هياكل مصطفى علي:

أشباح متوسطية مهاجرة أبداً

 

أسعد عرابي

 

تتناسخ أساطير هذا النحات من كائنات الذاكرة المتوسطية، السحرية منها والكهنوتية. فهو يراجع أكثر من مرة الهيئة المؤسلبة لابن آوى (ذلك الآله المصري آنبوس الذي يربض أبداً على ناووس الخلود، ممثلاً الحارس السرمدي في معبر الموت). تتلاقح سماته النحيلة مع حساسية رسوم العرب لكليلة ودمنة (ابني آوى الهنديين)، وقد يغشى تشريحُه بعض من سمات ذئبة روما التي ترضع ريموس ورومولوس، والتي تمثل رمزاً لمدينة هِجْرَته النحتية الأولى. ولم يقتصر فيها طالعه من ذخائر الإتروسك على الذئبة المذكورة؛ فقد خلَّف هؤلاء تلك التماثيل البرونزية الغامضة ذات القوام الرهيف الممشوق السامق، مما يدفع إلى الظن بالعلاقة المشبوبة مع هياكله المسنونة كالرمح.

تحلِّق واحدة من عرائس مصطفى في الفراغ بشكل أفقي، متَّصلة بفرسها بمفصل حرج عوضاً عن أن تمتطي صهوته، مستحضِراً من جديد قصائد النحت المصري المتمثل في السابحة الشهيرة التي يمتد جذعها بالأفقية نفسها في المدى الخاوي. كثيراً ما يختزل عمارة التابوت إلى نقاط علام لمتوازي مستطيلات عمودي أو أفقي، تنسلخ دلالته الهندسية عن أية دلالة، ويقتصر بأسلاكه المتعامدة على حصر حاضنة الشكل الإنساني، بطريقة حميمة، قد تتناسل بدورها من ذكرياته عن القواعد الآبدية الأثرية من مثال المذابح والمسلات والهياكل المدفنية والصروح والعروش والمتكئات السحرية، الآرامية منها أم الكنعانية (الفينيقية)، ابتداءً من ذخائر موقع ولادته أوغاريت، وانتهاءً بقرطاجة على الساحل التونسي، مروراً بمدينة بيبلوس (جبيل) اللبنانية.

جعل بيكاسو قاعدة الرجل مكعباً وقاعدة المرأة كرة. تبدو الفروق في حالة مصطفى بين آدم وحواء لا تكاد تبين (ما خلا الإلماح إلى تفاحة الخطيئة). لذلك فقد زرع الاثنين في مكعب واحد يكاد يحتوي على نفس الغلالة المؤكسدة من ملمس البرونز. فأجسامه عارية عن اللحم، ترتدي عظامها وتجاويفها مثل حصى الشاطىء؛ ذلك أنه بالنتيجة يفد (رغم رَوْحاته البندولية بين دمشق وروما) من ثقافة "التنزيه" التي تعاف حتى ثنيات القماش الذي يرسم الجسد الحسي.

يقترب عُبَّاد وكهنة أنصاب مصطفى من شخوص بيبلوس البرونزية المعتمرة في امتشاقها "اللبادة". يستعير من احتفاءاتهم النذرية أو الطقسية الحيوانات المقدسة، مثل الوعل والثور. أما الكاهن فيتحول إلى جسد متهالك يتحد بالتصاق قدري مع صرحه البرونزي. وبالقدر الذي تحافظ فيه هذه الأشباح على رمزيتها، تتحد في هيئاتها بعض من حساسيات المحترَفات المعاصرة، ابتداءً من منصات ماكس إرنست الحلمية، وانتهاءً بخزائن نفلسون اللغزية، مروراً بهياكل جياكوميتي المنخورة بالفراغ والعدم. وإذا كان الانتهال من هذا الأخير أشد وثوقية فإن منهجه (المتمثل في غلبة الفراغ على الامتلاء) كان على تواصل عميق بمتاحف الشرق العربي. فقد استقى تفاني الخطوط السالبة والموجبة في الوجوه من دراساته المستفيضة لوجوه غوديا البازلتية السوداء.

ينبثق من ركام هذه التداعيات مولود مصطفى الإبداعي المتمايز الذي لا يعرف في شموليَّته حدوداً للزمان أو المكان؛ خاصة وأنه يترصد أشباحاً يعاندون النسيان، يمعنون في الأبدية ويجتاحون جعبة الذاكرة الثقافية والحلم والتاريخ. يتجلَّى في سياحاته التوليفية، على تنوع أزهارها، ثراء تجربته التي تعبق بعطر الشرق والغرب.

***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود