|
مشكلة
الحرية الميتافيزيقية
نقولاي
أ. برديائيف*
1
بالإمكان معالجة
مشكلة الحرية من جوانب مختلفة، وهي مرتبطة
بالمذاهب الفلسفية كافة.[1]
وأنا مضطر إلى حصر موضوعي في مناقشة الأسس
الميتافيزيقية الأساسية المؤدِّية إلى طرح
مشكلة الحرية. وقبل كل شيء، يجب إيضاح علاقة
موضوع بحثي هذا بالموضوع السكولستي التقليدي
عن حرية الإرادة. غالباً ما تُناقَش مشكلة
حرية الإرادة من الناحية النفسية والأخلاقية؛ وفي هذه الحالة لا تُطرَح مشكلة
الحرية بعمقها الحقيقي. وعندئذٍ فإن طرح
المشكلة نفسها يفترض حلاً، وإن الحرية في
الإرادة التي تختار. كانت الدراسات اللاهوتية
والفلسفية حول حرية الإرادة دراسات مشوهة
ونفعية في موقفها من المشكلة، وقد سَعَتْ إلى
برهان مقولتَيْ صحة العقل الأخلاقية
واستحقاق الإنسان للعقاب. تُعتبَر حرية
الإرادة ضرورية جداً للقوانين الجنائية، في
حين كانت في الماضي ضرورية لتأسيس العقاب ما
بعد الموت. والمهم أن أنصار حرية الإرادة
المتطرفين كانوا، إلى حدٍّ كبير، أعداءً
لأنصار حرية الروح وحرية الضمير. وأكثر أشكال
المعارف الدينية تسلطاً أسَّست بناءها
التحتي على حرية الإرادة. أسَّس لوثر الحرية
الدينية على النفي الجذري لحرية الإرادة.
وسوف أهتم [الكلام لبرديائيف] بمشكلة الحرية
خارج هذه التشويشات النفعية، أي مشكلة حرية
الروح، كبداية كامنة في الأساس الأولي للوجود. نحن نرى أن مسألة
الحرية لا يمكن أن نستخلصها من الوجود، أو أن
نؤسِّسها على الوجود. وموضوعي سيكون على
الأقل موضوعاً نفسياً. لا يمكن معالجة مشكلة
الحرية بوصفها سكونية، بل ينبغي أن تُعالَج
معالجة دينامية، مع مراعاة الأوضاع المختلفة
وأطوار الحرية. وهذا ما فعله القديس
أوغسطينوس الذي تكلَّم على الحرية الأساسية
الأولية [الكبرى] والحرية الثانوية [الصغرى].[2]
وتحدث عن أحوال آدم الثلاث في علاقته بالحرية
– قبل وأثناء وبعد الخطيئة.[3]
وتأتي من القديس أوغسطينوس هذه النظرية عن
حرية الإنسان التي ترى أن حرية الإنسان تقوده
بالضرورة إلى الشر لأنه في عمق الإنسان
الميتافيزيقي توجد حرية لأجل الشر، وينبغي
بالضرورة أن تقوده الحرية للخير. إن الحرية
تملك ديالكتيكيَّتها الداخلية الخاصة،
مصيرها الواجب تعقُّبه ومتابعته. تُفهَم الحرية في
سياقين مختلفين: أولهما هو سياق الأحاديث
العمومية، وثانيهما هو سياق المعارف
الفلسفية. ويبدو الاختلاف في فهم الحرية في
الأحاديث العمومية أكثر وضوحاً مما هو عليه
في الفلسفة. وتوجد حريتان: حرية أولى لاعقلية،
حرية الاختيار، الخير والشر، الحرية كطريق،
الحرية التي تسيطر، لكن ليس الحرية التي تتم
السيطرة بها، أي الحرية التي يقبلونها بوصفها
الحقيقة وبوصفها الله، وليس هذه التي تُنال
من الحقيقة ومن الله؛ وهذه هي الحرية، بوصفها
لاحتمية، وبدون أساس. وتوجد حرية ثانية: حرية
عقلية، حرية في الحقيقة والخير، حرية كهدف
وكتحقُّق أعلى، حرية في الله ومن الله تُنال.
عندما نقول إن إنساناً ما بلغ الحرية فهذا
يعني أن الطبيعة الأعلى انتصرت فيه على
الطبيعة الأولى، لأن عقله مَلَكَ شهوته، ولأن
الأساس الروحي لديه أخضع عناصر النفس – وهذا
يعني أننا نتكلم على الحرية الثانية. وعن
الحرية الثانية يقول الإنجيل [كلمته]: "تعرفون
الحق والحق يحرِّركم." هنا تصبح الحرية
حقيقة، هي ليست "البداية الأولية". وهذه
ليست تلك الحرية التي من خلالها يصل الإنسان
للحقيقة. لكن عندما نقول إن الإنسان اختار
لنفسه بحرية طريق الحياة، وبحرية يسير على
هذا الطريق، فنحن عندئذٍ نتكلم على الحرية
الأولى. لم يعرف الإغريق
الحرية الأولى، الحرية الكامنة في الأساس
الأولي لدرب الحياة، الحرية التي تتقدم على
العقل وعلى معرفة الحقائق، لكنهم عرفوا فقط
الحرية الثانية، الحرية العقلية، الحرية
التي تمنح إدراك الحقائق. هكذا عرَّف سقراط
الحرية. فَهْمُ الحرية، كلاحتمية، كان غريباً
عن المدارك اليونانية. كل عالم التأملات عند
اليوناني يشدُّه لفهم الحرية كعقل، فانتصار
على الفوضى. البداية الديونيسية[4]
هي بداية الحرية. اليوناني خاف
اللانهاية. في الحرية أيضاً كهاوية، كبداية
لاعقلية، لاحتمية، توجد لانهاية رهيبة
وإمكانية انتصار للفوضى. وهذه الحرية كانت
بالنسبة لليوناني مادية. الحرية الحقيقية هي
انتصار الصورة. كانت تصورات اليوناني سكونية،
بيد أنها كانت جمالية تأملية لهرمونيا العالم.
الديناميَّة ترتبط بالحرية، وهذا ما لم يفهمه
اليونان؛ فهذه كانت حدود مداركهم. من المهم أن
أبيقور وحده اعترف بالحرية كلاحتمية، وربطها
بالمصادفات. كانت المثالية
اليونانية غير ملائمة ومناقضة للحرية.
