|
التوراة
والتلمود
قراءة
فكرية ونقدية*
ندره
اليازجي
تشير الدراسات المقارنة إلى أن التوراة
والتلمود يؤلِّفان كتابًا واحدًا وإلى أن
مضمونهما يشكِّل القضية الأساسية المستعصية
التي يسعى إلى تكريسها أحبار اليهود وزعماؤهم
السياسيون، وهي أفضلية الشعب اليهودي على
سائر الشعوب، ورعاية «الله» (؟)، أي إلههم
يهوه، لهم في كلِّ الأزمنة والظروف التي
تستدعي تدخل «العناية الإلهية» (؟)، أي «ربوبية
يهوه»، لإنقاذهم وخلاصهم. في هذين
الكتابين نجد الدعوة المزعومة التي تؤكد على
اختيار «الله»، أي إلههم يهوه، للشعب اليهودي
وتكريسهم «أبناء» له وأعوانًا له وشركاء في
إدارة العالم الأرضي. بالإضافة إلى ذلك نجد أن
تاريخ هذا الشعب هو تاريخ «الله»، أي تاريخ
إلههم يهوه – وأعني أن «الله»، أي يهوه،
يشارك اليهود تاريخهم، يحيا معهم في تابوت
العهد، يحارب معهم ويدافع عنهم، ويهزم
أعداءهم، ويعلِّمهم فنون القتال، ويضع لهم
الخطط الحربية التي تساعدهم على كسب المعارك
والانتصار على الأعداء، ويرشدهم إلى أفضل
وسائل التدمير، إلخ.[1]
وهو يكذبُ في سبيلهم ولمصلحتهم إذا دعت
الظروف إلى إنقاذهم من ورطة أو من مشكلة،
ويسرقُ لمنفعتهم، ويستاءُ منهم إن هم خذلوه
في أمر ما، فيغادرُهم على نحو عقاب، ثم يندم
ويطلب المغفرة، ويعيدُ بناء مملكتهم إن هي
تعرضت للخراب. وهذا يعني أن «لله»، أي ليهوه،
تاريخًا وحيدًا وخاصًّا هو تاريخ الشعب
اليهودي. فإنْ هو اغترب عنهم فإنما يعني أنه
اغترب عن ذاته؛ وإن هو غادرهم فإنما يعني أنه
غادر أسرته أو شعبه؛ وإن هو عاقبهم فإنما يعني
أنه عاقب نفسه. وهكذا لا يكون «لله»، أي ليهوه، تاريخ أو وجود خارج تاريخ الشعب
اليهودي ووجوده. أما الشعوب الأخرى فإنها
محرومة من التاريخ والوجود، أي أنها تقع خارج
تاريخ الإله اليهودي. *** يجدر بي، وأنا
أحاول تلخيص ما جاء في التوراة والتلمود
وأسعى إلى دراسة العلاقة الوثيقة القائمة
بينهما، أن أضع ملخَّصًا وجيزًا للتلمود،
لأعود، من بعدُ، إلى دراسة التوراة التي هي
المصدر الرئيسي للتشريع التلمودي. والحق أن
أحبار اليهود ورابِّيوهم اعتمدوا، في
تفاسيرهم وشروحهم وتعليقاتهم، على التوراة (التي
وضعها نحميا وعزرا وغيرُهما باسم موسى)
واعتبروها عقيدة تتطلب التفسير والشرح
والتوضيح من قبل القائمين على توجيه الشعب
اليهودي، مؤكِّدين على قضيتهم الأساسية التي
تتمثل في اختيار «الله»، أي يهوه، لهم، وفي
تفضيلهم على سائر الأمم، وفي نبذ الشعوب
الأخرى. يُعَدُّ
التلمود كتابًا جعله الأحبار والرابِّيون
والحاخامون وثيقة تعليمية، وإعلانًا
عقائديًّا وسياسيًّا ومنهجيًّا للشعب
اليهودي. لقد وضعه عدد كبير من الأحبار الذين
سعوا، كما يزعمون، إلى توضيح الشريعة
المكتوبة التي أُلحقَت باسم موسى، وتحويلها،
أو بالأحرى تحريفها، إلى شريعة شفهية أوصى
بها موسى لتكون مكمِّلةً لشريعته المكتوبة،
وأطلقوا عليها اسم «تلمود»، أي «التعليم».
وعلى هذا الأساس، يُعَدُّ التلمود، في نظر
الرابِّيين، كتابًا تعليميًا يشتمل على
التفاسير الشفهية، غير المكتوبة، لشريعة
موسى التي استوحاها من «الله» وأوصى بشرحها.[2] هكذا يعلن
الأحبار والرابِّيون أنهم، على حدِّ زعمهم،
الأوصياء على هذا الواجب أو المفوَّضون
بتأديته؛ وفي هذا المنظور يعتبرون أنفسهم
المختارين الملهَمين من «الله»، أي يهوه،
والمكلَّفين بتفسير وتأويل الشريعة الشفهية[3]
التي استوحاها موسى، بالإضافة إلى شريعته
المكتوبة، والمؤهَّلين للقيام بهذه التفاسير
والتعليقات والشروح والاجتهادات بحكم السلطة
«الروحية» (؟) الموهوبة لهم. وبالإضافة إلى
ذلك يعتقدون أنهم معصومون عن الخطأ، ويبالغون
في زعمهم هذا إلى درجة تجعلهم يعلنون أن «الله»
يخطئ وهم لا يخطئون، ويندم وهم لا يندمون،
ويستشيرهم في قضايا وأمور كثيرة يجهلها،
ويخضع لأحكامهم ويأخذ بآرائهم التي تساعده
على معرفة ما يحدث على كوكب الأرض. وهكذا
يعتبرون أنفسهم المفوَّضين الذين قاموا –
وما زالوا يقومون – بتأدية الرسالة على نحوِ
واجبٍ يجعلهم يعتقدون أو يزعمون بأنهم خلفاء
الأنبياء. لما كانت
التفاسير والشروح والاجتهادات كثيرة ومتعددة
ومتنوعة في وجهات نظرها فإن عدد الأحبار
والرابِّيين تناسَبَ مع كثرة المدارس التي
ألقت على عاتقها هذه المهمة العسيرة والخطيرة
بالنسبة للشعب اليهودي الذي أمسى، نتيجة لهذه
الاجتهادات، عدوًّا للأمم والشعوب، وبالنسبة
للشعوب الأخرى التي تدافع عن حضارتها
وثقافتها وتراثها. ومع ذلك ظلت التفاسير
والاجتهادات، على الرغم من تبايُنها، تدور
حول عقيدة مركزية واحدة مفادها أن اليهود «شعب
الله المختار» وأن الشعوب الأخرى مجرَّد
بهائم في صور بشرية. وفي هذا الزعم أو العقيدة
تكمن العرقية والعنصرية اليهودية الصهيونية
التي تحول دون لقاء الشعب اليهودي مع الشعوب
الأخرى ضمن نطاق التكامل والتعايش المشترك
والاعتراف بالآخر والسعي إلى تحقيق المحبة
والسلام. وهكذا يُلغي التلموديون الإنسان
الآخر: فإن كانوا أبناء الله كانت الشعوب
الأخرى أبناء إبليس أو البهائم؛ وإن كانوا
أخيارًا كانت الشعوب الأخرى أشرارًا؛ وإن
كانوا أبناء آدم كانت الشعوب الأخرى أبناء
الأرض الذين تكوَّنوا من التراب: هم سماويون
وغيرهم أرضيون؛ وإن كانوا سادة كانت الشعوب
الأخرى عبيدًا. وهكذا يحق لهم، بحسب ما نصَّت
عليه شريعة التوراة والتلمود على السواء،
إخضاع الآخرين واستعبادهم واستغلالهم لأنهم
لا يمتُّون إلى إلههم يهوه بصلة. لما كان
التلمود كتابًا تشريعيًّا للأمة اليهودية
حصرًا، وكذلك مصدرًا ومنهجًا طقسيًّا
وسياسيًّا ودينيًّا وقوميًّا، بحسب فهمهم
للدين والقومية الثيوقراطية، فإنه يُعتبَر
المرجع الأول لغالبية اليهود. فقد أكَّد
الأحبار والرابِّيون أن التلمود، وهو تدوين
الشريعة الشفهية، أعظم من التوراة وأهمُّ
منها. ولما كانت التفاسير والاجتهادات قد
كُتِبَت أو دُوِّنَت في فترات زمنية وتاريخية
معينة، متقاربة أو متباعدة، فإن الواقع يشير
إلى أن وضعها أو كتابتها تحققت في ظروف
تاريخية مختلفة لكي تكون التعليم الموجِّه
والإرشاد الرئيسي للشعب اليهودي في ظرف
