|
النظام
والفوضى
في
العلم الحديث
موسى
ديب الخوري
قبل
أن خُلِقت السموات والأرض، أي في البداية
الأولى، كان الكون بأسره فوضى جسيمة مائية
مضطربة. ومن هذا الاضطراب المخيف خرجت كائنات
إلهية بدائية إلى الوجود. بيد أنها كانت على
حالٍ من الفوضى والارتباك لا يمكن وصفهما.
ومرَّت الدهور والأحقاب واتخذت الآلهة
أشكالاً واضحة، وأخذت تعمل. وسرعان ما قررت
زمرة منها أن تسنَّ للفوضى نوعاً من القانون
والنظام. وكانت هذه الخطوط مقدامة ولاشك
أثارت خصومة الكثير من المعبودات المحافظة
التي ظنت أن "النظام" القديم كان صالحاً
جداً ويجب أن يستمر على حاله. وقد جابه قرارها
استنكار الآلهة تعامة خاصة. وتعامة هذه هي أم
الفوضى، وهي معبودة بشكل تنين يتجسم فيه الشر
تارة والخير تارة أخرى. وعندما علمت تعامة
بعزم الآلهة على جلب النظام إلى ملكها لتقضي
به لا على سلطتها فحسب بل وعلى أبَّهتها، صممت
على القتال، وأدركت أن وقته قد حان. وكانت قد
خلقت من هذه الفوضى مردة جبابرة لها أطراف
حيوانات مختلفة تمتلك قوة مخيفة من الدمار.
وهكذا دعت إليها زوجها وجيشها الفتي وتهيأت
للنزال. وقد فزعت الآلهة الداعية للنظام أول
الأمر، إذ إن المهمة التي تنادت من أجلها
أصبحت مهدِّدة لكيانها نفسه. وأخيراً تجرأ
إله منها وتقدم إلى ساحة المعركة، وشهر
أسلحته، وأمر الرياح الأربع الجبارة أن تحارب
إلى جانبه. فتقدمت تعامة مشخَّصة بالفوضى،
وفغرت فاها الرحيب لابتلاعه، فأتاحت الفرصة
لهذا الإله الذي ساق على الفور الرياح القوية
إلى فمها باندفاع شديد، فجعلت جسم الإلهة–التنين
ينتفخ لدرجة لم تعد تستطيع معها حراكاً.
وعندئذ قضى عليها بأسلحته. ثم ظهرت المشكلة:
وهي ماذا يجب عليه أن يفعل بهذه الجثة الهائلة.
إنها هائلة الحجم ولها شكل يشبه القربة
الكبيرة. وبعد تفكير طويل، قرر الإله شطر
الجثة شطري ن،
وجعل القسم الأول منها مسطحاً فكانت الأرض.
أما النصف الثاني فقد بَسَطَه فوق الأرض،
فكانت السموات. وهكذا ماتت الفوضى وبدأ عمل
النظام يستقر الآن في العالم. وقد أُسِر في
المعركة زوج تعامة، وهو الإله كونكو الشرير.
وكانت قوته قد تضاءلت بعد مقتل زوجه، فقطعت
الآلهة رأسه، وخلقت البشر من طين التراب
الممتزج بدمه. يعكس هذا الملخص لأسطورة
الخلق البابلية المحاور الأساسية التي سيدور
بحثنا حولها. فمع رمزيتها الأسطورية، تطرح
هذه القصة بوضوح تجذُّر وسيادة مفهوم النظام
في عقلية الإنسان منذ العصور السحيقة. ومع ذلك، لم ينجح أحد حتى الآن في تحديد ماهية
النظام أو الفوضى! كذلك فإن نسبية هذين
المفهومين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكون
وبمعرفتنا لبدايته ولنهايته ولقوانينه. كان الهدف الأساسي للعلم
حتى فترة قريبة اكتشاف نظام الطبيعة. غير أن
العلماء يكتشفون الآن "الفوضى" في
الطبيعة، في حين بدأت تترسخ فكرة إعداد "علم
الفوضى". فهل تغيرت نظرة العلم، وكيف يجب أن
نقدر وأن نفهم هذا التحول الذي يهدف إلى خلق
نوع غير اعتيادي من العلم؟ وهل يمكننا أن
نحافظ على مفهومنا الاعتيادي للفوضى إذا هي
أصبحت موضوع دراسة علمية، بل ومحددة بقوانين
رياضية؟! وفي كافة الأحوال، هل يمكننا إعطاء
الفوضى أي معنى دون اللجوء لمفهوم النظام؟ ثم
ما سيؤول إليه عندها مفهوم النظام الكوني
الذي ساد تصوراتنا الميثولوجية والفلسفية
والعلمية حتى الآن؟ وأي موقع سيحتله الناس
فيه؟ وهل سيقترن عندها مفهوم الحرية البشرية
بمفهوم درجات الحرية في الفوضى؟! يعترف أينشتاين نفسه بأن
نظرية النسبية تدين بالكثير لإلهام ديني.
ويقول جان جاك روسو: "ولد علم الفلك من
الأسطورة." ويشير القولان إلى وجود ذكاء
شامل في العالم. إن الديانة الكونية التي تحدث
عنها أينشتاين، وأعطى مثالاً عليها شخصيتي
نيوتن وكبلر، تظهر كمصدر للطاقة الروحية في
الوقت نفسه الذي تحدد فيه موضوعاً معرفياً (إبستمولوجياً):
ألا وهو البحث عن النظام. ولاشك أن أسلاف هذه
الثالوث الخطي: كبلر–نيوتن–أينشتين قديمون
جداً، حتى إننا لا نستطيع تقديم نقطة أولية
لانطلاقتهم. فلابد أن الفيثاغوريين وإخوان
الصفا مثلاً كانوا ينتمون لخطِّهم. كذلك فإن
الفلسفة الأفلاطونية تمدنا بركيزة هامة
لإبراز الأصالة الإبستمولوجية للأبحاث
الحالية حول الفوضى. فكلمة كوزموس COSMOS
اليونانية تتضمَّن معنى النظام الكوني مقابل
الفوضى CHAOS.
وبحسب أفلاطون فإن التنظيم والذكاء يشكلان
العالم الذي يحيط بنا ويميِّزانه. فبرأيه أن
الكوزموس هو نتيجة العملية التي تقوم بها قوة
منظِّمة. ويقدم لنا تفسيراً موازياً للأسطورة
البابلية. فثمة كائن إلهي يدعى الذميورغوس Démiurge،
قاد نوعاً من المغما التي لا شكل لها، من
الفوضى إلى النظام. وهكذا فقد اضطر إلى اللجوء
إلى مادة أولية، إلى فراغ ما، بمعنى الفوضى
المطلقة، أي غياب أي نظام أو كمونه. والحق أنه
لم يكن ثمة فوضى حقيقية لأنه لم يكن ثمة نظام
ليخرقها. واستطاع الذميورغوس تحقيق النظام
بإدخاله للأشكال وللتناسبات الهندسية والبنى
الرياضية. إلا أن العمل الناتج، أي العالم،
خضع للصيرورة، للزمن والحركة الدائمة. وهكذا
فإن عالمنا يشتمل على النظام والفوضى بآن
واحد. فهو منظم ويخضع لقوانين محددة بفضل
الذميورغوس. ومع ذلك فإن الاحتمالية قائمة
فيه، لأن الفوضى وضعت بمجرد وجودها البدئي
شروطاً بدئية منتظمة ومعقدة جداً، بل وفوضوية، بحيث لا يمكن وصفها. كذا فإن دراسة
الفوضى لا تتطلب فقط مناظير ومفاهيم جديدة،
بل وظهور حدس وحساسية جديدين. عندما سئل إيليا
برغوجين I. Prigogine
حول تمجيده للفوضى أجاب: "بل
إنني على العكس تماماً، مقتنع أننا بحاجة إلى
مخططات محددة وإلى مخططات احتمالية في آن
واحد." ويوافقه بشكل آخر الرياضي إيفار
إيكلاند I.
Ekland:
"إن تحديدية قوانين الطبيعة لا
تستبعد النزوة والصدفة
واللامتوقع." فإذا كانت دراسة الفوضى تتطلب،
بالتالي، التخلي عن رياضياتنا الأفلاطونية، إلا أن رياضيي الفوضى لا يتخلون
بالتأكيد عن كافة أشكال النظام. إنما هم لا
يفرضون النظام مسبقاً. فحساباتهم الخوارزمية
تحتوي باستمرار على شكل من الذكاء والانتظام
مهما كانت نتائجها غريبة. وهذا التغير
الجوهري في أسلوب دراسة واختيار الظاهرة، لا
يقتصر على الرياضيات، بل وعلى الثقافة
والفلسفة بشكل عام. ومهمة رياضيات الفوضى
الأساسية هي تقديم تشكيل قياسي يسمح بالوصف
المباشر أو غير المباشر، الحقيقي أو
الافتراضي، لمختلف أنماط الفوضى. ومن هنا فإن
لغة الفيزياء ستنقلب. فبدلاً من التعامل مع
الظاهرة من عَلُ، أي بتطبيق النظام على
الظاهرة أو على الحركة غير المفهومة لتفسيرها، فإن الفيزياء ستبدأ من الأدنى أي
من الظاهرة، من الحركة–الفوضى، لتفهم جوهر
بنيتها الحقيقية، ولتكتشف نظامها الذي لا
يخضع إلى حدٍّ كبير لمقاييسنا الذاتية
المبدئية. والمثال الشهير على هذا
التحول في المفهوم العلمي هو تطبيق مكسويل
للحسابات الإحصائية على جزيئات الغاز ليتوصل
إلى فهم وتحليل الآليات الخفية التي تسبب
الحركات والصفات الظاهرية للغازات، كالحجم
والحرارة والضغط. كذا فقد استطاع مكسويل
استخلاص النظام من الفوضى التحتية، وكانت
النتيجة الصاعقة، بالتالي، أن كثيراً من
الحركات الظاهرية المنتظمة أو المحددة مبنية
على أسس أكثر عشوائية. وكان من أسباب انتشار
وتعمق هذا المفهوم مقارنة مكسويل لنظريته
الحركية للغازات بالظاهرات الاجتماعية. وقد
بيَّن المؤرخ هنري توماس بَكُّل Henry
Thomas Buckel أنه لو أخذنا
مجموعات كبيرة بما يكفي من البشر فإن عدد
الوفيات والأمراض والجرائم والزيجات
والانتحارات سيكون ثابتاً بشكل عام. وهذا
الثابت بحسب بولتزمان يمكن تطبيقه على
الأحداث التي تجري في حجرة مقفلة تحتوي على
الغاز: "فالأمور، كما يقول، لا يمكن أن تتم
بشكل مختلف ضمن مجموعة من الجزيئات". وقد
أعد الرياضي الإحصائي أدولف كيتليه A.
Quételet (1796-1874) علماً
جديداً بناء على ذلك هو الفيزياء الإحصائية
الاجتماعية. هكذا أعادت الفوضى طرح
نفسها بقوة على الفكر البشري، بعد أن قتلتها
آلهة الأساطير. جوانب
من دراسة الفوضى
ثمة مشاهد كثيرة في الطبيعة
تُعَدُّ مثالاً للحركة الفوضوية. ونعدد منها
مساقط المياه، وتشكُّل الغيوم وحركاتها،
وتبخر المحيطات، وانفجار البراكين، وتشكل
السواحل والجبال، ونمو الأشجار، وتقلُّب
المناخ، والدوامات النهرية، وتوزع
الإلكترونات الحرة في المواد الصلبة،
وانطلاق غاز ما، وانتشار حريق أو وباء. هذا
ناهيك عن كل ما يتعلق بالظاهرات الاجتماعية
والاقتصادية والعلاقات البشرية الطبيعية.
غير أن علم الفوضى الناشئ ينحو إلى دراسة هذه
الظاهرات بالذات، وإلى استخلاص قوانين لهذه
الفوضى المحددة تساعد على فهمها بشكل أفضل.
وسنحاول فيما يلي عرض بعض هذه الظاهرات
ونتائج الدراسات حولها. كانت المجموعة الشمسية
تُعَدُّ مثالاً للانتظام في الكون. فقوانين
نيوتن تسمح مبدئياً بتحديد ماضي المجموعة
الشمسية كلَّه، بل ومستقبلها ابتداء من معرفة
الحاضر. وكان بوانكاريه أول من شكَّك بهذا
الطرح اللابلاسي، مثبتاً تعقيد حلول معادلات
الميكانيكا السماوية، ومبيِّناً حدود بعض
المناهج التي يستخدمها علماء الفلك لحساب
المسارات الكوكبية. ويبدو اليوم أن عدداً
كبيراً من أجسام المجموعة الشمسية، بما فيها
الكواكب والمذنبات والكويكبات، لها حركات
فوضوية. ويعطي ذلك لعلماء الفلك إطاراً
جديداً لفهم توزع الكويكبات والمذنبات
المرصود، ويحدِّد من جهة أخرى إمكانية التنبؤ
بمستقبل النظام الشمسي بفترة محددة. بل إن
مسارات الكواكب البعيدة في هذا النظام تخضع
لمناطق فوضوية تمر عبرها. وإذا انتقلنا إلى
البيولوجيا، فإن الأمر الثابت لدى العلماء هو
أن الأنظمة البيولوجية محكومة بآليات لاخطية.
وهذا يعني أن علينا توقع سلوك فوضوي على الأقل
بقدر السلوك الدوري أو الثابت. علينا
الاعتراف بحسب روبرت ماي Robert
May
أن كل نظام لاخطِّي بسيط لا يتمتع
بالضرورة بخصائص ديناميكية بسيطة. وينطبق ذلك
على القوانين التي تحكم التغيرات الجوية،
والتي يعبَّر عنها رياضياً بمعادلات تفاضلية
غير خطِّية، مما يعني أن النتائج لن تكون
متناسبة مع الأسباب. وبحسب حالاتها البدئية،
يمكن للأنظمة اللاخطِّية أن تؤدي إلى نتائج
مختلفة بعد مرور زمن معين. وتدعى هذه الحلول
بالجواذب، ولتكن مثلاً مناخات مختلفة. وهكذا
تبيَّن إن إمكانية التنبؤ بالمناخ محدودة
جداً، والمسألة تتطلب ظهور قوانين جديدة تعكس
مواصفات خاصة بالترموديناميكا، كعدد أبعاد
الجاذب مثلاً، وزمن التنبؤ، الخ. غير أن دراسة ظاهرات أخرى
كشفت عن تنوع وتعقيد الظاهرة الفوضوية. وأمكن
في بعض الحالات استنتاج قوانين عامة تحكمها،
أو تحديد مراحل معينة لظهورها. ففي تجربة
فريدة أجريت على حركة التدوُّم، دُرِست
دوَّامة مبسَّطة إلى أقصى حد ممكن، وتبيَّن
أن المظهر الخارجي الفوضوي لها ينجم عن
تشكيلات متتالية فائقة التعقيد يتناوب فيها
النظام والفوضى والتدوُّم! ومن جهة أخرى،
سمحت طريقة التصفية، وهي النظرية التي تدرس
انتشار وباء أو حريق أو مرض أو غاز، بإيجاد
قوانين عالمية تحكم ظاهرات مختلفة، وقد
دُعِيت بـ"قوانين وباء الفوضى". وتبين من
خلال هذه الطريقة أن اتصال مجموعتين عبر
حدين، كمنطقتي انتشار وباء أو حريق، لا يمكن
أن يتم إلا إذا تجاوز نسبة 60% في كل منهما
تقريباً. وبالمقابل، فإن التشكل العشوائي
لحالات الاتصال بين الخلايا الشعرية الرئوية
يخلق مجموعة من الممرات ذات الحجوم غير
المتجانسة، إنما التي تبيِّن تطابقها
الفراكتالي fractals،
أي أن كل جزء صغير منها كان صورة مطابقة للجزء
الكبير. ويسمح هذا النموذج الهندسي "الفوضوي"
للعلماء بوصف دقيق لضبط تبادلات الجزيئات
الكبيرة بين الدم والأنسجة. وسمحت فيزياء الأجسام
الصلبة بتطوير مناهج دراسة الانتقال
الإلكتروني في جسم صلب فوضوي. وبالمقابل فإن
الترموديناميكا والفوضى وعلم الدوامات
موازيات تطورت كثيراً. وما بين هذين المجالين
هناك مجال رحب لظهور أفكار جديدة. وكان من أهم
نتائج دراسة إلكترونات المواد الصلبة
الفوضوية ما يلي: كلما كانت الفوضى أكبر كانت
الخصائص الماكروسكوبية لمادة أقل تعلقاً
بتفاصيل بنيتها الميكروسكوبية. وإضافة لذلك
تبيَّن أنه في جسم بلوري لا تشوهات فيه يكون
الإلكترون، الذي يتصف بكلية الحضور في وسط
فوضوي، متوضعاً على العكس من ذلك بدقة كاملة.