المدارك اليونانية هزمها تعلقُ الإنسان
بالله أو الآلهة، بالمصير الذي كان الله أيضاً
تابعاً له. فمنذ العهد المسيحي من
التاريخ العالمي كُشِفَ الشكل الحق للحرية
الأولى، الحرية اللاعقلية، المرتبطة ليس
بالصورة، إنما بالحياة الأولية المادية. ومع
هذا الفهم للحرية ترتبط فكرة الخطيئة الأصلية، وقبول حقيقة
الحرية؛ وفي أساس
السيرورة الكلِّية تكمن الحرية اللاعقلية
الأولى. انبنت صعوبة
المعارف الفلسفية على مقولات الأفكار
اليونانية. فهم الحرية اللاعقلية الأولى
لاحتمي بالضرورة؛ وهذا يعني أنه لا يمكن
إنتاج مفاهيم عقلية من الحرية؛ وكل المفاهيم
العقلية عن الحرية هي عقلنةٌ، وفي العقلنة
مقتل لهذه الحرية، كما يقول برغسون. إن السر
الأولي للحرية هو بحق حدٌّ للمفاهيم العقلية.
لكن معنى هذا النوع من الحدود ليس رفضاً
للمعارف، ليس هو المذهب اللاأدري، بل هو بلوغ
المعرفة. إن المذهب الذي دعاه الكاردينال
نقولا الكوزاني، أحد مشاهير الفكر الأوروبي،
بـ"الجهل العالِم" docta
ignorantia،
هو نفسه من مكاسب المعرفة. قد يكون ما نحصِّل
من المعارف ذات البنية الأخرى عن اللاعقلي
أكثر مما نحصِّل عن العقلي. الجديد الذي
أدخلتْه الأفكار الفلسفية الألمانية
بالمقارنة مع الأفكار الفلسفية اليونانية هو
تنظيم لمشكلات المعرفة اللاعقلية كأساس أولي.
ونجد جذور هذا في الصوفية الألمانية التي
أنجبت الفلسفة الألمانية. إن الحرية لا يمكن
أن تُعرَف من خلال المفاهيم السكونية؛ فهي
ديناميَّة ويمكن فقط أن تُعرَف دينامياً. وما
يقرِّبنا من سرِّ الحرية هي فقط دراسة الحرية
الديناميَّة وديالكتيكيَّتها الداخلية. 2
تقود ديناميَّة
الحرية إلى مأساة تدمير الحرية لنفسها.
الحرية اللاعقلية الأولى تولِّد أكثر من
نواتها. لا يوجد أي ضمان فيها بأنها سوف
تولِّد الخير، أو بأنها سوف تتجه إلى الله، أو
بأنها سوف تحفظ وتصون نفسها. الحرية
اللاعقلية الأولى تملك صفة مصيرية تقودها
لتدمير نفسها، منتقلة للطرف المعاكس لها
ومولِّدة الضرورة. عندما تمشي الحرية في طريق
الشر فهي تضيِّع نفسها، وتسقط في الحيِّز
الذي تُنشِئُه الضرورة. فيصير الإنسان عبد
الطبيعة، وعبد الأهواء الدنيئة. تنطوي الحرية
اللاعقلية الأولى على إمكانية الفوضى في حياة
النفوس المفردة وحياة المجتمع. الحريةُ بدون
صلاة صوريةٌ، لا تختار لنفسها شيئاً، خاملة،
لامبالية بالحقيقة والخير، تُختَزَل إلى طلب
الإنسان والعالم وإلى عبودية البيئة
والأهواء. وهكذا تصير الضرورة الطبيعية
تشكيلة من الدرجة الثانية، مقابل أسبقية
الحرية الأولية. الضرورة هي بنت الحرية. فمن
الخطأ، إذن، أن تتَّجه إلى ما يتجزأ به
العالم، فتؤكد ذاتها وتقود إلى الاستعباد
المتبادل. الحرية الأولى –
في حدِّ ذاتها – تثبت الحرية إثباتاً واهناً.
إنها دائماً تسعى لنفي وإبعاد خطر الفناء عن
نفسها. وهذا الوهن أدَّى بالقديس أوغسطينوس
إلى نفيها، وبالقديس توما الأكويني إلى
تقييدها والجور في حقها، إذ رأى أن الحرية
التي لا تشبع ولا تخضع للحقيقة ليست محتِّمة
للخير، بل هي نقص. الحرية الثانية
حرية عقلية، حرية متضمنة في الحقيقة والخير،
تقود لتماهي الحرية مع الحقيقة والخير
ولتوليد منظمات وهيئات اجتماعية ودينية،
تُتَوخَّى فيها الحرية لكنها تتكشف عن كونها
ربيبة الضرورة. فإذا كانت الحرية الأولى تقود
إلى الفوضى فإن الحرية الثانية تقود إلى
الاستبداد الثيوقراطي أو الشيوعي. الحرية الثانية
هي حرية ذات محتوى، مادية، خاضعة، تابعة
للحقيقة وللخير. لكن إذا أُخِذَتْ على هذا
النحو فهي تنفي حرية الاختيار، تنفي حرية
الضمير، تقود إلى المنظمات والهيئات الجبرية
في الحياة. وبهذا الشكل فإن الحرية تتطابق إما
مع الضرورة الإلهية (في الثيوقراطية) أو مع
الضرورة الاجتماعية (في الشيوعية). إذا كانت
الحرية بالمعنى الأول تحمل بذاتها خطر تدمير
حرية الإنسان نفسَه وجورِه، فالحرية بالمعنى
الثاني تحمل بذاتها خطر ونفي حرية الإنسان
بشكل عام. الحرية الثانية هي، في الجوهر، حرية
الله، النفس الكلِّية، العقل الكلِّي، حرية
المجتمع المنظم، لكنها ليست حرية الإنسان.
الحقيقة (أو هذا ما يُظَنُّ عن الحقيقة) تنظيم
الحرية، لكن لا حرية في غياب الحقيقة. الحرية الثانية
لا تعرف هذا الذي قاله وعبَّر عنه بعظمة
دوستويفسكي على لسان المفتش الأكبر للمسيح:
"أنت تمنيت حباً حراً للإنسان لكي يمشي هو
وراءك بحرية مفتتناً ومسبباً وأسيراً لكَ."
الحرية الأخيرة العليا أنا أستطيع اقتبالها
فقط من الحقيقة، لكن الحقيقة لا يمكن قسراً أن
تجبرني – قبول الحقيقة تشرطه وتفرضه حريتي
وحركتي باتجاهها. ليست الحرية مجرد هدف، بل هي
طريق أيضاً. المثالية
الألمانية في بداية القرن التاسع عشر (فيخته،
هيغل) واحدية بطبعها، استُلهِمَتْ من حماس
الحرية، لكنها في الجوهر لم تعرف حرية
الإنسان؛ عرفت فقط الحرية الإلهية، الأنا
الكلِّية، الروح الكلِّية. الحرية الأولى
بذاتها تقود إلى تدمير الحرية. والحرية
الثانية أيضاً هي نفي لحرية الإنسان من
أساسها. وهنا تكمن مأساة الحرية، التي منها،
على ما يبدو، لا يوجد أي مخرج. تنتصر الحرية
إما على فوضوية البيئة والأهواء، أو على
الضرورة أو الخيرات والنِّعَم الإلهية.
الفلاسفة يضعون عادة العلاقة بين الحرية
والضرورة في مركز مشكلة الحرية، وفي هذا يرون
المشكلة الرئيسية. لكن التحدي للأكبر لمشكلة
الحرية يكمن في العلاقات بين الحرية والخيرات
الإلهية، بين حرية للإنسان وقدرة الله
المطلقة وحرية الله. تاريخ الأفكار الدينية
واللاهوتية في الغرب مملوء بنقاشات مرتبطة
بمشكلة العلاقة بين الحرية والخيرات الإلهية. والمسألة غالباً
ما طُرِحَت على هذا النحو: إذا كان الله
موجوداً، وإذا كان قادراً مطلقاً وحراً، وإذا
كان للخيرات الإلهية أثرٌ على الإنسان
والعالم، فأي مكان إذن يبقى للحرية
الإنسانية؟ هذه المشكلة التي
أقضت مضجع القديس أوغسطينوس نصل إلى أشدها في
مؤلَّف لوثر في الإرادة المستعبدة
الموجَّه ضد إيرازموس.[5]
لا ينفي لوثر فقط حرية الإنسان، بل يعتبر معنى
الحرية ذاته كافراً وعديم التقوى. هل توجد
حرية الإنسان فقط بمعنى الحرية النابعة من
الطبيعة ومن الطبيعة الذاتية، لكن وأيضاً
بمعنى الحرية النابعة من الله؟ إذا كانت الحرية
الأولى تمتص العناصر والأهواء الطبيعية
وتبتلعها وتزيدها، إذن فالحرية الثانية تمتص
وتبتلع النِّعَم الإلهية وقدرة الله وقوَّته. حرية الإنسان
منتفية إذن، سواء كان الإنسان متعلقاً
بالطبيعة الكلِّية القدرة أم كان متعلقاً
بالله الكلِّي القدرة. نحن نرى أن الإنسان
كذلك ليس حراً إذا كان متعلقاً بذاته بطبيعته
الخاصة، مادامت طبيعة الإنسان هي جزء من
طبيعة العالم. الحرية الإنسانية تبدو كما لو
أنها مجزأة إلى طبيعة عليا ووسطى ودنيا. يقول
علماء اللاهوت: إن الإنسان يصبح حراً، يملك
الحرية، من فعل النِّعَم الإلهية. وحدها
الطبيعة الإنسانية الخيِّرة يمكن أن تسمى حرة.
وبهذه الحالة يدور الحديث عن المعنى الثاني
للحرية. وهذه هي الحرية التي تمنح الحقيقة
التي هي قدرة وطاقة تؤثر في الإنسان وتحرِّره.
لكن هل الإنسان حرٌّ بعلاقته بالحقيقة،
بعلاقته بالنِّعَم؟ هل توجد حرية تتقدَّم عمل
وفعل النِّعَم؟ هل توجد حرية تقبل الحقيقة
والنِّعَم؟ هل توجد حياة روحية تحدِّد مصير
الإنسان؟ وما الأفعال المتبادلة بين الحرية
والنِّعَم؟ علم اللاهوت
المسيحي، في صيغه السائدة، يحدِّثنا عن تأثير
الحرية ونفوذها، النِّعَم. لكن الحرية تثبت
هنا موضوعياً كمفهوم، وليس لصالح الإنسان،
فلا يُفهَم على أي شكل يمكن أن تسوِّغ حرية
الإنسان. حرية الإنسان
تملك مصدرها الخاص من الله، وحلُّ المشكلات
مؤجَّل. وإذا كان الله يمنح الإنسان حريَّته
يجب على الإنسان إذن أن يعترف بارتباط حريته
بالله. أي توجد في الجوهر فقط حرية الله ولا
توجد حرية الإنسان. أيضاً لا توجد بالمعنى
الحقيقي للكلمة حرية الإنسان إذا كانت متعلقة
بالوسط الاجتماعي والطبيعي وإذا هي استندت
إلى شروط خارجية. نقف عندئذٍ أمام
سؤال: هل يمكن تأسيس حرية الإنسان على الإنسان
نفسه، على طبيعته الإنسانية، على المصدر
الداخلي الذي يبقى إنسانياً؟ إذا أصبح عمق
الإنسان إلهياً – وهنا يجب البحث عن الحرية –
لأصبحت الحرية إذن إلهية، وليس إنسانية. ولكن
عجباً، هل يوجد عمق في الطبيعة الإنسانية
يستطيع أن يبرهن على حرية الإنسان، وبالتحديد
حرية إنسانية؟ 3
حاول بعضهم أن
يدلِّل على حرية الإنسان انطلاقاً من جوهرية
النفس الإنسانية. النفس الإنسانية هي جوهر،
والحرية هي ما يتحدَّد من داخل هذا الجوهر،
ومن قدرة الجوهر الإبداعية، وليس من الخارج.
هذا النوع من البرهنة على الحرية اختص به
المذهب الروحاني. وأهم نظريات الحرية أسَّسها
الروحانيون مستندين إلى فكرة الجوهر، وينتمي
لها الفيلسوف الروسي ل. م. لاباتين[6]
الذي طوَّرها في الجزء الثاني من كتابه مسائل
الفلسفة الحتمية. وإلى هذا النوع من حلِّ
المشاكل الفلسفية ينتمي دي بيران. وبهذا
يدافع هذا النوع من الروحانية الكامنة في
الطبيعة الإنسانية كما لو أنه يملك إمكانية
بديلة عن الوحدانية المثالية التي تثبت
دائماً الحرية الإلهية أو الروح الكلِّي،
ولكن ليس حرية الإنسان. وعندما يحدد هيغل
الحرية بكلمات هي "الحرية ينبغي أن تكون في
ذاته"[7]
فإن معنى هذا في الجوهر عند هيغل على هذا
الشكل: "أن تكون في ذاته"[8]
يمكن أن نجده فقط في الروح الكلِّي، لكن ليس
في الإنسان. وبخصوص الروحانية من النوع الذي
عند لاباتين فهي تبلورية، ولكنها ليست واحدية.
الحرية هي صيغة خاصة من العِلِّية الداخلية؛
الحرية في النهاية هي الحتمية، لكنها حتمية
من الداخل، من الجوهر ذاته، وليس من
ارتباطاتها. لكن الروحانية التبلورية لا
تحلُّ أيضاً مشكلة الحرية، وهي بذلك أشبه
بالمثالية الوحدانية. نظرية الجوهر
ليست أبداً مناسبة للحرية. إذا كانت الحرية
تحدد طبيعتي وجوهري فهي إذاً محتَّمة بهذه
الطبيعة الجوهرية. إذا حدَّدتُ طبيعتي فهي
صيغة حتمية، كما لو أني حددت الطبيعة الواقعة
خارجاً. وأن تكون تابعاً لطبيعتك الذاتية
الخاصة، وبمقدار من الحرية، أفضل من أن تكون
تابعاً لأية طبيعة غريبة. وعلى هذا النحو، نجد
في جوهر طبيعتنا الحذر، أساس الحرية، وبنفس
الوقت الحرية بدون عمق وبدون أساس. الحرية
التي لا تملك جذراً ولا أساساً، التي هي غير
متجذِّرة في أيِّ شيء، لا يمكن أن تكون
متجذِّرة حتى في الجواهر، في جوهر طبيعة
الإنسان. فهذه النظريات تدمِّر سرَّ الحرية
اللاعقلي. لا تتحدد الحرية بالطبيعة، بل هي
التي تحدِّد الطبيعة. الجوهر الفرد
مقولة طبيعية، لكنْ هو نتاج، ليس بفضل العلوم
الطبيعية التي لا تحتاج للجوهر، إنما
بالميتافيزيقية الطبيعية. إن نظرية كانط
وشوبنهور عن الطابع الذهني المتيقِّظ وعن
الحرية الكامنة خارج عالم الظواهر تنطوي على
شيء من الحقيقة؛ فالحرية فيها لا تتعلق ولا
بأي طبيعة. لكن هذه النظرية تعاني من
الثنائية، التي بها الحرية تُنقَل إلى الشيء
بذاته ولا تملك أيَّ مكان في عالمنا الظاهري
هذا. والصحيح هنا التضاد الأساسي بين نظام
الحرية ونظام الطبيعة. ولا ينطبق على الحرية
أيُّ تحديد له علاقة ما مع الطبيعة أو مع
الجواهر المفردة. لا تملك الحرية أية جذور في
الوجود ولا يمكن لحرية الإنسان أن تتحدد،
وخصوصاً بالنعم الإلهية. لا يمكن أن تملك
حرية الإنسان مصدراً في الطبيعة الإنسانية أو
في الجوهر الإنساني أو في طبيعة العالم. لكن
عندئذٍ هل يمكن أن نتصور الحرية؟ تصبح مشكلة
الحرية بشكلٍ غير عادي مبهمة الجذور، ويملك
العقل إغراء نفي حرية الإنسان. لكن عندما
يتصور حرية الله، عندئذٍ يميل لمطابقتها مع
الضرورة الإلهية، كما لو أنه لا مكان في
الوجود للحرية. وأغلب أنصار فلسفات علم
الوجود كانت منظوماتهم حتمية. إن الوحدانية
حتمية دائماً وليس فيها مكان للحرية. ويقود
حماس الحرية إلى شيء من الثنائية التي ليس لها
طابع أنطولوجي. إن تصور الحرية وتأسيسها ممكن
فقط من خلال تمييز الروح عن الطبيعة، ومن خلال
تشكيل كيفيات أخرى للعالم الروحي أكثر نوعية
من عالم الطبيعة. لا يمكن أن تعترف
الروحانية الميتافيزيقية المنقولة بنظريات
الروح والعالم الروحي والحياة الروحية،
والتي هي صيغة طبيعية تفهم الروح كطبيعة،
كجوهر مادي. لكن الروح ليست طبيعية وليست
جوهراً، وليست حقيقة بمعنى حقيقة طبيعة
العالم. مشكلة الحرية هي مشكلة الروح، وهي لا
تُحَلُّ ولا بأية ميتافيزيقا طبيعية للوجود. 4
إذا كانت الحرية
لا يمكن أن تكون متجذِّرة في أي وجود، في أية
طبيعة، في أي جوهر مادي، إذاً يبقى طريق واحد
يثبت الحرية – هو الإقرار بأن مصدر الحرية
يُعتبَر العدم، الذي منه صنع الله العالم. تتقدم الحرية على
الوجود، وتحدد بنفسها طريق الوجود. الحرية
ترتيب ونظام مختلف عن ترتيب ونظام الوجود.
الحرية حقيقة، لكن ليس بالمعنى الذي فيه
العالم حقيقي. تتكشف الحرية فقط بتجربة
الحياة الروحية، ويُكشَف عنها باختبارٍ عن
العالم. الحرية ليست فقط بالتجربة الخارجية
مع العالم الخارجي الظاهري؛ كذلك لا توجد في
التجربة النفسية ولا توجد في التجربة مع أية
طبيعة كانت. فالعالمان الطبيعي والنفسي
دائماً حتميان. ينكشف سرُّ الحرية بكيفية
خاصة من التجربة الصوفية فقط. العالم الروحي
يختلف من حيث الكيف عن العالم الطبيعي،
الواقع فيه جسمُنا ونفسُنا، وأبداً ليس هو
العالم الكانطي، عالم الأشياء بذاتها. ومن
الخطأ أن نقول إن الحياة الجسمانية
والنفسانية هي ظاهرية، بينما الحياة الروحية
هي الشيء بذاته. فهذه ثنائية عقيمة، تقود لنفي
إمكانية التجربة الروحية نفسها. وهذا ما نراه
نحن عند كانط الذي لم يسلِّم بإمكانية
التجربة الروحية؛ بينما الحرية تتكشف فقط
بالتجربة الروحية. وليس المقصود أن الحرية
الثانية وحدها أعلى حرية في الحقيقة، لكن
الحرية الأولى اللاعقلية، الحرية الأولية
أيضاً. التجربة الروحية فقط تكشف لنا ما
يتقدَّم على وجود عالمنا الطبيعي وتقودنا
للتلامس مع الهاوية واللاأساس، اللذين لا
يملكان أساساً في أيِّ وجود، وحتى في داخلنا
أو فينا، لا في العالم ولا في الله. كلُّ أساس ثابت
للحرية مرتبط مع الأفكار المتوجِّهة بشكلٍ
غير عادي إلى العالم الطبيعي ومع الدليل
الأساسي الذي يصير حتمياً، لكن في العالم
الطبيعي، وهو لا يدخل في مراتبيَّة العالم
الطبيعي. لكن هو وضعية ذات نوعية أخرى، فيها
يذوب العالم الطبيعي بكل مراتبه الخاصة.
وهكذا يتكشف في التجربة الروحية ما إذا كانت
الحرية متجذِّرة في شيء ما؛ إذاً هي متجذِّرة
في العدم المتقدِّم على كل وجود، المتقدِّم
على العالم المخلوق. وهذا يعني أن
الحرية هي هاوية بلا قاع؛ واللاقرار
واللاأساس يمتدان إلى العدم. وهذا هو الـUngrund عند يعقوب
بوهمِه. وهذا يعني أن الحرية مرتبطة
بالإمكانية التي هي أعمق من الوجود الصوري
والوجود الحيوي. إن إمكانية وجود العالم
متقدِّمة على وجود العالم نفسه.[9]
وبحسب علم اللاهوت المسيحي خلق الله العالمَ
من العدم. وهذا يعني أن الله خلق العالم من
الحرية. وبعبارة أخرى يعبِّرون عن هذا: إن
الله خلق العالم بإرادته وحرِّيته. وهذا لا
يعني أن الله خلق العالم من المادة، كما ظن
قدماء الإغريق، مادام العدم ليس مادة إنما هو
حرية. وإذا كانت الحرية
متجذِّرة في الوجود فإنها إذن كما لو أنها
متجذرة في الله أيضاً ومن الله؛ أي أن حرية
الإنسان والخلق الحر لولا ذلك لما وُجِدا. لكن خارج الله
يوجد العدم الذي منه خلق الله العالم؛ وفي
العدم المصدر. العدم الحرُّ هو خارج الله
الخالق في اللاهوت السلبي،[10]
لكن هو بداخل اللاهوت الإيجابي.[11]
العدم من هذه الحرية ينبثق إلفة في العالم
المخلوق نفسه، والعالم المخلوق يتوسع من
إمكانيات هذه النواة الخفية. الحرية في ذاتنا
هو هذا العدم الحر. نحن رُضَّع الله ورُضَّع
العدم الحر. الحرية الثانية
أيضاً حرية في الحقيقة، ومن الحقيقة نحصل
عليها. والحرية الثانية هي أعلى حرية، هي
تغيير وتنوير الحرية المعتمة الأولى والعدم
اللاعقلي من خلال فكرة الإبداع الإلهي عن
الإنسان والكون من خلال اللوغوس، ومن خلال
فعل النِّعَم الإلهية. هذا التحوُّل والتنوير
يبلغ حدَّ التأثير المتبادل بين قوى الله
المبدعة وخيرات الله والحرية الأولية (اللامخلوقة)،
والتحول والتنوُّر هما نتيجة فعل النِّعَم
الإلهية على الحرية من الداخل بدون قهر
وجَبْر. الحرية الأولى هي
حرية ممكنة [ويوجد احتمال التضاد][12]؛ الحرية
الثانية هي حرية حيوية، هي تحقق للحقيقة،
وإنارة للظلمة. والحرية الثانية لا توجد بدون
الحرية الأولى. كنَّا رأينا أن
الحرية الثانية، مأخوذةً بذاتها، تولد في
الظلم ولا تَقهَرُ مأساة الحرية. حرية
الإنسان العليا ليست هي طبيعة الإنسان وليست
الجوهر الفرد للإنسان، إنما هي الفكرة
الإلهية عن الإنسان، صورة الله ومثاله في
الإنسان.[13] الشخصية ليست
فردية الإنسان الطبيعية، إنما هي فكرة إلهية،
بل تحقق فكرة الله عن الإنسان، شرط أن يكون
فعل الحرية مرهون بالعدم. إن المسيحية فقط هي
التي تعرف سرَّ استعمال الحرِّيتين وقهر
مأساة الحرية. وهذا هو فعل النِّعَم الإلهية
على حرِّيتنا وتنويرها من الداخل. 5
مع أن الحرية،
الموجودة كإمكانية بالقوة أرسطياً، تتقدم
على كلِّ وجود وهي رهينة في أغوار العدم فإنها
ترتبط مع إمكانية الجديد واحتمال الإبداع في
العالم. وإمكانية التغيرات والتطور في العالم
تعود إلى الحرية. نحن نرى التطور على سطح
العالم الطبيعي فقط. لكن نظرية التطور، بوهنٍ
تام، تفهم مصدر التطور في العالم. فهم هذا
ممكن فقط بالانتقال من الحركة الأفقية إلى
الحركة الشاقولية في البعد الباطني. شاقولياً
يجري الإبداع هذا على السطح كتطور. ووراء كل
التطورات في العالم تكمن الأفعال الإبداعية؛
والأفعال الإبداعية أيضاً تتشرط الحرية؛
والحرية تتشرط إمكانيات لا غور لها ومتكئة
على العدم. بدون ممكنات، بدون العدم في
العالم، لا توجد تحولات، لا يوجد تطور، لا
يوجد إبداع. نظريات أرسطو عن الممكن [الموجود
بالقوَّة] والموجود بالفعل تحتوي تنطوي على
حقيقة عظيمة، لكنها تتشوه وتؤوَّل وتُحدَّد
بسهولة. أخاف اللانهائي
وغير المحدَّد Apeiron عند
اليونان. لذلك، في أغلب الأحيان وبدون نضج،
فسَّروا معنى الإمكانية كما جرى بعد ذلك في
الفلسفة السكولستية. في الإمكان يوجد أكثر
مما يوجد بالفعل، وفي الإمكان يوجد اللانهائي.