معيَّن أو في ظروف قاهرة سائدة، أو لتكون،
بالإضافة إلى ذلك، السلطة السياسية والقومية
التي توجِّه هذا الشعب إلى نوع معيَّن من
السلوك والتصرُّف وفق مقتضيات الظروف
والصعوبات والشدائد.[4]
لذا كان هذا الكتاب، الذي يتألف من مجلدات
عديدة، مدوَّنةً سياسية أُقحِم «الله» في
تضاعيفها ومضامينها، وذلك لأنه، كما يزعمون،
يسير في ركابهم ويُمِدُّهم بالقدرة على تجاوز
محنتهم عن طريق نبيٍّ أو مخلِّص هو، في
الحقيقة، قائد حربي أو سياسي بارع.[5]
وهكذا نعلم أن الظروف السائدة (التي كانت، في
غالبيتها، ظروف استعباد ونفي وأسر واجتياح)
كانت الدافع الوحيد لكتابة التعاليم
والشرائع المحتواة في هذا الكتاب وللتأكيد
على أن «الله»، أي يهوه، يرى ما حلَّ بهم من
مصائب وويلات، ويدرك أنه المسؤول عن إهماله
لهم وعدم العناية بهم ومغادرته لهم، وعلى أنه
سوف يرسل إليهم نبيًّا، هو مجرد قائد حربي،
ينقذهم من أوضاعهم البائسة. وفي هذا المنظور
تشكلت لديهم عقدة «المسيَّا»، المخلِّص
والمسيح المنتظر: إنهم ينتظرون مسيحًا
يخلِّصهم، ينقذهم ويحرِّرهم من عبودية الأسر
والنفي والاعتداء، أو يمدُّ لهم يد العون في
أثناء الأزمات والشدائد.[6]
وسوف يساعدهم هذا المسيح المزعوم – وهو
القائدُ الحربي أو السياسي البارع – على
استعادة سيطرتهم ووضع الأمم الأخرى تحت
أقدامهم. وعندما أتى المسيح، المخلِّص
الحقيقي الذي دعاهم إلى الخلاص الحقيقي وإلى
إنقاذهم من متاهة الصحراء، أي من التيه في
ظلمة الخطيئة وسيطرة الضمير النادم وعقدة
العظمة، رفضوه وصلبوه. يشير ما تقدم
إلى أن التلمود كتاب وُضِعَ في مجلدات عديدة
تشتمل على نواحٍ متنوعة وكثيرة، منها ما يدلُّ على أنه كتاب
ديني، وذلك بحسب الفهم
اليهودي للدين وفهم علاقتهم مع الله: إنه كتاب
يشتمل على شريعة مغلقة، أو دين مغلق، على غير
ما هو معروف لدى الأديان الأخرى المنفتحة؛
ومنها ما يشير إلى أنه كتاب تأريخي، بمعنى أنه
وصفٌ للظروف التي عانى منها هذا الشعب، حيث
كان «الله» يرافقهم في مسيرتهم التاريخية، أو
كان يغادرهم ليعود إليهم من جديد؛ ومنها ما
يشير إلى أنه نظام يثبت أركان العلاقة بين
اليهود كأمَّة أو كشعب، وبينهم وبين الغرباء
أو الغوييم أو الأغيار؛ ومنها ما يشير إلى أنه
تعليم يتحدث عن: أ.
النواحي
الإيجابية الخاصة باليهود أنفسهم، أي
الوصايا الموضوعة من أجل تماسك الشعب اليهودي
وتلاحمه في تجمُّع عنصري وعرقي وطرق تعاملهم
بعضهم مع بعض؛ ب.
النواحي
السلبية التي تشير إلى موقف اليهود من
الأغيار والكفَّار[7]
– ومنها ما يشير إلى التشريع الذي ينصُّ على
قواعد وأسس المجتمع اليهودي المميَّز. في هذا الكتاب
نجد أن اليهود من بني إسرائيل هم وحدهم
الصالحون وأن الناس مجرد بهائم محرومة من هذا
الصلاح. وفي مضامينه ندرك الطريقة التي، من
خلالها، يتحقق الأمن القومي اليهودي الذي
يتأسَّس، بدوره، على أسلوب التعامل مع الأمم
الأخرى التي تُستَباح، بحسب نصوص التشريع
التلمودي. وهكذا نجد، في هذا الكتاب،
المقوِّمات التي تشكل الكيان اليهودي
العنصري والقومي الذي أدعوه «الصهيونية». وضع الأحبار
اليهود وحاخاماتهم كتابين، وهما: التلمود
البابلي والتلمود الأورشليمي. وقد وُضِع
أوَّلهما في أثناء السبي إلى بابل، ووضع
ثانيهما بعد العودة إلى أورشليم، وذلك من أجل
تنظيم الحياة القومية والاجتماعية والسياسية
ومنهجة الطقوس الدينية. إذا كان
الأحبار يشدِّدون على أن التلمود أعظم من
التوراة وأهم منها فلأنهم زعموا أن التوراة،
التي يُعتقَد بأنها كُتِبَت قبل المسيح، لم
تعد كتابًا خاصًّا بهم وحدهم بقدر ما أصبحت
كتابًا مشتركًا بينهم وبين المسيحيين،
وبينهم وبين المسلمين في وقت لاحق؛ ولهذا
السبب جعلوا من التلمود السلطة العليا لليهود
وفضَّلوه على التوراة. وبالفعل يعالج التلمود
قضايا اليهود ومشاكلهم ويدرس أوضاعهم في
فترات تاريخية مختلفة ومتعددة – إنما بما
يتوافق مع الشريعة التوراتية المكتوبة. وفي
زعمهم أن أهمية التلمود تكمن في سبب أصيل يؤكد
العصمة التي تنأى بالأحبار عن الخطأ. وفي
زعمهم هذا يؤكِّدون أنهم يتكلَّمون بلغة «الله»
ولسانه لأنهم «إلهيون» في صميمهم. و«الله»،
في رأيهم، يستشير الحاخامات لأنه قاصر عن فهم
الأحداث السائدة على الأرض وعاجز عن إدراك
الوقائع القائمة. لذا يجب على الشعب اليهودي
أن يأخذ بما يأمر به أو ينهى عنه الحاخامون
والرابِّيون، ويُغفِل ما ينهى «الله» عنه أو
يأمر به. وُضِعَ
التلمود البابلي والأورشليمي قبل المسيح
وذلك في سبيل تنظيم القومية اليهودية في وفاق
مع الشرائع والنواميس التي وضعها الأحبار،
المستقاة من التوراة والمتجاوزة لها في آنٍ
واحد. وقد تأسَّست قواعد التلمود البابلي
والتلمود الأورشليمي، على نحو توفيقي
وتلفيقي موحَّد، في القرن الأول الميلادي. وإذ نعود إلى
دراسة وضع اليهود في القرن الأول الميلادي،
نجد أنهم، وقد رأوا وأدركوا أن المسيحية بدأت
تنتشر بين ظهرانيهم وبين الإسرائيليين وبين
يهود الشتات، عمدوا عام 37 ب م إلى تشكيل «اللجنة
السرية».[8]
وقد دعا أعضاءُ تلك اللجنة اليهودَ
والإسرائيليين، الذين تحولوا إلى المسيحية
وتبنوا مبادئها، أو غيرهم ممَّن يُحتمَل أن
يعتنقوها، إلى أن يدخلوا إلى صفوف المسيحيين
لكي يتبنُّوها ظاهريًّا ويعملوا على تقويضها
داخليًّا. وفي هذا القرن الأول: 1.
صار التلمود
مصدرًا دينيًّا وقوميًّا وسياسيًّا للأمَّة
اليهودية؛ 2.
جُمِعَت أسفار التوراة والعهد القديم في
وضعها النهائي والأخير بعد انقضاء مئة عام
على بدء الدعوة أو البشارة المسيحية. في هذين
الحدثين المتوافقين استطاع الأحبار
والرابِّيون، الذين وضعوا الشرائع وضمَّنوا
التفاسير والتعليقات والشروح والاجتهادات
وفق ما تقتضي الظروف، أن يقحموا في التوراة أو
يُلحِقوا بها آيات وعبارات ملفقة لم تكن
موجودة أصلاً فيها. وفي هذه المؤامرة سعى
الرابِّيون إلى ربط المسيحية، أي الإنجيل،
بالتوراة. وتتمثَّل تلك الآيات أو العبارات
أو القصص، على سبيل المثال، في موضوع مجيء
المسيح وولادته من عذراء في بيت لحم اليهودية.
