدقتيه المغمضتين نصف إغماضة ارتباكاً
وصمتاً، مرتحلاً خلف اهتزاز الأشياء
المتراكمة حوله، بل خلف كل الأصوات التي
تداعب للتوِّ سمعه المرهف. هناك أشخاص لا تستطيع
الحديث معهم إلا بأعمق نَفَس تفوح به ظلمة
قعرك المضطرب. يجبرونك في ثوانٍ لا تسمح لك
بمساحة هدوء واحدة تفكِّر فيها ببطء...
يجبرونك ببريق كلماتهم الوامضة كالأفكار على
ارتشاف ألمك الممضِّ والبوح بحيائك اللابد
فوق لسانك، في طيَّات معطفك، وفي تبغ سجائرك.
يستنطقون كل خلية لك بحديث يمتد بلا نهاية...
يجعلونه بلا نهاية لتتقيأ كل ما عندك من ذات
تدَّخرها لعزلتك. كأن نجواك هذي تذهب إلى
مداخل فضولهم فتشبعها على غير شعور منك.
وبالرغم من استبطانك الجَّلي لما يفعلونه
تستشعر راحة خفية وأنت تبحث عن كل كلمة تلملم
شظاياك، تخبرهم بها لترضيهم... كان
واحداً من أولئك. نظرت إلى أصابعه التي لم تكن
تستند إلى المقود، ممتلئة في منتصفها...
مرتجفة على نحو ظاهر. لم يكن ذاك طبيعياً أو
معهوداً؛ إذ كانت جميعها ترتجف بطريقة
مَرَضية حقاً. "... بسكّروا الغابة...
بِضلهُمْ مِتِل الشِّتي يدقُّوا على بوابي...
على بوابي... يا زمان... يا عُشُب داشِر فَوْق
عالحيطان... من وقت ما صار الشجر عالي... هجّ
الحمام... بقيتْ لحالي... لحالي..." سألت نفسي كثيراً، وأنا
منحشر، متلاشٍ في هذا الشتاء الفيروزي الحزين، ماذا صنع هذا الرجل بشعوره الرهيف...
ماذا عن ديكورات المكان وموسيقاه التصويرية؟!
جعل من كل شيء يحيط بحدقتيه الصغيرتين مشهداً
سينمائياً لا يستطيع كائن الفكاك من تأثيراته
وبريقه. قطعت كل مسارات تفكيري
السابقة عن يقين تام بأنه انحشر فيها دون سابق
إنذار، بل وبالطريقة نفسها التي حشر نفسه في
سوداوية كنت أحسبها تكتنفني وحدي... ربما
كنت مخطئاً... أو لنقل بأني مخطئ فعلاً... فمثل
لقاء كهذا تصنعه دوافعنا وحدها... انتظاراتنا
اللامنتهية، وآلامنا المحتبسة خلف الكلام
والصراخ... وحده لقاء من هذا النوع قادر على
احتساء الألم وامتصاص جرعات لا يستهان بها من
اليأس. لقاء تغمره العاطفة حتى آفاق
امتداداته لتتعرَّى فيه رؤانا عن لزوجة
التزييف... تتعرَّى فيه عن سنوات من الكذب
والخجل... يبدؤه الرحيل... وينهيه الرحيل... "... وَحْدُنْ بيبقوا
مِتْل هالغيم العتيق... وجوهُنْ وُعَتْمْ
الطريق..." ("لماذا هذه الأسطورة
بالذات؟! هل كنت تعرف أنها حقيقة مترعة بالألم، تشبه إطراق الرؤوس في عتمة حداد
بيضاء لدرجة الموت؟ أين يكمن ذاك الإحساس
المترهِّب في عزلتنا، يجعلنا نلتقط أصداء من
يرقصون ومن يموتون... أأنت الذي تمتد أناملُك