ويمكن لهذا الحديث أن يقودنا إلى مقارنة
بسيطة للفوضى في عالمي الميكانيكا الكوانتية
والميكانيكا الكلاسية، وذلك تحديداً في مجال
عكوسية أو لاعكوسية الحركة. فعندما ندرس توزع
كرات البلياردو على الطاولة انطلاقاً من
تشكيل ثابت، نجد أننا نصل بسرعة إلى توزع
فوضوي. والسؤال هو: هل ضاعت في هذه الحالة ذكرى
الحالة البدئية؟ بشكل مبدئي لا. فمعادلات
الحركة لنظام فوضوي تكون محددة دوماً، ويمكن
مبدئياً حلها بشكل عكسي. أي أن كل كرة فوضوية
على طاولة البلياردو يمكن أن تعيد نظرياً
مسارها بشكل عكوسي حتى النقطة البدئية. أما
عملياً، فالذاكرة البدئية قد ضاعت. وينجم هذا
التعارض عن إحدى النتائج الغريبة للتباعد
الأسِّي للمسارات. فمن المستحيل العودة
بالزمن حسابياً بشكل دقيق، ذلك أن المسارات
حساسة جداً لشروط البدء. وتدوير أو تقريب بسيط
جداً في الأرقام، الأمر الذي لا مفرَّ منه في
الحسابات، يُتَرجم بأخطاء أكثر فأكثر كبراً
كلما جربنا إرجاع المسار إلى فترة ماضية أبعد.
وهكذا يميل المسار لنسيان نقطة الانطلاق ما
أن يصبح زمن المسير طويلاً نسبياً. وتلكم هي
بالضبط علاقة الفوضى بالزمن كما سنرى لاحقاً.
لكن على المستوى الكوانتي لا نستطيع أن نأخذ
بهذه العلاقة. فقوانين الفيزياء الكوانتية هي
قوانين الريبة بجوهرها. ومع ذلك، فقد
بيَّنت تجارب حديثة على ذرة هيدروجين
متأيِّنة على الكمبيوتر إمكانية الرجوع إلى
الحالة البدئية بالضبط، بينما لم يستطع
الكمبيوتر تحقيق ذلك وفق الحسابات الكلاسية.
وتطرح هذه التجارب دون شك جانباً دقيقاً من
مفهوم الفوضى على المستوى الكوانتي لا يزال
العلماء يحارون في تفسيره. فيزياء
الفوضى
ترتكز فيزياء الفوضى بشكل
أساسي على الدراسات والتحليلات الإحصائية
التي تطبَّق على ظاهرات تشمل عدداً كبيراً من
العناصر التي لا نعرف سلوكها معرفة جيدة،
إنما تتشابه رغم ذلك مع غيرها. وكلما كان عدد
العناصر أكبر كانت النتائج الوسطية أفضل، مما
يؤدي إلى ظهور القوانين الوسطية التي يمكن
تطبيقها على الديموغرافيا والبيولوجيا وعالم
القسيمات والألعاب والاقتصاد ومجالات أخرى
كثيرة قد لا تخطر لنا على بال. وقد أسس هذه
الفيزياء لودفيغ بولتزمان L.
Boltzmann (1844-1906). وتسعى
الميكانيكا الإحصائية لفهم خصائص المادة على
المستوى الماكروسكوبي انطلاقاً من وصف
ميكروسكوبي. وصعوبة دراسة العالم
الميكروسكوبي تتأتى من أعداد عناصره الهائلة.
فلدراسة ا سم3 من الماء. علينا أن ندرس
عدد أفوكادور من جزيئات H2O
التي يحويها، أي 1023
جزيء تقريباً. فكيف يمكن دراسة تأثير كل جزيء
على المستوى الماكروسكوبي؟ إن ذلك ممكن فقط
كون هذا التأثير مهملاً؛ وإلا لما أمكننا حل
هذه المسألة لأن أي كمبيوتر لا يستطيع دراسة
عدد مماثل من العناصر دفعة واحدة. إن المثال الكلاسي في دراسة
الفيزياء الإحصائية هو مثال الجسيم المتحرك
بشكل عشوائي انطلاقاً من نقطة ثابتة. وإذا
اعتبرنا أن سرعته وخطواته متساوية، إنما
اتجاهات سيره عشوائية، سنكون أمام احتمالات
هائلة؛ فكيف إذا غيرنا سرعته أو خطواته أو
أبعاد الفراغ الذي يتحرك فيه، أو إذا تعددت
العناصر المتحركة؟ والسؤال الذي ينطرح هنا:
بعد n
خطوة، على أية مسافة سيوجد المتحرك بشكل
وسطي؟ وما هو الاحتمال إذا حددنا الفترة
الزمنية للمسير لكي يصل إلى نقطة معطاة؟ وما
احتمال تلاقي متحرِّكين؟ وما هي الفترة
الزمنية التي تفصل بين لقاءين متتاليين؟ إن
هذا المثال يمكن أن ينطبق على ظاهرات كثيرة،
كانتشار الحرارة مثلاً. لنحاول الآن تحديد
الإطار الذي يعطيه الفيزيائيون لمفهوم
الفوضى، ولنأخذ غازاً في حالة التوازن ضمن
حجرة مغلقة. تشبه الجزيئات فيه بتدافعاتها
الحركة الفوضوية التي يمكن لمجموعة كبيرة من
الكرات الصغيرة تشكيلها وهي تنقذف عشوائياً
في مكان محدد. وهنا يبرز مفهوم العشوائية، مما
يحتم اللجوء إلى الاحتمالات وقوانين الإحصاء.
كذا يبدو المفهوم الإحصائي رديفاً لا ينفصل
عن تعبير الفوضى، أكانت الاحتمالية فيزيائية
أم ناجمة عن تقصير إدراكنا. غير أن صفة
الاحتمالية غالباً ما تعكس نقص معلوماتنا.
والحق أن إحدى طرق قياس الفوضى المقرونة
بظاهرة فيزيائية يكمن في قياس نقص المعلومات
المتعلق بها. وهذا يعطينا أول تمييز دقيق بين
مفاهيم الفوضى والاحتمال ونقص المعلومات. لقد سمحت الأبحاث الحديثة
حول "الأنظمة الدينامية" و"الفوضى"
بإلقاء ضوء جديد على الفوضى ونقص المعلومات؛
كما وسمحت بربط مفهومين كانا يبدوان متناقضين:
تحديد القوانين التي تحكم نظاماً فيزيائياً
ونقص المعلومات المتعلقة بهذا النظام. إن
تعبير الأنظمة الدينامية يشير إلى كل صيرورة
متطورة زمانياً يتعلق فيها المستقبل بشكل
محدد بالماضي، كالنظام الشمسي مثلاً. ففي هذا
النظام تتحدد الحركة بمعرفة السرعات
والمواقع الابتدائية للكواكب. وتسمى هذه
الإحداثيات بدرجات الحرية. ويساوي عددها عدد
الكواكب مضروباً بستة، حيث لكل كوكب ثلاث
مركبات سرعة وثلاث مركبات موقع. إن مجموعة من n
إحداثي تميز نظاماً خلال لحظة معطاة، تعتبر
مثل نقطة في فراغ مجرد من n
بعد، يُدعى "فراغ المرحلة". ويمكن لهذه
الإحداثيات أن تمثل بالنسبة للبيولوجي عدد
أفراد مجموعة حيوانية، أو إشارة كهربائية
للقلب، وبالنسبة للاقتصادي، أسعار المواد
الأولية، الخ... وتستهدف الأبحاث حول الأنظمة
الدينامية بشكل أساسي تمييز المسارات في فراغ
المرحلة، وذلك عندما نتبعها خلال زمن طويل
جداً، بل ولانهائي. وتحديد المسار ابتداء من
شرط ابتدائي (أي الموضع البدئي للنقطة
الممثلة في فراغ المرحلة) هو بالتأكيد المنهج
المباشر للتنبؤ بشكل تفصيلي بتطور النظام.
وكان يُعتقَد أن كمبيوتراً ضخماً بما يكفي
يمكنه تحقيق ذلك بالدقة المطلوبة لكل مسألة
من هذا الشكل. لكن فيما بعد تبدَّى خطأ هذا
الاعتقاد. من الأسئلة الهامة التي
ظهرت في دراسة الأنظمة الدينامية، كيف سيسلك
النظام المعتبَر إذا انتظرنا فترة طويلة؟ هل
سيصل إلى وضعية الجمود حيث لا يتغير شيء بعد
ذلك مع مرور الزمن؟ ذلكم ما يحصل مع نواس يفقد
طاقته بالاحتكاك. أم أن النظام سينتهي إلى
حركة دورية، كحركة الكواكب حول الشمس مثلاً؟
يوافق ذلك في فضاء المرحلة منحنى ينغلق على
ذاته يُدعى "دوراً محدوداً"؛ بينما في
الحالة الأولى يوافق كل التوقف نقطة ثابتة.