ويؤسفني أن أقول إن تلك الآيات والعبارات
الملفَّقة أصبحت تُعتبَر، في وقتٍ لاحق،
نبوءات توراتية؛ والحق هو أنها أُقحِمَت في
وقتٍ لاحق. وإذا كانت كلمة «مسيَّا» قد ذُكِرت
في التوراة فلأنها لا تشير، من قريب أو بعيد،
إلى المسيح بن مريم، بل إلى كل شخص سعى إلى
إنقاذ اليهود في الماضي من ورطة أو من مشكلة
كبرى أو عمل على ذلك. ولما كان اليهود يعانون
من مشاكلهم المعقَّدة، التي يختلقونها
ويسبِّبونها لأنفسهم بسبب عرقيَّتهم
وعنصريَّتهم وانكفائهم بعضهم على بعض في
الغيتو، فإن أحبارهم كانوا يطمئنونهم، على
نحو تخدير، بأن «الله» سوف يرحمهم ويرسل لهم
منقذًا أو مخلِّصًا، دعوه «مسيَّا»، هو مجرد
قائد حربي يضع الأمم تحت أقدامهم. يزعم بعض
الدارسين أن كتاب التلمود، بوصفه كتابًا
تعليميًّا، يشتمل على تعاليم إيجابية تحث على
معاملة اليهودي لليهودي بالحسنى وعلى علاقته
مع «الله»؛ ويشتمل، بالإضافة إلى ذلك، على
تعاليم سلبية تحث على العلاقة مع الآخرين
ممَّن ليسوا يهودًا ومع «الله» أيضًا. فبقدر
ما تكون العلاقة مع «الله» إيجابية، تكون،
بالقدر ذاته، سلبية. وفي هذا المنظور لا تتميز
العلاقة مع «الله» في التلمود بالإيجابية
أبدًا؛ وهذا لأن «الله» المعبود، بحسب ما ورد
في التكوين، هو إله شخصي يخضع، من جهة، لرغبات
وشهوات الشعب اليهودي الذي يخضع، بدوره،
لرغبات وشهوات وأماني وآمال وتطلعات
الأحبار؛ ومن جهة ثانية، يخلع التلمود على «الله»
صفات لا تليق إلا بكائن مذنب أو بكائن يقترف
الخطايا. فـ«الله»، وهو إله الحاخامات الشخصي
الموصوف في سفر التكوين، يكذب، ويسرق، ويسمح
بطغيان الشر، ويندم، ويكره، وينتقم، إلخ. وفي
هذه الحالة لا تُعَدُّ هذه الصفات إيجابيةً
إلا للشعب اليهودي، وذلك لأن الله، في
مفهومنا الروحي، لا يعرَّف بالصفات البشرية
السلبية أو الانفعالية: فهو الكائن الذي لا
يوصف، ولا يُحدُّ، ولا يعرَّف، ولا ينتهي في
وجوده. بالإضافة إلى
ذلك تنسحب الصفات السلبية في التعاليم
التلمودية على أمور وقضايا أخرى. وعلى سبيل
المثال، يذكر التلمود أن استباحة المرأة غير
اليهودية أو اغتصابها موضوع أو تصرُّف لا
يشكِّل ذنبًا، ولا يعاقَب عليه اليهودي، ولا
تُحسَب له خطيئة. أما الجحيم فهو المأوى الذي
ينتهي إليه الأغيار وأبناء الشعوب الأخرى
ليكون موطنًا أبديًّا لهم، وهذا لأن الجنة هي
موطن اليهود ومسكنهم المميَّز والمكان الخاص
بهم وحدهم. وعلى الرغم من اعتبار التوراة
إبراهيمَ الخليل رجلاً مؤمنًا وصالحًا فإن
التلمود يعتبره ساحرًا. والعالم، في نظر
التلمود، مكانٌ، كالجنة، يخصُّ اليهود؛ إنه
مُلْكٌ لهم، يتصرَّفون به كما يحلو لهم. وفيما
يتعلَّق بموضوع التعامل مع الشعوب الأخرى،
يحق لليهود أن يستفيدوا من الربا ويستبيحوا
أموال الآخرين. والمسيح، كما يذكر التلمود،
ابن مريم الزانية العاهرة التي غرَّر بها
جندي روماني. أما المسلمون – وقد أتى ذكرُهم
في وقت لاحق – فإن التلمود ينبذهم، ولا يعترف
بهم، لأنهم أبناء إسماعيل، الذي وصفه سفر
التكوين بـ«الوحش الذي يدُه على كل إنسان
ويدُ كل إنسان عليه». وفيما يتعلق بموطن
اليهود وسكناهم ومقرِّ عبادتهم، تُعتبَر
القدس المكان الوحيد الخاص بهم. عندما نوجِّه
أنظارنا إلى دراسة التعاليم التلمودية
الإيجابية ندرك أن إيجابيَّتها تنحصر في نطاق
تعامل اليهودي مع اليهودي. وتشير هذه
التعاليم إلى أنها التشريع الذي يثبِّت سياسة
النظام الاجتماعي القائم على معاملة اليهودي
لليهودي على نحو ما تنصُّ عليه الشريعة، وذلك
لتحقيق التضامن الاجتماعي المؤسَّس على
العصبية العرقية والعنصرية التي تعلنها «أخلاقية»
التلمود المغلقة. فإذا سمح التلمود بالزنى مع
المرأة غير اليهودية فإنما ليحرِّمه مع
المرأة اليهودية؛ وإذا سمح بقتل غير اليهودي
أو الكذب عليه فإنما ليحرِّم القتل والكذب
عبر علاقة اليهودي مع اليهودي. وهكذا نرى أن
الإيجابية الضيقة، أي ما يدعوه برغسون «الأخلاق
المغلقة»، الخاصة بالتعامل ضمن نطاق العشيرة
أو القبيلة أو العرق أو العنصر أو الطائفة، هي
عقيدة لا تجد موضعًا لها في قيم الأخلاق
المنفتحة أو في الشمولية الإنسانية التي تحقق
العلاقة الصحيحة بين الإنسان والإنسان،
بمعزل عن إشراطات وقيود العرق والعنصر
والطائفة. يمكنني أن
أخلص إلى النتيجة التالية: التلمود كتاب
سياسي يؤكِّد على القومية اليهودية، القائمة
على العرق والعنصر والاصطفاء والاختيار،
وعلى حرمان الشعوب الأخرى من الوجود، لأنهم،
كما يذكر التلموديون وهم يُقحِمون رغبة يهوه،
ليسوا مخلوقات أو كائنات بشرية خلقها «الله».
وإذ أتأمل محتويات هذا الكتاب وتعاليمه
وشرائعه، التي هي مجرد تفاسير وشروح وتعليقات
واجتهادات لا تنتهي، أدرك أن ما جاء فيه يعتمد
على ما جاء في التوراة، أي الشريعة المكتوبة
التي يدَّعي الأحبار والحاخامون بأنهم
الأوصياء على مكمِّلها الشفهي المزعوم الذي
تلقَّاه موسى والمؤهَّلون لتدوينه وتفسيره
وتأويله. وعلى الرغم من أن بعض المجتهدين
رفضوا، في نطاق «تأويل» ما جاء في التوراة، ما
وُضِع في كتاب التلمود، الذي هو مجموعة
مجلَّدات، واعتبروه تلخيصًا وتحريفًا
وتزييفًا للتوراة، لكن الغالبية العظمى من
اليهود يأخذون به على نحو يجعله متساوقًا مع
التوراة ومنسجمًا مع الشريعة المكتوبة
المعبَّر عنها بالشريعة الجديدة المكتوبة
التي دُوِّنت في صيغة عقيدة وتعليم وسياسة. وهكذا أعود
إلى التوراة وأنا أتقصَّى أصول التلمود فيها. *** سأحاول فيما
يلي، الذي يُعَدُّ تلخيصًا وجيزًا لأفكار
وطروحات تتطلَّب الحوار وتستحق الدراسة
والبحث، أن أرسم صورة توضح معالم العنف الذي
يهيمن على الفكر اليهودي ويسيطر على النفسية
اليهودية المكوَّنة في أبعادها التوراتية.
وإذ أسمح لنفسي بإعادة ما ذُكِر في التوراة عن
ذهاب بني إسرائيل إلى مصر سعيًا وراء الرزق
والمعيشة وعن تكريم المصريين لهم التكريم
اللائق لبني الإنسان، والمعبِّر عن سموِّ
الحضارة المصرية ورقيِّ حكمتها، فلأنني أحب
أن أُظهِر حقيقةً هامة مفادها أن اليهود لا
يحترمون مبادئ الشعوب الأخرى، ولا يذكرون
النِّعَم التي تغدقها عليهم تلك الشعوب،
ويتنكَّرون لكل ترحيب وحسن وفادة وتقدير
وتسامح؛ وأخيرًا، يرفضون أن يعترفوا بفضائل
الأمم، ويشوِّهون الوقائع والحقائق بعد
إقحام إرادة أو رغبة إلههم يهوه الذي يأمر
بإبادة الشعوب، ويوصي بكرهها وتدميرها لسبب
هو الحفاظ على وجود اليهود والدفاع عنهم
واعتبار وجود الأغيار والأمم وممتلكاتهم
نجاسة. سأحاول أيضًا
أن أقيم علاقة بين الصهيونية واليهودية، وأن
أشير إلى الدليل الذي يؤكد على أن الصهيونية
قائمة في اليهودية. وفي محاولتي هذه، أخلص إلى
القول بأن اليهودية أفرزت ذاتها كعنصر أو
كعرق، وحده يستحق الحياة والسيطرة والمجد،
وحَرَمَت الأمم الأخرى من هذا الحق. ولما كانت
اليهودية هي الفئة التي سيطرت على أسباط بني
إسرائيل العشرة وأنهت علاقة هذا الشعب مع
الله، أي إله جميع الناس، وأخضعتْه لعبادة
يهوه، فإنها أصبحت سياسة فئة أو دولة تسعى إلى
تطبيق ما رغب به أحبار اليهود وما غرسوه في
لاوعيهم الجمعي بأنهم الفئة الخاصَّة التي
تعبد «الله» وتحظى برعايته لهم، تمامًا كما
تحظى ببركة الوجود الأرضي والسماوي. والحق
أنني أرى في التوراة، كما هي مدوَّنة، كتابًا
وضعه أحبار اليهود، وعلى رأسهم نحميا وعزرا،
وهدفوا إلى تنفيذ سياسة ترمي إلى ربطهم
بسلاسل العرقية، وتتجه إلى السيطرة، وتسويغ
هذه السيطرة ما دامت مستمَدَّة من إلههم يهوه.
وقد حاولوا، في كتابهم أو في كتبهم، إسقاط
عقدة العدوانية والموت، التي تحدَّث عنها
فرويد، على الأمم التي جرَّدوها من نعمة
الوجود وبركة العلاقة مع «الله»، إذ جعلوا
منهم كائنات مجرَّدة أو محرومة من الروح. أستطيع الآن
أن أقول: تُعَدُّ التوراة، أو العهد القديم،
والتلمود، بجزأيه، كتابًا واحدًا ينقسم إلى
مجلدين، يتميَّز كلٌّ منهما بخلفيَّتين: أ.
في الخلفية
الأولى يتحدث الكاتب أو الكُتَّاب عن الشعب
الإسرائيلي الذي سيصير، في وقت لاحق، الشعب
اليهودي الذي اصطفاه الإله يهوه ليكون شعبه
الخاص أو أداته الخاصة وليجعله الممثِّل
الوحيد له في العالم الأرضي؛ ب.
في الخلفية الثانية يتحدث الكاتب أو
الكُتَّاب عن الخطة أو الطريقة التي تساعد
على احتفاظ هذا الشعب اليهودي – إذ لم يعد هو
الشعب الإسرائيلي – بخصوصيَّته التي تميَّز
بها نتيجة لاصطفاء الإله يهوه له وبقائه تحت
رعايته في كل الأزمنة والظروف. والحق هو أن هذين الكتابين
– التوراة والتلمود – يتماثلان في
محتوياتهما ولا يختلفان إلا في التعبير.
ويُعتبَر كلٌّ منهما كتابًا تأريخيًّا،
وتشريعيًّا، وتنظيميًّا على نحو سياسي،
وعقائديًّا ودينيًّا على نحو ممارسة طقسية
بالمعنى الحصري لهذا التعبير. وعلى هذا
الأساس، يُعتبَر الكتابان عقيدة طقسية–سياسية.
وفي هذا المنظور تؤسِّس الصهيونية قاعدتها
وتركز منهجيَّتها. وإذا كانت العرقية
والعنصرية والاصطفاء تشكِّل العقيدة
الأساسية السائدة في هذين الكتابين فقد
أدركتُ أن التوراة سبَّاقة في هذا المضمار.
وفي هذه الحالة يجدر بي أن أعود إلى الأصول
التوراتية لأعلم كيف يزعم اليهود بأنهم شعب «الله»
المختار. وسوف أعتمد على عقيدتين، هما، في
الحقيقة، عقيدة واحدة، أعتبرهما الأساس أو
الأصل الذي يدعم هذا المعتقد أو هذا الزعم.
وتتأصَّل العقيدة الأولى في المفهوم الديني،
بينما تتأصَّل الثانية في المفهوم العرقي
والعنصري. أولاً.
المفهوم الديني: حقيقة الأمر
أن اليهودية ليست ديانة روحية. فهي، على غير
ذلك، شريعة وضعها الأحبار. إنها نسبة إلى
مؤسِّسها يهودا بن يعقوب. وهكذا لا يمكننا أن
نشتق ديانة من اسم شخص: فليس ثمة ديانة تدعى
اليسوعية أو العيسوية، إنما هنالك ديانة تدعى
المسيحية؛ وليس ثمة ديانة تدعى المحمدية،
إنما هنالك ديانة تدعى الإسلام؛ وليس ثمة
ديانة تدعى سدهارتا، إنما هنالك ديانة تدعى
البوذية. وبالمثل، ليس هنالك ديانة تدعى
اليهودية، بل هنالك ديانة تدعى الإسرائيلية،
نسبة إلى إيل. وبالفعل لم يكن هنالك شعب يدعى
اليهود أو ديانة تدعى اليهودية. فالشعب الذي
مضى إلى مصر وخرج منها، كما تدَّعي التوراة،
كان يدعى إسرائيل، وديانتُه، بالتالي، كانت
الإسرائيلية. وبعد دخول بني إسرائيل، بقيادة
سبط يهودا، إلى فلسطين، كما تدَّعي التوراة،
تأسَّس إقليم دُعِيَ «اليهودية». وقد حدث هذا
لأن فئة من بني إسرائيل، تلك التي أسَّستْ هذا
الإقليم، كانت سبط يهودا، أحد أبناء يعقوب–إسرائيل
الإثني عشر. وهذا ما أدَّى إلى فوضى التمييز
بين إسرائيل ويهودا. وقد تعاون سبط لاوي، وهو
فئة الكهنة، مع سبط يهودا لتشكيل دولة يهودا
التي جعلت من أورشليم إقليمًا لها ومقرًّا.
أما الأسباط العشرة الأخرى فقد استوطنت
الجليل والسامرة وظلَّت إسرائيلية في
صميمها، إنما تأثَّرت بحضارة وثقافة الأمم
وتفاعلت معها. في هذا
المنظور نعلم أن اليهودية تشير إلى إقليم أو
دولة عرقية وسياسية تتبنى شريعة أُقحِم يهوه
في مضامينها. وبالمقابل، تشير كلمة «إسرائيل»
إلى ديانة وليس إلى دولة. وهكذا تُعتبَر
اليهودية عقيدة قومية متعصِّبة تتخذ من «صهيون»
أنموذجًا لها. أما الإسرائيلية، التي وُجِدَت
في «جليل الأمم» والتي أتى منها المسيح
الجليلي، فقد كانت مبدأً منفتحًا يتفاعل مع
مبادئ الأمم. لكن اليهودية اجتهدت، بمرور
الزمن، أن تصبغ الإسرائيلية بصبغتها القومية
اليهويَّة واليهودية المتطرِّفة. فقد احتقر
اليهودُ الإسرائيليين الذين سكنوا الجليل
والسامرة ووقفوا منهم موقف العداء والتعالي.
وفي هذا السياق، تُعَدُّ اليهودية حركة
سياسية عرقية وعنصرية تُقحِم الشريعة
لصالحها وتقيِّد الله بإشراطاتها لتحوِّله
إلى إله عنصري. وقد عُرِفت هذه اليهودية
بالصهيونية في مرحلة لاحقة؛ وهي، في الوقت
الحاضر، صهيونية دولة إسرائيل. أما المسيح
فقد قاوم اليهودية، لسبب أصيل هو أنه جليلي
صميم، وسعى إلى إسقاطها. وقد برهن على سقوط
اليهودية بسقوط تلميذه يهودا الذي يمثِّل سبط
يهودا؛ وأكَّد المسيح ثبات تلاميذه الآخرين
الذين يمثِّلون إسرائيل والأمم. لهذا السبب
طلب منهم المسيح أن يبشِّروا الأمم ويسعوا
جاهدين لتحقيق المصالحة مع الشعوب الأخرى.
وقد شارك النبي محمد المسيح موقفه هذا، إذ
عزَّز الإسرائيلية وأسقط اليهودية. * أما وقد بلغتُ
هذا المستوى من البحث فإنني أطرح على نفسي
السؤال التالي: أين تكمن خطورة اليهودية
بوصفها مؤشرًا إلى الصهيونية؟ تكمن خطورتها
في ادِّعائها بأن اليهود هم وحدهم شعب «الله».
يزعم اليهود بأنهم الشعب الوحيد الذي تحدَّر
من سلالة آدم. وفي زعمهم هذا يعتقدون بأنهم
العنصر الوحيد الذي يمت بصلة القربى إلى آدم،
الأمر الذي دفعهم – وما زال يدفعهم – إلى
الاعتقاد بأنهم أبناؤه وحدهم. ويُعَدُّ هذا
الزعم أو المعتقد تجريدًا للأمم من بنوَّة
آدم وحرمانًا لهم من علاقة أبوية وثيقة. والحق
أن هذا الزعم أو المعتقد يصبح باطلاً عندما
نعلم أن كلمة «آدم» تعني الإنسان أو الجنس
البشري في وحدته الإنسانية وشمولها. تنصُّ الشريعة
اليهودية، كما تنصُّ التفاسير التي اجتهد
فيها أحبار اليهود، على وجود نوعين من
التطوُّر: أ.
تطور هابط من
الأعلى، من السماء؛ ب.
تطور صاعد من الأدنى، من الأرض أي من
التراب. لما كان آدم، الذي
يتحدَّثون عنه ويجعلونه أبًا خاصًا لهم، قد
ولد من دون أب بشري أو أم بشرية، أي أنه خُلِق
من «الله» مباشرة، وفق زعمهم، فإنه يمثِّل
التطوُّر الهابط من السماء، من «الله». ولما
كانوا يجسِّدون زعمهم هذا في اعتقاد يشير إلى
كونهم أبناءه أو شعبه، فإنهم، بالتالي،
يجسِّدون معتقدَ أنهم أبناء «الله» لأنهم
أبناء آدم الذي لم يولد من رجل وامرأة. إذن
فعلاقتهم مع«الله» تتحقق عن طريق أبيهم آدم
الذي أتى إلى الوجود الأرضي على غير ما هو
معروف ومألوف عن عملية التناسل والولادة
المعهودة. إنهم يخصُّون أنفسهم بهذه العلاقة
ويحرمون الشعوب الأخرى منها؛ إنهم، كما
يزعمون، أبناء التطور الهابط من السماء،
متناسين أن الناس آدميُّون سواء بسواء؛ إنهم
يحتكرون «آدمية» الإنسان الواحد ويُسقِطونها
عن الآخرين. أما المسيح فقد أعلن أن جميع
البشر أبناء الله. إذا ما تساءلنا عن موقف
اليهود من الأمم أجبتُ بما يذكره التلمود وما
تتضمَّنه التوراة في تضاعيف معتقداتها: جميع الأمم والشعوب قاطبة
هم نتاج تطور صاعد من العناصر المادية؛ إنهم
أبناء الأرض والتراب؛ إنهم أبناءُ الناس
وبناتُ الناس. وهكذا يلبس جميع الناس أجسادًا
مجرَّدة من الأرواح – وهذا لأنهم يتَّخذون
الشكل البشري عبر التطوُّر الحيواني.
فالشعوب، كما يزعم اليهود، أبناء التطور
الصاعد من التراب. هكذا ينتهي هذا الزعم
باليهود إلى التعبير عنه على النحو التالي: أ.
تيار صاعد من تراب «الأرض»، من الأدنى،
يمثِّل الأمم؛ ب.
تيار
هابط من الأعلى، من «الله»، يمثِّل اليهود. وهكذا يعتقدون أن علاقتهم
مع «الله» هي علاقة بنوة أو علاقة شعب خاص
ومميز. ولم يتورَّعوا عن تسمية أنفسهم، في سفر
التكوين، بالجبابرة أبناء «الله»، وتسمية
الأمم بأبناء وبنات الناس. تلكم هي العرقية
اليهودية التي تسعى الصهيونية إلى دعمها
وتحقيقها. ثانيًا. المفهوم
العرقي والعنصري: يبلغ هذا المفهوم وضوحه في
السؤال التالي: كيف تندمج الصهيونية مع
اليهودية في التوراة؟ يتصل هذا السؤال بسؤال آخر
هو: ماذا تعني كلمة «صهيون»؟ تعني هذه الكلمة جبل صهيون،
جبل الرب الذي تجتمع فيه محافل الملائكة؛
ولقد حوَّله اليهود من جبل الكرمل[9]
إلى جبل صهيون. يعتقد اليهود أنه يجب عليهم أن
يعبدوا الرب، أي الإله، كما يحلو لهم أن
يتخيَّلوه على جبل صهيون.[10]
وهكذا يُعَدُّ جبل صهيون مقدسًا في نظر
اليهود.[11] يعتقد اليهود أن أورشليم،
ابنة صهيون، هي المدينة الخاصة بسكناهم؛ هي
مدينة داود ومقر الهيكل حيث عبدوا إلههم. وهذا
لأن اليهود يعجزون عن لقاء «الرب» وعبادته
إلا في أورشليم، في الهيكل وعلى جبل صهيون.[12] هكذا تكون الصهيونية قائمة
في العقيدة اليهوية–اليهودية وماثلةً فيها.
وعلى هذا الأساس، لا تُعَدُّ الصهيونية
مصطلحًا جديدًا أو تعبيرًا جديدًا لحركة
سياسية. لقد وُجِدَت الصهيونية مع اليهودية
في الصحراء، وتركَّزت في سياسة فئة إقليمية
هي اليهودية، وفي السعي إلى تأسيس دولة قومية
لم تتحقق على أرض الواقع. -
الصهيونية
قائمة في كراهية اليهود للشعوب التي تجرِّدها
من حقِّ الحياة والوجود؛ -
الصهيونية
قائمة في عقيدة يهودية–يهوية تسعى إلى إفساد
شعوب العالم وتضليلها وإخضاعها؛ -
الصهيونية
قائمة في تدبير يهوه لقضية اليهود وضمان
حياتهم في تخطيط مسبق لوجودهم؛ -
الصهيونية
قائمة في عقيدة الشعب المختار، شعب يهوه؛ -
الصهيونية
قائمة في جبل صهيون، في أورشليم، ابنة صهيون،
في بناء الهيكل[13]
وفي دعوة إلههم للعودة إليهم؛ -
الصهيونية
قائمة في عنصرية يهودية التوراة: وهذا يعني أن
الصهيونية قائمة في احتضان دولة إسرائيل
ليهود العالم أجمع، وفي النتيجة التي انتهى
إليها مؤتمر الكُتَّاب اليهود، وهي: «كل
يهودي هو صهيوني.» تزداد دهشتي وأنا أفكر كيف
استطاع اليهود أن يُدخِلوا إلى عقول الناس،
شرقيين كانوا أم غربيين، أن الصهيونية حركة
حديثة وجديدة منفصلة عن اليهودية. ألا نعلم أن
اليهودية صفة مميَّزة لسبط يهودا المتعصِّب
لذاته والمتعالي على الأسباط الأخرى؟
فالملوك والأنبياء يجب أن يكونوا يهودًا، ولا
يأتي صالح من الجليل، أي جليل الأمم؛ وعلى هذا
الأساس رفضوا المسيح الجليلي. بيت لحم يجب أن
تكون يهودية؛ وأورشليم، بقدر ما يجب أن تكون
يهودية يجب أن تكون، بالقدر ذاته، ابنة صهيون.
وهكذا يجسِّد سبط يهودا عصبية وعرقية إسرائيل
وصهيونيَّتها. وفي الوقت الحاضر تحاول دولة
إسرائيل أن تلوِّن مواطنيها بصبغة اليهودية،
الأمر الذي يجعلنا نرى الصهيونية في زيِّها
القديم والحديث: لقد وُلِدَت الصهيونية بوجود
اليهودية ونشأت وترعرعت في أحضانها. هنالك قضايا أخرى قائمة في
صلب التوراة والتلمود تشير إلى يهودية
صهيونية تفعل هادفة إلى تقويض المبادئ
الإنسانية، وعلى رأسها المسيحية، وإحداث
البلبلة والفوضى في موازين القيم والمفاهيم،
وتسعى إلى احتجاز هذه القيم والمفاهيم في
نطاق التوراة، وإلى ربط كل مبدأ أو عقيدة
بحبال العقيدة التوراتية. يجدر بي، في هذا السياق،
وعلى سبيل المثال، أن أذكر بعض هذه القضايا
وأسعى إلى التأكيد على أنها لا تحمل في
مضامينها المعاني والتفاسير التي طرحتْها
اليهودية–الصهيونية وتقبَّلها القائمون
والمشرفون على الشروح والتفاسير التوراتية
الحرفية، من أيِّ اتجاه فكري أو عقائدي كانوا. أولاً:
النبوءات: أ.
لا تتعدَّى نبوءات التوراة
عن المسيح كونها رغبة مكبوتة في
صميم لاوعي اليهود لمجيء مخلِّص. والحقيقة
تشير إلى أن كلمة «مسيح» لا تتجاوز نطاق
مصلحتهم القومية والسعي إلى تنشئة قائد حربي
ينقذهم. فهم يلحُّون على مسيح ويطالبون
بمجيئه في الظروف التاريخية والسياسية التي
تداهمهم في أثنائها المصائب ويقعون في شباك
الفوضى والاضطراب الذي يسبِّبونه لأنفسهم،
أو في أثناء الأسر والنفي، وفي أوقات الضعف
الذي يستحوذ عليهم. ب.
