بناء المجتمعات المدنية

بين سطوة دعاة العنف ومناصري السلام

 

توفيق آلتونجي

 

كنت بمعيَّة أولادي نتنزَّه في ذلك الشارع الطويل المرصوف بالأحجار في وسط المدينة والمعد خصيصاً للمشاة، حين سمعنا صراخ عجوز مرَّ بالقرب منها شرطي بسرعة البرق مهرولاً؛ فقد كانت العجوز تلاحقه بعصاها لتضربه، في حين كان هو يسرع الخطى مبتسماً!

قد يكون من الغريب أن نشاهد هذا المشهد وتلك العصبية المفرطة عند أبناء الدول الاسكندنافية. ولم تطل دهشتنا الأولى حتى بدأت العجوز تكرِّر، لمرات عدة، قائلة: "ملعون... اللعنة." وتلك شتيمة نابية لا يتلفظ بها الناس عادة إلا لمن يستحقها. وكانت دهشتنا أكبر أن نسمع تلك الكلمات من سيدة جليلة، أدركت خطأها لاحقاً، فاعتذرتْ لأبنائي عن سماعهم إياها تتفوَّه بتلك الكلمات – تلك السيدة العجوز التي فاتها قطار العمر منذ زمن بعيد.

تساءلت، مثلي كمثل جميع المارة، عن كنه غضبها وما وراء ثورتها تلك. فلا ريب أن هناك سبباً مهماً قد دفعها إلى ذلك الردِّ الشديد والغضب وتلفظها بتلك الكلمات ومحاولتها ضرب الشرطي بعصاها. نعم، قارئي الكريم، كانت تلك السيدة حانقة لأن الشرطي كان يحمل هراوة في حزامه الأيمن. وبقيت السيدة تكرِّر وتردد قائلة:

-       إنهم لا يحترموننا ولا يحترمون شعورنا... ألسنا بشراً؟! نحن لسنا بحيوانات، ولسنا في حاجة إلى راعٍ يرعانا بعصاه... فلماذا يحمل هؤلاء الملاعين الهراوات؟!

الشرق، بتكوينه التعددي العرقي والقومي وتاريخه الذي يعكس تلك التعددية الثقافية، مليء بالصراعات والحروب والنزاعات، لا تكاد تخبو إحداها لتشتعل أخرى في مكان آخر. وقد يكون هناك من يترقب مجيء دوره فاقداً الصبر والبصيرة، يرصد الآن والأوان ليهجم على غريمة مفترساً إياه. هنا تأسَّست إمبراطوريات وأبيدت شعوب بكاملها عن بكرة أبيها، كما مُحِيَتْ مدنٌ وحواضر وثقافات وأُحرِقَت مكتبات لو قُدِّرَ لها أن تبقى لكانت قد أنارت الطريق المعرفي للإنسانية جمعاء.

هناك، على ضفاف الفرات والدجلة، أسَّس أولُ ملكٍ حضارة ودولة ذات مؤسَّسات مدنية، وربما لأول مرة في تاريخ البشرية جمعاء، وأعني به جوديا، الملك العادل، الحكيم المعماري، الشاعر والأديب، الذي رفض أن يُتوَّج بتيجان الملوك وأن يمسك بالصولجان، وبقي على بساطته ملبساً وأبهة كأحد الرهبان، يخطِّط لإنشاء وتأسيس أول مجتمع مدني على ثرى الرافدين.

المجتمعات المدنية لا يتم إنشاؤها بين عشية وضحاها، وليس فقط بالأماني وبالتمني، إذا عرفنا بأن الجريمة لا تتم إلا بتوفر شروط معينة، كالفاعل وتصميمه وإرادته والمجني عليه وأداة الجريمة وربما مشاركين آخرين؛ وكل ذلك يجب أن يُتوَّج بمكان مناسب بعيد عن عيون الرقباء كي لا يترك الجاني أو الجناة أثراً أو ربما شاهداً على جريمتهم، كهؤلاء الطغاة المتربعين على عروش أنظمتهم اليوم.

نعرف بأنه من الصعوبة تغيُّر كل ذلك بسرعة البرق. فالمجتمعات المدنية تبدأ كفكرة إدارية قوامها إعادة الهيكلة التنظيمية للمجتمعات من جميع النواحي الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى العلمية على أسس القانون المدني ومبادئ حقوق الإنسان والتعددية السياسية. فلنا أن نعلم أن تلكم المجتمعات المدنية كانت – وستبقى – أمنية حية في وجدان البشرية وأملاً تترقب البشرية تحقيقه في شكل مجتمعات تنبذ العنف والكراهية وتهميش وجود الآخرين، وتبسط بساط الحب والمودة والاحترام المتبادل بين شعوبها وأقوامها. فالديموقراطية الحقة هو المفتاح الأساسي للتفكير الحر لبناء تلك المجتمعات.

هنا يجب تأكيد أن رفع الشعارات في المجتمعات المدنية لا يعني أبداً أن تلك المجتمعات قد تغيرت. فتلك عملية استثمارية معقدة طويلة الأجل بين الممارسة والتفكير الحرِّ غير المتقيد بالإرث الثقافي والفكري الذي تركتْه سنواتُ سيطرة حكم الحزب والرأي الواحد الذي كان من أهم إفرازاته بنائه لذلك الإنسان الهش المنافق في رأيه ومبادئه وادِّعاءاته وفكره. فهو، من ناحية، يعرف – وهو على وعي ويقين – بنفاقه، ومن ناحية أخرى، يزجر ويهدد بأنه سوف يفعل كذا وكذا، في حين هو، في قرارة نفسه، عاجز عن برهان ادِّعاءاته لنفسه وللآخرين – تلك الأفكار التي تأتيه كل يوم في رزمة ورقية مطبوعة جاهزة غير قابلة للنقاش، عليه كذلك إعادتها وتكرارها مرات عدة وصقلها وحفظها عن ظهر قلب وترديدها على مسمع من الآخرين إلى الدرجة التي يصل فيها هو إلى الاقتناع حقيقة بصحة تلك الأفكار والآراء. قد تحتاج المجتمعات إلى فترات زمنية، تطول وتقصر حسب التجربة الديموقراطية في تلك المجتمعات، لبناء أسس المجتمع المدني.

تلك المجتمعات تبقى، طوال تلك الفترة الحرجة بين تغير الأنظمة، متأرجحة بين نظامين وفكرين متضادين ومتضاربين، تحاول جاهدة فك قيودها من حكم العسكر وإرثه الثقافي الثقيل اللذين، ربما تحت الخوف من فناء نظامهم وقواعدهم العسكرية المهيمنة على كافة أوجه النشاط الإنساني، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأنشطة الأخرى في المجتمع. فنرى تلك المؤسَّسة العسكرية تأخذ باللف والدوران حول المؤسَّسات الديموقراطية، متحولةً ومتلونةً إلى هيئة استشارية ذات مسميات عديدة، كمجالس الأمن القومية التي تقوم عادة بإدارة البلاد من وراء الستار، فيكون رأس الدولة وأعضاء الحكومة من المدنيين من موظفيهم وأداة طيعة لتنفيذ رغباتهم، وتبقى الديموقراطية لعبة وتمثيل أدوار يؤديها بعضهم في مجالس تسمى "برلمانات"، يتم ترشيحهم من خلال المؤسَّسات السياسية. ويبقى على المواطن العادي الاختيار "الطوعي" بين هذا وذاك.

تبقى المجتمعات المدنية تحاول جاهدة حماية أبنائها، ويبقى صوت التعقل والحكمة سائداً بين أبنائها، حيث تقودها الحكمة والدراية والوعي إلى طريق التسامح والشفافية في الجدال والمناقشة والحوار الفكري الحر، بعيداً عن التحجر الفكري ونمطية التفكير والقناعات الأولية. قد تكون لهذه المجتمعات مهمة عاجلة في الوقاية الاجتماعية لأبنائها في المكان والزمان اللذين يرتبطان عضوياً معاً، مكوِّنين نظاماً وقائياً وطنياً يضمن المسيرة السلمية والإنسانية للمجتمعات. تكون الدولة في المجتمعات المدنية مؤسَّسة تتخذ قرارات وقائية لتحسين الحالة الاجتماعية لأبنائها ووقايتهم من الأمراض والأوبئة والآفات الاجتماعية ومسببات الجريمة في المجتمع، كالفقر والعوز والجهل، وانتشار الأفكار العدوانية المفرِّقة للجماعات، والتطرف الديني والفكري، والإرهاب بجميع أنواعه، والتعصب العرقي والقومي والطائفي، وما إلى ذلك من أمراض وآفات اجتماعية.

المجتمعات المدنية تدرس وتحلِّل أماكن الخلل في المجتمع، مكانياً وزمانياً وطبقياً (أي شريحة اجتماعية). فقد يكون مصدر الخلل في انتشار أفكار معينة بين مجموعة عرقية معينة، أو حتى في حيٍّ من الأحياء أو مدينة أو قرية؛ ثم تقوم الدولة بسنِّ القوانين واتخاذ الإجراءات الرادعة والوقائية من انتشار تلك الأمراض الاجتماعية في جميع أرجاء المجتمع. وقد يكون المكان هنا عائلة معينة أو عشيرة، أو ربما طبقة اجتماعية معينة، أو قد يكون البيئة السائدة بين أبناء مهنة معينة أو انتماء وظيفي آخر، وأمور أخرى كثيرة مشابهة ومتشابكة. وقد تضطر الدولة إلى إنشاء وتخطيط الأحياء السكنية بما يلائم عدم حدوث الجريمة في أمور، كإنارة المكان وتخطيط البيئة، بما يجعل الشروع في الجريمة أمراً مستحيلاً، في حين تنشر أفكاراً تدعو إلى التسامح والحوار الهادئ العقلاني لحلِّ النزاعات بين جميع أبناء المجتمع، من دون الانحياز إلى جهة معينة أو طائفة أو قومية وربما حزب معين.

المظاهر المسلحة التي اعتاد الناس عليها في دول الشرق بصورة عامة من مسلَّحين، من شرطة وانضباط عسكري ورجال أمن ورجال مليشيات مدنية مسلحة وآخرين، غريبة جداً على الزائر القادم من دولة تطبِّق أنظمة ديموقراطية ومجتمعات مدنية. فهو يرى في ذلك مظهراً من مظاهر إرهاب الدولة لمواطنيها، وربما لشعوبها العزلاء، وأسلوباً من أساليب بيان تطبيق مبدأ القوة والجبروت. وقد يجد بعض تلك المظاهر في بلاده أمام أبواب المراقص ونوادي الليل، حيث يقف أحد الحراس المدنيين بهراوته في أكثر الأحيان أمام البوابة أو الملعب. وهؤلاء، على الأغلب، يكونون من الرياضيين ذوي كمال الأجسام؛ وقد تكون هناك إحدى الحارسات بمعيَّتهم، ربما من باب تخفيف وطأة تأثير المنظر على الناس!
يكاد مبدأ القوة أن يكون منقوشاً على الموروث الثقافي للمجتمعات الشرقية؛ وقد بات من الأمور الطبيعية في سلوك الناس وتربيتهم. يُضاف إلى كل ذلك غيابُ الديموقراطيات، أنظمةً وممارسة، حيث مبدأ الحزب الواحد أو التعددي، ولكن على المسير نفسه. ومن المؤسف أن ذلك قد حمل حتى ملوك المنطقة أن يخرجوا، بين الحين والآخر، على رعاياهم في ملابس الجنرالات لتأكيد تلك الصورة النمطية في عقول الناس، حيث يُكثِرون من أنواع الأشرطة والنياشين على صدورهم في عملية ممارسة تأثير القوة وهيبتها على المواطنين المدنيين العُزَّل.

لا ريب أن الممارسات الديموقراطية في المجتمعات المدنية سوف تؤدي إلى أن تلك الشعوب تبدأ بمطالبة حكامها، دون خوف أو جزع، بالتغيير؛ فيقومون بمراقبتهم لمحاسبتهم على هفواتهم وأخطائهم، وتقييم أداءهم وعدم انتخابهم للفترة الانتخابية القادمة. وتبدأ الصحافة بواجبها في المراقبة وتقويم الاعوجاج وتصحيح المفاهيم الخاطئة في المجتمعات وتقديم البدائل الديموقراطية، في عملية حوارية متبادلة بين السلطة والإعلام الحر، بحيث يقيِّم كلا الطرفين أحدهما الآخر في عملية تقويم للأداء الديموقراطي للإدارة المدنية العصرية.

فهل يا ترى أن في الشرق يكون الجاني متمكناً من جريمته لأن السواعد الداخلية والخارجية والبيئة المحيطة بمكان الجريمة ملائمة ومساعدة، وأداة الجريمة بمتناول الجميع، أو ربما تصله من مكان آخر؟ أليست الجريمة مُكْلِفة للمجتمع، ويجب أن يحاسَب الجاني على فعلته بعد محاكمة عادلة وتحت مظلة القانون؟

أليس من واجب المجتمع كذلك أن يعمل المستحيل كي تكون الجريمة باهظة الثمن لفاعلها ومكلفة ومليئة بالمخاطر وغير مجدية ولا مربحة وينتظر جانيها الجزاء على فعله والعقاب لردعه؟ المجتمعات المدنية لا تسمح بنشر أفكار تمجِّد القتل والقوة والسيطرة والعنف والإرهاب بجميع أنواعه. وقد نشاهد في بروز أحد تلك الأحزاب السياسية القومية المتطرفة في المجتمعات الأوروبية دليلاً على مرض يكاد الكلُّ أن يُجمِع على تسميته مباشرة بأفكار "هدامة" للمجتمع الديموقراطي.
نعم، قارئي الكريم. نحن في حاجة ماسة إلى مجتمعات مدنية في ظل أنظمة حرة تمارس الديمقراطية الحقة في جميع أنحاء المعمورة.

*** *** ***

عن الزمان، العدد 1356، 4/11/2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود