القارة الضائعة...

 

أكرم أنطاكي

 

"... نفخ الملاك الأول في بوقه فحدث برد ونار

يخالطهما دم وألقيا على الأرض فاحترق ثلث

الأرض واحترق ثلث الشجر وكل عشب أخضر احترق. ونفخ الملاك الثاني في بوقه فكأن جبلاً عظيماً متَّقداً بالنار قد ألقي فصار ثلث البحر دماً. ومات ثلث الخلائق التي في البحر مما له نفس وتلفت ثلث السفن..."

رؤيا القديس يوحنا 8: 7-9

 

"... ربما كان كلٌّ من الحاضر والماضي جزءاً من المستقبل، وكان ذلك المستقبل نفسه زماناً مضى..."

ت. س. إليوت

 

1

يتحدث الكاتب المعاصر أومبرتو إيكو في المقدمة التي عقدها على كتاب بول أرنو تاريخ جماعة الوردة + الصليب، نقلاً عن نصٍّ يحمل عنواناً لاتينياً غريباً هو Tlön Uqbar Orbis Tertius من كتاب يدعى خيالات Fictions لخورخي لويس بورخس:

... يتحدث عن بلد غير محتمل، تصفه بإسهاب موسوعةٌ أضحت ضائعة. وحين يمعن المرء في التأمل فيما تقوله تلك الكتابات الغريبة، من خلال التناصِّ، يجد أن ما يجري الحديث عنه ليس مجرد بلد وإنما، ربما، كوكب بكامله. إذ يجد وصفاً مسهباً لهندسته، ولأساطيره، ولشائعاته وللغاته، ولأباطرته، ولأسماكه ومعادنه وبحاره وطيوره، ولعلوم جبره وناره، ولصراعاته الدنيوية والميتافيزيائية.

لكن ما جرى الحديث عنه بهذا الإسهاب والكمال قد لا يتعدى مجرد أقصوصة ابتدعها الخيال الجامح لجمعية غير معروفة من المنجِّمين والبيولوجيين والميتافيزيائيين والشعراء والخيميائيين وعلماء الرياضيات والأخلاق والرسامين والموسيقيين، يقودهم نابغة مجهول، دفعه نبوغُه لاختراع ذلك البلد الذي تحدثت عنه الموسوعات من بعدُ كحقيقة شبه قائمة...

ونجد أنفسنا، كما يقول أومبرتو إيكو:

... أما اختراع بورخس فيمكن وصفه بأنه "اختراع لاختراع". ولكن جميع قراء بورخس يعلمون أن ما كتب عنه هذا الأخير لم يكن اختراعاً، وأن بورخس لم يبتدع شيئاً، وإنما الحقيقة هي أن أغرب القصص تولد [أيها السادة] من إعادة تأويل للماضي، وأن ما قد يبدو أمامنا من خلال القصة أو الأسطورة خيالاً قد لا يتعدى مجرد انعكاس لواقع كان قائماً، ولم يزل، ربما، بهذا الشكل أو ذاك، مستمراً...

"... فمفاهيم الماضي والحاضر والمستقبل قد لا تكون سوى مجرَّد أوهام تمتاز بثباتها..."، كما قال ذات يوم العالم الكبير ألبرت أينشتاين، أو كما عبَّر ذات يوم ت. س. إليوت: "... ربما كان كلٌّ من الحاضر والماضي جزءاً من المستقبل، وكان ذلك المستقبل نفسه زماناً مضى...".

وننتقل بعد هذه المقدمة، التي قد لا تكون لها أية علاقة به، إلى موضوعنا المتعلق بتلك الأسطورة التي بدأت مع أفلاطون في مؤلَّفيه تيميوس Timæus وكريتياس Critias، يقول:

2

"استمع، إذن، يا سقراط..."

"... إلى هذه القصة الغريبة والحقيقية معاً التي سأرويها لك، كما نقلها صولون أحكم الحكماء السبعة...".

وكانت أسطورة أطلنطِس Atlantis التي شغلت الباحثين منذ ذلك الحين وحتى تاريخه. ونبدأ من هنا حيث...

من خلال حوار بين كريتياس، قريب أفلاطون، وكلٍّ من تيميوس وسقراط، يتحدث تيميوس عن جده دروبيداس الذي سلَّمه مخطوطات وكتبَ حكمة قديمة تتحدث عن الأثينيين الأوائل. وقد وصلته هذه المخطوطات والكتب عن صولون Solon، الذي نقلها حين كان في مصر عن كاهن للإلهة نُتْ في مدينة سايس، أجابه على ما كان هذا الأخير يتحدث به عن الطوفان، قال:

... آه يا صولون، أتراكم معشر الإغريق ما زلتم أطفالاً إلى حدٍّ يجعلني أتساءل عن وجود شيوخ لديكم. ما زالت نفوسكم شابة. وليست لديكم أية فكرة تقوم على حكمة قديمة، ولا أي علم شاخ مع الزمن. فقد حصل دائماً، وسيحصل أبداً، دمار متعدد الأشكال يصيب البشر بسبب من نار أو ماء أو ألف علَّة أخرى...

ويكلِّم الكاهن المصري أيضاً صولون على الإلهة نُتْ، كما كلَّمه الأسلاف عليها، ويعلمه أنها هي نفسها الإلهة بالاس، راعية أثينا ومؤسِّستها قبل ما يقارب الـ9000 سنة من ذلك التاريخ (أو لنقل قبل 9600 سنة من ميلاد السيد المسيح)، كما أنها راعية مدينة سايس المصرية التي تأسست بعد أثينا بـ1000 عام.

ويكلِّمه أيضاً على التاريخ القديم والمنحول لأثينا التي تعرَّضت، في تاريخ لم يحدده، لغزو "قوة عظمى" قدمت من جزيرة تقع في المحيط الأطلسي قبالة "عمودي هرقل" (جبل طارق) وتدعى بأطلنطِس. وكانت هذه القوة قد غزت وحكمت في حينه كلاً من مصر وليبيا. لكنها فشلت في حينه في احتلال أثينا بسبب المقاومة الضارية للأثينيين.

وجزيرة أطلنطِس هذه (التي لم تكن سوى الجزيرة الكبرى، في حجم ليبيا، في أرخبيل كان يحيط بها) كانت عبارة عن إمبراطورية واسعة، كان أبناؤها يحكمون جميع تلك الجزر، بالإضافة إلى أراضٍ واسعة في القارة المقابلة. ولكن...

في مرحلة زمنية لاحقة، ونتيجة غضب الآلهة، حصلت هزَّات أرضية عنيفة وفيضانات جارفة. ففي يوم وليلة من أيام وليالي القدر، كان أن ابتلعت تلك الأرض أبناءها كما ابتلعت أثينا، وغرقت، بمن فيها، في غياهب المحيط.

وأرخبيل أطلنطِس هذا، كما يوضح من بعدُ أفلاطون في كتابه كريتياس، كان تلك الأرض التي خصَّت الآلهة بها بوسيديون (إله البحر)، حين توازعت تلك الآلهة الأرض (فيما بينها). وكان على ذاك الجانب من تلك الأرض المواجهة للبحر سهلٌ واسع يحدُّه من الطرف الآخر جبلٌ صغير يسكنه رجل اسمُه إفنور وزوجته لوكيب وابنته كليتو. وحصل ما كان مقدَّراً: أحبَّ الإله بوسيديون ابنة الإنسان كليتو، فعزل تلك المنطقة التي كانت تسكنها عن سواها بحيث لم يعد بوسع أحد سواه الوصول إليها، وتزوج منها، فأنجبا خمسة أزواج من التوائم الذكور، قُسِّمت أطلنطِس فيما بينهم. وكانت حصَّة كبيرهم، ذاك المدعو أطلس، أرض والدته وأكبر تلك الجزر؛ أما أشقاؤه فقد أضحوا ملوكاً على باقي الجزر المحيطة التي صارت تؤلف، مع جزيرة أطلس، تلك الحضارة العظيمة.