لكن النقطة الثابتة والدور المحدود ومؤثرات
جاذبة أخرى بسيطة هندسياً ليست الإمكانات
الوحيدة. فثمة أنماط أخرى من الجواذب تدعى بـ"الغريبة"،
وتكون مرتبطة بسلوك فوضوي لنظام دينامي. ولا
يمكن للجواذب الغريبة أن توجد إلا في فراغ
مرحلة له أكثر من بعدين، وتكون ذات بنية
هندسية متشابكة وتحتل منطقة محدودة في فراغ
المرحلة. غير أن الفوضى الهندسية لمثل هذه
الجواذب ليست كلية، إذ تبقى آثار النظام
الرياضي المتضمَّن في المعادلات ماثلة فيها.
وثمة لهذه الجواذب بشكل خاص بنية منثنية،
ومنثنية على نفسها مرات أخرى، بل وملتفة على
نفسها عدداً لانهائياً من المرات. كذا فإن
الجواذب الغريبة هذه هي عبارة عن فراكتالات fractals.
والفراكتالات هي بنية هندسية تحافظ على
المظهر نفسه مهما كانت التضخمات التي تصيبها.
ولابد لنا من وقفة مع هذه الفراكتالات. كانت الهندسة حتى وقت قريب
تُعتبَر جافة، كونها لا تستطيع التعامل
مباشرة مع نماذج طبيعية كالقيم أو الجبال أو
الأشجار الخ. ومع ذلك، فثمة في عمل الطبيعة ما
يُشعِرنا بأنه يرتكز على تفاصيل دقيقة. وهذا
ما قاد بونوا ماندلبور B. Mandelbort
عام 1975 إلى وضع هندسة جديدة تختلف اختلافاً
جذرياً عن الهندسة الإقليدية. ودعاها بهندسة
الفراكتالات. وتسمية fractal
مشتقة من الجذر اللاتيني franger
الذي يعني "كسر" أو "شرخ"، ومن الصفة
fractus
التي تحمل معنى اللاانتظام والتكسر. وأراد
ماندلبور جمع هذين المعنيين في كلمة "فراكتال"*.
وهكذا فإن هذا المعنى بالنسبة لماندلبور
يشتمل على الشكل والصدفة والبعد. ولم يكن أحد
يتوقع ما أثارته هذه الفراكتالات في
تطبيقاتها الرياضية والفيزيائية
والبيولوجية، بل والفلسفية. فقد تبين أن لها
أهمية فائقة في دراسة الظاهرات الفوضوية بشكل
خاص. ونميز رياضياً بين حجوم هذه الفراكتالات
التي تتراوح بين المتناهي في الكبر والمتناهي
في الصغر. فإذا لم يكن الفراكتال محدوداً فإن
حجمه الأعظمي يكون لامتناهياً في الكبر. وإذا
كان محدداً بكُرة فإن حجمه الأعظمي يتحدد
بقطر هذه الكرة. وإذا لم يكن الفراكتال محدداً
وكان يقطع مكعباً طول ضلعه l،
فإن حجمه الأعظمي بالنسبة للقطع يكون من رتبة
الضلع l.
وبحسب الحالة، تشكل هذه التفاصيل ألسنة أو
خلجاناً أو أكمات أو جزراً، أو حتى أكداساً من
النقاط، مما يظهر أن مفهوم الفراكتال يرتبط
بمفهوم اللاانتظام وبالتجزئة معاً. وقد شملت
نظرية الفراكتالات اليوم كافة النظريات
الفيزيائية والشواذات أو حالات الخروج عن
النظام، وأوجدت هندسة أشمل للفوضى تبدو
فيها حالات الانتظام هي الطفرات البسيطة في
الكون. وتلعب هذه النظرية دوراً أساسياً في
دراسة شكل الغيوم والسواحل والجبال وتوزع
المجرات في الفضاء والدوامات المبدِّدة في
السوائل. وفي كافة هذه الحالات لم تكن الدرجات
المدروسة تتجاوز حداً أدنى موجباً إلى حد
أقصى. وفي حين لعبت الفراكتالات دوراً ناجحاً
في العالم الماكروسكوبي، أدخلتها الفيزياء
في دراسة الظاهرات الحرجة لتسد فراغاً
كبيراً، حيث لم تكن هناك هندسة موافقة لهذا
المجال. وقد تم تعريف الفراكتالات المتناظرة
فيزيائياً، أي التي لا تتغير مع أي تغير طارئ،
مما فتح باباً جديداً أمام العلماء، وبخاصة
العاملين منهم في مجال القسيمات الأولية. وتقدم لنا هذه الفراكتالات
ميزة جوهرية لـ "الفوضى المحددة"، ألا
وهي "الحساسية تجاه الشروط البدئية".
فإذا انطلقنا في نظام منتظم الحركة من شروط
ابتدائية متجاورة وتقع في الإطار الجاذب
نفسه، فإن المسارات المتَّبعة في فضاء
المرحلة ستنتهي بأن تتقارب إلى النقطة
الثابتة نفسها أو نحو الدور المحدود، وستكون
مختلف هذه المسارات متزامنة في الزمان
بالنسبة لبعضها بعضاً. وهكذا تتمايز المسارات
بسرعة بالنسبة للأنظمة الفوضوية. وخلال وقت
قريب نسبياً تبدو وكأن ليس هناك ما عاد
يجمعها، هذا إذا استثنينا أنها في فضاء
المرحلة تبقى في جوار الجاذب الغريب. إن هذه
الحساسية تجاه الشروط البدئية تقلل من قيمة
التحديدية التي يمكن وفقها التنبؤ بأية
صيرورة أو تطور. وحتى بقبولنا أن القوانين
الفيزيائية محددة، فإن حالات اللايقين
التجريبية التي لابد منها تؤدي إلى أننا لا
نستطيع أبداً أن نعرف بدقة الحالة البدئية
لنظام ما. فإذا كان النظام منتظماً تكون
الانحرافات وحالات اللايقين بسيطة ويمكن
حسابها. أما إذا كان فوضوياً فإنها ستتسع مع
الوقت بشكل كبير. إن المسافة التي تفصل
المسارات التي كانت متقاربة في المبدأ
ستتباعد بنسبة k . T
(حيث k
معامل ليابونوف). وهكذا فإن التنبؤ بتطور نظام
ما يصبح مجرداً من أي معنى، على الأقل على
المدى البعيد، مادام هذا التطور يتعلق بالشرط
الابتدائي. هكذا سقطت أسطورة التقدير
المسبق المطلق. وكانت الميكانيكا الكوانتية
قد وجهت ضربة قوية للتحديدية بقوانينها
الاحتمالية. ولم يعد أحد من العلماء اليوم
يعتقد بإمكانية تحقيق تنبؤ بعيد المدى في
مجال الأحوال الجوية أو المناخ مثلاً. لكن
السؤال يبقى: هل الفوضى المحددة استثناء أم
قاعدة؟ الواقع أن هذه النظرية تبدو وكأنها
تشمل أبسط الأنظمة. ففي حين كان جيبس Gibbs
وبولتزمان يعتقدان أن العدد الكبير للجزيئات
هو المسؤول عن الفوضى التي تسود غازاً
مستقراً، تبين اليوم أنه ليس من الضروري أن
يكون النظام معقداً جداً. فثلاث درجات من
الحرية يمكن أن تكفي ليكون هناك فوضى محددة.