فوق وَسَن المتعبين وتقرأ بصمت عن الأشياء
الصغيرة التي تختبئ فوق الأصابع وقلق العيون؟")· ("أأنت الذي أبدعتَ ألمك
وألحانك بين فواصل الصمت في ارتحالات الكلام؟") لم أستطع أن أبوح له بمفردة
حائرة من تلك، تغلي فوق ثلجي وبرودي؟! لست
متأكداً من شيء... لست متأكداً من فكرة واحدة
تغادر ظني وإلحادي الدائمين. هل أخبرُه بكل ما يعرفه عني؟؟ بأنه رائع في كل ما صنع... في كل موسيقاه
وأغنياته، في حركة أصابعه، ونظراته التي
فتَّتتْني إلى فسيفساء تقرؤها العيون في
كلِّها وجزئها. أضاعني صمتي أكثر ممَّا
أضاعه هو. شتَّت حريتي للفضول والتساؤل. في تلك اللحظات لم أستطع سوى
النظر في مرآته، أبحث عن إجاباتي فيها. رشقني
مبتسماً بواحدة من جولاته فوق ملامحي. تراجعتْ نظراتي بسهولة أمام دفقه
جريئاً
يجتاز عريي وحيائي... مازلت لا أدري كيف
تحوَّلتُ أمامه إلى أنثى يشتعل الحدس فيها،
تغريه ليستعرض رجولته في مرآتها؟! حاولت أن أتلهَّى عن كل ذلك
بالتكوُّر أكثر داخل معطفي. "أكانت صديقتك؟" "لم أفهم؟!" ("سجلت
نقطة لصالح بديهته أمام حماقتي!") "... أعني في المطار." "مِمَّ... لا... لا كان
صديقي." "ستعتاد فكرة أنك غادرتَه؟! أعرف... أعرف
تماماً أنه المغادر ولستَ أنت... لكننا نسمح لهم – أعني لأصدقائنا
واللصيقين بنا – من استعمال حرياتهم
الظاهرية الموهومة... الحقيقة أننا نحن الذين
نشاء وهم الذين يبحثون عن مشيئتنا!" حاولتُ أن أكون بموقع أي
إنسان آخر يتلقَّى هذا... ربما افتعلت ذلك
لأستكشف تضاريسه المختفية وراء مقوده وجرأته: "هو من قرر ذلك... لم تكن
مشيئتي، بل إرادته وحده... أو دعنا نسميه
مشروعاً استنفد فيه بقايا إيمانه بالبقاء هنا
والدوران وراء ظلِّه المحروق." ضحك نصف ضحكة صغيرة وأردف: "دعني أقول إنها إرادتك
أنت... إن إرادتك تشمل كل تصوراتك..." "يعني... م... ربما... لو كان
واحداً من تصوراتي؟" هل أتضوَّر بؤساً، أنا الذي
أحرقتُ أوراق تصوُّري الأخير لتحترق ظلال
إرادتي العزلاء؟! هل أدرك إسمنت الأبنية
الشاحبة يوماً أن احتراق ظلاله السمراء،
ملفوحة بالهجير، هو عينه ذاك الاحتراق
المخنوق فوق صلابته وعزلته؟! "... بسكّروا الغابة...
بضلّهم مِتْلْ الشِّتي يدقُّوا البِكي
وهِنِّنْ... على بوابي..." ساد من جديد امتدادٌ صامت
بين فكرينا. عاد يزرع بصره في الشارع
الذي يمضغه سريعاً. انعطف باتِّجاه حيٍّ
أعرفه جيداً، وقبل أن يرتسم الاستفهام فوق
شفتي... "... لا أتصور أنك تمانع في
قليل من النبيذ نحتسيه معا؟" "اقتراحٌ صائب... رائع...