يعلِّق
أدعياء الدين التقليدي أو الطقسي، الذين
يودُّون إقامة علاقة بين العهد الجديد والعهد
القديم، أهمية كبرى على النبوءات التوراتية
المزعومة والمتَّصلة بمجيء المسيح. فهم
يقولون إن التوراة، في سفر أشعيا وغيره،
تنبأت بولادة المسيح من عذراء في بيت لحم
اليهودية، علمًا أن «بيت
لحم» الحقيقية موجودة
في الجليل،[14]
ويشهدون على قيمة هذه النبوءة، ويعتمدونها
برهانًا قاطعًا على علاقة التوراة بالإنجيل.
لكن هذا البرهان لا يجد تبريرًا له لسبب
التناقض في صلب النبوءة المزعومة ذاتها. فصور
المسيح المرسومة في التوراة تتناقض مع المسيح
الحقيقي الذي ولد في بيت لحم الجليل؛ وهذا لأن
النبوءة التوراتية تصوِّر المسيح قائدًا
حربيًّا يخلِّص شعب إسرائيل، ولا تتحدَّث عن
المسيح الذي دعا إلى المحبة، المسيح الذي
يحدِّثنا عنه الإنجيل. ولما كانت نبوءة
ولادته في بيت لحم لا تنطبق عليه فلا بُدَّ
أنها أُقحِمَت في فترة زمنية لاحقة في أماكن
عديدة من التوراة. وهذا ما فعله اليهود
المتنصِّرون الذين أدركوا أن زمام الأمور بدأ
يفلت من أيديهم. لذا عمدوا إلى إقحام آيات
وعبارات في التوراة تهدف إلى ربط الإنجيل
بالتوراة. وكما ذكرتُ سابقًا، لم تُجمَع فصول
التوراة إلا في نهاية المئة الأولى بعد صعود
المسيح، الأمر الذي ساعدهم على إقحام ما
رغبوا به. نحن نعلم أن كلمة «مسيَّا»
مصطلح يُطلَق، في التوراة، على كل ملك أو نبي
أو قائد، يهوديًّا كان أم غير ذلك، عمل على
إنقاذ اليهود من أزمة تعرَّضوا لها أو صعوبة
واجهتهم أو مصيبة حلَّت بهم، وتوقَّعوا
تدخُّل إنسان يخلِّصهم ويساعدهم. فالواقع هو
أن اليهود لم يتورَّعوا عن تسمية قورش، ملك
الفرس، «مسيحًا»،
وذلك لأنه أنقذهم من أسرهم وسَبْيِهم وسمح
لهم بالعودة إلى فلسطين. ولم يتورَّعوا أيضًا
عن تسمية كل من شاول وداود وغيرهم «مسيحًا».
إذن فالمسيح، في عقيدتهم، ليس واحدًا بقدر ما
هو «مسحاء» عديدون! وفي هذا المنظور ينحصر دور
المسيح في تقديم العون لليهود والإسرائيليين
وحدهم؛ ولا يتَّسع هذا العون ليشمل الأمم. إذن
تتحدث التوراة عن أكثر من مسيح؛ وإذا كان،
الأمر كذلك، فليس المسيح المذكور في التوراة
هو المسيح المنتظر، وهذا لأن أنبياء اليهود،
أو بالأحرى أحبارهم، يطرحون قضية المسيح على
بساط البحث في كل ظرف يتعرَّضون فيه لويلات
ونكبات ومخاطر ويبحثون عن خلاص منها. أما
المسيح، «خريستوس» المذكور في الإنجيل، فهو المسيح
الحقيقي، مسيحُ الأمم كلِّها، مسيح لا يتصف
بأي صفة توخَّاها اليهود من أي مسيح ينتظرونه
لتحقيق رغباتهم وأمانيهم العنصرية والقومية.
لقد رغبوا في مسيح لا يطردهم من الهيكل. ت. يُخفِق
موسى، بحسب ما جاء في التوراة، في تحقيق مآرب
بني إسرائيل بصدد الدخول إلى الأرض الموعودة
المزعومة بحسب التفسير الحرفي الذي تبنوه،
فيتنبَّأ بآخر غيره، مسيح أو نبي هو يشوع بن
نون، القائد الحربي. إذن فالأمر مرتبط بقيادة
وزعامة دنيوية وليس بخلاص روحي. فقد كان
الأنبياء والملوك «مسحاء». وفي أشعيا (45: 1-4)
نقرأ ما يلي: «قال الرب لمسيحه...». ثانيًا:
تشكيل اللجنة السرية: بعد انتشار المسيحية، داخل
فلسطين وخارجها، وبعد تشكيل اليهود للجنتهم
السرية حوالى عام 37 م، دُعي اليهود إلى اعتناق
المسيحية، وحُرِّضوا على تقويضها من الداخل،
وجعلوا من المجمع اليهودي مقرًّا لدعوتهم.
لذا كانت المسيحية في فلسطين تنتشر تحت كنف
وإشراف المجمع اليهودي حتى عام 46 م.[15]
ثالثًا:
المسيح وداود: ذكر المسيح بأنه
ليس يهوديًّا ولا يمتُّ إلى داود بصلة. وبرهن
المسيح على انتمائه إلى منهجية التفكير
الأممي الصافي وعلى شموليَّته وعالميَّته
التي تتجاوز العرقية اليهودية وتلغيها.[16]
فقد بدأ المسيح بتبشير أهل الجليل لسببين: 1.
لأنه
جليلي أممي؛ 2.
لأن
أهل الجليل كانوا أممًا في غالبيَّتهم
وإسرائيليين متأثرين بمبادئ الأمم ونابذين
للعنصرية اليهودية. رابعًا:
الصيغة الأخيرة للعهد القديم والتوراة: من الأهمية بمكان أن أذكر أن
النسخة الأخيرة، التي جُمِعَت وضَمَّت
التوراة وأسفار العهد القديم ككل في كتاب
واحد، لم تأخذ صيغتها النهائية، أي أنها لم
تدوَّن كما هي الآن، إلا بعد انقضاء مئة عام
على قيامة المسيح. وهذا يعني أن العديد من
الأقوال والفصول والقصص والمعتقدات
والتعليقات والملاحظات والتفاسير أُقحِمَت
في هذا التجميع أو أضيفَت إلى هذا التصنيف
الأخير الذي ترافق مع الصيغة التي وُضِع فيها
التلمود في نهاية المئة الأولى. والحق أن هذا
التدوين الأخير للعهد القديم والتوراة، الذي
ضمَّن فيه الأحبار والرابِّيون ما رغبوا أن
يضمِّنوه من عبارات وأقوال ومعتقدات، هو
تدوين زائف، هَدَفَ إلى ربط المسيحية بشريعة
العهد القديم وإقامة علاقة وثيقة ومصالحة
تخدم المصلحة اليهودية. وقد هدفت هذه
الإقحامات أو الإضافات إلى إظهار العهد
الجديد على نحو يبدو وكأنه إكمال للعهد
القديم، الأمر الذي يعني أن حقائق العهد
الجديد تعتمد على ما جاء في العهد القديم.
وعلى هذا الأساس تعرَّضتْ المسيحية لتشويه
اليهود الذين اعتنقوها. خامسًا:
المسيح لم يأتِ لليهود: يميِّز المسيح بين
الإسرائيليين واليهود في قوله: «لم أُرسَل
إلا لخراف بني إسرائيل الضالَّة». إذن
فالمسيح لم يُرسَل إلى اليهود. وعلى غير ذلك،
أُرسِل إلى بني إسرائيل، الذين ضلَّلهم أحبار
ورابِّيو اليهود، لينقذهم من أضاليلهم.
فالمسيح يعترف ببني إسرائيل، ويرفض الاعتراف
باليهود الذين يدعوهم إلى التوبة، تمامًا كما
دعاهم يوحنا المعمدان. وبالفعل كان المسيح
يتجنب الذهاب إلى أورشليم، عاصمة اليهودية.
لقد قاوم المسيحُ اليهودَ الذين أفسدوا
الإسرائيليين والأمم وأضلُّوهم، اليهود
الذين صلبوه. سادسًا:
عقيدة المجيء: نشأت عقيدة
المجيء – مجيء المخلِّص، مسيًّا – لدى
اليهود عندما كانوا في الأسر في بابل وفارس،
وقبل ذلك في أثناء تيههم في صحراء سيناء. وأخذ
أنبياؤهم وأحبارهم ورابِّيوهم ينشدون الخلاص
ويأملون بتأسيس وطن قومي. وإن ما حققوه بعد
عودتهم من سبي بابل وفارس مازالوا مستمرين
بادِّعائه في الوقت الحاضر، لاعتقادهم بأنهم
لا يزالون في عالم النفي والأسر والغربة. إنهم
غير قادرين على فهم أو وعي غربتهم الروحية،
ونفيهم لمعرفة الإله الحقيقي والمسيح
الحقيقي، وأسرهم ضمن سجن مركزية الأنا.
أما أرض الآباء التي ينشدونها في تخيُّلاتهم
الانفعالية فلم تعد أرض الآباء كما يزعمون.