وهذا يعارض الفكرة القديمة بأن الفوضى تعني
عدداً كبيراً في درجات الحرية. وربما كانت هذه
الفكرة السائدة هي التي منعت العلماء من
الاهتمام بأعمال بوانكاريه حول الفوضى حتى
عام 1970. ومع ذلك، لا يزال دور الفوضى غير مفهوم
تماماً في الفيزياء. كيف يتم الانتقال من
النظام إلى الفوضى؟ وهل آلية هذه الانتقالات
عالمية أم أن هناك عدداً كبيراً أو محدوداً
منها؟ كيف تظهر درجات الحرية؟ ما يهمنا الآن هو أن الأبحاث
الجارية في نظرية الأنظمة الدينامية وفي
فيزياء الأوساط الفوضوية سمحت بالبرهان أن
الفوضى ليست شيئاً لا يمكن سبره ودراسته، أو
أنها تخلو من أية أهمية، بل أنها، على العكس
تماماً، جزء من غنى كون مليء بالأسرار. النظام
والفوضى في الفيزياء
تقودنا الأسئلة السابقة إلى
محاولة فهم الفوضى والنظام في إطارهما
الفيزيائي بقدر ما يكون ذلك ممكناً. إن
الطبيعة تقدم لنا باستمرار الأمثلة على
النظام والفوضى وعلى حالات الانتقالات
بينهما. من منا لم تدهشه هندسة ندفة الثلج،
ومن منا لم يحاول الإمساك بها يوماً فإذا بها
تتحول إلى نقطة ماء؟ يبدو لنا أن تعريف النظام
أمر سهل، لكنه في الحقيقة أصعب من تحديد ماهية
الفوضى. فالتطور الطبيعي يميل نحو الفوضى
بحسب المبدأ الثاني في الترموديناميكا. وبشكل
أبسط، فإن كل مظاهر الطبيعة هي تعقيدات
فوضوية. فالخلائط في النهاية هي مظهر فوضوي.
الصخرة مثلاً، أو الهواء، أو الغيمة هي أشياء
خليطة يسهل دمج مكوِّناتها أكثر بكثير من
فصلها وتحديدها. ولقد بات بالإمكان منذ أعمال
جيبس وبولتزمان شرح وحساب درجة الفوضى في
نظام مادي. لكن هذه الأعمال نفسها تقدم للمرة
الأولى إمكانية علمية دقيقة لتحديد النظام.
وعلينا أن نتذكر دائماً أن النظام والفوضى
كانا باستمرار جوهر وأساس التطور النظري في
الفيزياء. فلقد شكل النظام مثلاً في عصر
مكسويل تناقضاً خطيراً في مفهوم الحقيقة
الفيزيائية بنتيجة التمثيلين السائدين آنذاك:
فقد كان يُفترَض أن نموذج الميكانيكا
النيوتونية قادر على تفسير كل نظام فيزيائي،
وبالتالي كان يجب إيجاد القوانين نفسها
المطبقة في العالم الماكروسكوبي في العالم
الميكروسكوبي. غير أن هذا التمثيل الميكانيكي
كان مؤسَّساً على العكوسية في الحركة (حيث
يكفي إبدال إشارة + بـ –
في المعادلات). ولكن كيف كان يمكن القبول
عندها بتفسير للظاهرات اللاعكوسة على
المستوى الماكروسكوبي بحركات عكوسة على
المستوى الميكروسكوبي؟ وكان لابد عندها من
التخلي عن التحديدية الكلاسية السائدة
وإدخال الاحتمال في قلب الظاهرات، بحيث أمكن
تجاوز هذا التعارض. كذلك فإننا نجد تراتبية
واضحة لمفهوم النظام في الحقيقة الفيزيائية
الواحدة. فنحن نستطيع وصف حركة غاز كما نراه
من خلال قانون ماريوط–غي–لوساك Mariotte-Gay-Lussac،
في حين أننا على المستوى الجزيئي نلجأ إلى
نماذج النظرية الحركية للغازات المؤسَّسة
على قوانين الاحتمال. أما على المستوى
الكوانتي فعلينا إدخال معادلات جديدة. إن هذه
التراتبية أساسية بالنسبة للفيزيائي. وهي
تسمح له بتعيين نظام أو فوضى قياساً إلى نظام
أو فوضى آخرين. وينطبق ذلك بشكل ما على قوانين
الترموديناميكا. فالترموديناميكا ترتكز على
مبدأين رئيسيين، الأول منهما هو انحفاظ
الطاقة بجوهره. أما المبدأ الثاني فهو خاص
بالأنظمة التي تتميز بعدد كبير من درجات
الحرية، ومؤداه أن الفوضى تزداد مع الزمن،
أو تبقى ثابتة بالنسبة للصيرورات العكوسة.
ونلاحظ أنه ينطبق على الأنظمة الكبرى فقط،
كون الأنظمة الصغرى لا تتضمن مفهوم النظام
بشكله الواسع. فعندما يكون لدي كتاب واحد، لا
يكون ثمة معنى لتصنيفه أو ترتيبه في مكتبة.
والمثال الشائع على المبدأ الثاني هو أن كل
شيء حار يبرد. فلماذا تجري الأمور على هذا
النحو؟ السبب هو أن كل شيء في الطبيعة ينحو
إلى الاستقرار. فعندما نخلط غازين في زجاجة
واحدة نلاحظ أنهما يصلان إلى توزع متجانس بعد
حين. فإذا كانا من الأوكسجين والآزوت يمكن
تفسير تجانس الهواء الناتج من تساوي تركيزات
التشكيلات الحاصلة. ويمكن تمثيل الأمر على
النحو التالي: إذا رمينا النرد وحصلنا على 1
نضع جزيء أكسجين، وإذا حصلنا على 2 أو 3 أو 4 أو 5
وضعنا جزيء آزوت، أما إذا حصلنا على 6 فنعيد
رمي النرد، وهكذا. وبالتالي فإننا نحصل على
الهواء فقط لأن احتمال عدد الرميات W
الممكنة المختلفة الموافقة لتركيز يساوي 20%
من الأكسجين أكبر بكثير من أي احتمال آخر يمكن
أن يؤدي إلى تركيز آخر. وتبين الحسابات أنه لو
أردنا رؤية الغازين ينفصلان من تلقاء نفسيهما
دون أي تدخل، لكان علينا انتظار 10250
سنة، في حين أن عمر الكون لا يرجع إلا لنحو 1016
سنة فقط. لقد حاول الفيزيائيون منذ
زمن طويل تكميم الفوضى. واستخدم لهذا الغرض
مفهوم الإنتروبيا Entropie.
وكان مفهوم الطاقة الموافق للمبدأ الأول في
الترموديناميكا قد اشتُق من خاصية الانحفاظ
الكمية الأساسية، مما أدى لتقبُّله بسهولة.
وعلى العكس تماماً، كان الأمر بالنسبة لمفهوم
الإنتروبيا الذي ظل غامضاً بسبب محتواه
الكيفي نسبياً فيما يتعلق بالفوضى
وباللاانتظام وباللاعكوسية. والحق أنه من
السهل تعميم وتحديد عدد التشكيلات W
الموافق لقيم معطاة من التحولات
الماكروسكوبية (هي التركيزات هنا). أما الحساب
الدقيق لـ W
فيمكن أن يكون أكثر صعوبة بكثير. لكن الصعوبة
الحقيقية كانت ربطه بالترموديناميك. وقد
بولتزمان هذه الصعوبة بالعلاقة التي قدمها
نحو عام 1875، معرفاً فيها الإنتروبيا
الإحصائية بالشكل: S = k Log W،
حيث S
الإنتروبيا، وk
ثابت بولتزمان، وW
يمثل عدد التشكيلات الميكروسكوبية المتوافقة
مع التقييدات الماكروسكوبية المفروضة على
النظام. ونلاحظ أنه كلما كان النظام أغنى
بالتشكيلات الممكنة كانت هذه الإنتروبيا
أكبر. وعلينا الإشارة إلى أن مفهوم
الإنتروبيا هذا يختص بحالات الاستقرار التي
يمكن للنظام بلوغها ضمن صيرورة لاعكوسة.
ويُعَد هذا التعريف هو التعريف الميكروسكوبي
الذي يمكن ربطه بالتعريف الماكروسكوبي
المعطى في الترموديناميك بالعلاقة: ،
أي أن الإنتروبيا S
هي مكاملة الحرارة Q
على تغير عكوسي ابتداء من درجة الحرارة T = 0.
وهكذا يمكننا استخلاص تعريف للنظام في
الميكانيكا الإحصائية اعتماداً على مفهوم
الإنتروبيا. فحالة النظام تتحقق عندما يكون: W
= 1
و S = 0. بعد أن حددنا مفهوم
الإنتروبيا بدقة، يبقى علينا أن نعرِّف "الفوضى
المحددة" التي سبق وذكرناها. لقد بيَّن
بوانكاريه منذ القرن الماضي أنه يمكن أن يكون
حتى للحركة المحددة بدرجات قليلة من الحرية
بعض صفات الحركة الفوضوية. نقول عن حركة محددة
أنها حركة فوضوية محددة عندما تتحقق الصفات
التالية: عدم التكرار، وعدم إمكانية التنبؤ
المستقبلي بها، ومرور النظام بالضرورة بكافة
الحالات الميكروسكوبية التي تصادفه (érgodicité).
وهكذا نميز بين الفوضى التي يزداد فيها
اللاتعين بشكل أسِّي، والفوضى المحددة التي
يزداد فيها اللاتعيين بشكل خطي. قد نظن من خلال تعبير "الفوضى
المحددة" أنه بالإمكان حساب هذه الفوضى ولو
عن طريق الكمبيوتر. إلا أن المسألة في جوهرها
تتعلق بتحديد الحسابات. فما هو صحيح في تحديد
البدايات أو الشروط البدئية صحيح أيضاً في
التكرارات. فعلى مدى كل مرحلة من الحسابات
تدخل أخطاء جديدة ناجمة عن التدوير. فكل عدد
يُمثَّل في الكمبيوتر بعدد من البيت bits
التي نلقمها بعد التقريب لأن ذاكرة الكمبيوتر
محدودة فيزيائياً. وبالتالي فليس بإمكاننا
معالجة الأعداد الحقيقية تفصيلاً. وهكذا لا
يمكن تعويض البيت التي فُقِدت، لكنها تشارك
مع ذلك في حساب المسارات في الفوضى المحددة
بقدر مساهمة الأعداد المبرمجة نفسها.
وبالنتيجة، ستكون النتائج التي نحصل عليها
خاطئة وليست تقريبية. ومن هنا تعذُّر التقدير
على المدى البعيد. لكن هذا النقد الرياضي بحت،
وهو لا يمس الفوضى المحددة الفيزيائية. النظام
أم الفوضى أم النظام و الفوضى؟
سأحاول أن أعالج فيما يلي
الفكرة الجوهرية التي طالما أرَّقت الفلاسفة
حول إمكانية نشوء النظام من الفوضى، والأثر
الذي تركه العلم حول هذه النقطة في الفلسفة
الحديثة. ويمكن التعبير عن هذه الفكرة بشكل
عام جداً بالشكل: "إن الأقل يمكن أن يولِّد
الأكثر." والأخذ بهذا المبدأ، الذي سندعوه (ب)
فيما يلي، يطرح مشكلة إبستمولوجية دقيقة
وشائكة. ومع ذلك لنحدد منذ البداية أن الصعوية
لا تنشأ إلا في حالة النشوء الآني للنظام. وقد
اعتمدت الفلسفة الغربية حتى فترة قريبة
نسبياً مبدأ مخالفاً لـ (ب)، سندعوه (أ). ووفق
هذا المبدأ: "لا يمكن للأقل أن يعطي الأكثر."
وكان هذا المبدأ يبدو مطلقاً، وبخاصة من حيث
يمكن عدُّه موازياً لمبدأ السببية. يعبر إتيين جِلسون E. Gilson
عن
المبدأ (أ) بالشكل: "كل ما يملك بدرجة معينة
كمالاً ما، فإنما يحمله من مشاركته بهذا
الكمال مأخوذاً بشكله المطلق" (أي كسبب
أولي). ويستخدم ديكارت بشكل أوضح هذا المبدأ
بقوله في تأملاته Méditations:
"إن العدم لا يمكن أن يعطي شيئاً، بل إن ما
هو أكمل، أي ما يتضمن في ذاته حقيقة أكثر، لا
يمكن أن يكون ناتجاً أو متعلقاً بما هو أقل
كمالاً...". وعندما ينقد كانط الحجة
الأنطولوجية (أي المختصة ببرهان وجود الكائن)،
فإن نقده موجَّه أساساً للروابط بين الضرورة
المنطقية والوجود الحقيقي، لكنه لا يمس هذا
المبدأ أبداً. أما هيغل الذي يقبل بصلابة
البرهان الأنطولوجي ontologique،
فإنه يطور (في دروس في فلسفة التاريخ)
موضوعاً يرتكز على المبدأ (ب). فنراه يدافع عن
فكرة أن الأفعال الإنسانية تنشأ عن الفوضى،
وأن البشر يتصرفون وفق أهوائهم ورغباتهم، وأن
ذلك كله يقود مع ذلك إلى تقدم الفكر والمنطق
مع الزمن. وبعد هيغل نجد عند سبنسر Spencer
برهاناً مطولاً حول "لاثبات المتجانس"
يقلد فيه أفكاراً موافقة للمبدأ (ب). ويعبِّر
باشلار Bachelard
عن فكرة ضرورة التمايز، أي اختفاء التجانس
بين العناصر المتفاعلة بقوله: "إنه من
الأفضل لكي تشكل العناصر نظاماً ما أن يتوفر
داخل كل نظام تنوع رياضي أساسي بين المركبات."
ولاشك أننا نستطيع أن نرى في هذا التنوع
الرياضي تفسيراً مقبولاً للفوضى، ضمن منظور
نشوء الكون من الفوضى. ويؤكد بيير داكو (في
مؤلفه علم النفس الجديد وطرقه المدهشة)
على المبدأ الثاني (ب) من خلال تناوله لمفهوم
الإنتروبيا. فهو يرى أن الفناء ليس إلا
تحولاً، الأمر الذي يُعَدُّ قانوناً طبيعياً.
ثم نراه يتساءل إذا لم يكن هناك وجه آخر
للإنتروبيا، ألا وهو ازدياد معارف الإنسان
ووعيه مع أن بدنه يبدأ بالهرم منذ ولادته. ومع
وجود قانون الموت، لكن الحياة لا تنقص برأيه،
وهو يستشهد ببرغسون الذي يقول: "لا يبدو
أبداً موت الأفراد تناقصاً في الحياة بشكل
عام. والحياة لم تجهد أبداً لإطالة وجود فرد
من الأفراد." وهكذا يتعلق هذا الثبات وهذه
الديمومة برأي بيير داكو بمبدأ وحيد تكون
المادة عبئاً عليه. وهكذا سيعود الوعي إلى
مصدره الأول بعد التخلص منها. إن الأمثلة المذكورة آنفاً
تبين احتدام المواجهة بين أنصار المبدأين (أ)
و(ب). والحق أنه منذ عصور قديمة جداً كان ثمة
تقليد يمكن ربطه بطريقة ما بالمبدأ (ب)، لكن
هذا التقليد ظل خارج الأطُر المتعارف عليها
والمقبولة. والخيمياء أحد الأمثلة على ذلك.
فمن البوتقة (الفوضى) يخرج الذهب (النظام).
ومرحلة السواد (الفوضى) تسبق مرحلة الحَمار (الذهب)
والبياض (النظام). وصعوبة قبولنا بالمبدأ
الثاني (ب) ناجمة عن كون المبدأ الأول (أ)
سائداً في حياتنا اليومية (كالتحلل اليومي)،
حتى ليبدو لنا طبيعياً. أما ملاحظة ظهور
النظام في الطبيعة فهي أقل عموماً، باستثناء
الظاهرات البيولوجية والنباتية التي ليست
ظهورات آنية للنظام في النهاية. فالنباتات
والحيوانات تولد وتنمو مشكِّلة أنظمة مفتوحة
تتبادل المادة والطاقة مع محيطها، وهي بعيدة
عن الاستقرار. أما الفيزياء فتقدم لنا بعيداً
عن التوازن الترموديناميكي مقولة هامة،
مفادها أن الفوضى القصوى ليست القاعدة،
ولاشيء يمنع من نشوء نظام زمني أو مكاني. ومن
أشهر الأمثلة على التشكل الآني للبنى
المنتظمة تجربة الفيزيائي الفرنسي بينارد Bénard.
فقد اكتشف أن بنية على شكل خلايا نحل تتشكل
فجأة، كما ولو بقفزة، وذلك عندما نسخن سائلاً
ما إلى حدّ معين. ويمكن لهذه التجربة وتجارب
أخرى أن تؤكد لنا أنه في نظام مفتوح يمكن
تشكُّل بنى أو حالات منتظمة، وأن هذه الحالات
تتشكل من خلال تنظيم ذاتي حقيقي. إلا أنه لا
يمكن ملاحظة هذه الظاهرات الآنية بحق إلا في
المختبرات. ومن الأمثلة عليها خلايا بينارد
التي ذكرناها، وحلقات ليسفانغ Leisevang،
والتجارب المسماة بقبيل الحيوية prébiotiques،
وتفاعلات جابوتنسكي Zhabotinsky،
وغيرها. والعلماء الذين يجرون هذه التجارب هم
الأكثر تعلقاً بإمكانية أن يكون المبدأ (ب)
مبدأ طبيعياً. لكنهم ما إن يتركوا مجال
الملاحظة التجريبية لمحاولة تقديم تفسير
نظري حتى يظهر عجزهم، وذلك لسببين: الأول هو
تعقيد المسائل المطروحة، حتى عندما تبسَّط
إلى أقصى حد فيزيائياً؛ ثم هناك التناقض
الظاهري بين ما يُرصَد والقانون الثاني في
الترموديناميكا، أي علاقة الإنتروبيا
والفوضى. إن المسألة الحقيقية
المطروحة في الواقت الراهن هي تحديد مضمون
المبدأين (أ) و (ب) المتعارضين، والعاملين معاً
في الطبيعة، لمعرفة فيما إذا كانا يمثلان
سيرورتين متعارضتين أم يوافقان بالأحرى
اختلافاً ناشئاً عن طريقة الرصد ووجهات نظر
المراقبين. فإلى أين وصلت تأملات وأبحاث
العلماء في هذا الاتجاه؟ لقد أدى اهتمام الباحثين
بمسألة ولادة النظام من الفوضى إلى انتشارها
في مختلف العلوم، وكان من نتائجها ملاحظة
المبدأ الثاني في ظواهر مختلفة. ففي الفيزياء
والفيزياء الكيميائية والبيولوجيا، هناك
أمثلة عديدة على النشوء والتكون حيث يكون
النظام مرصوداً فيها بشكل مباشر. بل إن
العلماء يحاولون أن يبيِّنوا التشابهات من
خلالها بين ما يتأتى عن العالم غير الحي وما
ينجم عن العالم الحي. وفي البيولوجيا
تقريباً، إنما في العالم الأعمق الفيزيائي
الحيوي الذي لا يمكن مراقبته بنفس سهولة
العالم السابق، قدمت الأعمال حول التكون
الحيوي (أوبارين Oparin
1965 وتوماس Thomas
1967) ما يمكن أن يذكي الفكر حين بينت
مثلاً أن تفريغات كهربائية (وهي فعل فوضوي) في
غاز بسيط جداً (هو نظام بسيط) يمكن أن تؤدي إلى
إنتاج حموض نووية ونيوكليوتيدات (وهي نظام
أكثر تعقيداً). وكانت معظم الدراسات
والأبحاث التي ذكرناها ضمن محاولات لتقديم
تفسير نظري لها، إن بمساعدة نماذج خاصة، أو
اعتباراً من منظورات أكثر عمومية استمدت
أسسها من الديناميكا النوعية ومن نظرية
المعلومات ومن ترموديناميك السيرورات
اللاعكوسة (أتلان Atlan
1972-1974،
وينفري Winfree1974،
يريغوجين Prigogine1977،
نيكوليسNicolis
وبريغوجين
1977...). وعلى الرغم من كافة هذه الدراسات
والنقاشات النظرية، لا يمكننا القول إن
المسألة الإبستمولوجية قد حُلَّت، وذلك
أساساً لأن المفاهيم المستعملة، وبخاصة
مفهوم النظام، لا تزال حتى الآن غير محددة
بدقة. لقد شهدت هذه الأبحاث خلال
العقد الأخير تقدماً ملموساً وبخاصة بفضل
أعمال تونُّلا Tonnelat
1978 التي تحققت في إطار لغة
الترموديناميكا. فقد بيَّن أن الربط بين
الإنتروبيا والفوضى، الذي أخذ به كحقيقة
مثبتة منذ كلاوزيوس Clausius
وبولتزمان، ليس ربطاً ضرورياً. ويفصل تونُّلا
نشوء النظام عن تناقضه الظاهري مع المبدأ
الثاني في الترموديناميكا الأمر الذي يُعدُّ
خطوة حاسمة نحو رؤية أكثر واقعية للمسألة.
ويؤكد تونُّلا أيضاً أنه من الضروري تحديد
على أي مستوى (ميكروسكوبي، أي إدراكي تصويري،
أو ماكروسكوبي أي رصد وتجربة) تتوافق الصفات
التي نقدر درجة فوضاها أو نظامها، ومعرفة
حقيقة هذه الصفات (هل هي تَمَْضُعات مكانية أم
سويَّات طاقية). كذلك نجد في أعماله ملاحظات
هامة وضرورية على التماثل الشكلي البحت بين
الإنتروبيا والمعلومة، الأمر الذي يستحق
تعميقاً كبيراً من الباحثين. نرى إذن بشكل حاسم أن مسألة
نشوء النظام لا تزال حتى الآن غامضة، وذلك
بشكل أساسي بسبب غموض مفاهيمنا. ويبدو مع ذلك
أن بعض طرق الفهم بدأت تتمايز. وبعد أبحاث
تونُّلا، هناك عدة نقاط تستحق أن نقف عندها: ·
أولاً: هناك إجماع يمكن أن
يتحقق حول أن النظام يفرض ظهور "تمايزات"
(وضعيات مميزة لبعض العناصر على الأقل في
الفضاء الموصوف)، وبالتالي إلى ظهور حركات
قسرية غير متجانسة قادرة على حفظ هذه
التمايزات (أو الشذوذات). ومن المهم أن نقرن
هذه النظرة بأفكار سبنسر حول "تضاعف النتائج"، وأيضاً بأفكار
بريغوجين وفورستر Foerster
حول دور التموُّجات والضجيج. ·
ثانياً: أحب أن أشير أيضاً
إلى الربط الذي غالباً ما يُطرَح بين النظام
والتعقيد، الأمر الذي ليس إلا مصدراً جديداً
للتشويش. وبحسب التعاريف المعطاة لهذين
المفهومين نجدهما أحياناً يتوافقان وأخرى
يتعارضان. وفي هذا الإطار أشير مثلاً إلى
أفكار تيار دو شاردان حول نشوء الفكر التي
ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التعقيد، لكن
ليس كنظام بالمفهوم الشائع للكلمة، بل
كتركيزات على مستويات مختلفة تتمركز حول نقطة
واحدة أو في جوارها، مما يؤدي إلى انبثاق
كثافة طاقية ناتجة في الأساس عن خيار وحيد
بحسب تعبير بريغوجين كما سنجد لاحقاً. ·
ثالثاً: يمكننا الإشارة إلى
أنه، قبل أي مقابلة أو معارضة بين المفاهيم
المفروضة، يجب أن نحدد بدقة بأية مواصفات
وعلى أي مستويات من الوصف تتعلق بالنسبة
للنظام المعتبر. ·
رابعاً وأخيراً: إن فهم
السيرورات المسببة لتزايد أو تناقص النظام
يتطلب تمييزاً واضحاً بين التي تنتج عن
التفاعلات بين الأنظمة، وتلك التي تنتج عن
التفاعل بين نظام ووسط موصوف بمعاملات عامة،
وعن تلك التي تنتج عن تطور آني. ومن وجهة نظر
إبستمولوجية، لا تكون الحالتان الأولى
والثانية دقيقتين كالثالثة. ومن هنا أهمية
التمييز بينها. والحق أن الخلط بين هذه
الحالات ليس نادراً أبداً، مما يعقِّد بشكل
خاص توضيح وفهم المفاهيم. فمثلاً سنخطئ إذا
فهمنا المثال الذي أوردناه لهيغل أنه يصور
تطوراً آنياً. والحق أن معاملات النظام التي
تظهر على مستوى الجماعة الاجتماعية ترتبط،
حتى ولو برابطة غير مباشرة، بمقصد كل فرد، أي
بصيرورات تقع على مستوى آخر من الوصف حيث
تتفاعل أنظمة مختلفة فيما بينها. إن انعكاس المبدأ الثاني (ب)
يبدو واضحاً على أعمال مدرسة بروكسل (بريغوجين
وزملائه). إن الحياة تتصف بالنظام: فالتحول
الغذائي في الخلايا يتطلب توافق آلاف ردود
الفعل الكيميائية، وهذا ما يدعى بالنظام
التوفيقي. كذلك فإن الشيفرة الوراثية تحدد
ترتيباً للجزيئات يسمح مثلاً بتخصص
الإنزيمات: ذلكم ما يدعى بالنظام البنائي أو
المعماري. غير أنه يبدو أن ثمة لاتوافق بين
المبدأ الثاني في الترموديناميكا وظهور
الحياة المنتظمة. لكن الباحثين في مدرسة
بروكسل، وعلى رأسهم بريغوجين، قلبوا الآية.
فهو يرى أن التشكيلات البيولوجية حالات معينة
من اللاتوازن. وتتطلب هدراً مستمراً للطاقة
وللمادة. ومن هنا جاء اسمها بالبنى المبدِّدة.
ويكتب بريغوجين: "لقد ظهرت الحياة من خلال
تتابع حالات غير مستقرة. وبالتالي فإن
الضرورة، أي التشكيل الفيزيائي الكيميائي
للنظام والضغوط التي يفرضها عليه الوسط، هي
التي تحدد عتبة اللااستقرارية للبنية. أما
المصادفة فهي التي تقرر أي تموج (أو تغير)
سيتسع بعد أن تكون البنية قد بلغت هذه العتبة
ونحو أي تشكيل، ونحو أي نمط وظيفي ستتجه من
بين كافة الأنماط والتشكيلات التي تجعلها
ضغوط الوسط ممكنة." وهكذا، نرى أنه بالنسبة
لإيليا بريغوجين يكون دور المصادفة أو
العشوائية دوراً محدوداً. فهو يُقلَّص إلى
خيار واحد من بين إمكانيات كثيرة مختلفة، في
حين يكون هذا الخيار بالنسبة لجاك مونود J.
Monod
عشوائياً تماماً. ولاشك أن النظرية النوعية
للبنى لا تزال في بدايتها. وينتظر العلماء
تطورات هامة بصددها في المستقبل القريب. ومن
المهم أن نلاحظ منذ الآن أن الحياة تشتمل على
بنى منتظمة (من نمط البنى التي يمثلها الإيقاع
القلبي) وعلى بنى فوضوية (من نمط الصيرورات
العصبية التي يشكل الدماغ مركزها). ولكن في
هذه الحالة الأخيرة، نرى بوضوح أن
الفراكتالات متضمنة في الدماغ، أي أن
النهايات العصبية وتفرعاتها تخضع في النهاية
لنظام عام، وإن كان يصعب تحديده في نسق أو في
معادلة محددة. ويبدو أنه من المنطقي، أمام
عمومية هذه السيرورات، الاعتقاد بأن هذه
الأنظمة تمثل دينامية مرتبطة بجواذب غريبة
أمكنها أن تلعب كذلك دوراً في ولادة الظاهرات
الحية. فنحن نعلم أن بنية نديفة الثلج تحفظ
أثر بعض صفات الشروط التي جرت وفقها سيرورات
تحولها إلى جسم صلب. كذلك فإن مراقبة بعض
المكثِّفات العضوية biopolymères
يمكن أن تكشف عن بعض الشروط في اللااستقرار
التي سبقت السيرورات التي سمحت بتشكُّلها.
وهذا هو البرنامج الذي عمل عليه فريق بروكسل
طويلاً. إن فهمنا لنص القانون
الثاني في الترموديناميكا يتبلور شيئاً
فشيئاً. ففي الأنظمة المعزولة كان هذا المبدأ
مرتبطاً بفكرة التحلل. وبالنسبة للأنظمة
الحية، فإن هذا المبدأ يقدم، على العكس،
إمكانية سيرورة تشكُّل ذاتي. ترى ما هي انعكاسات هذا
المبدأ كونياً؟ ذلكم هو السؤال الصعب. فنحن
عندما ننظر للكون كله كبنية واحدة، علينا أن
نأخذ بعين الاعتبار الإنتروبيا والثقالة على
حدٍّ سواء. غير أن الصلة بين الترموديناميكا
والثقالة لا تزال مجهولة، على الرغم من بعض
النجاح الجزئي لبعض النظريات في إطار نظرية
الثقوب السوداء. والسؤال المطروح الآن هل أن
الكون، مأخوذاً بكلِّيته، خاضع لتطور دوري،
أم أنه سينتهي إلى تحلل لاعكوس؟ وهل يجب علينا
أن نختار بين الكون الدوري والكون الإنتروبي؟ خاتمة
وبعد... لعل الفوضى الكونية
هي مفتاح جديد للمعرفة. أما كيف يمكن أن يكون
ذلك، فمن خلال كونها الوجه المقابل للنظام.
فعلينا ألا ننسى أبداً أن النظام مفهوم نسبي،
كما أن الفوضى هي مفهوم نسبي أيضاً. فكلاهما
يُبرِز وجهاً من وجهي الحقيقة الواحدة. وقد
يكون اعترافنا بالوجه المقابل للنظام، أي
الفوضى، إقراراً منا في النهاية بأن علمنا
الحديث لم يستطع استيعاب الحقيقة كلها.
فالحقيقة أوسع من أي منهج أو علم أو نظرية كما
يبدو لنا. والمعرفة الحقَّة هي التي تستطيع
سبر الحقيقة في الفوضى والنظام معاً. فنحن لا
نستطيع، كما رأينا، تعريف النظام دون الفوضى،
أو الفوضى دون النظام. كذا فإن المسألة
الحقيقية التي تستحق أن نقف عندها مطولاً
ليست "النظام أم الفوضى"، بل مقدرتنا
المعرفية نفسها وطريقة تطويرها وتوجيهها. في الحضارات القديمة. نجد
إصراراً على تعميم النظام في الكون، بعد أن
سادته الفوضى البدئية. لكننا نفهم من أساطير
الشعوب القديمة أن هذه الفوضى البدئية نفسها
كانت تمثل الإمكانيات الكامنة والقادرة على
إنجاب النظام. فتعامة كانت تظهر أحياناً
بصورة الشر، وأحياناً بصورة الخير. ومن جسمها
تشكل العالم المنظم. ولم تكن هذه الكمونات في
الحقيقة سوى أولى تجلِّيات المطلق. فالتعبير
الدقيق للفوضى بالمصطلح القديم هو العماء،
ويمكننا تفسيره بأنه الهيولى الأولية التي
انبثق منها الكون، الكون بما فيه من نظام
وفوضى. ترجع كلمة عماء في الميثولوجيا
اليونانية إلى خاوس Chaos،
وهو الوجود الذي سبق الخلق، وكان كاملاً
بقدرته الكامنة، ثم لعب دور رحم العالم. إن بوذية زِنْ Zen
تعطينا تصوراً أدق لهذه النقطة. فالحقيقة
نفسها تكمن خارج نطاق الزمن، في حين أننا نريد
أن نراها في الصيرورة الزمنية. إن البدء بحسب
الزِنْ، أو العقل المطلق، أو الحقيقة
المطلقة، حاضر أبداً. فالزمان الماضي هو
الآن، والزمان المستقبل هو الآن، وبالتالي
فإن حقيقة الفوضى والنظام على حد سواء هي وهم،
لأن النظام والفوضى هما من نتاج الزمن.
فالصيرورات الزمنية هي التي تطرح مسألة
اللاتعيُّن على المدى البعيد للظاهرات التي
تبدو منتظمة على المدى القريب. والصيرورات
الزمنية هي أيضاً التي تجعلنا نميز بين
التوازن واللااستقرار. وباختصار، فهي التجلي
الكوني كله، وبحسب المصطلح الهندوسي فهي مايا
maya،
أي وهم. فليس من حقيقة إلا الحاضر الأزلي، "الآن
الدائم"، بالتعبير الصوفي. والحاضر الأزلي
لا يمكن معرفته بنظام أو بفوضى، بمنهج أو بلا
منهج. فهل أن هذا التحول في المسار العلمي
ينطوي على تحول داخلي في نظرتنا المعرفية؟
وهل سيؤدي هذا الصراع القديم في الفكر البشري
بين الفوضى والنظام إلى تجاوز هذه الثنائية
إلى المعرفة المباشرة والحدسية، والمطلقة،
التي يصفها كريشنامورتي بقوله: "إما أن
نعرف كل شيء، الآن، هنا... أو لا نعرف شيئاً"؟! ***
*** *** المراجعLa Recherche (Numéro spécial),
« La science du désordre », N° 332, mai 1991. H. Haken & A. Wunderlin, « Le chaos déterministe »,
La Recherche, N°
225, 1990, p. 1248. M. Dubois, P. Atten & P. Bergé, « L’ordre
chaotique », La Recherche, N° 185, février1990. Encycl.
Universalis, « Enjeux »,
1985 : -
J. Lambert & J.
Villain, « Ordre et désordre en physique », p. 331. -
Y. Bouligand, « Ordre
et désordre en biologie », p. 342. -
B. Mandelbort, « Les
fractales », p. 319. -
I. Prigogine & I.
Stengers, « Hasard et nécessité », p. 324. -
« La théorie des
systèmes : quelques questions philosophiques », p. 456. “Is the Solar System in Chaos?”, Astronomy, May 1990. *
يعرَّف الفراكتال رياضياً بالشكل: إذا كان
لدينا مجموعة ما S
في فراغ RE،
فإنها تدعى فراكتالاً إذا كان بعد هوشدورف
سيكوفيتش لها أكبر تماماً من بعدها
الطوبولوجي. |
|
|