|
رجال
ونساء
يكافحون من أجل السلام
خالص
جلبي
بعد
عدة أيام ألقي القبض عليه بتهمة قتل بعض
الجنود الرومان، فحُكِمَ عليه بالإعدام. ثم
نُفِيَ إلى مناجم الكبريت في صقلية، فلبث
فيها بضع سنين. وعندما انهار المنجم على رؤوس
من فيه نجا ببدنه ليكون لمن خلفه آية، وأُرسِلَ للعمل في حقول الزيتون. وكانت قصة
نجاته المتكررة سبباً في اختياره لمدرسة
المجالدين في روما. وهناك رأى الرياضة
الدموية التي يعشقها الشعب الروماني، فاشترك
فيها ونجا من القتل بأعجوبة. ولكن روحه كل هذه
الفترة كانت تعذِّبه، ولم تجد هدوءها إلا
عندما اعتنقتْ دعوة المسيح السلامية. ومات
شهيداً مع حواري المسيح. إن
قصص المجالدين فصل دموي لا ينسى من التاريخ
الروماني. وقد تحولت المجالدة إلى تقليد
روماني ومؤسَّسة عملاقة، دامت 700 سنة، تقوم
بتخدير الشعب الروماني. وقد بُنِيَ
الكولوسيوم بارتفاع 160 قدماً على مساحة ستة
أفدنة ليتسع لثمانين ألف متفرج. وبعد ثورة
سبارتاكوس عام 73 لم يعد المجالدون من لغة
واحدة تحت سقف واحد، فعُزِلوا بعضهم عن بعض.
ويُروى عن قيصر أنه ملأ قاع الكولوسيوم
بالماء، وأجرى فيه السفن وأحرقها، وجعل
العبيد والمساجين – بالآلاف – ينحر بعضهم
بعضاً أمام استحسان الجمهور وهتافه. وأما
تيطس Titus
فقد
دفع إلى الساحة Arena
في يوم واحد بخمسة آلاف مجالد ليقتل بعضهم
بعضاً. وقام تراجان، لمدة 122 يوماً متواصلاً،
بتسلية شعب روما بدفع الحيوانات المفترسة
والمجالدين في وجه بعضهم بعضاً، فقُتِلَ من
الضواري عشرة آلاف ومن البشر 11 ألفاً، بمعدل
تسعين ضحية بشرية يومياً. وكانت التسلية تبدأ
صباحاً بالوحوش، عندما يهجم دب كاليدوني على
رجل مقيَّد محكوم بالإعدام، فينهش لحمه حتى
العظم، مروراً ظهراً بإعدامات جماعية
للمجرمين وللمسيحيين، وانتهاءً بعد الظهر
بحفلات المصارعين بعضهم مع بعض ومع الضواري. كانت
المجالدة تشتمل على ألوان من التسلية لا
تنتهي تنوعاً في السلاح واللباس. وأما الجثث
من البشر والحيوانات فكانت تضمها حفرة واحدة
مخصصة لها. كان الجمهور الذي لا يشبع من منظر
الدم يصيح «منسا»، ويرفع إصبعه للأعلى في
حالات العفو عن المهزوم، أو يقول «جوغولار»،
ويشير بإبهامه إلى الأسفل، ويعني الذبح من
الوريد للوريد. وفي عام 65 ميلادي أُدخِلَت
متعة جديدة باقتحام النساء للملعب في ثياب
فاضحة، وأحياناً مبرزات ثدياً واحداً،
يتقاتلن حتى الموت. وقد لمعت فيهن بعض الأسماء، مثل أمازونيا
وأريخيليا، حتى ألغى
الإمبراطور سبتيموس سفيروس مجالدة النساء
عام 200 م. وفي أنقاض مدينة بومبي التي دفنها
بركان فيزوف عام 79 م تم العثور على أفضل
مخلفات حفلات الدم من ألبسة المصارعين
وطقوسها المريعة. كانت روما قاهراً لا يرحم،
وتحكم مساحة واسعة بوحشية لامتناهية. ويروي
لنا تاريخ الهند أن الملك آشوكا، من أسرة
موريا، الذي اعتلى العرش عام 273 ق م بعد نهاية
غزوات الاسكندر قام، على غرار من سبقه،
بتوسيع مملكته عسكرياً. وفي إحدى غزواته في
شرق الهند قتل مائة ألف وجرح نظير ذلك من
الناس، فهاله منظر الدماء والآلام. وكان