لذا تهدف الصهيونية القائمة في صميم اليهودية
إلى تدميرها، لسبب هو أنها انتصرت على اليهود
وسَبَتْهم وأخضعتهم. لذا صبَّ أحبار اليهود
ورابِّيوهم وأنبياؤهم جام غضبهم على أرض
الآباء وعلى الأراضي المحيطة بها، وذكروا، في
آيات عديدة من العهد القديم، الدمار الذي
سينزلونه بها. سابعًا:
هبة الأرض: تذكر التوراة أن «الله»،
وهو يهوه، يأمر إبراهيم بمغادرة الأرض التي
يقطنها ويمضي إلى الأرض التي يعطيها أو يهبها
له ولنسله. وتذكر أيضًا أن الإله ذاته يعطيه،
كما يعطي لموسى وشعبه، الأرض الواقعة بين
الفرات والنيل. في هاتين
الهبتين نجد تناقضًا كبيرًا. في الهبة الأولى
يأمر الإلهُ إبراهيمَ أن يغادر أرضه ليعطيه
أرضًا أخرى أو وطنًا آخر يقطنه أناس آخرون هم
الفلسطينيون. وفي الهبة الأخرى، أو العطاء
الثاني، يعطيه أو يهبه الأرض التي أمره
بمغادرتها – بلاد الآباء، أي الأرض الواقعة
بين النهرين. بناءً على التناقض الوارد نسأل:
أين القدسية في الموضوع؟ وأي أرض منهما
تُعتبَر مقدسة أو أكثر قدسية من غيرها؟ وإذا
كانت الأرضان مقدستين، بدليل أنهما عطيَّتان
أو هبتان من إله لا يهب أو لا يعطي إلا الخير،
فلِمَ أمر هذا «الإله»
إبراهيمَ بمغادرة الأولى؟ ولمَ لم يأمره
بالبقاء والإقامة في الأرض التي يسكنها ويقيم
فيها إن كانت القضية ترتبط بالعبادة فقط؟ هل
يُعتبَر هذا التصرف لائقًا بإله المحبة أم
بإله قومي وعنصري؟! وعلى النقيض، تشدِّد
التوراة في سفر التكوين على احترام بلاد
الآباء (تكوين 15: 15) التي غادرها إبراهيم بناءً
على اعتبارها بلادًا خارجة عن نطاق عبادة «الله».
وامتثالاً لأمر هذا الإله، وفق ما جاء في
السفر ذاته، يأمر إبراهيم ابنَه اسحق أن يتخذ
زوجة له من بلاد الآباء. ألا يعني هذا أن قدسية
الأرض تشمل بلاد الآباء والأرض الجديدة
الممنوحة التي هي فلسطين؟ وإذا كان الأمر
كذلك فلمَ يدعو أنبياء اليهود ورابِّيوهم
وأحبارهم إلى تدميرها في موضع آخر من
التوراة؟ يمكنني أن أستنتج ما يلي:
الله اللاموصوف، اللامحدود، اللانهائي، إله
جميع البشر، لا يعطي أرضًا لشعبه ويقول له: «أعطيك
الأرض الواقعة بين النهر الكبير والنيل»،
ويسبِّب طرد وتشتُّت وعذاب شعب آخر. الله الحق
يعطي الأرض لجميع الناس ليعيشوا بعضهم مع بعض
في محبة وسلام وحسن جوار؛ وهذا لأن الله يحب
جميع الناس، ويهتم لشؤونهم ويرعاهم على نحو
عناية فائقة. لذا أستطيع أن أقول إن ما ورد في
التوراة عن استعادة أرض، وعن تدميرها في وقت
لاحق، إنما هو تذكير لليهود بالانتقام من
البلاد التي سَبَتْهم وتدميرها أيضًا.[17] في الوقت
الحاضر، إذ يدرك اليهود أن أرض البلاد
المزعومة لم تعد أرض الآباء، يسعون عبر
مؤامراتهم[18]
إلى تدمير شعب أو شعوب تلك الأرض، وذلك لأنهم
يعتبرون ذلك الشعب أو الشعوب مسؤولة عن أسرهم
وتشتيتهم.[19]
إنهم يصبُّون عليها جام غضبهم التوراتي
والتلمودي الانفعالي، المجسَّد بالصهيونية
التي تجعل من شعب إسرائيل دولة يهودية،
عدوانية بعنصريَّتها وعرقيَّتها. وتظهر هذه
الصهيونية جليَّة في عدوانها على
الفلسطينيين الذين اضطهدهم اليهود في
القديم، ويضطهدونهم في الوقت الحاضر على نحو
ما أمرت به التوراة. إنهم يُسقِطون عقيدتهم
التوراتية والتلمودية العدوانية الماضية على
الشعوب الحديثة التي تبنَّت مبادئ إنسانية
وكونية ساعدتْها على إبداع حضارة تفتخر بها
الحضارات العالمية الأخرى. *** في هذا المنظور أعتبر دفاعي
عن هذه الحضارة واجبًا إنسانيًّا وكونيًّا،
وتأكيدًا على كون الصهيونية عقيدة يهودية
اصطبغت بالعدوانية التي أوحت بها التوراة
والتلمود ووضعت منهجًا تسعى إلى تحقيقه على
مستويين: أ.
مستوى تقويض المبادئ الإنسانية والروحية
وإفساد الشعوب وتلويث أخلاقها؛ ب.
مستوى
الاعتداء على مقوِّمات الشعوب التي تحيط بها
نتيجة للكراهية والعدوانية التي تنطوي عليها
التوراة والتلمود تجاه الأمم – هذه
العدوانية التي أدعوها الصهيونية في زيِّها
القديم، أي اليهودية، وفي زيِّها الجديد، أي
دولة إسرائيل – هذه الدولة التي توظِّف
يهوديَّتها القديمة وصهيونيَّتها اليهودية
الجديدة لاستغلال الآخرين وتسويغ عقيدتها
التي تتجسَّد في التفوق والاختيار الزائفين. لن تنتهي اليهودية
الصهيونية إلا بعودة اليهود إلى المسيح الذي
دعاهم إلى الخلاص الروحي ومحبة جميع الناس.
وهكذا يجب عليهم أن يعرفوا الحقيقة
المتمثِّلة بالمسيح ليتحرروا من إرهاصات
اللاوعي الجمعي الممتلئ بالكراهية التي
سيطرت عليهم في أثناء السبي ودفعتهم إلى
كتابة التلمود الحافل بانفعال التدمير. ***
*** *** *
يتلمس هذا
البحث (الذي نُشِرَت صياغة أولية له في مجلة
العنقاء الإلكترونية في شباط الماضي)
الأسباب التي تجعل من اليهود شعبًا
عنصريًّا وعرقيًّا يقف من الأمم ومن الشعوب
موقف العداء ويجرِّدها من القيم الإنسانية.
وبالإضافة إلى ذلك يؤكِّد هذا البحث على أن
هذا الموقف العدائي لا ينتهي إلا بمعرفة
الحقيقة التي رفضها هذا الشعب منذ ألفي
عام، وبالسعي إلى تأمل المبدأ الإلهي
والإنساني الذي بشَّرهم به المسيح، فدعاهم
إلى التحرر من مركزية الأنا التجمُّعية
ليكونوا شعبًا فاعلاً من أجل الخير والمحبة
والسلام. ورجائي أن يُفهَم بحثي في سياقه
هذا. [1]
لقد أحرق
شمشون حقول الفلسطينيين – وها هم اليوم
يحرقون حقول الفلسطينيين! ودمروا أريحا –
وها هم يدمرون المدن الفلسطينية! [2]
يُعتبَر القباليون معلِّمي «الحكمة
الخفية» أو «العقيدة
السرية» التي نجد جذورها
وأصولها في الصوفية الإسرائيلية التي
تبنَّاها الحكماء السرَّانيون والروحيون
الكبار الذين ائتُمنوا على المبادئ التي
استوحاها موسى، على نحو شفهي، من مبادئ
الأمم، وأصبحوا الأوصياء الحقيقيين
والمعلِّمين الروحيين المؤهَّلين لمعرفة
الأسرار الكونية، والقوانين الطبيعية
والإنسانية، وتأويل أو شرح أو تفسير خفايا
ومضامين تلك الأسرار التي لا تلقَّن إلا
للذين «اعتمدوا»
إلى مستويات روحية عليا. وقد حافظ القباليون (الذين
تأثروا، في أثناء سبيهم إلى بابل وبعده،
وفي أثناء وجودهم في مصر، بمبادئ الأمم
التي تمثلت في الحكمة الكلدانية
السرَّانية، والحكمة الهندية والفارسية
المؤوَّلة، والفيثاغورية المعدَّلة
والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة،
والحكمة الأخناتونية المرموز إليها
بسرَّانية الأهرام التي تعمقت في فهم أسرار
الكون) على الصوفية الإسرائيلية التي
اضطهدتها العقيدة اليهودية الممثَّلة
بالرابِّيين والأحبار والحاخامات
والتلموديين والتوراتيين الذين أحلُّوا
محلَّها حرفية الشريعة. ولما كان أولئك
الأحبار والرابِّيون والحاخامات قد
حرَّفوا الصوفية الإسرائيلية إلى مجرد
طقوس وشريعة حرفية مكتوبة فقد جعلوا من
أنفسهم المعلِّمين والأوصياء المؤهَّلين
لترجمة ولتفسير وتدوين شريعة موسى
الشفهية، أي التعاليم والمبادئ السرَّانية
التي لا يلج محرابها إلا الذين اعتمدوا،
على نحو تكريس، وأشرفوا على معرفة أسرار
الوجود العظمى العميقة. ضمن هذا المنظور
سيطرت الشريعة المكتوبة وطقوس العبادة
الظاهرية التي تحرك أو تثير انفعالات
العامة من الناس، وتراجعت الصوفية
السرَّانية والحكمة الروحية الممثَّلة
بالقبالة التي تعود بأصولها إلى المبادئ
الكونية السرَّانية التي تبنَّاها
سرَّانيو الشعوب الأخرى والتي انطوت على
ذاتها في سرَّانية الفهم العميق. [3]
تذكر التوراة أن موسى، بعد أن أمضى فترة
زمنية معينة على الجبل، حيث استغرق في تأمل
عميق وهو يستوحي الإلهام الإلهي، الممثَّل
بالوعي الكوني الذي يُمِدُّه بمعرفة
الأسرار، وضع مبادئ ناموس نُحِتَ في لوحين.
وتذكر أيضاً أن اللوحين تعرَّضا للكسر
عندما انحدر موسى إلى أسفل الجبل ورأى فئة
من الإسرائيليين، تمثلت في سبط يهوذا وسبط
بنيامين أو سبط لاوي، وقد انحرفت من ديانة
إيل–الله إلى عبادة يهوه. في هذه القصة أو
الحادثة ندرك أن اللوحين رمز سرَّاني تتخذ
منه الصوفية الإسرائيلية، وغيرها من
المبادئ السرَّانية، شعارًا لها ومبدأ،
وأن تعرُّضهما للكسر رمز يشير إلى نهاية
هذه الصوفية ظاهريًا، وأن العبادة الجديدة
تجسدت في سيطرة الشريعة الطقسية الحرفية
التي جعلها اليهود، بقيادة سبط يهوذا،
إرشادًا للناس وتعليماً لهم. في هذه الحادثة ندرك
أمرين: أ.
نهاية سرَّانية الحكمة أو
الصوفية الإسرائيلية؛ ب.
بداية
الشريعة اليهودية المكتوبة – موت الروح
وسيطرة الجسد. ومن هذين الأمرين
نستنتج: أ.
لم تكن نهاية السرَّانية
الصوفية الإسرائيلية نهاية فعلية بقدر ما
كانت نهاية ظاهرية. فقد ظلت خافية عن أبصار
اليهود الحرفيين. أما الصوفيون
الإسرائيليون الحكماء فقد حافظوا على
سرَّانيتها الباطنة وعلى بقائها بعيداً عن
سيطرة الحرفيين الذين لم يكونوا مؤهَّلين
لفهم أسرارها العليا ووعيها. وقد بدأت هذه
السرَّانية أو الصوفية المعمقة في الظهور
إلى العلن في كتابات القباليين الذين
أصبحوا المؤتمَنين الحقيقيين على سرَّانية
تعاليم موسى الشفهية التي اقتبسها من
الحكمة المصرية القديمة، والمؤهَّلين
لترجمتها وتفسيرها والاجتهاد بما تنطوي
عليه من أسرار عليا على نحو يساعد العاديين
من الناس على تصور وجود وعي كوني، وحقيقة
سرمدية وأبدية، وكيان شامل، ومعرفة الغاية
الأسمى لوجود الإنسان على الأرض. ب.
في هذا المنظور نعلم أن الرابيين
والحاخامات، شأنهم شأن أمثالهم في العقائد
الدينية الأخرى، لم يكونوا المؤتمَنين على
المبادئ الشفهية التي هي سرَّانية الحكمة
وصوفية المبدأ، لسبب هو أن هذه المبادئ لم
تكن شريعة حرفية أو مجرد طقوس. وبالإضافية
إلى ذلك لم يكونوا المؤهَّلين لتفسيرها أو
شرحها أو تدوينها أو التعليق على نصوصها
لأنهم كانوا أبناء الشريعة المكتوبة التي
زعموا أن موسى دوَّنها، أولاً، ولم تكن في
حاجة إلى تفسير أو توضيح مادامت شريعة
مكتوبة، ثانياً، ولأن الشريعة المكتوبة
تحتجز الروح في زنزانة الحرف، ثالثاً. [4]
راجع، مثلاً،
قصتي شمشون وإستر في التوراة. [5]
راجع أيضاً
قصتي يوسف ويشوع بن نون. [6]
راجع، في هذا
السياق، قصة الملك قورش. [7]
راجع كتاب زياد منى تلفيق صورة الآخر في
التلمود (يسوع المسيح والعرب والمسيحيين
والأميين). [8]
وبذلك تحولت الصوفية الإسرائيلية الممثلة
بالقبالة أو الغنوصية، التي هي السرَّانية
العرفانية الممتدة بجذورها وأصولها إلى
سرَّانية أو صوفية كلٍّ من الحكمة المصرية
والكلدانية المعدَّلة والأفلاطونية
المحدثة، كما تجلَّت في تاسوعات
أفلوطين، إلى الشريعة اليهودية–الصهيونية.
وهكذا أسقطت اليهوديةُ الصوفيةَ
الإسرائيلية، التي تتصل جذورُها بجذور
حكمة الأمم، وكرَّست العصبية القومية
والعرقية والعنصرية الحرفية الخالية من
الروح. [9]
يشير الرمز السرَّاني لجبل الكرمل، الذي
يعني «كرم إيل» («كرمة الله») إلى السمو
الروحي؛ إنه الرمز السرَّاني الذي اعتمدته
الصوفية الإسرائيلية السرَّانية. [10]
أصبح الاسم الجديد الذي أطلقه
اليهود على جبل الكرمل، وهو جبل صهيون،
رمزًا للتجمع اليهودي. [11]
لا يختلف جبل صهيون عن جبل الأولمب الذي
اختاره الإغريق ليكون مقرًّا للآلهة،
وبالتالي رمزاً للألعاب الأولمبية. [12]
أما المسيح فقد دعا إلى عبادة الله وتحقيق
ملكوته في كل مكان: في الهيكل المبني
بالحجارة على نحو عبادة، وفي الهيكل الجسدي
على نحو روحي. [13]
على هذا الأساس، يعتقد اليهود أن إلههم قد
غادرهم بعد تدمير الهيكل. فهم غرباء في
العالم ومشتَّتون؛ ولن تنتهي غربتهم
وتشتيتهم، أي أنهم لن يعودوا إلى ديارهم،
إلا بعودة إلههم إليهم. وترتبط عودة إلههم
إليهم ببناء الهيكل. وسوف يُبنى هذا الهيكل
في أورشليم ويتم اللقاء في صهيون. [14]
راجع كتاب المسيح ولد في لبنان للأب د.
يوسف يمين. [15]
راجع كتاب بولس الرسول الذي ترجمه عن
الألمانية الياس الرابع، بطريرك أنطاكية
وسائر المشرق. [16]
يعلن المسيح في الإنجيل ما يلي: أ.
لا أقبل شهادة من أحد. ب.
أعمالي
تشهد لي. ت.
الله
– أبي – يشهد لي. ث.
يوحنا
المعمدان يشهد لي. في هذا الإعلان، يرفض
المسيح كلَّ ما قيل على لسان الأنبياء. [17]
هذا هو السبب الرئيسي الذي دفعهم إلى كتابة
التوراة، على نحو عام، والتلمود، على نحو
خاص. [18]
راجع قصة إستر. [19]
هاكم بعض النبوءات التوراتية التي تهدف إلى
تدمير المدن والبلدان المجاورة: هوشع 14: 5 وما بعدها؛
مزمور 83: 1-17؛ أشعيا 27: 23-26؛ أشعيا 29: 17-21؛
حزقيال 23: 2-26؛ حزقيال: 31: 1-18؛ حزقيال 36: 24-30؛
حزقيال 37: 21-28؛ حزقيال 38 و 39 بكاملهما؛
دانيال 11: 40-45؛ دانيال 7: 23-28؛ إرميا 47: 1-7؛
زكريا 13: 8-9... بالإضافة إلى آيات خاصة عن
لبنان: زكريا: الإصحاح بكامله؛ حبقوق 2: 17؛
أشعيا 2: 12-13؛ أشعيا 29: 17؛ أشعيا 35: 2؛ أشعيا 60:
13.
|
|
|