في الفعل دائماً تحديد. ولانهائية الإمكان هي
مصدر الحرية، وهي مصدر التحولات المبدعة
والجديد في العالم. الوجود الحيوي للعالم هو
مجال نهائي ومحدد بالمقارنة مع الإمكانية
اللانهائية وغير المحدودة، واللاأساس الكامن
تحت الوجود والأعمق منه. التطورية في العالم
تمثل لنا حتمية مُحدِّدة للتأثيرات
المتبادلة بين القوى العالمية والمادة
وتوزيعها. لكن الإبداع ليس حتمياً؛ الإبداع،
بصريح العبارة، هو دائماً إبداع من عدم، أي من
الحرية. الإبداع حرٌّ، وهو إبداع لاحتمي،
يصطدم بالقوى العالمية وبتغيراتها، ولا
يتحدَّد بها. يمكن القول فقط
إنه بحياة الإنسان وحياة العالم توجد إمكانية
عظيمة، إمكانية حياة جديدة وعالم جديد.
التطورية الحتمية هي عقيدة رجعية،
والدارونية والماركسية رجعيتان، ولو أنهما
تضمَّان علماء ثوريين، لأنهما لم تُسقِطا
العقائد الدينية التقليدية. فقط إمكانية
الحرية المبدعة تُحدِث ثقباً في أنظمة العالم
الرجعية المنغلقة على نفسها، التي بها فقط
احتمال إعادة توزيع المادة والطاقة. يثبت المذهب
الطبيعي هذا الانقلاب الرجعي في أنظمة العالم.
وهذا المذهب الطبيعي أحياناً يقبل صيغ
اللاهوت الطبيعي. ولكي لا يتمثل العالم بهذه
الأنظمة الرجعية المنغلقة فمن الضروري
عندئذٍ وجود المصدر الذي لا غور له
والإمكانية اللانهائية، أي العدم الحر
كمتقدِّم على الوجود وعلى الوجود المُحدَّد. في البدء كان
الكلمة، اللوغوس. هذه هي الحقيقة الأبدية
بالعلاقة مع فكرة الوجود الإيجابية والقطعية
كلِّها. فالعالم ما كان يمكن له أن يُخلَق وأن
يبدأ بدون لوغوس. لكن في البدء كان أيضاً
العدم، الإمكان [الوجود بالقوَّة]، الحرية.
وهذه الحرية وهذا العدم كامن خارج الوجود
لأنه هنا لا يوجد تضاد مع هذا. ما كان في
البداية هو اللوغوس، واللوغوس نزل إلى العدم،
ومن هذا العدم خلق العالم. الشمس أشرقت فوق
اللاأساس، الأعمق من الوجود، اللوغوس
الإلهي، بتفاعل متبادل مع الحرية. ولذلك فإن
مشكلة الحرية ليست مشكلة حرية الإرادة
الأخلاقية والنفسية، إنما هي مشكلة
ميتافيزيقية عن بداية الأشياء. حدث لقاء
لانهايتين: الإمكانية غير المحدودة،
لانهائية العدم ولانهائية حيوية، ولانهائية
إلهية، من النور الإلهي. 6
رأينا أن الحرية
الثانية يمكن أن تُفهَم بشكل مغلوط، وعندئذ
تنقلب إلى القسر والجَبْر. لكنها، بمعناها
الحقيقي، ليست نفياً للحرية الأولى، وهي
مشروطة حتماً. الحرية الثانية أعلى، هي حرية
نهائية وتحرُّر حقيقي للإنسان وللعالم.
والتحرر الحقيقي يصبح وعياً ويحقق الحقيقة
التي تضم بذاتها الحرية. وبلوغ الحرية العليا
كهدف للحياة هو بلوغ الروحانية الحقيقية.
الروح هي الحرية، وفي الروحانية وفي الحياة
الروحية لا توجد تحديدات خارجية ولا يوجد
جَبْر ولا استثناءات. الاستثناءات مع جَبْر
أحد الأجزاء للآخر هي خاصية العالم الطبيعي.
والحياة الروحية هي حياة حرة؛ وفي هذا سمتها
القانونية. وببلوغ الروحانية تُقهَر وتلغى
مأساة الحرية، وتُنزَع تناقضاتها التي
يُتصوَّر بأنها لا تقهر. الروحانية
الحقيقية هي إنارة للحرية اللاعقلية التي
مازالت مظلمة، بدون تدميرها وبدون استعمال
القهر عليها. مشكلة الحرية لا تُحَلُّ في حدود
الفلسفة العقلية. ديالكتيك الحرية
لا يجد كماله وتمامه، ودعائمه وأسسه تبقى. لكن
المعارف الفلسفية يمكن أن تبلغ حدودها وتخرج
عن هذه الحدود معطية حلولاً نهائية لمجالات
أخرى. وأنا ميَّال
للقول إن مهمة الفلسفة تشمل كلَّ مجالات
المعرفة. وكشف ديالكتيك الحرية الفلسفي
يقودنا إلى المسيحية كحلٍّ إيجابي وحتمي
لمأساة الحرية، مأساة الحرية والضرورة. مشكلة
حرية الإنسان صعبة لدرجة ما. وهي بالنسبة
للأفكار الفلسفية تُحَلُّ فقط بفكرة الإله–الإنسان
والإنسانية–الإلهية، التي تقع خارج حدود
الفلسفة الصرف. فقط في الإله–الإنسان ينكشف
مخرجٌ من حدود شرِّ الحرية ومن الضرورة
الخيِّرة. الحرية المملوءة بالحب ليست حرية
الإنسان الأول – والمحافظة أيضاً على الحرية
الشريرة إنما هي حرية آدم الثاني، حرية الحب
المنتصرة على البداية المظلمة في الحرية.
وهذا لا يعني، بالطبع، أنه في الفلسفة
المسيحية وعلم اللاهوت المسيحي، كما في
المسيحية العملية، وُضِعَتْ دائماً، وبشكل
صحيح، حلول لمشكلة الحرية. بالعكس هنا حدثت
إحباطات كثيرة وكبيرة. فكثيراً ما
تناقضت الحرية والنِّعَم وفُهِمَتْ الخيرات
الإلهية كقسر فوق الحرية. لكن الوعي المسيحي،
في "نقائه" المثالي، يتضمن بذاته حلاً
لمشكلة الحرية. خارج المسيحية، بشكل جوهري،
لا بدَّ من الحتمية. كلُّ الفلسفات الطبيعية
حتمية. وقد حاولت الفلسفة الروحانية أن تبرهن
على فلسفة، فإذا بها تجعل هذه الفلسفة ضعيفة
ومتناقضة، مطابقةً هذه الحرية مع الجوهر
الفرد، أي مع مقولات طبيعية. ويُعتبَر الأكثر
صعوبة في الميتافيزيقا المسيحية المشكلةَ
المتعلقة بمهادنة حرية الإنسان مع الإله
الكلِّي القدرة ومع الإله الكلِّي التدبير.
على هذا الأساس ولدت نظريات عن القَدَر بلغت
أقصى تعبير لها عند كالفن – وكان القديس
أوغسطينوس قد شعر هنا بصعوبة كبيرة. وطريق
الأفكار الأكثر صحة هنا هو الذي من خلاله
نعترف بأن الحرية هي حدود النبوءة الإلهية
وأن الله نفسه يشترط حدوداً لنبوءته، وبذلك
يريد الحرية، وفي الحرية يرى مغزى الخلق.
وبهذا الاتجاه قال سيكريتان في كتابه فلسفة
الحرية.[14]
وهذا الكتاب من أفضل البحوث الفلسفية عن
الحرية. 7
الحرية تكمن في
أساس نية الله عن العالم والإنسان. الحرية
تولد الشر، لكن بدون حرية حتى الخير لا يوجد.
والخير القسري هذا ليس خيراً. وهنا يكمن
التناقض الأساسي للحرية. حرية الشر هي، على ما
يبدو، شرط حرية الخير. دمِّروا الشر قسراً
بدون بقايا، ولا شيء يتعطل من أجل حرية الخير.
ولهذا السبب مازال الله صابراً على وجود الشر.
الحرية تولد مأساة الحياة؛ لذلك فهي صعبة
وقاسية. الحرية أقل سهولة من أيِّ شيء آخر،
والحياة في الحرية أقل سهولة من أية حياة أخرى.
ومن الأسهل العيش وفق الضرورة. كانت عند
دوستويفسكي أفكار عميقة عن الحرية، وافترض هو
أن الأصعب على الإنسان أن يحمل حرية الروح،
حرية الاختيار؛ والأسهل على الإنسان أن يرفض
الحرية باسم تخفيف آلام الحياة من خلال هيئات
الخير القسرية (الثيوقراطية والأنظمة
الشيوعية). ومن الخطأ التفكير أن الإنسان بصفة
خاصة يحافظ على الحرية؛ فبالعكس هو أعمى. وإلى
ذلك فهو يظن أن هبات الحرية قَدَرية، فلا
يدافع، ولا حتى بشكلٍ ضئيل، عن الحرية. أنا هنا لا أتكلم
عن الحرية بالمعنى السياسي، لكن، بشكل
استثنائي خاص، عن الحرية بالمعنى
الميتافيزيقي. لكن للحرية الميتافيزيقية
حياة، آثار عملية، وانعكاسات الاجتماعية. لا
توجد أية تعابير متجانسة للحرية
الميتافيزيقية في الحياة الاجتماعية. فههنا
العلاقة معقدة جداً ومشوشة. تُفهَم الحرية
بمعناها الميتافيزيقي العميق؛ فيجب الاعتراف
أن الحرية ليست أبداً حق الإنسان أو طموحه،
إنما هي من واجب الإنسان. يجب أن يكون
الإنسان حرَّ الروح، يجب أن يحمل وسام الحرية
حتى النهاية، لأنه في الحرية تتلخص فكرة الله
عن الإنسان ومثاله. يطلب الله أن يكون الإنسان
حراً، ينتظر من الإنسان فعل الحرية. وحرية
الإنسان ضرورية لله أكثر من الإنسان نفسه.
الإنسان يرفض بسهولة الحرية باسم سهولة
الحياة، لكن الله لا يمكن أن يرفض حرية
الإنسان، لأنه بها ترتبط غاية الله من العالم
المخلوق. نظريات الإرادة الحرة، التي عادة ما
يدافع عنها علم اللاهوت المسيحي، هي تسطيح
لمشكلة الحرية وتوفيقها مع الأهداف النفعية.
نظريات الحرية يجب أن تكون مرتبطة مع نظريات
الروح التي استطعتُ إيصالها.[15] مشكلة الحرية هي
مشكلة فلسفية رئيسية. منها لا تتلاقى كل
العقائد الفلسفية (ميتافيزيقا، نظرية
المعرفة، الأخلاق، فلسفة التاريخ) فحسب، إنما
أيضاً تتلاقى الفلسفة مع علم اللاهوت. تاريخ
الدراسات التاريخية عن الحرية هو، بمقدار هام
وبدرجة كبيرة، تاريخ الدراسات الإيمانية
واللاهوتية عن الحرية. ويملك القديس
أوغسطينوس ولوثر بالنسبة لإشكالية الحرية
معنى أهم من الفلاسفة السكولستيين. من هنا لم
أستخدم الفلسفة وحسب، إنما أيضاً علم اللاهوت.
وبغير ذلك تستحيل معالجة هذه المشكلة في
عمقها. ويمكن تصنيف أنواع العقائد الفلسفية
بمواقفها هذه أو تلك من مشكلة الحرية. فدراسة
الفرق بين مشكلة الحرية في الفلسفات
اليونانية القديمة وبينها في الفلسفة
المسيحية توضح لنا تاريخ وعي الإنسانية
لذاتها. فهنا تتلاقى مشكلة الحرية مع مشكلة
النهائي واللانهائي. الإغريق مثلاً اعتبروا
التام نهائياً؛ والنهائي هو حتمي. أما
اللانهائي فكان بالنسبة لهم غير تام، وهو ليس
حتمياً. التام هو وضع تحديد، أي حتمي. هذا
الفهم جرى في العصور الوسطى السكولستية، حين
تمَّ تبنِّي فلسفة أرسطو، أي الشكل الرئيسي
في نظام القديس توما الأكويني. لكن في العالم
المسيحي انكشفت اللانهائية، فاتضحت الحرية
بكونها لاحتمية، حيث عند أورجينس نجد
التعاليم الأولى عن الحرية. وتختلف الفلسفة
الألمانية عن الفلسفة القديمة والوسيطة
بأنها ترى أن اللاعقلي هو في أساس الوجود،
وهذا اللاعقلي يساعد على بحث مشكلات الحرية.
لكن المثالية الألمانية تميل للواحدية
المثالية، التي تُطمَس فيها مشكلة الحرية مرة
ثانية وتختفي حرية الإنسان. والأهم هنا يبقى
شيلينغ: دراسات فلسفية حول جوهر الحرية
الإنسانية.[16]
الفلسفة المسيحية الحقيقية هي فلسفة الحرية،
والحل الأصيل في مشكلة الحرية يمكن أن يُبنى
انطلاقاً من فكرة الإله–الإنسان. وأفضل ما
تطرحه الفلسفة الروسية الدينية هو فهمها
لمشكلة الحرية كلاحتمية ولانهائية. ***
*** *** ترجمة:
حليم أسمر** تنضيد:
نبيل سلامة *
نقولاي ألكسندروفتش
برديائيف
(1874-1948): فيلسوف ومفكر اجتماعي روسي. في
عام 1894 انتسب إلى كلية العلوم الطبيعية في
جامعة كييف. وبعد ذلك بعام انتقل إلى كلية
الحقوق. وخلال سنوات حياته الجامعية اشترك
في الحركة الاجتماعية. في العام 1898 فُصِلَ
من الجامعة بسبب اشتراكه في الحركة
الديمقراطية وفي المظاهرات الطلابية التي
قامت بها الحركة الديمقراطية الاجتماعية.
وفي العام 1900 نُفِيَ لمدة ثلاث سنوات إلى
مقاطعة فولكدا. عاش فترة 1904-1908 في مدينة
بطرسبورغ. ومنذ العام 1908 أقام في مدينة
موسكو. في أعماله الفكرية الأولى انضم إلى
"الماركسية العلنية"، ثم صار بعد ذلك
المناوئ العنيد لنظريات ماركس. شارك في
تأليف جماعي لكتابي مشكلات المثالية وأعلام
وكتب أخرى. انتسب بعد ذلك إلى الرابطة
الدينية–الفلسفية بموسكو. وفي العام 1919
نظَّم الأكاديمية الروحية الحرة في موسكو.
وفي العام 1922 نُفِيَ من روسيا، حيث قضى
قليلاً من الوقت في برلين حيث درَّس في
المعهد العلمي الروسي. ومنذ العام 1924 عاش
بفرنسا (في ضاحية كلامار الباريسية)، وكان
أستاذاً في الأكاديمية الروسية الفلسفية–الروحية
في باريس. أسَّس وحرَّر مجلة السبيل
الروسية الفلسفية–الروحية في باريس بين
عامي 1925-1940، وعمل محرراً بدار النشر أومكا–بريس.
وفي عام 1948 توفي وهو جالس على طاولة مكتبه
يًنهي أحد كتبه الفلسفية الهامة ملكوت
الله ومملكة قيصر. وقد تُلِيَ بحثه هذا
باللغة الفرنسية في مؤتمر وارسو الفلسفي
الذي انعقد في أيلول من العام 1927. [1]
بحث برديائيف مشكلة الحرية في
آثاره فلسفة الحرية، معنى الفعل
الإبداعي، معنى التاريخ، وكتابه
الذي صدر مؤخراً فلسفة الروح الحر. وهنا
كلمة "مؤخراً" تشير إلى تاريخ قراءة
البحث بمؤتمر وارسو. [2]
Libertas minor u libertas major. [3]
Posse non peceare, non posse non peceare u non
posse peceare. [4]
الديونيسية: نسبة للإله ديونيسوس،
أشهر الآلهة اليونانية؛ ويُعتبَر ديونيسوس
إله الخمر والكرمة والمرح، ويُعَدُّ حامي
الفنون الجميلة، ولاسيما الكوميديا
والتراجيديا. (المترجم) [5]
إيرازموس:
هولندي، إنسانوي النزعة وضد لوثر. (المترجم) [6]
ل. م. لاباتين: فيلسوف وعالم نفس
روسي. كان صديقاً مقرباً لفلاديمير
سولوفييف، وقد انتمى إلى الشخصانيين، وسعى
إلى إثبات ضرورة الميتافيزيقا وتأسيس
مفهومها ومجاله. والحرية عنده تفصل كلَّ حي
عن عالم اللاأحياء. والأنا تبقى مطابقة
لذاتها، وهي جوهر سرمدي. والعالم، برأيه،
يحتوي على مجموع ما فوق الزمني، والمراكز
الداخلية – المونادات الحية (حيث كل موناد
هو جوهر واحد) – وقوى الذات والسيرورة.
والعلَّة المطلقة لهذه الجواهر
الديناميَّة المتناهية هو "الله". (المترجم) [7]
Freiheit ist bei Selbst zu sein. [8]
Bei sich Selbst zu sein. [9]
التقدُّم هنا بالمعنى الأرسطي. (المترجم) [10]
اللاهوت السلبي: يسعى للإفصاح عن
جوهر المطلق وما وراء الله بطريق البحث
والتقصي، برفض أو "سلب" كل ما يُنسَب
لـ"الله" من تحديدات غير متناسبة مع
طبيعته. قام بذلك غريغوريوس النيسي في
القرون الوسطى ونقولا الكوزاني. (المترجم) [11]
اللاهوت الإيجابي: هو صورة
مغايرة عن اللاهوت السلبي، يصف الله بواسطة
الصفات المدركة والإشارات (الرموز). (المترجم) [12]
ما بين معقوفتين من تدخلنا. (المترجم) [13]
تكلَّم على هذا بشكل جيد ن.
لوتسكي في كتابه حرية الإرادة. [14]
La philosophie de la Liberté. [15]
الدراسات عن الروح مبسوطة في
كتاب برديائيف فلسفة الروح الحر. [16]
Philosophische Untersuchurgen uber das Mesen der
menschlichen Freiheit. عملت الفلسفة
الفرنسية في القرن التاسع عشر الشيء الكثير
في بحوث مشكلة الحرية – مين دي بيران،
رينغويه، بوترو، فون سي تسيف، فوله، برغسون
وآخرون. **
باحث من سورية، دكتور في
الفلسفة، مدرِّس في كلية الآداب بجامعة
حلب، يهتم ببحوث مشكلة الإنسان في الفلسفة
المعاصرة. (المحرر)
|
|
|