اجتماعُه براهب نقطة التحول في تفكيره عن
عبثية الحرب، فغير حياته بالكامل من السيف
إلى الكلمة والتربية، ومن القسوة إلى الرحمة،
ومن الدم إلى الهداية. ولقد أطلق في مملكته كل
ألوان التسامح الديني مع الآخرين من كل
الأديان، وصبَّ جهده لترميم البنية التحتية
بما يفيد منه العباد، وبلغت به الرحمة حداً أن
هيأ مشافي لمعالجة الحيوانات المريضة. وهكذا
طلَّق آشوكا الحرب إلى غير رجعة، وتحولت
مملكته إلى روح وريحان وجنة نعيم، وذهب اسمُه
سلفاً ومثلاً للآخرين. إن قصص هذه النجوم
الإنسانية تدفع الإنسان للخشوع والأمل في
الجنس البشري من حيث إنه مستودع لمشروع هائل. ومن
نفس الهند تكرر منظر مؤثر في محكمة بكراتشي
عام 1921، عندما رفض مولاي محمد علي الالتحاق
بصفوف القوات البريطانية ليقاتل القوات
العثمانية التركية. وينقل لنا كتاب أيها
المحلفون: الله... لا الملك وقائع تلك
المحاكمة المثيرة، حيث اعتمد الرجل في دفاعه
على أنه لا طاعة لمخلوق، ولو كانت ملكة
بريطانيا، إذا كانت الأوامر تخالف عقيدة
المسلم. وإذا كانت بريطانيا تدَّعي حرية
الفكر بحسب مبدأ فولتير "إنني مستعد أن
أموت من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك، ولو
كنتُ مختلفاً معك في الرأي" فقد قام مولاي
محمد علي بالدفاع عن آرائه الشرعية في عدم
سماح دينه له أن يقتل مؤمناً متعمداً. قال: «لقد
قلت في مذكرتي للمحكمة الابتدائية أنه إذا
أُكرِهَ المرءُ، تحت وطأة التهديد بالموت،
على أكل لحم الخنزير فليس له فقط أن يأكل
اللحم، بل يتحتم عليه أن يأكله. وكذلك يستطيع
أن يعلن أنه كافر مادام مطمئناً بالإيمان. غير
أنه لا يستطيع أن يقتل مسلماً، ولو أُكرِهَ
على ذلك.» ويعلِّق جودت سعيد على موقف الرجل: «إن
مولانا محمد علي اعترض على الذي يقتل أخاه في
سبيل المترفين وأصحاب الامتيازات». ولكن «الإشكالية
الكبرى أن الجهل يمكِّن أصحاب الامتيازات من
التلاعب بالجاهل، ويمكن استخدامه ضد مصالحه».
والمسألة التي نعيشها الآن، نحن المسلمين، «مأساة
معرفية»، وإن «المتدين الجاهل مثل غير
المتدين الجاهل»؛ فكلاهما، مع الغرق في
الجهالة، يتحول من «الأناسي» إلى عالم «الأشياء»
المسخَّرة بيد الأقوياء. وما يحدث في
أفغانستان هذه الأيام هو التطبيق الميداني
لهذه الأفكار. وعندما
يَرِدُ في بريد اليونسكو (عدد يونيو 1990): «في
حوالى عام 2000 لن يشكِّل ما اتفق على تسميته
الجنس الأبيض سوى 11% من سكان الأرض. ولا
يُستبعَد حدوث مواجهة بين الجناح الراديكالي
في العالم الإسلامي وبين ما يتبقى من الحضارة
المسيحية. ويبدو أن صراعاً من هذا القبيل لا
مفرَّ منه». يعقِّب على ذلك جودت سعيد بقوله: «ولكن
لماذا يخاف جوزف برودسكي محرِّر المقالة إلى
هذا الحد؟»، ويقول معلِّلاً: «في النظام
العالمي الجديد حصل تفاهم بين من يملكون
المعرفة وصاروا صفاً واحداً؛ وإن كانوا
يتجاذبون الامتيازات إلا انهم متفقون في ما
بينهم ويعرفون الحدود التي يلتزمونها». وإذا
انشطر العالم على هذه الصورة البئيسة فهذه هي
المسألة التي جاء من أجلها الأنبياء ودافع
عنها في مرافعته مولاي محمد علي، أنه لا يريد
أن يتحول إلى أداة في يد الجبارين. لكن
يبدو «أن قانوناً جباراً يحكمنا وجاذبية
ساحقة تُخضِع تفكيرنا». وكما يقول علي شريعتي
في كتابه الإنسان والإسلام: «إذا أردتَ أن
تستخدم شخصاً وتجعله مطيعاً وتطمئن من وفائه
عليك أن تسلب منه شخصيته، لأنه إن كانت له
شخصية لا يمكن أن يكون خادماً جيداً؛ ولكن
فاقد الشخصية خادمٌ جيد ومطيع ووفي.» وعندما
كان ستالين يراقب من خلف ستارة محاكمة
بوخارين ليطمئن على وصوله إلى حبل المشنقة،
انحنى الضابط الذي رتَّب المسرحية يهمس في
أذن ستالين بسرور: «هل أعجبك الإخراج
والحبكة؟» التفت ستالين إليه ببرود وقال: «إن
الرفيق بوخارين أفنى عمره من أجل الحزب، ومن
يتآمر عليه لن ينجو من العقاب.» فزاغت عينا
الضابط لأنه سمع حكم إعدامه بأذنيه. وهذا ما
حصل. فقد أعدم بيريا، رئيس الاستخبارات
الروسية KGB،
بوخارين بطلقة في القذال، ثم كلَّف من يقتل
الضابط الواشي. ثم جاء الدور على بيريا بعد
موت الطاغية ستالين فقُتِلَ بيد رفاق الحزب. إن
بارابا وآشوكا ومولاي محمد علي أطلقوا الطاقة
التحررية في قلب الإنسان: أن لا يقتل، ويرفض
تنفيذ أوامر القتل. وبهذه الطريقة تتعضَّل
مفاهيم القوة أن تملك رقاب العباد، أو أن
يملكها الطواغيت. ومادامت هذه القوة التحررية
لم تولد فسوف تبقى ملاعب روما تدفع بالقرابين
البشرية بألف شكل على الذبح. «إنه المبدأ الذي
يفجر الطاقة الإنسانية. والجاهلون هم موضع
النزاع بين مَن ينشر العلم ويكتم العلم أو
يفرض الصمت». كان
صديق لي في زيارتي، فسألته عن موقفه من القتل.
قال: «أنا لن اقتل، مهما دفعوا لي.» قلت له: «لم
يأتِ الامتحان الصعب بعد. هي روح طيبة أنك لا
تقتل، ولكنك لو هُدِّدتَ بالقتل إن لم تقتل
فما أنت فاعل؟» قال: «يا روح ما بعدك روح! سوف
أقتل.» قلت له: «هذا هو مفتاح الطاغية إلى قلوب
العباد. وبهذه الطريقة تستمر الحروب ويؤسَر
الخلق في مصائد الفئران.» ويذكر
الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي سبباً
لإسلامه أنه كان معتقلاً في جنوب الجزائر في
جلفة، حيث قام المعتقَلون في أحد الأيام
بتنظيم مظاهرة في المعسكر، فحذَّرهم الضابط
الفرنسي بالانصراف إلى الخيم وإلا أطلق النار
عليهم. يقول غارودي: «ومضينا في عصياننا، فأمر
حاملي الرشاشات – وكانوا من جنوب الجزائر –
بإطلاق النار علينا، فرفضوا؛ وعندئذٍ هددهم
بسوطه المصنوع من طنب البقر، ولكنهم ظلوا لا
يستجيبون. والذي أبقاني حياً إلى الآن كان
بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين.» *** في
5 ديسمبر من عام 1955 كانت الخياطة روزا باركس Rosa
Parks
في طريقها إلى منزلها بعد أن أنهت يوماً
حافلاً بالعمل. كانت قوانين المرور في مدينة
مونتغمري من مقاطعة ألاباما الجنوبية في
الولايات المتحدة الأمريكية تنص على أن يدفع
السود ثمن التذكرة من الباب الأمامي، ولكن أن
يصعدوا الحافلة من الخلف؛ كما كان محظوراً
عليهم أن يركبوا في المقعد المجاور لمرور
الركاب Isle.
