|
سَراحُ
القتيل
لغة
التواصل مع الغياب
زهيدة
درويش جبور
جميل
أن يتصالح الشعراء مع الله، وأن تفتح القصيدة
أبوابَها من جديد لتستقبل السماء في زمن
ممعِن في ماديَّته، أصمَّ الإنسانُ فيه أذنيه
عن نداءات الغيب المتسربل بالخفاء، متلذذاً
بانتصاراته وهو يقتحم بجبروت العلم ألغاز
الكون، أرضاً وسماء، وكواكب وأفلاكاً،
وينتهك الحرمات. في
ديوان عقل العويط الجديد سراح القتيل
تهبُّ نسائم الروح حاملة الطيوب تهبط من سماء
دانية لتحل في القصيدة حضوراً يشطح بنا إلى
الأبعد والأبهى، الأجمل والأكمل، فنعيد
النظر في الحياة والموت، في الله والإنسان،
ونقرأ في كتاب الوجود لغة جديدة. يتألف
الديوان من فصلين، يحتوي الأول على العدد
الأكبر من القصائد (16) ويقع تحت عنوان تلفُّه
الشبهة ويكتنفه الغموض: "وأتى الملاكان
تفاحة وأيقونة"، يعود ليظهر من جديد في
الديوان كعنوان لإحدى القصائد، وكأن الشاعر
يريد أن يستعمل الجزء ليشير إلى الكل،
مكثِّفاً حضور المتعدِّد في بساطة الواحد،
موحياً تقنية بناء عمله الفني التي تعتمد على
أسلوب فن الرقش العربي (الأرابيسك)، حيث يفعل
الجزء في الكل وينفعل به وفق حركة جدلية. ويختلف
الفصل الثاني عن الفصل الأول بمساحته – فهو
يضم سبع قصائد فقط –، وبطبيعة التجربة التي
يشفُّ عنها والتي تتميز بطابع إيروسي يحرر
لغة الرغبة ويعيد للذة الاعتبار، بينما يسيطر
في الفصل الأول مناخ من التوتر والقلق الصادر
عن الأسئلة الكبرى التي يطرحها الشاعر على
القصيدة نفسها، وعلى الحياة والموت والله.
لكن خيطاً متيناً يقيم الصلة بين ما يبدو في
الظاهر مختلفاً، تكشف عنه القصيدة الختامية،
حيث يعود صوت الألم ليرتفع من جديد، بدءاً من
العنوان "هل يجب أن أبكي قليلاً؟"، في
إشارة إلى انتصار نزعة الموت على نزعة الحياة، فيبقى الانسجام ويتأكد التكامل بين
القصيدة الافتتاحية: "الحياة من جهة الموت"
والقصيدة الختامية. والقصائد
جميعاً قصائد طويلة، ما خلا قصيدة نثر واحدة
تتمتع بكثير من الفرادة، حيث يعتمد الشاعر
على مدى الصفحات الأربع التي يتألف منها النص
مبدأ تكرار الصيغة التعبيرية الواحدة – صيغة
النفي – ومبدأ التعداد، ليصف طبيعة الحضور
الشعري في العالم من طريق التعريف بما ليست
عليه. فينتج من اعتماد هذه التقنية انطباع
بحركة جارفة تجتاح النص لتوحي بتدفق مياه
النهر. وقد اختاره العويط رمزاً للشاعر
المتجدد وعنواناً لقصيدته. من
جهة أخرى، ترسم قصائد الديوان، في مجملها،
مشاهد مسرحية مكتملة الشروط من حيث تحديد
الإطار المكاني والزماني وتنوع الشخصيات
التي تحرك القصيدة–المشهد، التي ينتج من
علاقتها بالذات المبدعة التوتر الدرامي (المسيح،
الذات، الحبيبة، الأخت التي سرقها الموت،
المهرج – وهو انعكاس لصورة "الأنا" –
الملائكة المتأنسنين، شعراء وفلاسفة). وليس
من باب الاعتباط أن تقع إحدى أجمل قصائد
الديوان المنسوجة حول شخصية السيد المسيح،
والحاملة اسمه عنواناً لها، في وسطه. فالمسيح
هو نقطة مركزية في التجربة التي تكشف عن أزمة
وجودية يعيشها الشاعر، وقد حاصرتْه تفاهةُ
اليومي، وتملَّكه ضجرُ الأشياء، وآلمَهُ
الزيفُ والنفاق المتحكِّم في العلاقات
الإنسانية، ومَلَّ من لعبة الوجه والقناع.