أنت موهوب... فعلاً أنت موهوب... أمثل حلٍّ
لأسوأ طقس!" ابتسمتُ لأكثر من ست دقائق
حتى تألَّمتْ وجنتاي، كالأطفال تماماً،
يغدقون ابتساماتهم لمن يتحسَّس أمنياتِهم
المكوَّرة كالبالونات! دخلنا في أحد الأحياء
القديمة... تلاصقت بيوته على نحو صميمي. في مكان كهذا أشعر وكأن
الناس خلقتهم رحم واحدة... يتوالدون، يثرثرون،
يتلصَّصون، يرقصون، ينحشرون في الأشياء
كالتوائم، يدسُّون أنوفهم في كل الروائح،
وآذانهم في كل الأحاديث. جال
بصري في المكان متحجِّراً مرتجفاً. التمعتْ
صورُه التي التقطتُّها غريبة تشبه بريق
الزجاج أو الكريستال. أصابها البردُ بجمود
ولمعان متصلب. سماءٌ نقية كسطح بحيرة
جليدية مجروحة بالشهب... والمنازل محفوفة بصمت
وهَسْهَسَة هاربة من عواء الريح... في إحدى الزوايا تصاعد مثلث
بخار خفيف محمول على أشعة لطيفة خافتة لمحلٍّ
صغير. نزحنا إلى هناك سوية،
ومازلت أحوِّم حول نفسي وأغرق في تفاصيلي
أكثر. تصورت نفسي حروفاً ثملة تصطف كيفما
شاءت، تدوخ مرة لتنتفض جملة ما مجوفة تطن
كالطبل، تعاود الدوران... تسقط... تنتفض جملة
أخرى تصدح فيها إشارات الاستفهام والتعجب
والفواصل أكثر من الكلمات... تلك ثمالة حقاً،
ثمالة تفوح بها مواقفنا الموصوفة دوماً،
آراؤنا التي تَلِدُها الانفعالات والثواني،
بل وأحكامُنا نسلِّطها فوق رقاب أمثالنا
لنقتل صورهم في مرايانا، ونخنق أنفاسهم
اللاهثة في صدورنا. تأخذنا رغبة مستديمة
كالنهايات لنلصق الكلمات فوق البقع،
المشاهد، التخاريف، المارقين، وأشباه
الحاضرين... المستترين والمشتبهين... تماماً
بالطريقة التي تستعمرني الآن! ليتني
أنفكُّ من إساري، من ترجماتي وهلوستي، فأنطلق
إليه كإصبع تغور في رمل... أجرِّده من كلماتي
التي أرشقه بها... أعرِّيه من رموزي
واحتمالاتي، وهو سائرٌ إلى جانبي يصفعنا برد
أصفر واحد في اللحظة التي تحرقه سيجارته
رماداً لمياه مقدسة... كيف أعي صمتي وأبدؤه...
وفي كل برهة تستدعيني كلمة جوفاء لسِجال مرير...
أبدأ مع آخر ما معركة على لوحة جدارية... تلاحق
ضربات ريشته ضربات ريشتي... أصاب مني مقتلاً
وأصبته... – الشجر أخضر يغمره السواد بطيف
ذابل فوق جدران المنازل... أضواء البار حمراء
شفيفة تزاوِجُها زرقة عفنة واهية تتحرك راسمة
رؤوساً وقلاعاً ورائحة موت... لون القمر يشبه
وشاح دموع ينسدل فوق مهرجان الألوان ذاك
لتستكين في وداعته وطهره – ... تكتمل الملحمة
وتنجلي سحابات أوهامي وأوهامه، وتبقى على
الجدران مرسومةً أصوات العواء... سباق الذئاب
على كلمة... نصرٌ زائف لكلمة على أخرى... أيُّ
احتضار تكابده فوق جدارية كتلك، يا صاحب
الكلمة... أية تافهة هي حالك، يا أيها الأعزل
في صحرائي ووحلي... كان ذاك الحي ملتوياً
كشرنقة، تجتازه صرخة بائع من أوله لآخره... كيف
أعلنتُ فيه البدء والقيامة؟! كيف أشرعتُ صوت
حزني ليستبيح جدراني إلى جدراني... أجترحُه
وحيداً... أبدؤه وحيداً... وأنهيه... بعد خطوات قليلة وجدت نفسي
ملتصقاً به في الوقت الذي وجد نفسه ملتصقاً بي.