وقد كانت فعلاً، كما تمَّ وصفها، حضارة عظيمة... حيث استخرج الأطلنطيون من أعماق الأرض المعادن الثمينة المعروفة، كالنحاس والذهب، وغير المعروفة، كتلك المادة المشعَّة التي يدعونها بالأوليغارخ، وجلبوا البضائع بفضل تجارتهم مع البلدان الأجنبية، وأتقنوا صناعة الخشب والبناء، وروَّضوا جميع أنواع الحيوان ودجَّنوها، وكانت لهم زراعة متطورة. وأيضاً...

بنوا الهياكل والقصور والمرافئ والجسور؛ وقد كانت جسوراً عظيمة وَصَلوا بواسطتها بين جزرهم ومدُّوها فوق أنهارهم ومنخفضاتهم. كذلك شقُّوا الأقنية والترع العظيمة بين مدنهم، بحيث كان بوسع أكبر السفن أن تفرغ بضائعها حيث تشاء.

وقد كانت كلُّ منشآتهم من الحجارة المحلِّية ذات الألوان البيضاء والسوداء والحمراء؛ وكانوا يتفننون في زينتها، وخاصة منها في تلك المدينة التي كانت أكبرها، تلك العاصمة التي كان اسمها أيضاً أطلنطِس، والتي كانت جدرانها مزيَّنة بالفضة والأوليغارخ، مما جعلها مشعَّة.

وفي وسط هذه المدينة العظيمة كان يقوم هيكل مهيب، محاط بسور يمنع أي متطفل من بلوغه، ومخصص لكلٍّ من بوسيديون وكليتو؛ وفي وسطه كان هيكل آخر، في غاية الروعة والجمال، مخصصاً فقط لبوسيديون الذي كان تمثاله ينتصب واقفاً فوق عربته. وأيضاً كانت تحيط بهذا الهيكل عشرة تماثيل تمثِّل أبناء بوسيديون العشرة، وتحيط الينابيع بالهيكل، وتمتد الحمامات على طول الطرق الواصلة إليه والمؤدية إلى ذلك المرفأ العظيم، حيث كانت تتزاحم السفن والبحارة والتجار من كلِّ حدب وصوب...

لقد كانت تلك البلاد حقاً، كما وصفها أفلاطون، أقرب إلى الجنَّة منها إلى الحقيقة: مناظر طبيعية خلابة، حيث يتداخل البحر وبعده اللامتناهي بالسهول والجبال الشاهقة؛ وأقرب إلى المثالية من حيث وصفه للنظام الاجتماعي السائد وفق مفاهيم ذلك الزمان. فقد كانت جزيرة أطلنطِس مقسَّمة إلى ستين ألف إقطاعية متساوية من حيث المساحة والموارد، وكان حكامها ملزمين بأن يقدِّموا بشكل متساوٍ ما تحتاجه البلاد من جند وسفن لجيوشها وأساطيلها. وأيضاً...

كان ملوك تلك البلاد العشرة يحكمون ممالكهم وفق شريعة بوسيديون حكماً مطلقاً وعادلاً، حيث لم تكن قوانينهم تسمح لهم بالاقتتال فيما بينهم، وإنما تحضهم على التشاور لما فيه المصلحة العامة.

وقد بقيت الحال هكذا عدة أجيال، كان الناس خلالها مسالمين وخاضعين، من خلال حكمتهم، للآلهة وللشرائع، مكتفين بما لديهم، بعيدين عن الجشع. ولكن...

تدريجياً، على ما يبدو، بدأت دماء الآلهة السارية في عروقهم تتحلَّل بسبب تزاوجهم (كبوسيديون) مع بنات الناس، فكان انحطاطهم: "... وغضب زفس [كبير الآلهة] الذي دعا إلى انعقاد مجمع للآلهة، وكلَّمهم بما يلي...".

وتنتهي هنا، بهذه الكلمات، أسطورة أطلنطِس كما أوردَها، 365 سنة قبل الميلاد، أفلاطون، تلميذ سقراط وأحد أكبر فلاسفة الإنسانية على مرِّ العصور. ولكن بماذا كلَّم زفس مجمع الآلهة؟! أغلب الظن أن الكلام عند عتبة السرِّ يندغم في الصمت! ويبدأ معه المستوى الأول من قصتنا من خلال...

3

استقطاع معاصر...

كان ذلك في الـ20 من تموز 1968، وكانت الحرب الباردة آنذاك في أوجها، وكان الأمريكان والروس يتسابقون بهدف الوصول إلى القمر من أجل تسخيره لأهدافهم "النبيلة"...

في ذلك اليوم كانت غواصة تابعة للبحرية الأمريكية تستكشف تلك السلسلة البركانية الخامدة الواقعة في عمق المحيط الأطلسي على بعد 2000 كم غرب جبل طارق – ويا لها، كما يصفونها، من سلسلة جبلية مهيبة، قمة كلِّ بركان فيها يتجاوز ارتفاعُها عن قاع المحيط الـ3000 م، وإن كان الفارق بين قممها وسطح المحيط لا يقل عن 700 م...

كانت تلك الغواصة التي تدعى بـAlvin من نوع الـBathyscaf المخصصة للأعماق الكبيرة، وكانت تستكشف الأعماق بواسطة كشَّافاتها الكهربائية الثلاث، متسلقة ببطء سفوح إحدى تلك الجبال حين، لاحظ العالمان لاري شوميكر وروبرت بالارد وجود مرجان يغطي سفح ذلك البركان. وكان الحديث التالي، كما سُجِّل في حينه، طريفاً ومعبراً. قال لاري:

-       ... مرجان! ولكن هذا مستحيل. فالمرجان يحتاج لنموه إلى نور الشمس، ونحن الآن على عمق يتجاوز الألف وخمسمائة متر عن سطح البحر، حيث لا يصل نور الشمس...

و يجيبه زميله روبرت المبهور بما يرى:

-       ... أعتقد أني فهمت ما تعنيه. لقد كان ذلك الجبل يوماً ما، في زمن أضحى اليوم غابراً، فوق سطح البحر. لدي شعور أننا لو أجرينا حفريات على تلك السفوح لوجدنا جذوع أشجار متكلِّسة...

وتعود بنا الذاكرة إلى نهاية القرن الماضي، حيث كانت سفينة تمدِّد كابل بحرياً عند موقع يبعد 500 ميل شمال جزر الآزور، بين مرفأي بريست وكاب كود. فبينما كانت تحاول استعادة كابل، انقطع هذا وهوى في القاع على عيِّنات من الصخور والحجارة الرسوبية البركانية مما لم يكن من الممكن له أن يتصلب إلا ضمن شروط ضغط جوي عادية. وقد حُفِظَت هذه النماذج من الصخور، ولم تزل، في متحف الـÉcole des Mines في باريس؛ مما أعاد طرح موضوع أطلنطِس انطلاقاً من وقائع جيولوجية تدعو إلى التساؤل...

وتثبت تلك الوقائع، من خلال دراسة تضاريس قعر المحيط الأطلسي، كما سبق وأشرنا، إلى وجود سلسلة جبلية بركانية تمتد على طول المحيط، من شماله إلى جنوبه. وتلك الوقائع تؤكد أن هذه المنطقة تُعتَبر الأقل استقراراً من القشرة الأرضية. وأيضاً...

تتحدث الوقائع الجيولوجية عن انفجارات بركانية معاصرة في أعماق المحيط، على امتداد تلك المنطقة تحديداً. فقد حصلت كوارث "حديثة" نسبياً، كذلك الانفجار الذي حصل في أيسلندا عام 1873 وأدى إلى مقتل العديد من سكانها، وانفجار بركان هيلدا عام 1845 الذي استمر سبعة شهور، والانفجار ذلك الذي حصل ما بين 1963 و1966 وأدى إلى تشكُّل جزيرة جديدة على بعد عشرين ميلاً من الشاطئ الجنوبي الغربي لأيسلندا. وأيضاً...

تتحدث الوقائع الجيولوجية المعاصرة أن في منطقة جزر الآزور، حيث ما زالت توجد حتى الساعة خمسة براكين نشطة، حصل عام 1808 انفجار بركاني مريع في منطقة سان خورخي وأدى إلى تشكُّل جزيرة بركانية، دُعِيَتْ في حينه بسامبرينا، وعادت من بعدُ لتغرق في أعماق المحيط. وأيضاً، وخاصةً، لكن ليس في المحيط الأطلسي وإنما في البحر الأبيض المتوسط هذه المرة، أثبت العلماء أنه قبل حوالى 900 سنة من عصر أفلاطون، حلَّت كارثة مشابهة لتلك التي ينسبها أفلاطون للأطلنطِس بجزيرة ومدينة تدعى سانتوريني كانت تقع في بحر إيجه، وسط ما نعرفه بالأرخبيل اليوناني وجزيرة كريت، وغرقت فعلاً في قاع البحر في ليلة من ليالي القدر نتيجة انفجار بركاني، مما دفع بعض العلماء المعاصرين للجزم بأن سانتوريني إنما هي أطلنطِس التي قصدها أفلاطون الذي أخطأ في تحديد مكان الكارثة التي جعلها في المحيط الأطلسي، بينما هي حدثت في المتوسط؛ مثلما أخطأ في تحديد تاريخ تلك الكارثة التي أرجعها فيلسوفنا إلى 9000 سنة من تاريخه، بينما هي حدثت فقط قبل 900 سنة من ذلك التاريخ. وأيضاً...

في تلك الفترة، ولكن في المحيط الهادي هذه المرة، كانت صور، أخذتها سفينة الأبحاث المحيطية Anton Brun لقاع المحيط شمال الجزر الأندونيسية، تنقل بوضوح للباحثين المعجبين صور أعمدة تقع في القاع على عمق 1828 م من سطح البحر، وتغطيها الطحالب، أعمدة مستديرة، قطرها بحدود الـ60 سم وترتفع بحدود الـ1.5 م عن القاع. مما أحيا من جديد أسطورة ليموريا، المشابهة لأسطورة أطلنطِس والشهيرة في جنوب شرق آسيا...

وكل هذا، وإن كان يثبت، ربما، وجود أساس مادي جيولوجي أو أرخيولوجي، سواء في الأطلسي أو في الهادي أو في المتوسط، لأسطورة أطلنطِس (أو ليموريا)، من حيث الوجود الفعلي في الماضي لأراضٍ وحضارات كانت، ثم غرقت من بعدُ، بسرعة أو ببطء، بسبب كوارث طبيعية، إلا أنه لا يقدم، فيما نرى، البرهان القاطع على حقيقة الأسطورة، كما وصفها أفلاطون. مما دفع ذلك بعضهم، الباحث عن "أطلنطِس" من خلال ماديتها، إلى تعميق بحثه الجيولوجي من خلال...

4

الأرخيولوجيا...

والتعمق، تحديداً، في البحث عن تلك الحقبة التي ندعوها اصطلاحاً من خلال معارفنا بـ" ما قبل التاريخ". حيث نعتبر بدء تلك المرحلة التي نسميها تاريخاً بـ4000 أو 5000 سنة قبل ميلاد السيد المسيح – وقبلها كانت، كما يدَّعي مؤرخونا، عصور همجية لا تاريخ لها! ولكن...

تبقى هناك، وتحديداً من خلال علم الآثار، بعض الوقائع المزعجة التي يتجنب علماؤنا التعمق بها لأنها "قد" تزعزع أسس ذلك المنطق المادي الذي بنوا عليه نظرياتهم وتأويلاتهم... بعض المعالم الأثرية الغريبة فعلاً، العائدة إلى تلك الحقبة الغامضة من تاريخ البشرية...

وهي، على سبيل المثال لا الحصر، تلك التماثيل من العاج أو الحجر التي تمَّ اكتشافها في منطقة جبال البيريني بين إسبانيا وفرنسا، العائدة إلى ما يقارب الـ15000 إلى 25000 سنة قبل الميلاد، مما يدعونه هناك بالفن الأورينياسي Aurignacien Art المعبِّر عن مستوى حضاري يتجاوز بكثير ما نفترضه لتلك الحقبة التي ندعوها بما قبل التاريخ...

أو مخلفات تلك الحضارات القديمة التي نبعت من العدم، أو لنقل، مما قبل التاريخ، بحسب مفاهيمنا، أو من حضارات أخرى أقدم، زالت ونجهلها، حسبما تقول الأسطورة... حضارات قديمة ازدهرت في نفس الفترة الزمنية، وفي مناطق مختلفة ومتباعدة من الكرة الأرضية، كحضارة مصر الفرعونية، من خلال أهرام الجيزة، وحضارات بابل وأمريكا اللاتينية، والحضارة الصينية...

أو تلك التماثيل العملاقة والغريبة المنحوتة في الصوَّان التي تم اكتشافها عام 1722 على يد الأدميرال الهولاندي يعقوب رويفين، ثم عام 1744 على يد الرحالة البريطاني جيمس كوك في جزيرة الفصح Easter Island جنوب المحيط الأطلسي، والتي نُقِشَت عليها هيروغليفية لم يتم فك رموزها إلى الآن، ولكن – ويا للمصادفة العجيبة! – المشابهة إلى حدٍّ غريب لهيروغليفية قديمة أخرى من بلاد الهندوس...

ومن إجراء مقارنة بين مخلفات تلك الحضارات القديمة والمتباعدة نجد، كما سبق وألمحنا، تقارباً ملفتاً للنظر من حيث الشكل ومن حيث الأساطير، حيث...

ها هي ذي نفس تلك الأهرام–الهياكل تتكرر في كلٍّ من مصر وأمريكا اللاتينية...

 

وها هو ذا مفهوم أسطورة الطوفان راسخاً عند شعوب أمريكا اللاتينية كما هو عند الشعوب المتوسطية والآسيوية...

 

وها هي ذي أسطورة الإله أطلس تتكرر عند الإنكا...

 

ونجد أنفسنا، كما سبق ورأينا، أمام الكثير من الوقائع الآثارية الملفتة للنظر والمثيرة للتساؤل والمتعلقة بمختلف الأحقاب الزمنية، ومنها ما ندعوه بما قبل التاريخ، التي توحي بالكثير من خلال وحدة و/أو تشابه الأسطورة بأسطورة أطلنطِس، لكن دون أن تثبت "واقعيَّتها"، كما أوردها أفلاطون. ولكن...

حصل في العام 1968، في منطقة البحر الكاريبي تحديداً، أن اكتشفت طائرات الأرصاد الجوية، في مواقع بحرية قريبة من شاطئ جزيرة أندروز، آثاراً كانت مغمورة في البحر وعادت فَطَفَتْ على السطح بفعل تلك التحولات الجيولوجية الكثيرة جداً في تلك المنطقة من العالم... آثاراً شبَّهها بعضهم بهياكل الإنكا في البيرو...

 

مما أعاد طرح موضوع أسطورة أطلنطِس مجدداً، ولكن، هذه المرة، من خلال "راءٍ" معاصر وحالم يدعى...

5

إدغار كيسي Edgar Cayce

الذي كان قد تنبأ في إحدى رؤاه، وهو في حال غيبوبة، بعودة ظهور أطلنطِس عام 1968، وبكشف أسرارها وأسرار الأهرام المصرية في نهايات القرن العشرين.

وإدغار كيسي هذا "وسيط" medium وحالة نفسية مثيرة ربما. عاش ما بين 1877 و1945 في الولايات المتحدة الأمريكية، وتميَّز، كما يدَّعي مريدوه، بأنه كان خلال لحظات (يدعوها طبيعيُّونا بالهلوسة) يتحدث، وهو غائب عن الوعي، لكن بدقة لا متناهية من حيث التفاصيل، عن حيوات ماضية لأناس متنوِّعين من عصور ماضية قديمة جداً، يعود أغلبها لمصر القديمة و/أو أطلنطِس وسواهما...

وقراءاته حول أطلنطِس، التي لم تكن مستوحاة من أفلاطون ولا من أيِّ مرجع آخر، لم تكن تتناقض معها، إنما كانت تطورها بشكل طريف وملفت للنظر. حيث...

كان يتحدث عن مستوى عالٍ جداً من الثقافة والمعرفة العلمية بلغتْه تلك الحضارة ولم تبلغه أية حضارة على مرِّ العصور، بما فيها عصرنا هذا. فكلُّ ما نعرفه اليوم (كما كان يقول كيسي) كان معروفاً لديهم وأكثر منه... كذلك الذي يدعونه بـ"الكريستال" والذي بوسعه التحكم بالطاقات الشمسية والأرضية. حتى كانت الكارثة التي تمَّت على ثلاث مراحل تمتد ما بين الـ5000 والـ9600 سنة قبل الميلاد...