كذلك كان القانون يقول إن الأسود يجب أن يخلي
موقعه للأبيض في الازدحام. ولكن ذلك اليوم
البارد من ديسمبر كان على موعد مع حدث جلل. فقد
صعد رجل أبيض إلى الحافلة ووقف أمام روزا
باركس – وهي السوداء – ينتظر أن تقوم وتترك
مقعدها له (وهو شيء عجيب كان يحدث قبل نصف قرن
في أمريكا خلاف كل أعراف الدنيا بتخلِّي
الرجال عن مقاعدهم للنساء!). لكن روزا باركس
قررت أن تفعل شيئاً جديداً يكسر القانون
العنصري، فرفضت بكلِّ بساطة التخلِّي عن
مقعدها للأبيض. وأمام إصرارها، تدخلت الشرطة،
فانتزعتها من مقعدها بالقوة، وأجبرتها على
دفع غرامة، فأوقفَت في الحجز لمخالفتها قانون
الولاية. ولكن
الحادث في ذلك اليوم كان الشرارة التي أوقدت
ناراً هائلة في غابة جافة عظيمة من مشاعر
محتقنة ضد الظلم والتمييز العنصري. لم تلجأ
المقاومة إلى السلاح وأعمال العنف، بل كانت
سلمية مدنية؛ فقاطع السود الحافلات لمدة عام
كامل. ورُفِعَت القضية إلى أعلى هيئة دستورية
في البلد، واستمرت المحاكمة مدة 381 يوماً. وفي
النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر روزا
باركس في محنتها. وهكذا انكسر القانون
العنصري إلى غير رجعة. وفي 27 أكتوبر من عام 2001،
بعد مرور 46 سنة عليه، تم إحياء ذكرى الحادثة
في التاريخ الأمريكي، حيث أعلن السيد ستيف
هامب، مدير متحف هنري فورد في مدينة ديربورن
في ميتشيغن عن شراء الحافلة القديمة المهترئة
من موديل الأربعينات التي وقعت فيها حادثة
السيدة روزا باركس التي قدحت الزناد الذي دفع
حركة الحقوق المدنية في أمريكا للاستيقاظ،
بحيث تعدَّل وضع السود. وقد تم شراء الحافلة
بمبلغ 492 ألف دولار أمريكي. واليوم، بعد أن
بلغت روزا باركس الثمانين من العمر، تذكر في
كتاب صدر لها لاحقاً بعنوان القوة الهادئة
عام 1994: «في ذلك اليوم تذكرت أجدادي وآبائي،
والتجأت إلى الله، فأعطاني القوة التي يمنحها
للمستضعفين.» وهي تذكِّرنا بدعاء نوح في
القرآن الكريم: «فدعا ربَّه إني مغلوب فانتصر»
(القمر 10). ففي
أفغانستان تُجبَر المرأة الآن على خلع
برقعها؛ وكانت من قبل على يد طالبان تُجبَر
على وضعه! وفي عاصمة عربية تم الهجوم على جميع
النساء في يوم نحس مستمر، فخُلِعَت الأغطية
عن رؤوسهن أجمعين، ظناً أن الإكراه هو الحل
المناسب للتخلص من الرجعية إلى التقدمية، على
حدِّ زعمهم. والذي حدث أن هذا العمل الأحمق
الصاعق كان له مفعول عكسي، فازداد عدد النساء
اللواتي يغطين شعورهن. وهكذا أصبح جسد المرأة
موضع الصراع السياسي بين الفرقاء
الإيديولوجيين المتصارعين، باعتبارها
قاصراً يجب أن تُعلَّم ماذا تلبس وماذا تخلع.
وحتى اليوم يتبرع «الذكور» في الحديث عما
يناسب المرأة، ولا يتركون «المرأة» تقرر
لنفسها، بوعي وإرادة، فتختار ما تلبس. وقد يظن
بعضهم أن التغطية بالقوة عين التقوى. ولكن كلا
الخلع والتغطية من منطلق الإكراه يحكمه قانون
نفسي واحد؛ وهو في أعماقه، كما يقول مالك بن
نبي، يحمل دوافع جنسية خفية. فخلع ملابسها
للإباحة هو الوجه المقابل للتغطية المفرطة. ومقابل
قصة روزا باركس تأتي قصة المكافِحة السلامية
بيرثا فون سوتنر Bertha
von Suttner (1843-1914) التي نشأت في
عائلة أرستقراطية في براغ. في عام 1889 نشرت
قصتها بعنوان تخلصوا من السلاح Die
Waffen nieder التي
أصدرها ناشر على استحياء وطبع منها ألف نسخة
فقط، ليتحول الكتاب إلى أفضل الكتب رواجاً،
ويُترجَم إلى كل اللغات الأوروبية. وهي قصة
آسرة تتحدث عن زوجة عاصرت أربع حروب متتابعة
في القارة الأوروبية، وخسرت زوجها وولدها في
ساحات القتال، وقررت أن تقول لا للحرب. إن
اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وإن اعتماد
السلاح لحلِّ المشاكل يرهن صاحبها لقبضة
القوة. ومن اعتاد قتل العدو اليوم سوف يقتل
الصديق والرفيق والأخ غداً. وها نحن نسمع عن
أحكام إعدام منفَّذة على رجال طالبان على
أيدي رجال القاعدة. وهذا الدرس مهم في إدراك
أن القوة لا تحرِّر بل تأسر. وفي نهاية
مقالتها تصل روي إلى أن حرب أفغانستان ليست
حرب حضارات سخيفة، بل حرب توسع وهيمنة، وأن
أربع مؤسَّسات في أمريكا – هي مصانع السلاح
والبترول والإعلام مع الخارجية – تشكل ورماً
متجانساً وخطيراً في توجيه أمريكا والعالم،
وأن دِكْ تشيني وبوش لهما علاقات خاصة مع هذا
الكارتل. *** *** ***
|
|
|