بنظره الثاقب ووعيه العميق يكتشف خواء العصر
تحت قشرة إنجازات المدنية الحديثة، فيرفض
الانخراط فيه: "لا فائدة البتة من البحث عما
يرفع عنا / صعوبة الحاضر / فنحن لن نتمدن ولن
يأخذنا العصر إليه / كنت أقول فقط إننا كهنة
وأنبياء" (ص 89). تتشكل
القصائد، بمعظمها، على خلفية من المرارة
والإحساس بالفراغ، يولِّدهما الموت المتفوق
دائماً، الكاشف عن الضعف كجوهر في الإنسان.
الموت أحد مصادر التجربة الأساسية في الديوان;
فهو حضور داخلي، ساكن في النفس، مرافق للجسد
كظلِّه، يقيم في ثنايا الحياة على غفلة منها.
يحاوره الشاعر كالنديم تارةً، ويتحداه
كالخصم طوراً، وهو مدرك سلفاً لهزيمته. كيف لا
وقد قهره الموت في الحياة مرتين: مرة حين تسرب
إلى أيامه متقنِّعاً بمشاعر الضجر "والفشل
في بناء سعادة النهار" (ص 17)، وحكم عليه
بالعزلة والوحشة، وأقامه في سجن غرفة "زوارها
لا أحد / وهم أصدقاء وحياة" (ص 33)، ومرة أخرى
– وهي الأقسى – حين صوَّب سهمه في حذاقة إلى
القلب وأطلق من قوسه نبلة أصابت نجمة هوت،
فدخلت بموتها العائلةُ في دياجير الحزن وفي
صمت الأسى. مذ ذاك انتفت المسافة الفاصلة بين
الحياة والموت. ولم يعد الموت ذلك البعيد
الغريب المجهول، ولا ذلك الإحساس الذي يعرفه
الآخرون فقط، بل حقيقة حميميَّة انتشلت الذات
من غفلتها وفتحت عينيها المغمضتين على مأساة
الوجود: "من تراه يعرف أكثر منا ألفة ذلك
الموت" (ص 80). عندما تطول يد الموت من نحب
يصبح الموت، بمعنى ما، موتنا نحن؛ نختبره وهو
يتسلل في الجسد برداً وجفافاً، وفي النفس
تمزقاً ولوعة وإحساساً بالعجز والضعف
وانعدام الحيلة. الموت هو الانكسار الأكبر،
ولكنه قد يصبح الانتصار الأكبر عندما يفتح
أمام الذات أفق التجاوز إلى ما ورائه، ويوقظ
حدسها بالحضور إلى ما بعد الغياب. وهذا ما
نجد دلائله ومؤشراته في ما تخفيه الكلمات وما
توحيه القصائد في الديوان الذي تتحكم في
بنيته جدليَّة الموت–الحياة، الحضور–الغياب.