فبحسب كيسي، كان أكبر أعداء أطلنطِس هم الأطلنطيون الذين فقدوا التحكم بتقنياتهم، مما سبَّب ذلك الطوفان (الكارثة) الذي ابتلعهم، كما ابتلع كلَّ ما كان قائماً في حينه على وجه الأرض. وأيضاً...

وتتحدث قراءات كيسي عن كيف وعى عدد من سكان أطلنطِس ما سيحلُّ بهم، فقرروا التوزع على سطح المعمورة. وقد كانت مواقع اختيارهم الأساسية، أيضاً بحسب كيسي، هي اليوكاتان في البيرو و... مصر، حيث حفظوا وثائق أرشيفهم لإنسانية قادمة ستشهد بعد 12500 عاماً من تاريخ كارثتهم نهاية مماثلة.

قال 12500 سنة من تاريخ تلك الكارثة التي حلَّت بهم، والتي حدد أفلاطون وقوعها عام 9600 قبل الميلاد، مما يعني أن ما تنبأ به كيسي من كارثة لبشريتنا، التي ستشهد (بحسب رؤياه) مصيراً كارثياً كمصير أطلنطِس، سيكون بحدود الـ2900 للميلاد، أو لنقل، في أواخر الألفية الثالثة.

ولكن هل يمكن لعاقل اليوم أن يأخذ على محمل الجدِّ رؤى إنسان قد يكون مهلوساً – وتحديداً من الولايات المتحدة الأمريكية حيث يكثر المهلوسون؟! وفي عصر علمي كعصرنا الذي تسيطر عليه في كل المجالات نفس تلك الولايات المتحدة؟!

وظاهرة كيسي قد لا تكون سوى ظاهرة إيحاء نفسية، تمَّت من خلال وسيط، وضخَّمتها آلية إعلامهم لغايات ربما تكون تجارية – وموضوع أطلنطِس كان، ومازال، وسيبقى، موضوعاً جذاباً بالنسبة للعامة، وخاصة منهم أولئك السُّذَّج الذين يؤمنون بالغيب...

وغالبيَّتنا من هؤلاء السُّذَّج أيها السادة! لذا، وقد أضحى المنحى الذرائعي من مفاخر عصرنا...

6

لِمَ لا نقلب الاتجاه قليلاً؟!

حيث من قال إن ما ادَّعاه أفلاطون حول أطلنطِس كان صحيحاً؟! ولم لا نفترض أن ما كان يبتغيه أفلاطون من خلال قصَّته، كما فعل جميع "أبناء المعرفة" على مرِّ العصور، كان تمرير شيء آخر؟ مفهوم فلسفي أو نظرة اجتماعية ما كان بوسعه ربما تمريره مباشرة؟

ألم يكن أرسطوطاليس تلميذ أفلاطون، الذي تحدث أيضاً عن جزيرة كبيرة في الأطلسي كان يعرفها، على حدِّ زعمه، أهالي قرطاجة، وتدعى بأنطاليا – ألم يكن أرسطو من كبار المشككين بتلك الأسطورة الأفلاطونية؟ ألم يقل ذات يوم "... إن أطلنطِس التي ولدت على يد أفلاطون قد غرقت أيضاً على يده"؟!

ثم... لم لا نعود إلى تلك الظروف التي كانت سائدة أيام فيلسوفنا، إلى تلك الظلامية السائدة التي دفعت بأستاذه العظيم سقراط آنذاك إلى "الانتحار"؟

وحقاً، من خلال تيميوس وعلى لسانه، نلاحظ أن أفلاطون يقدِّم لنا فهماً فلسفياً متميزاً للألوهة وللخليقة، كما يقدِّم من خلال كريتياس ووصفه الذي عرضناه لمجتمع أطلنطِس، وصفاً لما يتصوره، ربما، مجتمعاً مثالياً، وفق مفاهيم ذلك الزمان.

فما كان يبتغيه أفلاطون، ربما، من خلال مؤلفيه تيميوس وكريتياس، لم يكن عرض أسطورة بقدر ما كان، من خلالها، عرض مفاهيمه الفلسفية الاجتماعية، تلك التي، على لسان تيميوس، يبدؤها بعرض مفاهيمه عن الألوهة والخليقة، متسائلاً عن "... ماهية ذلك الوجود منذ الأزل  الذي لم يولد؟ ذلك الذي يصير دائماً دون أن يكون أبداً؟" ثم يتساءل عن ذلك الكون وتلك الخليقة قائلاً: "... أتراه وُجِدَ منذ الأزل، ولم تكن له بداية، أو أين وُجِدَ، وهل كانت له بداية؟" ويجيب "... إنه موجود، لأنه مرئي ومحسوس ومتجسد. وجميع الأشياء التي من هذا النوع، أي المحسوسات التي بوسع العقل معاينتها، خاضعة لقوانين الصيرورة والولادة...". ويضيف قائلاً إن "... من خلق المصير والكون كان طيباً، والطيب لا يشعر أبداً بأية رغبة. لذا نراه أراد أن تكون جميع الأشياء على صورته...". ليصل في نهاية عرضه الرمزي والسرَّاني إلى مفاهيم الألوهة ومستوياتها، ومفاهيم الروح والنفس والخليقة والمادة ومكوناتها، إلى تلك النتيجة المتعلقة بالكون والقائلة بأن "... الكون الذي يبلغ حدَّه قد امتلأ بالكائنات الحيَّة الفانية والأزلية. ولأن تلك الألوهة المحسوسة التي تجسدت على مستوى وعينا قد أضحت بحدِّ ذاتها كائناً ملموساً يستوعب كلَّ محسوس فإنها – وهي الأكبر والأطيب والأجمل والأكمل – قد تجسدت في تلك السماء الفريدة من نوعها...". وأيضاً...

يقدِّم أفلاطون من خلال تيميوس فهمه للإنسان المؤلف من طبيعتين: الأولى أزلية وسرمدية، إن لم نقل إلهية؛ والثانية فانية ومتحلِّلة، إن لم نقل أرضية.

فأطلنطِس، كما يعتقد بعضهم (وقد يكون محقاً) لم تكن ربما سوى "إطار" مرَّر أفلاطون من خلاله مفاهيمه الخاصة, تماماً كما فعل في ذلك العصر الذي ندعوه بعصر النهضة، على خطى ما فهمه من أفلاطون، بعض العلماء والفلاسفة، كفرانسيس بيكون مثلاً، من خلال أقصوصته المعروفة بـ...

7

أطلنطِس الجديدة...

حيث يحكي لنا بيكون في تلك القصة سيرة ركاب انطلقوا على ظهر سفينة من البيرو قاصدين اليابان والصين. وقد عصفت بهم رياحٌ عاتية دفعتهم نحو جزيرة مأهولة لم يكن لهم علمٌ بها من قبل. وقد سمح لهم سكانها، الذين كانوا على جانب رفيع من الحضارة، بالنزول في شواطئهم والمكوث خلال سبعة أسابيع في "بيت الأغراب"، حيث قُدِّم لهم الغذاء المناسب في صورة بضعة حبوب لابتلاعها. وقد عرفوا من مدير البيت أن اسم الجزيرة هو "ابن سالم" وأن القديس برتلماوس قد علَّم سكانها الديانة المسيحية بعد مضي عشرين عاماً على الصعود. وأيضاً، من خلال استعراض تاريخ الجزيرة من أقوال سكانها، يتبيَّن أنها كانت قبل ثلاثة آلاف سنة متحدة مع بلاد قديمة شتى، ومن ضمنها أطلنطِس (التي ما هي في الواقع سوى أمريكا) التي لحق بها الطوفان في حينه، فتقهقرت حضارتها، بينما لم تُصَبْ ابن سالم (أو "أطلنطِس الجديدة") بأي أذى. وإنما كان من حسن حظها أن جاءها ملك ذو قلب كبير وإرادة ماضية يدعى سليمان، أحبَّ أن يعيش شعبُه سعيداً كل السعادة، فبنى أسس تلك الحضارة من خلال مؤسَّسة عرفت بـ"بيت سليمان" أو "مدرسة الأيام الستة"، وجعل منها أشرف مؤسَّسة قامت على وجه الأرض ومنارة للمملكة. فمنها تنبعث وتشع أنوار الحكمة، وبها تُكتشَف وسائل السيطرة على الطبيعة. وهذه المؤسَّسة هي، في الوقت نفسه، حكومة شعب هذه الجزيرة ونُخبته التي لم تُصطَفَ من خلال تنافس حزبي أو صراع سياسي، إنما من خلال الكفاءة العلمية. فالغاية النبيلة لهذه المؤسَّسة "الحكومية" هي معرفة أسباب الحوادث الطبيعية وأسرارها، وتوسيع سلطان الإنسان وبسط سيطرته على تلك الطبيعة، حتى يحقق في الواقع كلَّ جائز ممكن، ولكن ليس من أجل حب السيطرة وإرضاء تلك الرغبة الإنسانية العارمة والمجنونة، إنما للوصول إلى ما يصفه بيكون بحالٍ من الاتزان يجري السعي إليه من خلال المؤسَّسة المثالية لهذا البلد المثالي.