لقد كان البرد، وخيوط ألم واحدة، وحساسية لها
رنين متشابه بيننا. وضع يده تحت إبطي، والتحفنا
سوية الدرب حتى وصلنا المحل. بارٌ فيه القليل من كل شيء،
القليل من الجراسين، الطاولات، المصابيح،
وكؤوس مترنحة وأخرى منكفئة... تركني وتوجَّه إلى صاحبه،
ثم عاد بعد قليل... جلسنا إلى طاولة تتسع لنا
ولكأسين وزجاجة نبيذ... "... وَحْدُنْ بيبقوا
مِتْل زَهْر البيلسان... يا زمان... يا عِشِب
داشِر فَوْقْ عالحيطان... ضوِّيت وَهْجْ الليل
عَكْتابي... برج الحمام مسوَّر وعالي... هَجّ
الحَمام بقيت لحالي... لحالي..." ارتعشتْ فوق رأسينا إضاءة
صفراء خريفية لتتقاطع مثلَّثاتها المتناغمة
بفراغ فيروزي هائم يمتص ألوانه من لوحة
لمونيه. "ما الذي يجعلك تؤمن بأني
طيِّع، أتحرك وفق ما تشاء؟" رشف نبيذه وقال: "هو ذاك الذي يجعلني
أتحرك نحوك بطواعية كما تشاء أنت!" – رشفة
أخرى من النبيذ – "عندما نشاء يبدأ احتفال
الموت والولادة..." يا إلهي! كم هو صحيح وحقيقي...
كم هو غامر بالسعادة والاندهاش... اندفعت نحو أصابعه المرتجفة...
اعتصرتها بقوة سعادتي، بقوة معرفة كاملة
بحقيقة حاضرة فيَّ وفي كل شيء... تلعثمتُ...
تفتَّتتْ مسافات الجُمَل في سليقتي... لم يبقَ
سوى طفل تدبُّ الحروف فوق براءته الأولى...
يستطلع اتصاله الأول بمن حوله بصراخه
المستهجِن، المستكين، المليء عبثاً،
ونعاساً، والقليل القليل من كلمات مشوَّهة: "أنت... أنت... معرفتك
بالحقيقة... تُشعِرُني بسعادة غامرة... أنت..." وجنتاي مبتلَّتان... ملوحة
عذبة تمازج زجاجي... سماء أحزانها عواصف، وبحر
أمواجه تمور لتجلِّي الرب... وفي المنتصف أنا...
بحَّار يحمل الحزن والحقيقة في قارب واحد. ابتسم مشرقاً بجاذبية وقال: "حقيقة كهذه تملأ جوانبك
كلَّها، سوى أنك تشعر بغربة إذ عرفتها وحيداً.
وربما يأتي أحد ما يعرفها مثلك، فتبدأ الألفة
تخترق غموضك وغموضه معاً..." استدركتُ قائلاً: "عن أي احتفال بالموت
والحياة تتحدث؟" "أتحدث عن موت
المزيَّفين، أو لنقل أفكارنا وتصوراتنا
المزيفة عنهم... أتحدث عن ترمُّل الماضي
وحيداً... عن ولادة واكتشاف دائمين يستغرقاننا
كي نستمر بإنجاح مهمَّتنا في الحياة أو
إنجاح مهمة الحياة نفسها..." عقدت أصابعي فيما بينها. كان
عرق لابدٌ ينتظرني هناك... انساحت عباراتي
بأسرع من تركيزي فيها: "... إيه... بدأت تغادرني
أشيائي الأثيرة... وأسوء ما تركته لي شعور عارم
بالغربة... وكأنك محفوف بأجسام حارة، لا تهدأ
لها حال، غريباً يلفحك الغبار وتستبيك ألوان
الثلج لتختفي، فلا يشعرون بهوائك، أو حتى
ارتعاشك لصيقاً بهم... جدران سجن تأكلها
العفونة... تفوح منها ذكريات آسنة... يا إلهي...
لست مندهشاً لأن شتائي وخريفي يرسمان ألوان
أخشابي... إنهما موجودان في عتمتي... وطريق ليلي
الفضي... راسخان فيَّ... نحن مَنْ تجتاحنا
البرودة ويغزونا اصفرار الرحيل... وأتساءل هل
من شتاء أو ربيع تنتجه طبيعة هي ركام ما نجهضه
من رؤىً وتخيلات؟!... الحياة... الحياة، يا
سيدي، تعجُّ في غياهب رئتيك... كدهشة الطفل
لمعرفته الأولى، ليبدأ فكرك المهترئ يلاحقها
حثيثاً، يريد أن يجهضها خارجاً عنك... وتنتظر
الولادة... ولادة تجرُّ وراءها موتاً ثقيلاً
يعلن بدأه في شقوق دماغك... يعلن أن ما تلقيه
أمامك سوف ينفض غبارك عنه، كالفكرة تماماً،
تموت في المسافة الفاصلة بين صوتك وصوت آخر
يجاورك... تموت في الجملة التي تغادرك إلى
الورق... في اللحظة التي ترتشفها الحياة من
لزوجة رحمك الحار... ماذا لو تركت للطبيعة أن
تضع فيك مواليدها... أو تركت دَلْوَك الفارغ
يغرف البعض من ركامات الوجود حوله؟" ("أسير كالمتحذلق، أزجُّ
تعابيري ممتطَّة بلا مركز... ليس هناك من شيء
يستدرجني سوى اندفاع يشبه أصابع طفل تعبث
بدمية... تبحث فيها عن دمية أخرى! أعيش في
المكان الذي تختلقه حواسي ولا تعيشه!!") حملتْه طائرتُه في الوقت
الذي أقلَّتني سيارتي... تذكَّرت نسيانه...
ضَحِكَ قبل أن يغادر... ضَحِكَ كأنه قِدْر تغلي
من السعادة... لم أعد أعني له ما كنت أو ما كان...
جرَّة قلم واحدة سطَّرت خرافتها فوق ذكريات
مقشورة على الجدران والأبواب... جرَّة قلم
جرَّت ستائر مسرح، لم يكن أصلاً بيني وبينه،
لتخلقه فصول النهاية، وكأن النهايات تبيح
التسميات والأحكام... تبيح كلاماً فوقه كلام
ومن فوقه كلام... "... ضوِّي قناديل وأنْطُر
صحابي... هربوا فلُّوا... بقيتْ لحالي... لحالي..." بدا الحديث كأنه يمشي، أشبه
بالمسير في شارع منطفئ، أصخب ما فيه ضجيجُ
كلماتك ترتطم بصدرك وأطراف لسانك. ابتدأ لحن البيانو يطرح
ألفة جديدة بيننا. سَرَتْ حرارة خاطفة تشبه
احتراق القش في حقل, انتشرت سريعة إلى نهاياتي...
كان ذلك بعد رشفة ملأت نصف فمي تقريباً من
النبيذ. أطَلْتُ النظر في تفاصيله،
أحدِّق في وجنتيه الرخاميتين. كانتا تُشعَّان
سخونة أقرب ما تكون إلى صخر متجلِّد تنساب
فوقه مياه حارَّة. أصابعي تدور ببطء على رخام
الطاولة المتشقِّق. أصابعه تنزلق على أطراف
الكأس، ثم تعاود بتمهُّل رسم ملامحه مجدداً.
دارت الأصابع ثانية في مجرَّتها، فوق طاولة
لا تتسع إلا لزجاجة وكأسَيْ نبيذ، ثم التقت
فوق صحن السجائر... تكاثفت اللحظات فوق زجاج
المحل، وفي أطياف الموجودين. شعرتُ بنفسي قد
تجمَّعت في أصابعي، يدفعني إغراء شفيف
لمداعبة زغب أصابعه وامتصاص كل احتراقاته
فيها. ضحكنا طويلاً... ("أأردنا
أن نضحك؟ هل فعلناها؟ لم لا يكون ما أردناه هو
ذاك! أن نضحك لنعترف، لنسخر من المسافة
المرسومة، المكتوبة، الموهومة، بل والمدروسة.")
احتبستْ الضحكات خلف الابتسامات المحمومة.
نتبادل الاعتراف بالوليد الجديد لنعيش سوية
حادثة يندر أن تتلقَّفها أحاسيسنا بطرفيها
معاً... إذ كان اعتيادنا الدائم بالتمازج
الكلِّي في أحد أطرافها دون أن نعير الانتباه
لاشتعال الآخر في اللحظة ذاتها. كنت أراها
موتاً يتساقط أصفر، ثم تذروه قدرة الفكر
الخرافية التي تعيد ترتيب الجُمَل في قصيدة،
صدئاً كالأوراق الصفر في قبو... وفي طرفه الآخر
ولادة تستاف بعمق جرعة من هوائها المحيط،
تريد، على حداثتها، أن تملأ متنفَّسها من كل
هواء تتحسَّسه. صداقة لفظت أنفاسها
الأخيرة، وخبا طنينها في الجوار. دخَّنتْه سيجارتُه كلَّه...
لم يبقَ منه سوى وجنتان رخاميتان وأصابع
ثملتْ طويلاً، فتراقصت سحبُ الدخان العذراء
في المكان حول شروده واستغراقي. ("وجدت مكاناً في سيارته
لرحلتي.")، سألت نفسي. ("هل تتسع حقائبه لرحلتي
معه؟")، قالت أصابعه. ("هل تموت الأشياء لتفسح
للحياة بداية جديدة؟")، بحثت عن الإجابة
فوق الرخام. ("من يستطيع أن يملأ فسحة
آخر في ذاكرتك؟ هل تختفي حقيقتي تحت معطفه؟")
بقيت كلماته تدور وراء زجاجة النبيذ الخضراء. ("يبدأ بتشكيل مكانه
الوحيد في قلبك، وتبدأ أنت طوفانك لنجاة أخرى...
مشاعر تلائمه هو، لا غيره... ولادة جديدة لن
تتوطَّن يوماً مكان موت غابر، ولن تقبل إلا
مكاناً مزهراً في ظلمتك لتبدأ ارتجافها الأول...")
يخنقني الصمت في ضيعته... كل
المنازل تسكنها فيروز. غنَّت لي كثيراً عنه.
هل ستغني له عني؟ ستغني له عني... ستقول له كيف
يريد وكيف أريد... وكيف يبدأ الحلم في ضيعته. تحرَّكت شفتاه: "غادرتْني بأسرع ما
تدَّخره من موت... غادرتْ مطارحَها وروائحَها
كمن يقفل سمَّاعة هاتف مشغول... كنظرة تنسحب
أمام نظرتك في طريق مزدحم بالعيون." انزلق صوتي كالبخار فوق
الطاولة: "لا... لا تحدثْني عن
السرعات! عن نهاية تمتص للوهلة الأولى دفقك
نحوه. لو أنه تلاشى فقط... آه... لم يَدَعْ
للتلاشي فرصة فتعتاد الصمت بعده؟! كوميض يحرق
الأحاسيس والصور." "لم تكن البداية تخبِّر
عن نهاية كتلك. بدايةً سرقتْ كلُّ العناوين
التسمياتِ. هل كان حباً أم امتزاجاً للألوان
فوق لوحة... أشبه بوقت مستقطَع من كل ما
اعتدته، تلفظه الحياة كأنه لا ينتمي إلى
عالمك." "كيف تستطيع الوفاء في
عالم تومِض فيه الأشياء سريعاً، فلا تدري
أتومض لبداية ما، أم لرحيل قاس؟ "أجبرني الفناء ليصبح
واحدة من مفردات... ما أسوأ ما ننتظر بعيداً عن
أحلامنا الصغيرة." "انساب هلامي في كل
روائحها، هل يكون شيء... أم... لا يكون؟" "شوَّه الكلامُ حروفَنا،
لم يصلح مرة لأن يكون لغة نعتادها، فعاد الصمت
يرسم بيننا جدارية لكل الأساطير التي ابتدعها
الإنسان مذ أن تحسَّس دفء الآخرين في جواره." "همستَ لي كيف يخلق
الواحدُ منا آخرَه؟ حدَّثتَني عن اختلاجات
الحياة تستوقفك، فتبدأ تنسج من كل خلية لك
خلية تألفها، ليكتمل أمامك كائنٌ لصيق بك...
أأنت الذي منحته الحياة؟!... هه... الحياة منحته
لك، الحياة ستستردُّه منك!" "يا إلهي يا صاحبي... كل
شيء مخلوق على رقعة طاولة... كم توهَّمت أني
أحرك الأشياء فوقها... إيه... مَن يحرك مَن؟!
سلطة جوفاء لفكر مخدوع باستمرار، لن يستطيع
يوماً تحريك قشة؟!" "أخبرتها، في كانون شاحب
كعيون مرسومة بالكحل، كم يبث الوفاء والإخلاص
رهبة في النفوس. فهي تخشى الأبدية. همستْ فوق
أصابعي بأنها لا تخشاها. فالحقيقة رائحة،
عندما نستافها لن نستطيع ارتشاف سواها." "ثم تلبَّدت السماء..." "تغيَّر لون الطين حول
الوجوه..." "قال بأن أمزجة الحياة
تعبث بارتعاشه نحوي..." "تلك هي الأمزجة التي
اكتشفت لها طريقاً للخلاص..." "ما زلت استجوب المبنى
والجدران، أسأل الذين مروا عن تلك الأمزجة!" "عن ذاك الخلاص؟!" عبَّ كأسه كلّه ليحرق
البقية. سرقتني فيروز وزخات المطر الباهت
فيَّ، لأخنق الأصوات وفرصة الألم الأخيرة
للنشيج. "... وَحْدُنْ بيبقوا...
مِتْلْ زَهْر البيلسان... وَحْدهُن بيقطفوا...
وراق الزمان ... بسكُّروا الغابة... بِضَلْهُن
مِتِلْ الشِّتي يدقُّوا على بوابي... على
بوابي..." بحثت عن السؤال، فتطاير من
فمي سريعاً: "هل بقي ما ندَّخره لنا
معاً... للآخرين؟ أعني... لو أننا ننتفض من
جديد؟!" شدَّ أصابعه بتوتر ظاهر على
جبهته، ضاغطاً عروقه ببطء وشدة. تلطَّخت
مساحات طفيفة من وجهه باحمرار، ثم عاد لونه
الرخامي ينسكب فوق تفاصيله مشيعاً الاسترخاء
فيها: "سيستهلكنا الصراخ لنعيد
المرتحلين أمامنا. لقد غادرت هي، وغادر هو...
وربما لا يعني هذا أننا من بقي هنا!! لن نقدر
يوما أن نستولي بلحظة على زمن. ما نستطيعه
حقاً هو أن نعيش لحظة ما كأنها زمن." "... يا رايْحين وتَلْجْ ما
عاد بِدْكُن ترجعوا... صرِّخ عليهن بالشِّتي
يا ديك بَلْكي بيسْمعوا..." خرجنا ملفوفين بسحب من
البخار. بقي ضوء البار طفيفاً
وأشعَّته خاملة. نزعت معطفي ووضعته على
كتفيه. لحظتئذٍ كانت نسمات حارة تلفحني...
التفتُّ نحوه: "لو أنك..." قاطعني مبتسماً: "لنحتفظ بها هكذا... ستبقى
دوماً كالبداية وسنعود إليها سوية..." مدَّ أصابعه المرتجفة. حشر
الكاسيت في جيبي. "ليس فيه سوى "وَحْدُن
بيبْقوا"... – التمع الجليد فوق وجنتيه – ما
زلت أؤمن بأن الواحد منا يخلق آخره!" مددت يدي وداعبت زغب أصابعه
الفضية. "ما زلت أؤمن أن أمزجة
الحياة لن تغيِّر رائحة حقيقة واحدة تطوف
حولي." ع
س
***
*** *** · وضعت في القصة
الحوارات الداخلية غير المنطوقة بين قوسين
( )، والحوار المنطوق بين علامتي تنصيص "
" فقط. |
|
|