مما يجعل الشاعر ينتمي بتجربته إلى قافلة من
الشعراء الذين صعقهم الموت، فانتهوا إلى
تدجينه واحتوائه، ومنهم فكتور هوغو
ولامارتين ومالارميه وناديا تويني. اختار
عقل العويط الكتابة لغة تواصل مع الغياب،
وفعل حب يسافر به إلى الضفة الأخرى ليختبر "الحياة
من جهة الموت"، كما يحلو له القول في عنوان
قصيدة. غير أن السفر في هذه الحالة حركة ليس في
اتجاه الخارج، بل نحو الداخل، لأن الغائبة
تولد فيه من جديد حقيقةً تجرَّدتْ من ثوب
الحياة وتخلَّصتْ من قناع الزوال، لتتلألأ
حضوراً روحياً لا يزيده الغياب إلا جمالاً:
"كان عليَّ أن أذهب لأرى الحياة من جهة
الموت / أعني من جهة الحب / كنت أوحش من فلاة
فذهبت ورأيت" (ص 9). لكن الهجرة إلى الطرف
الآخر مغامرة تبعث الرهبة وتتطلب جرأة الدخول
في المجهول ومعاقرة الأسرار. ولا يتردد
الشاعر فيخوض غمارها لأن فيها سراحه. هو
القتيل عندما يأسره اليومي وتقيم الحياة من
حوله قضبان حركتها: "لكن ما أرعب أني حيث
تقيمين / ما أصعب أني في الحياة كنت القتيل"
(ص 10). وما "سراح القتيل" إلا الكتابة
لأنها طريق نحو الداخل، وحوار مع الغياب: "من
تراه أعمق منا يصادق خواء يشبه الكفر / يجعل
الغياب توأماً بالتبنِّي" (ص 80). تستحضر
الكلمات الغياب ويرسمه الحبر ملامح وجه وضوء
ابتسامة، وجمالاً يبتدع في كل مرة تنتصر فيها
الريشة على بياض الصفحات: "أضع يميني على
الصفحات لأكتبك / بزواج الألفة والرهبة / ولكن
ليس بالاعتياد" (ص 11)؛ "تطلِّين/ ضحكتك
قداس الأحد / تنسلِّين من سحب الأفكار / قوس
قزح أو قصيدة في جملة / تزرعين غاية رقادك
بحنطة السنوات" (ص 76). في استحضار الغياب
تبلغ التجربة منتهى الصدق، تهزُّنا وتخطفنا
وتدعونا إلى شراكة حميميَّة مع الشاعر. كيف لا
وهو ينطق بلغة تأخذ من الحقيقة بساطتها، ومن
الإيمان بالإنسان الذي خلقه الله على صورته
ومثاله رونقها. يسهل علينا أن نتمرأى في هذه
اللغة وأن نتقاسمها مع الشاعر، أو أن نتماهى
معه حين يقول، مثلاً، وهو يبحث عن بلسم لجرح
الغياب: "كان علينا أن نردم الهوة بأفكار
لذيذة / أن نصنع
سقفنا المشترك / ونعرف كم أنك قريبة المتناول"
(ص 85). هكذا تكبر العائلة التي ينتمي إليها
ويتكلم باسمها، تضم كل الذين سرق منهم الموت
حباً، والذين يحاولون إيجاد العزاء بالثقة
بأن الموت ليس إلا سَفَراً، وأن الذين يموتون
إنما يولدون في حضور غائب، يسهرون عليهم في
سمائهم القريبة البعيدة، يطلُّون منها حيناً
من خلال غيمة، وحيناً في ديمة تنهمر، ويرسلون
إليهم إشارات ترفع الغم عندما يتم الاتصال:
"على عادتك كل صباح ما زلت تطلِّين / في يديك
الحديقة وفي العينين الفستان / الربيع [...]
فنعرف أن الانتقال لم يشغلك ولا كتاب / الصمت /
وأن الشتاء الذي بات مدجَّناً على السواحل /
لم يَحُلْ دون بريدك الآتي من ثلج الأعالي"
(ص 80)؛ "كان علينا أن نعرف [...] / أن الأجمل من
الحزن عيشك الخالص / من كل عيب هناك" (ص 86). لا
غرو أن تتحول الغائبة إلى أيقونة أو ملاك، وأن
تتحد صورتها بصورة العذراء مريم لأنها في
الحياة كانت مصدر الفرح، ولأنها بالموت تحررت
من شوائب الوجود الإنساني، فـ"لا يعكر صفو[ها]
ضجيج الشر ولا تؤلمـ[ـها] شمس النهار" (ص 86). غير
أن العزاء لا يُبَلْسِم الجرح، ولا يوقف
النزف، ولا يخفِّف وطأة الإحساس بالموت، لأن
الوصل سراب واللقاء توهم (ص 77-78). لذلك يسيطر
شبح الموت على بعض القصائد؛ بل يصبح الموت
حضوراً حياً، وكأن الشاعر يحاول بذلك أن
يطرده من داخله، فيُخْرِجه إلى القصيدة، حيث
يدخل في سجال معه ويُنْطِقُه. يذكِّرنا ببعض
روايات الكاتب الأميركي الفرنسي اللغة
جوليان غرين، الزاخرة بالشخصيات التي تجسد
الموت والتي تساهم في إقامة الحبكة الروائية;
مما يدعو إلى التأكيد على وحدة التجربة
الإنسانية في مواجهة قضايا الوجود الكبرى.
بين قصيدة "نبذة" التي يخاطب الشاعر فيها
الموت مقدِّماً له أوراق اعتماده، وقصيدة "جارتنا
الحياة" حيث يكشف الموت لنا وللناس جميعاً
عن حقيقته بلغته، حوارٌ حقيقي. ففي الأولى
يسعى المتكلم الذي يدرك أن سرَّ كره الإنسان
للموت هو عدم معرفته لجوهره وخوفه من مجهوله،
إلى أن يقوم بخطوة باتجاهه، فيقدم له نفسه
بانتظار أن يبادله الموت بعد ذلك بالمثل: "هاك
نبذة عني أيها الموت / فقد ترفع الكلفة بيننا /
ومن يعرف / قد أدعوك لتكون ضيفاً لوجودي" (ص
14). فيرسم صورة ذاتية تكشف عن ازدواجية "الأنا"
التي تارة تقبع في سجن اليومي وتفاهته،
وطوراً تهاجر في متاهات الشعر وتقرأ في سفر
القصيدة; حيناً يأسرها النهار، فيتملَّكها
الشعور بالخيبة والهزيمة والضياع وتقع في
هاوية الفراغ والوحشة، وينتهشها الإحساس
بالندم والذنب؛ وحيناً آخر تحوِّل آلامها إلى
طريق للعبور إلى ليل المعنى، فتسمع في سكون
الصمت لغة، وتدخل في سر العتمة المضيئة. يقول
الشاعر كاشفاً عن خيمياء القصيدة: "بعض من
توتر القلب يؤثِّث النظرات بحكمة الضوء" (ص
17). وهو يذهب في محاولته تدجين الموت إلى أن
يعيش موته الآتي، فيتخيل جسده المستسلم
لرقاده في قبر لا تؤنس وحشته إلا رفقة واحدة:
جسم الموت المتمدد إلى جواره، ذلك الموت "الرابح
ولا منازلة" (ص 19). يقوده ذلك إلى أن يكتشف أن
خوفه من الموت إنما هو خوف من الفراغ الذي
سيخلِّفه الرحيل، ومن السفر قبل اكتمال
المعنى: "لا ليس الخوف أيها الموت / بل
ماذا يعني شأن حبي بعدي / [...] / إنها الغيرة فقط
/ شعوري بأن الأوراق البيضاء ستظل بيضاء / وبأن
العري سيزداد عرياً / وكذلك انتظار تلك المرأة
لي" (ص 20). فيجيبه الموت مبدِّداً مخاوفه:
"لست عدوَّكم/ [...] أجوب الحياة حيث تنبت
حنكة الظل" (ص 91). وكأني به يقول: أنا في
الحياة، أنا والحياة واحد، أنا وجهها الآخر،
هويَّتها الثانية. كيف لا وقد أصبح الموت هو
الحياة بعدما انتصر المسيح على الموت بالموت،
كما يعبر عقل العويط بلغة المجاز، حيث ينطق
الموت ليقول: "عندما رفعوني إلى الخشبة كي
أفتح العتم / لأوجاع الزيتون / [...] / صرت الحكمة
والجريمة ولسان الرواة وأعلنت موتي" (ص 92-93).
يقودنا
ذلك إلى التوقف عند المناخ الروحاني المهيمن
على العدد الأكبر من القصائد، حيث يمكن رصد
حقل لغوي وسيميائي على صلة وثيقة بلغة
الإنجيل وصوره وبالتراتيل الكنسية. فالشاعر
"كاهن" والقصيدة "قربان" (ص 31)،
والملائكة جمعاً، ترفُّ بأجنحتها وتعزف
ألحانها السرمدية (ص 30)؛ ومثنى، تقيم في جوهر
الإنسان جسداً وروحاً ("غلطة الملاكين"،
ص 52). والمسيح حضور يُشِعُّ من خلال الرمز: "نار
ورحمة / على رأس شجرة وعلى الماء" (ص 56).
ويستلهمه الشاعر ويخاطبه في قصيدة لعلها من
أرقِّ ما كتب من شعر العشق الصوفي، حيث العتاب
حب، والجفاء قناع للشوق، والكفر فعل إيمان;
حيث الله والإنسان واحد في الألم وفي اختبار
مأساة الوجود. يعيش الشاعر مأساة المسيح على
الخشبة، يختبر معه الوجع لأنه يحيا به وفيه،
ويقيمُه في داخله، لاغياً المسافة متحداً به،
منصهراً معه: "أتذكرني يوم لطموك وسخروا
منك؟ [...] / ويوم كنت أنادي من فرط ابتعادي فيك"
(ص 67). مسيح عقل العويط ساكن في الوجدان صورةً
محفورة في القلب منذ الطفولة، ورمزاً
للانتصار على الألم بالحب، ودليلاً يرشد في
المتاهة، وملاذاً عند هبوب العواصف. لذلك
يعاتبه الشاعر المريد على خذلانه له عندما
ناداه فلم يجب، واستغاثه فلاذ بالصمت: "أتذكر
يوم ناديتك ولم تسمع / ويوم رفعت يدي الغرقى
وكنتُ في يمٍّ / شديد؟ / أتذكر يوم أمسكتْ أختي
بثوبك فلم تخرج / منك قوة غريبة؟" (ص 71).
ينكفئ المخذول عن صديقه، يحاول أن يبتعد عنه،
لكنه لا يفلح لأنه يحمله في ثنايا الروح، فلا
يخاصمه إلا ليكون لقاؤه به أعمق وأصدق: "أريد
أن أنساك أيها السيد. أنا أمحو وجهك من مرآتي /
كي أرى ما يجب أن أراه"؛ "اتركني إذن لأني
لن أكونك أكثر / [...] / لكن قبل أن أغادر، قل لي
كيف أتخلًّص منك / وأردم وهجك فيَّ / قل لي كيف
أنا مجدِّفاً لا تزال معي" (ص 72). لا يهرب
الشاعر من المسيح إلا إليه، لأنه امتلك كيانه
ليشكل معنى وجوده وحقيقة نفسه؛ فهو إذا نظر
إلى نفسه رآه: "ابعد عني مرآة وجهي كي لا
أراك" (ص 74). يبقى المسيح له عنوان الرجاء
لأنه يفتح باب السماء حين يتم القدر: "أتذكرني
أيها الاحتمال النهائي / يوم ولدت ويوم تموت
ويوم تُبعَث حياً / كن صديقي ومضيفي ذات يوم"
(ص 75). في هذه الأبيات تكريس لما يمكن القارئ أن
يتلمَّسه بحدسه على مدى القصيدة، وهو تسليط
الضوء على المسيح الإنسان. ولعل الإشارة
الضمنية إلى الآية القرآنية الكريمة: "وسلامٌ
عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبْعَثُ حياً"
تأتي لتؤكد هذا الاحتمال. هذا
غيض من فيض... فالديوان غني بتجربة وجدانية
صادقة، إلى كونه يطرح مسائل عدة: ماهية الشعر،
هوية الشاعر ودوره، حضوره في العالم وعلاقته
بالقارئ، الحب والجنس، ازدواجية الذات،
الخطيئة، وغير ذلك مما لا يتسع المجال للحديث
عنه في هذه المقالة. غير أنه لا بد من وقفة –
ولو وجيزة – عند لغة الديوان التي تعتمد بشكل
أساسي على الصورة، وهي تتماهى بطبيعتها مع
المفهوم الذي حدده لها الشاعر الفرنسي بيار
ريفردي: الجمع بين المتناقضات، والحدس
بالعلاقات الخفية التي تربط بين المتباعدين،
فينتج من ذلك انتفاء للمسافة الفاصلة بين
الذات والموضوع، من جهة، وتحقيق للانسجام بين
مكوِّنات العالم، من جهة أخرى. كذلك تساهم
الصورة في خلق عالم الدهشة والغرابة الذي
يفتن القارئ ويأخذه بعيداً. وهذه بعض الأمثلة:
"كنت افضل أن أولد لا شجرة / بل ربما بصيصاً
في عتمة / أو صخرةً مُطِلَّة على نوم" (ص 44)؛
"لن استيقظ وحيداً على عادتي / لأشرب الأفق
مع أعشاب الجنينة" (ص 19)؛ "أترنَّح شجرة
تفاح" (ص 40). وقد تتكثَّف الصورة لتلمع
كالبرق أو لتخترق كالرمح نسيج الصمت الذي لا
يلبث أن يبتلع الكلام: "الغرفة كتاب الجسد"،
يقول الشاعر، مشيراً إلى عزلته؛ فلا شيء يقع
تحت ناظريه إلا جدران غرفته ولا شيء يشغله عن
أشيائها. ويمارس صاحب الديوان في براعة فن
المجاز لتكون لغته لغة إيحاء وتحرير للمعنى.
فهو، إذ يصف القصيدة كثمرة لمعاناة ودخول في
مخاض تجربة صعبة، يقول: "في قفير الجحيم
تصنعين عسلك / فاضفريه بنعمة أن يؤكل" (ص 11)،
فتتولد الصورة من انزياح المعنى الذي ينتج من
استبدال لفظة "الجحيم" بلفظة "النحل"،
وتتم النقلة من لغة التعبير المباشر إلى لغة
المجاز التي تشطح بالخيال، ليدخل في مناخ
التحوُّلات، حيث يصبح العسل–المعنى ضفيرة
تمتد بين الشاعر والقارئ كحبل وِصَال.
وغالباً ما يستخدم الإضمار بغية أن يشحن
الكلمات بكثافة المعنى، من جهة، وأن يترك
المجال واسعاً للإمكان، من جهة أخرى: "كي
أستحق" (ص 12)؛ و"فعلت دواليك" (ص 18)؛ "إحساسي
بأنك" (ص 17). إلى كل ذلك، ينجح الشاعر في
ترسيم القصيدة على الصفحات البيضاء لأنه مدرك
للدور الذي يمكن أن تلعبه تيبوغرافيا النص في
تشكيل المعنى. ويلفتنا في هذا المجال الخط
العمودي الذي ترسمه الكلمات في ثلاثة مواضع
من الديوان (94، 142، 143) كأنها سُلَّم تعرج عليه
الذات إلى السماء، أو خشبة صلب، أو شجرة
تقرِّب بين الفضاء والتراب. كل
ذلك يجعل من سراح القتيل عملاً شعرياً
مميزاً يحمل للقارئ العادي لذة القراءة، ويعد
الناقد الذي يتوغل في خفاياه بالكنوز الكثيرة. *** *** *** عن
النهار، 5 حزيران 2001
|
|
|