هذا البلد، حيث المجتمع (على حدٍّ الاصطلاح الماركسي) ملكي أبوي مستنير، تسوده أخلاق نقية طاهرة، حيث العهر مجهول، والناس يحبون الثياب الفاخرة والحدائق العطرة، من جهة، وشيوعي يستلزم لتحقيقه جيشاً من العاملين الذين يحتكُّون بالواقع ويستخلصون منه كل ما يلزم لتحقيق سعادة الإنسان من خلال التقنية العلمية الهادفة إلى إطالة العمر والشفاء من الأمراض وصنع الآلات والأدوات التي تجعل من حياة الإنسان على هذه الأرض نعيماً مريحاً آمناً وسعيداً، من جهة أخرى.

ويا له، في وصف بيكون، من خيال علمي جامح ومتجاوز لعصره! حيث يقوم علماء هذه المؤسَّسة بممارسة البحث العلمي التقني من خلال منشآت أقاموها لهذا الغرض: بعضها في أعماق الأرض لدراسة أسرار المعادن ووسائل الحفظ والتبريد؛ وبعضها على سطحها لدراسة التسميد ووسائل حفظ الأطعمة والشهب والرياح والمطر والثلج والبرد؛ وأخرى وسط المياه لدراسة الحفاظ على الكائنات المائية وتحلية المياه؛ وغيرها بيوت لدراسة الأحوال الجوية؛ وأخرى لتنقية الهواء وتعطيره؛ وأخرى للدراسات الزراعية والصيدلانية والطبية وكل ما يساعد، على حد قول بيكون، "... على إثارة الشهية وإطالة عمر الإنسان والتغذية الأفضل..."؛ وغيرها لدراسة وتطوير كافة التقنيات الصناعية والتطبيقية، ولتحسين تحكم الإنسان بالطاقة الحرارية والشعاعية والصوتية.

وأيضاً يمارس القائمون على هذه الدولة المثالية التي تحرص، حسب بيكون، على البقاء منعزلة وغير معروفة ما نعرفه اليوم بالتجسُّس الصناعي والعلمي من خلال "... اثني عشر موظفاً يكلَّفون بالسفر إلى البلدان الأجنبية بأسماء مستعارة، ليعودوا لدولتهم من الأقطار التي يجوبونها بالآلات والأدوات والعينات والنماذج والتجارب والملاحظات على اختلاف أنواعها. ويدعى هؤلاء الموظفون بتُجَّار النور..."!

ونكتفي من عرضنا لبيكون ولحلمه من خلال أطلنطِس الجديدة بهذا القدر. ونتوقف معاً، وقد تشعب بنا الموضوع، أمام ذلك المستوى الثاني من فهمنا لأطلنطِس من خلال...

8

بعض الأفكار والتساؤلات المبعثرة...

وقد مضى زمان، يبدو لي الآن سحيقاً، على تلك الأيام التي كنت فيها شديد الإعجاب بذلك العصر الذي ما زالت تدعوه أدبياتنا بـ"عصر النهضة" والذي بدأت معه ما نفترضه اليوم حضارتنا المعاصرة.

وقد بلغنا اليوم، وتجاوزنا بكثير ربما، تلك التقنيات التي وصفها بيكون في رؤاه المستقبلية من خلال أطلنطِس الجديدة ولم تتحقق معها، رغم هذا، سعادتُنا وأحلامنا، إن لم نقل أنها بَعُدَتْ إلى حدٍّ أمست معه شبه مستحيلة المنال.

كنت في حياة مضت، حين أقرأ لكتَّاب وفلاسفة "عصر النهضة" أو لسواهم من المحدثين، أقف عند حدود قراءاتي فاغر الفاه، معجباً برؤاهم المستقبلية وسعة أفقهم العلمية. أما اليوم، وقد بتُّ متشككاً نسبياً بهذه الرؤى وبهاتيك الآفاق، أضحى ملاذي الروحي الغوصُ في الأعماق من خلال النفس وكتب الحكمة القديمة...

كنت في حياة مضت أرى فيما أوردتْه كتبُ الحكمة القديمة مجرد خرافات. أما اليوم فإني أسمح لنفسي بالتأمل في أعماق الأسطورة وبالقيام ببعض المقارنات التي لم أكن أجرؤ على التفكير بها. ويتملَّكني شعورٌ عميق بالراحة المقرونة بالمرارة...

وأنظر إلى أبنائنا الذين يعيشون اليوم حصاد ما زرعنا... أنظر إلى تعاملهم السهل مع تلك التقنيات التي تبهرنا: مع الكمبيوتر وتقنياته والبرمجة والاتصالات الإلكترونية وسواها، مع التلفزيون والليزر والطائرة والسيارة، وأحاول، من خلال رؤاهم ومفاهيمهم، الوصول إلى قلوبهم. وأشعر بغصة حين ألحظ، كما يلحظ الكثيرون، كم انحدرتْ، مع ذلك التقدم، ثقافتُهم وروحانيتهم.

وأتساءل: هل يحمل كلُّ تقدم في مجال محدود، يا ترى، ضريبته من الانحطاط المقابل؟! وهنا، تحديداً، تفرض علينا الحياة سخرية منطقها الذي يجبرنا على تصحيح المسار...

فنتجاوز الزمن، ونسمح لأنفسنا بمقارنة أفلاطون، من خلال تيميوس وكريتياس، ببيكون ورؤاه، من خلال أطلنطِس الجديدة. فكلٌّ من أفلاطون وبيكون كان يعبِّر، من خلال أطلنطِس، عن رؤية معينة لحلم معين. ولكن...

أين بيكون ورؤاه التقنية من أفلاطون ورؤاه الشمولية؟! وأين روحانية أفلاطون وكونيَّته من مادية بيكون ومحدوديَّتها؟! وأين "سرَّانية" أفلاطون مما نفترضه "ماسونية" بيكون؟!

ففي أيام بيكون كان قسم من بنَّائي الكاثدرائيات، في إنكلترا خاصة وأوروبا عموماً، قد تحوَّل من سرَّانيَّته "العملية" operative إلى ما افترضه "تفكُّرية" speculative، وتشكلت التنظيمات التي عُرفَت من بعدُ بـ"حركة البنَّائين الأحرار" التي أمست اليوم عموماً حركة منحطَّة، كسواها، ذات مآرب دنيوية. وأفكر...

أنه، على الصعيد الإنساني، كان عصر بيكون، من بعض جوانبه، عصر "انبعاث"، كما كان عصر أفلاطون، من جوانب أخرى، عصراً ظلامياً، تماماً كما هو عصرنا اليوم، عصر علم وتقدم، وفي الوقت نفسه، عصر انحطاط روحي وأخلاقي لم يسبق له مثيل! وأسجِّل هنا ما يبدو لي وكأنه...

مع بيكون صَغُرَ حلم أطلنطِس، فأضحى مجرَّد رؤية مادية، في حين كان هذا الحلم على يد أفلاطون أسطورة كونية...

وأعيد بخجل قراءة ما كتبه أفلاطون حول "القارة الضائعة" من البداية. وتقودني قراءاتي هذه إلى الأعماق، ولكن هذه المرة من خلال تصحيح جديد للمسار، كما تقول "الحكمة القديمة":

زُرْ باطن الأرض، مصحِّحاً [مسارك]، تجد صخرة الحكمة المستورة...
Visita Interiora Terrae Rectificando Invenice Ocultum Lapidem

ويعيدنا "تصحيح المسار"، فيما يتعلق بموضوعنا، إلى البداية، مرة أخرى. لكن، من خلال مستوى ثالث، ينطلق هذه المرة من...

9

الأسطورة وكتب الحكمة القديمة...

وأهم ما في الأسطورة وكتب الحكمة القديمة هو رمزيتها. فالرمز، كما قالت ذات يوم آني بيزانت في كتابها المسيحية الباطنية: "... قد يكون أصدق من التاريخ، لأن التاريخ لا يعطينا سوى قصة أشباح مضت، بينما يعطينا الرمز قصة الجوهر الذي صُنِعَتْ منه تلك الأشباح..."، ولغتُه تعبِّر من خلال صوره. لذلك...

يجب علينا دائماً إعادة قراءة الأسطورة بعين جديدة، بحثاً عن رمزيتها؛ وتلك الرمزية، حين نمعن التأمل فيها، تضعنا، فيما يتعلق بأطلنطِس، أمام تساؤلات محيِّرة. حيث...

نلحظ، مثلاً، أن أفلاطون، من خلال عرضه لأسطورة قارته الضائعة، التي سَبَقَ وكتبَها قبل 365 عاماً من الميلاد، قد تحدَّث عن غرقها من خلال طوفان مفاجئ أغرق في حينه أطلنطِس، كما شمل أثينا، مما يؤكد على شموليته، وأن تلك الكارثة حلَّت بعد أن غضب كبير الآلهة زفس بسبب انحطاط أبنائه "... نتيجة تحلُّل دماء الآلهة السارية في عروقهم لتزاوجهم من بنات الناس...".

ويتملكنا العجب، خاصة وأن العهد القديم، الذي يقولون اليوم إنه جُمِعَ في بابل قبل 550 عاماً من الميلاد على يد الناسخ عزرا والنبي نحميا، يتكلَّم من خلال سفره الأول – "التكوين" – مستعملاً تعابير مشابهة على ذلك الطوفان الذي حلَّ بالبشرية نتيجة غضب الألوهة منها بسبب فسقها الناجم عن تزاوج أبناء تلك الألوهة من البشر ببنات الناس يقول:

... ولما ابتدأ الناس يكثرون على وجه الأرض وولدت لهم بنات، رأى بنو الله بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لهم نساء من جميع ما اختاروا. فقال الربُّ لا تحل روحي على الإنسان لأنه جسد وتكون أيامه مائة وعشرون سنة. وكان على الأرض جبابرة في تلك الأيام. وأيضاً، بعد أن دخل بنو الله على بنات الناس، ولدن لهم أولاداً. أولئك هم الجبابرة المذكورون منذ الدهر. ورأى الله أن شرَّ الناس قد كثر على الأرض وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام، فندم الربُّ لأنه عمل الإنسان على الأرض وتأسَّف قلبُه. فقال الربُّ أمحو الإنسان الذي خلقت عن وجه الأرض لأني ندمت على خلقي لهم. أما نوح فقد نال حظوة في عيني الرب. فقال الربُّ لنوح: قد دنا أجل البشر بين يدي فقد امتلأت الأرض من أيديهم جوراً. فهاءنذا مُهلِكُهم على الأرض، وهاءنذا آتٍ بطوفان مياه على الأرض لأهلِكَ كلَّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء وكل ما في الأرض يهلك. وأقيم عهدي معك... (تكوين 6: 1 – 19).

فنسجِّل أن هناك قواسم، إن لم نقل رموزاً، مشتركة بين أسطورة أطلنطِس، كما أوردها أفلاطون نقلاً عن المصريين القدماء قبل الميلاد بـ365 سنة، وأسطورة الطوفان، كما أوردها العهد القديم من الكتاب المقدس قبل 550 عاماً من الميلاد. فكلاهما يتحدث عن:

-       كارثة، إن لم نقل طوفاناً، حلَّ، في زمان غابر، ببشرية ذلك الزمان، فأبادها عموماً و...

-       أن تلك الكارثة كانت، في حينه، بسبب غضب الألوهة من تزاوج أبنائها من بنات الناس، إن لم نقل – رمزاً – غرق تلك الروح الهابطة من الأعالي في قلب تلك المادة التي ابتلعتها...

ونكتفي هنا بهذا القدر، مسجِّلين أيضاً تلاقي الأسطورتين، اللتين سبق وذكرناهما، مع أسطورة أخرى من بلاد ما بين النهرين هي ملحمة جلجامش المعروفة. فهناك قرب جغرافي بين اليونان وشعوب شرق المتوسط؛ وهذا قد يفسر لبعضهم ربما تقارب أساطيرها. ولكن...

من الطريف أن نجد هذا التقارب حين نتأمل أيضاً في أساطير شعوب أمريكا الجنوبية، كالمايا الكيشي، التي تحدثنا أيضاً، من خلال كتبها المقدسة، عن كيف خلقت الألوهة البشر الأوائل من الخشب تقول:

... كانوا يشبهون الإنسان، ويتكلمون مثله. غطوا سطح الأرض وتكاثروا، وكان لهم أبناء وبنات. ولكن لم يكن لهم أي وعي، ولم يتذكروا خالقيهم الذين صنعوهم. فقد كانوا يسيرون على غير هدى، كما يحلو لهم، ناسين قلب السماء. حتى حلَّت عليهم اللعنة. وأبيد أولئك الناس المصنوعون من الخشب، حيث نزل من قلب السماء طوفان وقع على رؤوسهم من الأعالي...

فماتوا غرقاً وسط طوفان من دم ونار، وقد تمردت عليهم قوى الطبيعة التي اعتقدوا أنهم روَّضوها. هذا ويقال أن من تبقى منهم هي تلك القردة التي تسكن اليوم في الغابات!

نجد، إذن، أن ثمة أيضاً قواسم ورموز مشتركة، مغرقة في القدم من خلال الأسطورة، بين شعوب يفترض منطقُنا العلموي عدم وجود علاقة فيما بينها في ذلك الزمان، قواسم ورموز تتحدث أيضاً، ويا للمصادفة...

-       عن نفس كارثة الطوفان التي حلَّت بتلك البشرية الأولى بسبب...

-       من فسق أبنائها وغضب الألوهة التي...

-       تزاوج أبناؤها أيضاً من بنات الناس...

فتلك البشرية، بحسب أساطير المايا، قد خُلِقَ رجالُها من خشب البيتو ونساؤها من خشب السافراس، أي من الخشب المقدس للرجال ومن الخشب الأرضي للنساء. وأيضاً...

لنتأمل قليلاً في هذا النص يقول:

...وكانت قذيفة واحدة تنطوي على كلِّ الطاقة الكونية. عنها انبثق عمود ملتهب من الدخان والنار مشعاً ومبهراً كعشرة آلاف شمس. فقد كان سلاحاً مجهولاً، شعاعاً من الحديد، رسولاً عملاقاً حمل الموت معه لنسل الفريهاني والأنداكا عن بكرة أبيهم. فقد احترقت الجثث إلى حدٍّ لم يعد بوسع أحد تمييزها، وتساقط منها الشعر، كما تساقطت الأظافر. وكلُّ ما كان مصنوعاً من الخزف تحطم دون أي سبب ظاهر. وابيضَّ لون العصافير. وخلال سويعات أضحى كل الطعام ساماً. وهرباً من النار الحارقة ألقى الجنود بأنفسهم في اليم...

 

وهو نصٌّ قد يبدو مأخوذاً من نقل حيٍّ مباشر لما حصل فعلاً في السادس من آب 1945 في هيروشيما. أما مصدره – ويا للعجب! – فهو كتاب يُعرَف بـالمهابهارتا، ملحمة الهند الكبرى التي تعود إلى حوالى 1500 سنة قبل الميلاد؛ كتاب مغرق في القدم يتحدث عن بلاد الهند القديمة، وبلغة تبدو اليوم عصرية عن:

-       كارثة رهيبة حلَّت بجزء من بشرية ذلك الزمان من خلال سلاح مشابه، إن لم نقل نفس ذلك الذي بات اليوم معروفاً جداً. وأيضاً...

-       نجد، من خلال هذا النص، ما يذكِّرنا بعض الشيء بما أورده كيسي بهذا الخصوص، كما سبق وأشرنا...

ونتابع من خلال الأسطورة، فنتوقف أخيراً عند كتاب مغرق في القدم من التيبت يدعى بـآيات سفر الحكمة Stances of the Book of Dzian، بَنَتْ عليه السيدة هـ. ب. بلافاتسكي، في أواخر القرن التاسع عشر، "عقيدتـ[ـها] السرِّية" – كتاب يردِّد من أعالي كرتنا الأرضية، من قمم الهمالايا التي تفترض ماديَّتنا أنه لم يصلها أي طوفان، حول الموضوع ما يلي:

40. أما [البشرية] الثالثة والرابعة التي نما غرورها فقالت: "إننا الملوك، إننا الآلهة."

41. واتخذوا زوجات جميلات، من تلك اللواتي لا عقل لهنَّ، ذوات الرؤوس الضيقة، فأنجبوا وحوشاً، شياطين شريرة مذكرة ومؤنثة ومَرَدَة معدومة التفكير.

42. وأقاموا التماثيل للجسم البشري، وعبدوا الذكور والإناث من البشر، فتعطَّلت عينُهم الثالثة.

43. وبنوا مدناً جبارة، من حجارة ومعادن نادرة، مستخدمين تلك النار الملفوظة من الأعماق، والحجارة البيضاء والسوداء المستخرجة من الجبال، نحتوا صوراً لهم وعبدوها.

44. وأقاموا صوراً كبيرة، ارتفاعها تسعة ياتي، بطول أجسامهم. وكما دمَّرت النار الداخلية بلاد آبائهم، هددت الماءُ الرابعة.

45. جاءت أولى المياه الكبرى، فابتلعت الجزر السبع.

46. ولم ينجُ سوى القديسين، أما الخطاة فأبيدوا. ومعهم دُمِّرت غالبية تلك الحيوانات التي أنجبتها الأرض من عَرَقها.

47. وبقيت قلَّة. بعض الصُّفر، وبعض السُّمر والسود، وبعض الحمر. أما أولئك الذين كانوا بلون القمر فقد غادروا إلى الأبد.

48. بقيت الخاصَّة، تلك المنبثقة من القطيع المقدس، وكان حكَّامها يدعون بالملوك الآلهة.

49 ... وكانت [الأفاعي] التي أعادت السلام مع الخامسة، فعلَّمتها وأعطتها المعرفة...

ونشعر وكأننا أضحينا هنا أقرب إلى ذلك "الكتاب الإمام" الذي انبثقت عنه، ربما، جميع "كتب الحكمة القديمة" والذي يفرض علينا، ربما، التوقف أمام بعض رموزه الأساسية. حيث...

يتحدث الكتاب التيبتي، كما لاحظنا، عن بشريتين ثالثة ورابعة، هما، ربما، على صعيد وعينا، كما تقول كتب الحكمة القديمة، البشرية الأولى والثانية. فالبشرية الثالثة، حسب كتب الحكمة القديمة، هي، على صعيدنا، البشرية الأولى التي وعت ذاتها. لذا فهي – رمزاً – تلك النابعة من تقاطع الروح بالمادة؛ أو لنقل، بحسب أفلاطون، من تزاوج بوسيديون (الإله) من (ابنة الإنسان) كليتو. وتلك البشرية تُصوِّرها كتب الحكمة القديمة – رمزاً – بصليب في قلب دائرة (إن لم نقل في قلب وردة). ونلاحظ، هنا أيضاً، أن النص الذي أوردنا يربط تلك البشرية الثالثة بالبشرية التي تلتها، أي الرابعة، أو لنقل، بتلك البشرية التي، بمشيئة الألوهة، انقطعتْ عن جذورها الإلهية فغرقت، بسبب غرورها، في قلب تلك المادة التي ابتلعتها، والتي رمزها، أيضاً بحسب كتب الحكمة القديمة، صليبٌ بلا دائرة...

 

وكان الطوفان أو الموت، ومن خلاله، تلك الحركة الكونية والأزلية، التي ترمز إليها كتبُ الحكمة القديمة بالـSwastika (الصليب المعقوف)، والتي هي أيضاً رمز الشمس ومنظومتها، ورمز الطاقة المتدفقة والخلاقة للكون. هذا وتدور أذرعُها النارية في اتجاه عقارب الساعة أو لنقل – رمزاً – في اتجاه قوة الحياة الخلاقة التي أنجبت بشريَّتنا الخامسة، تلك "المنبثقة عن القطيع المقدس" التي أخذت معرفتها كما يعبِّر – رمزاً – النصُّ التيبتي الذي أوردنا عن "الأفاعي". ونسجِّل هنا، أيضاً استناداً إلى كتب الحكمة القديمة، أن ما ترمز إليه "آيات سفر الحكمة" التيبتي بالـ"قطيع المقدس" هو نفسه تلك البشرية التي اصطفتْها الألوهة، بحسب العهد القديم، من نوح وعائلته، فأنقذتْها من الطوفان. وأيضاً نلاحظ أن اختيار الأفعى كرمز للمعرفة السرَّانية يتكرر في النص التيبتي كما في العهد القديم. ونسجل هنا، على هامش رمز الـSwastika الذي أوردنا، أن هذا الرمز قد أضحى في القرن العشرين رمز الحقد والأنانية والطغيان وكل القوى الظلامية الهدَّامة التي انعكس اتجاهُها.

ونكتفي هنا بهذا القدر، متجاوزين ربما تفاصيل ورموز ذلك النص السرَّاني الرائع، الذي يؤكد بكل وضوح، من خلال الأسطورة الإنسانية، وجود أرضية مشتركة لجميع الأساطير التي يقتبس بعضُها من بعض مباشرة. وهذا ما يدفعنا للتوقف قليلاً من أجل التأمل في الأصول. وتلك قد تكون، من حيث العمق، ربما، ما دعاه كارل غوستاف يونغ يوماً بـ...

10

الخافية الجمعية...

فمن إعادة قراءة متأنية لمضمون ما عرضنا حول أسطورة أفلاطون نجد أنه، رغم عدم وجود براهين كافية تؤكد تلك الأسطورة بحرفيَّتها، إلا أنه يوجد من خلال الوقائع المادية ما يؤكد حتماً وجود أساس مادي لتلك الأسطورة. وأيضاً...

من إعادة قراءة متأنية لمجمل ما عرضنا، ورغم وجود أسس لذلك المنطق القائل بأن أفلاطون أراد من خلال أسطورته تمرير رؤيته الفلسفية والاجتماعية الخاصة، إلا أن الوقائع المادية التي عرضنا، من جهة، وتداخل أسطورته، في العمق، مع كتابات قديمة أخرى، تؤكد أن قصَّته ومفاهيمه تلك كانت تنطلق من رؤية ميتافيزيائية وسرَّانية ترجع، من حيث أصولها، إلى ينابيع ما ندعوه بـ"الحكمة القديمة".

والمنطق المادي المباشر، ذلك الذي على لسان أبنائه لا يؤمن إلا بالملموس، ذلك الذي كان، ومازال، يحاول البحث عن تلك الينابيع من خلال منطقه الخطِّي، قد يجد ربما في "فرضية أطلنطِس"، المقرونة بالوقائع الجيولوجية والأرخيولوجية، ما يفسر ذلك التشابه المدهش في بعض تفاصيل الأسطورة، كما أوردتها كتب الحكمة القديمة. ولكن...

إن قَبِلَ ذلك المنطق المادي بأسطورة أطلنطِس من خلال ماديتها – وأنا هنا لا أنفي تلك المادية – أقول، إن قَبِلَ بذلك فإنه سرعان ما سيجد نفسه أمام الكثير من التساؤلات المشروعة التي لا تستطيع ماديتُه الإجابة عليها. وأولها وآخرها تلك التي تتساءل بمنتهى السذاجة: كيف نبعت تلك الأسطورة بأشكالها المتشابهة عند الجميع؟! وأين ومتى تحققت فعلاً؟ ولِمَ تخبو وتنام أحياناً لتعود فتبرز أحياناً أخرى؟

كيف نبعت؟ أين ومتى تحققت؟ ما من أحد بوسعه الإجابة الدقيقة الملموسة على تلك التساؤلات. لكن العقل والقلب يقولان إنها نبعت قطعاً في غياهب الزمن من تجربة كونية مضتْ وتركتْ بصماتها في خافية الإنسانية جمعاء. فالخافية، كما قال يونغ ذات يوم: "... تسبق الواعية وتشكل أساسها البدئي، ومنبعها المولِّد لها باستمرار..."، و"... الخافية الجمعية هي ذلك التراث الروحي المذهل لتطور الجنس البشري، الذي يولد من جديد مع كل بنية فردية...". لذلك نراها تتحقق اليوم، كما في الماضي، وتخبو أحياناً، لتعود فتظهر بقوة أحياناً أخرى.

قلت: تحققت في الماضي وتتحقق اليوم من خلال كل إنسان. ولكن... أترانا لا نبالغ، حيث قد يتساءل بعضهم محقاً: أين نحن اليوم من كلِّ هذا؟!

والجواب قد يكون من أحد جوانبه، ربما، أننا نحيا اليوم في عصر أطلنطِس، في عصر ذلك التقدم التقني المرعب، وتلك الجهالة العظمى، السائدة فعلاً غرب وشرق عمودي هرقل، على هذا الجانب وذاك من المحيط الأطلسي، وفي كل مكان على هذه الأرض... ذلك التقدم وتلك الجهالة اللذين طبعا القرن المنصرم في طريقة حياته وتقنياته ومفاهيمه الأخلاقية واللاأخلاقية، فأوصلت عالمنا إلى ما وصل إليه... ذلك العالم الذي يبدو اليوم، من خلال واقعنا البشري، أقرب منه إلى الطوفان من أيِّ وقت مضى!

فهل كانت أسطورة أطلنطِس من أحد جوانبها نبوءة؟

ربما كانت كذلك فعلاً! فالنبوءة قطعاً، من أحد جوانبها، أصدق تعبير عن العمق الكوني للخافية الجمعية؛ حيث يقول علم نفس الأعماق، من خلال يونغ، أن اللاوعي الذي ندعوه بالخافية الجمعية Collective Unconscious إنما نبع في الماضي، وينبع اليوم، وقد تحقق في الماضي، ويتحقق كل يوم، من خلال كل إنسان. فالخافية تتألف من مكوِّنات غير متمايزة، تشكل، من حيث مكوناتها، مستودع النماذج البدئية Archetypes لردَّة الفعل الإنسانية منذ البداية – بغض النظر عن الفوارق التاريخية والعرقية – وضمن ظروفها النفسية الخاصة، كالخوف والمخاطر والصراع مع قوى خفية والولادة والموت، كانعكاس لتأثيرات المبدأ الواضح، المبدأ الغامض...

 

ولكن... قد يعترض بعضهم، محقاً، أن: بربِّك أجبنا، في النهاية، هل وُجِدَتْ أطلنطِس حقيقة، أم لم توجد؟ هل كانت ذات يوم واقعاً ملموساً؟ أم كانت مجرد خيال؟

والإجابة، من أحد جوانبها، قد تكون، أيضاً من خلال يونغ، أن هناك عمقاً من الخافية لا يمكن لأحدٍ ولوجُه؛ وهذا جانب آخر من الحقيقة. والجواب قد يكون آخراً من خلال كتب الحكمة القديمة، تحدثنا عن...

11

مراتب الوجود...

عن كواكب ستة أخرى، "سموات سبع" و"أرضين سبع"، موجودة في أفلاك وعي هي غير أفلاك وعينا المادية، في طبقات أخرى من الكون، مختلفة عما نلمس ونرى مباشرة؛ أفلاك هي أقرب إلى الحلم بالنسبة لنا، كما نحن بالنسبة لها. أفلاك تتوقف عندها حدودُ معرفتنا الأرضية، ولا يلجُها سوى أبناء المعرفة الذين اصطفتْهم الألوهة لنفسها.

لذا ترانا نقف هنا الآن، خاشعين وصامتين، كما وقف، في حينه، أفلاطون عندما أنهى حديثه مع كريتياس عند عتبة ما سيقوله زفس. وحيث ينبغي الصمت...

ولكن... إلامَ يقودنا كل هذا في النهاية؟

وكل ما أوردنا قد لا يكون سوى خيال، كما نحن، في الحقيقة، مجرَّد خيال من خلال نسبيَّتنا. وأشعر في أعماقي أن وحده حق ما هو مطلق، وكل شيء سواه خيال في خيال: "... فكلُّ ما عليها فانٍ ويبقى وجه ربِّك ذو الجلال والإكرام..." (الرحمن 26-27).

ولكن الإله – سبحانه وتعالى – الذي رفض لحكمته أن تكون "أقفالاً" على "قلوبنا" قد جعل منَّا – نحن الخيال – حقيقة في عالمنا. ونكتفي بهذا القدر.

ومن خلال الخيال والحقيقة نختتم بتلك الكلمات (التي قد لا ترضي بعضهم) بحثنا المتواضع، متسائلين عن...

12

الحقيقة والمصير...

ذلك المصير الذي تتحدث عنه كتب الحكمة القديمة، تقول: "... أن جميع الذرِّيات البشرية، المنبثقة بعضها عن بعض، تنمو وتشيخ وتموت..." – مما يعني، بكل وضوح، أن هذا هو مصير بشريتنا الحالية، كسابقاتها. وأيضاً...

بدأت تتكوَّن، منذ الآن، بصمت وتحت أنظارنا، إنسانية جديدة هي رمز البشرية السادسة التي ستحل محلَّ البشرية الخامسة (الحالية)، منبثقة من قلبها.

فهذا هو، من خلال فعل كرما Karma، قانون الطبيعة وكينونتها ومصيرها. لذا فإن الحقيقة قد تكون، ربما، كما عبَّر عنها ذات يوم أحد الحكماء قائلاً...

... إنك أنت أيها الزمان الحاضر، يا ابن الزمان الماضي، المنبثق عنه كما ينبثق المستقبل من الحاضر. أنت لا تعرف، رغم هذا، أنه لم يكن لك أب يوماً وأنك لن تلد أيضاً أبداً. فما تلده، دائماً وأبداً وباستمرار، هو ذاتك ولا أحد سواك، لأنك قبل أن تباشر القول حتى بأنك وليد تلك اللحظة التي مضت وابن الماضي تكون قد صرت ماضياً، وقبل أن تنطق بلفظة انظر، تكون قد تجاوزت حاضرك وأمسيت مستقبلاً. فالماضي والحاضر والمستقبل ما هي سوى ذلك الثالوث الأزلي الحي، ذلك الواحد الأحد...

ذلك الذي

... كان موجوداً قبل أن يلقي بناظره في الأزل وقبل أن يضع أسس العالم، والذي سيكون كما كان بالأمس، بعد انفجار النار من الأعماق وتحررها من قيودها لتدمِّر هذا العالم، والذي لن يتغير حتى يزول الزمن. ذلك العقل اللامتناهي. ذلك الأزل الإلهي...

*** *** ***

المراجع*

-        أرنو، بول: تاريخ الوردة + الصليب.

-        أفلاطون: محاورتا تيميوس وكريتياس.

-        برلتس، تشارلز: سرُّ أطلنطِس.

-        بلافاتسكي، هيلينا ب.: العقيدة السرية.

-        بلافاتسكي، هيلينا ب.: مفتاح الثيوصوفيا.

-        بيرلينغرينو، شارل: أطلنطِس المكتشفة.

-        بيزانت، آني: المسيحية الباطنية.

-        بيكون، فرانسيس: أطلنطِس الجديدة.

-       سيمونس، جان لويس: كيف نحيا من جديد حيواتنا الماضية.

-        العوَّا، د. عادل: مذاهب السعادة.

-        القرآن الكريم.

-        الكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد.

-        كتاب هنود المايا الكيشي.

-        كوندراتوف، ألكساندر: أسرار المحيطات الثلاثة.

-       المهابهارتا.

-       ياكوبي، يولاند: بسيكولوجيا ك. غ. يونغ.


* نعتذر عن عدم إيراد أسماء المراجع الأجنبية باللغات الأجنبية. (المحرر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود