الأسطورة والطقس

 

 

فراس السواح

 

قلنا في بحث وظيفة الأسطورة[1] بأن الدين، في أسسه النفسية العميقة, هو اختبار للقدسي من خلال حالة انفعالية سابقة على أي تصور عقلاني، وبأن هذه التجربة الدينية الداخلية ليست وقفاً على شخص دون آخر، ولا على فئة دون أخرى, بل يتعرض لها الجميع، وإن بدرجات متفاوتة من حيث الشدة والوضوح, ويتعاملون معها بدرجات متفاوتة أيضاً من حيث القبول والاعتراف.

وعندما تصل الخبرة الدينية المباشرة هذه إلى حالة من الشدة لدى الإنسان فإنها تستدعي القيام بـسلوك ما، وذلك من أجل إعادة التوازن إلى النفس التي غيَّرتْ التجربةُ من حالتها الاعتيادية. هذا السلوك ندعوه بـالطقس. والطقس هو مجموعة من الإجراءات والحركات التي تأتي استجابة للتجربة الدينية الداخلية، وتهدف إلى عقد صلة مع العوالم القدسية.

ولعل الموسيقى الإيقاعية والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الطقسي التلقائي الذي تحول، تدريجياً، إلى طقس مقنَّن تجري تأديته وفق قواعد مرسومة. وقد ترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أطر محددة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية للأفراد وضبطها من خلال معتقدات واضحة تؤمن بها الجماعة, ويرى فيها الأفراد تعبيراً عن تجاربهم الدينية الشخصية.

إن المعتقدات الدينية التي تلعب الأسطورةُ دوراً أساسياً في تثبيتها وترسيخها تبقى، في النتيجة، صوراً وأفكاراً على هذه الدرجة من الوضوح أو تلك. ولكن هذه الصور والأفكار لا تصنع ديناً, بالغاً ما بلغ من وضوحها واتساقها, إلا عندما تدفع إلى سلوك وإلى فعل؛ فيتم بذلك الانتقال من حالة التأمل إلى الحركة, ومن التفكير في العوالم القدسية إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب إليها، أو نسترضيها، أو نسخِّر قواها لصالحنا، إلخ. فإذا كانت المعتقدات، وما يدور حولها من أساطير, تضعنا في موقف ذهني من القدسي فإن الطقس يضعنا في موقف عملي منه, في حالة فعل من شأنها إحداث رابطة واتصال. فمن خلال أداء حركات معينة ورقصات إيقاعية وتكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص على النفوس يمكن للأفراد المستغرقين في الأداء الطقسي الجمعي الانتقال إلى مستويات غير اعتيادية للوعي, يشعرون معها بتلاشي الحدود بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية.

في ثقافة الشرق القديم يمكن تقسيم الممارسات الطقسية إلى ثلاث زمر رئيسية هي:

-       الطقوس السحرية،

-       الطقوس الدينية الروتينية,

-       والطقوس الدورية الكبرى.

وسأقوم فيما يلي بالتعريف بهذه الأنواع الثلاثة, بما لا يتجاوز أهداف هذا البحث.

الطقوس السحرية

تقوم الطقوس السحرية على الإيمان بوجود قوة سارية في جميع مظاهر الكون. وهي قوة غفلة غير مشخَّصة، بمعنى أنها لا تصدر عن إله ما أو عن أي كائن روحاني ذي شخصية محددة وإرادة مستقلة فاعلة؛ كما أنها قوة حيادية, بمعنى أنها فوق الخير والشر بالمفهوم الأخلاقي المعتاد. ويبدو أن الاعتقاد بوجود هذه القوة السحرية هو أول شكل من أشكال الاعتقاد الديني، وأن الطقوس التي نشأت من أجل التعامل مع القوة السحرية هي أول أنواع الطقوس, وتهدف إلى التأثير على القوة الحيادية وتوجيهها لتحقيق غايات معينة.

تقدِّم لنا الحضارة المصرية القديمة أوضح الأمثلة على الطقوس السحرية ذات الأصل المغرق في القدم التي سبقت بزمن طويل أنواع الطقوس التي عرفناها في الفترات التاريخية. فالعلامة المعروف السير واليس بدج, الاختصاصي في الهيروغليفية والديانة المصرية القديمة, يرى، بعد دراسته المعمقة للطقوس المصرية, أن الإيمان بالسحر وبالقوى التي تجعل السحر ممكناً قد سبق الإيمانَ بوجود الآلهة المشخَّصة في الديانة المصرية؛ كما يرى أن معظم الطقوس الدينية اللاحقة، التي صارت جزءاً من النظام الروحي في العصور التاريخية, تعود بأصولها إلى الممارسات السحرية في أزمان لم تكن الآلهة فيها معروفة أو متصوَّرة بأي شكل في أذهان المصريين. ويبدو أن الرمز الهيروغليفي الذي يُرسَم على شكل فأس, والذي يشير إلى مفهوم الإله الأعلى, قد تحدَّر من العصور الحجرية, أو على أقل تقدير، من عصر ما قبل الأسرات, عندما كانت هذه الأداة تُستخدَم في أداء طقوس سحردينية, وترمز إلى حضور القوة الكبرى غير المشخَّصة.[2]

لقد اعتقد المصريون القدماء أن القوة التي يمتلكها الكاهن المتمرِّس بفنون السحر هي قوة غير محدودة. فعن طريق التفوُّه بـأسماء القوة وبتعاويذ سحرية معينة يستطيع شفاء الأمراض، وطرد الأرواح الشريرة، وتحويل الكائنات الحية من شكل إلى آخر, وحتى إعادة الحياة إلى الموتى والتحكم بالرياح والأعاصير. ورغم أن الفترات التاريخية قد جلبت معها الاعتقاد بوجود إله أعلى كلِّي القدرة، خالق للسماء والأرض, إلا أن هذا الاعتقاد قد سار جنباً إلى جنب مع الاعتقاد القديم بالقوى السحرية. فالإله الخفي الأعلى المدعو رع، الذي يعلن عن وجوده المرئي من خلال قرص الشمس, لم يكن قيوماً بذاته، بل بالقوة السحرية التي تتخلَّل الكون. ولا أدلَّ على ذلك من أنه لم يكن يستطيع إنقاذ نفسه من الوحش آبِب الذي كان يلاحقه كل ليلة إبان رحلته الليلية تحت الأرض وينقضُّ عليه قبل الشروق لابتلاعه, إلا بمعونة كهنة المعبد الذين كانوا يسهرون طوال الليل ويؤدون طقوساً معينة من شأنها مدُّ الإله بـالقوة ومعونته على الفكاك من الوحش. وكانوا يعتقدون أنه بدون هذه الطقوس سوف يخسر رع المعركة وتنطفئ الشمس.[3]

لقد سبق الإيمانُ بـالقوة السحرية غير المشخَّصة الإيمانَ بالآلهة المشخصة, سواء في المعتقدات المصرية أم في غيرها. وهذه حقيقة تؤكدها لنا الأسطورة مثلما أكَّدها الطقس. إن الآلهة نفسها تلجأ إلى السحر في الميثولوجيا المصرية وتعتمد عليه في تحقيق المهام الصعبة. فخلق العالم – وهو أعظم مهمة يمكن أن يضطلع بها إلهٌ – قد تم بواسطة كلمة القوة التي خرجت من فم الخالق. وفي أسطورة التكوين البابلية يقوم إيا بصنع دائرة سحرية يضربها حول رفاقه لحمايتهم في أثناء المعركة مع آبسو وأتباعه. وعندما يلتقي الجمعان ينطق إيا بتعويذته السحرية التي تشلُّ قوة خصمه. نقرأ في اللوح الأول من الإينوما إيليش:[4]

إيا العليم بكل شيء قد نفذ ببصيرته إلى خططهم،

فابتكر دائرة سحرية ضربها حول رفاقه,

وبتأنٍّ نطق تعويذته المقدسة المسيطرة.

رتَّلها وأحاط بها سطح الماء (= آبسو),

فجلب عليه النوم العميق.

وفي المعركة الثانية التي جرت بين الإله مردوخ، ابن إيا والإلهة الأم تعامة، كانت كلمة مردوخ السحرية أقوى سلاح يتجهَّز به للمواجهة الحاسمة. نقرأ في اللوح الرابع من الإينوما إيليش:

أتوا بثوب فوضعوه في الوسط,

وقالوا لبكرهم مردوخ:

«سلطانك، أيها الرب، هو الأقوى بين الآلهة.

ليفنَ الثوبُ بكلمة من فمك,

وليرجع سيرته الأولى بكلمة أخرى.»

فأمر بفناء الثوب, فزال،

ثم أمر به، فعاد سيرته الأولى.

فلما رأى آباؤه الآلهة قوة كلمته

ابتهجوا وأعطوه ولاءهم: مردوخ ملكاً.

ومما يشير إلى علوِّ مكانة الطقس السحري في ثقافة الشرق القديم ارتباطُ السحر بالحكمة. فالحكمة في مصر القديمة مرتبطة بالسحر, وحكماء الثقافة المصرية جميعاً من السحرة المتمرِّسين بفنون السحر. وفي بلاد الرافدين كان الإله إنكي (= إيا) إلهاً للماء العذب وإلهاً للحكمة, كما كان إلهاً للسحر وللمعارف السرَّانية, ومن ألقابه «رب التعاويذ». من هنا كان الماء الذي يجسد القوى السحرية للإله إنكي عنصراً أساسياً في الطقوس السحرشفائية: فهو يدرأ الأمراض ويدفع عدوان الشياطين والأرواح الشريرة.[5] وفي البلاط الفارسي جرت العادة أن يُعهَد بوليِّ العهد، حين بلوغه سنَّ الرشد، إلى أربعة معلِّمين: الأول هو الأذكى, والثاني هو الأعدل, والثالث هو الأحكم, والرابع هو الأشجع. وكان على المعلِّم الحكيم أن يدرِّب الأمير على تقنيات السحر الزردشتي.[6]

يدلنا ذلك كلُّه على علوِّ مكانة الطقوس السحرية, وعلى اختلاطها بالطقوس الدينية إلى درجة يصعب التمييز بينهما. ورغم أن المعيار الأساسي للتفريق بين هذين النوعين من الطقوس هو توسيط الآلهة بين الأسباب والنتائج في الطقس الديني, وتوسيط القوة السحرية الغفلة في الطقس السحري, إلا أن التمازج بين نوعي الطقوس وتداخلهما قد بقي قائماً. فالآلهة في بعض الطقوس تبدو لنا أشبه بالقوى السحرية الغفلة التي يمكن استنهاضها بالتعازيم والتعاويذ؛ كما تبدو القوى السحرية الغفلة, من ناحية أخرى, وقد أُلبِسَت شخصية غائمة أشبه بالآلهة.

لتوضيح هذه النقطة أستعين بنص طقسي حثي فريد, يعبِّر أبلغ تعبير عن نوع من الطقوس المختلَطة التي يمتزج فيها السحرُ بالدين بطريقة لا تسمح لنا بتمييز العناصر الدينية فيه من العناصر السحرية. يحتوي هذا النص على توجيهات لأداء طقس معين يهدف إلى استنهاض الآلهة، واستقدامها من أماكن إقامتها البعيدة في كل مكان متحضِّر معروف لدى الحثيين, لكي تجمع قواها المشتركة فتُبارِك بلاد حاتي وتمد مَلِكها ومَلِكتها بالصحة والحياة وتفتَّ في عضد الأعداء. يتألف النص من مقدمة تشرح الإجراءات التمهيدية للطقس, ومن تعزيمة يجب تلاوتها لحثِّ الآلهة على إسراع الخطى والتجمع حول العرَّافين القائمين على الطقس.

نقرأ في بداية النص ما يلي:

عندما يريد العرَّافون جذب الآلهة بواسطة تسع دروب, من المروج ومن الجبال ومن الينابيع ومن النار, من السماء ومن الأرض, عليهم أن يقوموا بتحضير الأشياء التالية: يؤتى بسلة فيها ما يلي: [تعداد لعناصر مختلفة مما يُستخدَم في التحضيرات السحرية, بينها رغيف القربان, قطعة من خشب الأرز, ثلاثون رغيفاً مصنوعة من طحين جيد ناعم, جناح صقر, جزة خروف صوفية، إلخ].

إلى جانب هذه العناصر التي يؤتى بها معاً في سلة واحدة, يقوم العرافون بتجهيز جِرار تحتوي على خمر وعسل وزيت وثمار متنوعة وكعك الزبدة. ثم يخرجون من بوابة معينة من بوابات المدينة إلى الفلاة. وهناك يقيمون مائدة ويبدؤون الإجراءات الطقسية التي تنتهي بصنع دروب من قماش مجدول، يثبَّت طرف الواحد منها على المائدة، ثم يُسحَب مسافة طويلة في أحد الاتجاهات. وعلى طول كل درب يجري صب الخمر والزيت والعسل في خطوط متوازية على جانبي الدرب. وفي نهاية كل درب توضع التقدمات المختلفة، من كعك الزبدة والأرغفة والثمار وما إليها. ومن المفترض أن هذه الدروب سوف تمتد نظرياً لمسافة آلاف الأميال في كل الاتجاهات ليهتدي بها الآلهة التي يتم استنهاضها وجذبها من مساكنها البعيدة.

بعد ذلك يبدأ المعزِّمون بتلاوة التعزيمة التي نقرأ فيها:

أيها الآلهة. انظروا. لقد فرشتُ الطريق أمامكم بوشاح, وسكبتُ من أجلكم طحيناً جيداً ناعماً وزيتاً فاخراً. فهلمُّوا وامشوا عليه إلى هذا المكان. لا تعترضنَّ مسيركم شجرة ساقطة, ولا يعرقلنَّ أقدامكم حجر. سوف تمهَّد الجبال أمام خطوكم, وتُمَدُّ المعابر فوق الأنهار لاجتيازكم [...]. ليأكل الآلهة الأشداء من هذه الدروب الممدودة إليهم وليطفئوا عطشهم. أيها الآلهة. انظروا بعين الرضى إلى ملكنا وملكتنا, أينما كنتم، سواء كنتم في السماء أم على الأرض, في الجبال أم في الأنهار, في بلاد ميتاني أم في أرض كنزا, في بلاد تونيب أم في بلاد أوغاريت، إلخ.

يتابع النص بعد ذلك سرد أسماء عشرات الممالك الواقعة فيما بين وادي الرافدين والبحر المتوسط, وبين آسيا الصغرى وأواسط سوريا وجنوبها، وصولاً إلى مصر, لينتهي من ذلك إلى القول:

ها نحن نصرخ إليكم، ها نحن نجذبكم إلينا. أديروا ظهوركم لبلاد الأعداء، وانظروا بعين الرضى إلى ملكنا وملكتنا. سيضعان أمامكم تقدمات مقدسة. فهلمُّوا مكرَّمين وتلقَّوْا تقدماتكم بكلتا اليدين, هلمُّوا من بلاد الأعداء ومن مناطق الرجس والشر. تعالوا إلى بلاد حاتي, الطاهرة النقية المباركة, واجلبوا معكم الحياة والصحة والعمر المديد إلخ.[7]

لكي نفهم الطابع السحري المحض لهذا الطقس الذي يلبس لبوساً دينياً لا بدَّ لي من تقديم استطراد حول طبيعة السحر في الثقافات القديمة والمواقف الفكرية التي يصدر عنها.

انطلاقاً من فرضية الفيلسوف الألماني هيغل، القائلة بأن عصراً ساد فيه السحر قد سبق عصر الدين في تاريخ الحضارة الإنسانية, قام رائد الأنثروبولوجيا النظرية في بريطانيا السير جيمس فريزر بصياغة نظريته المعروفة حول أصل الدين وعلاقته بالسحر التي أثَّرت على أجيال متعاقبة من الباحثين منذ أوائل القرن العشرين. يفترض فريزر, ابتداءً, أنه قد مرَّ على الإنسان عهد ظن فيه أن بمقدوره التحكم بسير عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية. وعندما اكتشف، بعد فترة ليست بالقصيرة, قصور هذه الوسائل عن تحقيق غاياتها اعتقد أن الطبيعة التي تأبى الانصياع لطقوسه واقعةٌ تحت سلطان شخصيات روحانية فائقة القدرة. فتحول إلى عبادة هذه الشخصيات، باستعطافها واسترضائها بالأضاحي والقرابين, لتقف في صفِّه وتلبي له حاجاته. وبذلك ظهر الدين, وتحوَّل الإنسان عن السحر, وحلَّ كاهنُ المعبد الذي يقيم الصلوات محلَّ ساحر القبيلة الذي يقود الطقوس السحرية.[8]

وفي الحقيقة فإن التمييز الذي يضعه فريزر بين السحر والدين يأتي نتيجة لفهمه الخاص للدين ولما هو ديني. فلقد أوضح، من خلال تعريفه للدين, أنه لا يرى ديناً إلا عندما يرى طقوساً تتوسل إلى كائنات روحانية فوق طبيعانية تتحكم في مظاهر الطبيعة. من هنا فإن الدين, عنده, لم يبتدئ في تاريخ الإنسان إلا مع ظهور الآلهة المشخَّصة. وقد قاده ذلك إلى اعتبار كلِّ معتقد وطقس سابق على ذلك بمثابة طقس ومعتقد سحري لا يمت إلى الدين بصلة.

غير أن دراستنا لتاريخ الدين قد قادتنا إلى رؤية مختلفة لعلاقة الدين بالسحر. فالدين لم ينشأ عن السحر لأنه لا فرق بين السحر والدين عند منابت وجذور الثقافة الإنسانية. وليس الذي يدعوه فريزر سحراً إلا شكلاً أصلياً وأولياً من أشكال الدين, سابقاً على ظهور الشخصيات الإلهية في المعتقدات الدينية للإنسان. إن الساحر الذي يتوسَّط، من خلال طقوسه, بين الأسباب ونتائجها لا يعتمد مبدأ ميكانيكية الطبيعة وخضوع عملياتها لقوانين سحرية ثابتة, كما يرى فريزر ومن يردِّدون أفكاره إلى الآن, بل على مبدأ القوة السارية في الطبيعة؛ وهي قوة غفلة غير مشخَّصة، تربط بين عناصر عالم الظواهر وتكمن خلف تسلسل الأحداث في الطبيعة. فالساحر، في أدائه لطقوسه، إنما يعتمد على قوى منبثَّة في الطبيعة؛ وهذه القوى هي قوى دينية من نوع ما لأنها تشكل بعداً ماورائياً لعالم المادة المرئي والمعيش؛ ونستطيع أن ندعوها بالقوى السحردينية, تمييزاً لها عن القوى الدينية التي تتمثل في الآلهة.

إن أي مخلوق منتصب على قائمتين، وله دماغ يزيد وزنه قليلاً عن دماغ الشمبانزي والغوريلا, لا يمكنه الاعتقاد, اعتماداً على تجربته المباشرة مع الطبيعة, بأن تقليد حادث ما يمكن أن يؤدي إلى وقوعه. ومع ذلك، رأينا أن الإنسان الأول كان يقلِّد، من خلال حركات طقسية, عملية صراعه مع حيوانات الصيد وسقوط هذه صريعة حرابه, وذلك قبل أن يتوجَّه فعلياً إلى حقل الصيد؛ كما رأيناه يقلِّد صوت سقوط المطر بأدوات طقسية معينة، معتقداً أن السماء سوف تفتح مصاريعها وتغدق عليه المطر بعد ذلك. فكيف توصَّل الإنسان إلى ابتكار هذه الممارسات وأمثالها مما يتعارض، من حيث الظاهر، مع كافة تجاربه العملية؟

لقد طور الإنسان تدريجياً، منذ عصور وعيه المبكرة, مفهوماً للسببية من خلال رصده للعمليات الجارية من حوله. فالحرارة تسبب الحريق, والماء يطفئ النار, والسحاب يُنزِل المطر، إلخ. إلا أن ما يميِّز مفهوم السببية عند الإنسان القديم عن مفهومه عند الإنسان الحديث هو أن الإنسان الحديث يعزو الأثر الذي ينتقل بين السبب والنتيجة إلى خصائص كامنة في طبيعة الأشياء؛ أما الإنسان القديم فيرى أن العنصر الفاعل وراء السببية هو قوة تنقل الأثر من السبب إلى النتيجة وتتوسَّط بين طرفي الحادث. من هنا فإن طقس المحاكاة السحرديني هو إجراء يهدف إلى التأثير في القوة من أجل دفعها إلى إحداث النتيجة المطلوبة. وهو يعادل فعل الصلاة أو تقريب القرابين في الأديان التي تجزأت فيها القوة الأصلية إلى عدد من القوى الإلهية المشخَّصة. وفي الحقيقة فإن ظهور الآلهة المشخَّصة في تاريخ الدين هو الذي أدى إلى استقلال الدين عن السحر, حيث توجَّهت طقوس الدين إلى الآلهة, وبقيت طقوس السحر تدور حول المفهوم القديم للـقوة السارية في الطبيعة.

غير أن التحول من طقوس التأثير في القوة وما تقوم عليه من معتقدات إلى طقوس التضرع والصلوات وتقريب القرابين إلى الآلهة لم يتم إلا ببطء شديد، وبقيتْ طقوسُ التأثير في القوة قائمة في قلب الديانات التي تقوم على الإيمان بالآلهة المشخَّصة. وهذا ما نراه، بكل وضوح، في النص الطقسي الحثي الذي أوردته أعلاه. فالإجراءات التحضيرية التي يقوم بها العرَّافون في هذا النص لا تختلف عن الإجراءات التحضيرية للطقس السحري. ورغم أن الطقس نفسه مُعَدٌّ من أجل اجتذاب الآلهة إلا أننا نرى، بوضوح تام، أن هذا الطقس، في شكله الأقدم، كان مُعَداً للتأثير في القوى السحرية لدفعها إلى إحداث النتائج المطلوبة. فالعرَّافون يصنعون دروباً تمتد من المائدة التي أقاموها بضعة أمتار في كل اتجاه, ولكنها تستطيل سحرياً لتصل أقصى البلاد ليمشي على هديها الآلهة من كل مكان متجهين إلى البؤرة, لا عن رغبة منهم وإرادة, وإنما عن قهر وإجبار ناجمين عن قوة الفعل السحري وقوة التعزيمة السحرية. فالمعزِّمون لا يتضرَّعون إلى الآلهة ولا يصلون إليها، بل يطلبون إليها، فيما يشبه الأمر، أن تترك أماكنها وتتوجَّه إليهم. ونرى ذلك في مقاطع مثل: «ها نحن نصرخ إليكم, ها نحن نجذبكم إلينا. أديروا ظهوركم لبلاد الأعداء وانظروا، بعين الرضى إلى ملكنا وملكتنا إلخ.» أما هذه الآلهة التي ستترك مساكنها في جميع أنحاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت, وتتحرك مسلوبة الإرادة بطريقة أقرب إلى مشي النائم, فتخاطبها التعويذة بصيغة الجمع دون ذكر أسمائها وصفاتها وخصائصها. إنها بالفعل قوى سحرية غفلة، لا شخصيات محددة. وليس إطلاق اسم «الآلهة» عليها سوى دلالة على تداخل السحر بالدين واستمرار الأول فاعلاً في الثاني حتى الفترات المتأخرة من تاريخ أديان هذه المنطقة.

إلى جانب الطقوس السحرية، التي تجري في المعابد بكل أبَّهة الطقس الديني, تشيع في ثقافات الشرق القديم أشكالٌ لا حصر لها من الممارسات السحرية لدى عامة القوم الذين يلجأون إليها في مناسبات شتى ولأغراض شتى، من نحو شفاء الأمراض، وطرد الأرواح الشريرة من أجسام المصابين بالأمراض العقلية, ودرء الحسد, وإبعاد أذى العفاريت، إلخ. ولسوف أتوقف قليلاً عند واحد من هذه الطقوس السحرية، وهو طقس البدل, نظراً لاستمرار بعض أشكاله في الممارسات الشعبية إلى يومنا هذا, ومنها ما ندعوه في سورية بـالفدو.

و«الفدو» كلمة عامية محرَّفة عن كلمة الفداء (من الفعل فدى, يفدي). فإذا أرادت الأسرة دفع خطر مجهول عن أحد أولادها, قد يتحقق في مرض خبيث يصيبه أو حادث مؤلم أو موت مفاجئ, تأتي بخروف وتذبحه فداءً عن الطفل. وغالباً ما تعمد الأسرة الميسورة إلى تقديم ذبيحة فداء من أجل كل ولد من أولادها. أما الاعتقاد الذي يكمن وراء هذه الممارسة فهو أن الذبيحة تحمل الأذى المتوقع وتحلُّ سحرياً محلَّ الشخص الذي ذُبِحَت على نية افتدائه. وقد كان البابليون القدماء يقومون بطقس مشابه يدعونه الـفوهو، أي البدل أو البديل, فيأتون من أجل شفاء المريض بحيوان يحمل عنه ذنوبه وآثامه، ثم يطلقونه في الصحراء، لأن المرض، في اعتقادهم، غالباً ما يأتي نتيجة لذنوب ارتكبها الإنسان. ومن أشكال طقس الفوهو البابلي ما يشبه طقس الفدو لدينا, حيث يأتون بتيس إلى بيت المريض، يذبح هناك, فيكون في موت هذا افتداء لذاك.[9] ولتيس الفداء البابلي هذا ما يوازيه في الطقوس التوراتية. نقرأ في سفر اللاويين 16: 20-23 ما يلي: «... ومتى فرغ من التكفير عن القدس وعن خيمة الاجتماع وعن المذبح, يقدم التيس الحي. ويضع هرون يديه على رأس التيس الحي ويقرُّ عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم وكل خطاياهم, ويجعلها على رأس التيس, ثم يرسله بيد من يلاقيه إلى البرية ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة, فيطلق التيس في البرية...».

الطقوس الدينية الروتينية

رغم وصول العديد من النصوص الطقسية إلينا من ثقافات الشرق القديم إلا أننا لا نستطيع حتى الآن رسم صورة متكاملة للطقوس الدينية التي كانت تقام في معابد الآلهة. فهذه الطقوس كانت تختلف من معبد إلى آخر, ومن عبادة هذا الإله إلى ذاك. إن التنميط في مجالات الاعتقاد والطقوس والأساطير, مما نراه في الأديان الشمولية الكبرى، مثل المسيحية والإسلام والبوذية, لم يكن معروفاً في أديان الحضارات القديمة التي كانت تتألف من عبادات متفرقة، لكلٍّ منها معتقداته وأساطيره وطقوسه, وذلك ضمن الإطار العام لـدين القوم الذي يشكل رابطة تشد العبادات المتفرقة والمتآلفة إلى هيكلية واحدة. ففي بابل القديمة، مثلاً, قد يتقاطر عشرات الألوف إلى معبد مردوخ الكبير فيها, قادمين من شتى أنحاء البلاد للمشاركة في الاحتفالات الكبرى بعيد رأس السنة البابلي. ولكن كلَّ واحد من هؤلاء يعود بعد انتهاء هذه الطقوس الكبرى إلى بلدته لينفق بقية السنة في أداء الطقوس المحلية المرتبطة بإله المدينة أو المنطقة. وقد يحدث مثل هذا التقسيم ضمن العبادة الواحدة. فعبادة الإله تموز، مثلاً، لا تتخذ شكلاً واحداً لدى جميع الشرائح الاجتماعية: فتموز المدينة هو غير تموز الريف المزارع؛ وفي الريف المزارع يختلف تموز زارعي الحبوب عن تموز أهل البساتين والأشجار المثمرة؛ وهذا، بدوره، يختلف عن تموز جماعات الرعي المتنقل الذين يعيشون على أطراف المناطق الحضرية؛ ولدى أهل العبادات الباطنية فإن تموز يتحول من إله للخصب إلى إله مخلِّص يضمن لعباده الحياة الأبدية.

تتخذ الصلاة والقرابين في المعابد دور الصدارة في الطقوس الدينية؛ ويتألف الطقس اليومي عادة من غسل تماثيل الآلهة وكسوتها وإطعامها. وكانت المحاريب التي تحتوي صور الآلهة مزودة بمنصات ذات درجتين أو أكثر، توضع عليها تقدمات من زهر ومن طعام وشراب للآلهة. وكان طعام الآلهة يتألف، بشكل رئيسي، من الخبز والكعك ولحوم الحيوان.[10] وكانت حيوانات القربان تُحرَق على منصات خاصة ليصعد دخان المحرقة إلى مساكن الآلهة ويزوِّدهم بالغذاء اللازم لهم. ولدينا في ملحمة جلجامش وصف حيوي لكيفية صنع مثل هذه المحارق. فبعد أن حطَّت السفينة ببطل الطوفان البابلي أوتنابشتم على قمة جبل نصير بعد تراجع الطوفان, نقرأ ما يلي:

فأطلقت الجميع إلى الجهات الأربعة وقدمت أضحية،

سكبت خمر القربان على قمة الجبل،

وضعت سبعة قدور وسبعاً أُخَر

جمعت تحتها القصب الحلو وخشب الأرز والآس

كي تشم الآلهةُ الرائحة.

شمَّت الآلهةُ الرائحةَ الزكية

فتجمعت على الأضحية كالذباب.[11]

ولدى الفينيقيين وسكان الغرب السوري عموماً كانت أمثال هذه الطقوس تجري على قمة المرتفعات وعند مقامات مقدسة مفتوحة على الهواء الطلق قرب مصادر الماء والأشجار العملاقة والصخور. واعتُبِرَت الأشجار الضخمة المعمِّرة, بشكل خاص, رمزاً للإلهة عشيرة؛ فكانت تجري تحت ظلها الوارف مختلف أنواع الطقوس الدينية. وإلى جانب المعابد التقليدية في المدن, كانت لهم حُرُمٌ مجاورة في الهواء الطلق تتألف من فناء مقدس يحتوي في وسطه على مصلى صغير يدعونه بيت إيل, وأمامه مذبح لتقديم القرابين. وغالباً ما يُستكمَل الفناء المقدس بحرش من الأشجار وبركة ماء مقدس.[12] وقد استخدمت الكنيسة المسيحية في فترة نشوئها العديد من مواقع المقامات المقدسة على ذرى المرتفعات في سورية, وبنت عليها كنائس صغيرة. كما بقي الكثير من تلك المقامات القديمة مرتبطاً، إلى يومنا هذا، بالقديس مار جرجس أو بالوليِّ الإسلامي الخضر.[13]

وتُعتبَر الصلاة في المعابد من الطقوس الروتينية الأساسية. ولكننا لا نعرف بالتفصيل عن الكيفية التي كانت تؤدى بها الصلوات نظراً لعدم توفر الشروح الطقسية الخاصة بها. ولكننا نستطيع الاستنتاج مما وصلنا من نصوص تندرج في زمرة الصلوات أن المصلِّي كان يتلو في المعبد نصوصاً معدة مسبقاً, وأن الموسيقى كانت تصاحب الأداء الجماعي للصلاة. وقد وصلنا من موقع مدينة أوغاريت السورية دليل على صلة الصلوات بالموسيقى, حيث تم العثور على نشيد ديني قصير، وتحته توجيهات تقنية للعازفين هي بمثابة النوطة الموسيقية الحديثة.

وقد وصلتنا من بلاد الرافدين أغزر نصوص الصلوات والتراتيل, أقدِّم فيما يلي نموذجاً عنها, وهو صلاة للإله سِنْ, إله القمر, من العصر الآشوري الحديث. كانت هذه الصلاة تؤدى في اليوم الثالث عشر من الشهر القمري, وتهدف إلى الحصول على البركة وغسل الخطايا:

صلاة إلى سِنْ/القمر[14]

أي إلهي سِنْ المبجَّل, أي إلهي ننار.

أيها الإله الفذ، صانع الشعاع المضيء،

واهب النور إلى الناس جميعاً،

ومسدِّد خطى ذوي الرؤوس السود،[15]

نورك وضَّاء في أعالي السماء,

ونار مشعلك متقدة على الدوام.

أنت آنو[16] السماوات، ومشيئتك الخافية لا يعرفها أحد.

يفوق الوصفَ نورُك, الذي كنور بِكْرِك شمش.

أمامك ينحني الآلهة الكبار, وأمور البلاد بين يديك.

يلجأ الآلهة لمشورتك فتقدم لهم المشورة.

وعندما يلتقون في المجلس فإنهم يتداولون تحت إمرتك.

أي سِنْ, يا نور معبد إيكور, والناطق بنبوءة الآلهة.

في اليوم الثالث عشر, يوم عيدك, يوم سرور قداستك,

أضع بخور الليل أمامك تقدمة, وأسكبها أحلى شراب.

إنني أركع وألبث في انتظار رحمتك.

أنصفني واغمرني بخيرك.

ليرفع إلهي الغضب الذي حلَّ بي زمناً,

وبالحق والعدل فلينظر إليَّ بعين الرضا.

ليجعل الطريق أمامي رحباً وصراطي مستقيماً.

وفي هدأة الليل حِلَّني، يا إلهي، من ذنوبي

دعني إلى آخر الأيام أقف على خدمتك!

نلاحظ من قراءتنا لهذه الصلاة الفرق الواضح بينها وبين النص الحثي الذي أسميته تعزيمة. ففي النص الحثي يقوم المعزِّمون بتلاوتهم من أجل إجبار الآلهة على تنفيذ رغبتهم؛ وبدل تعابير الضراعة والتوسل التي تطالعنا في النص الآشوري أعلاه, مثل «إنني أركع وألبث في انتظار رحمتك إلخ»، نقرأ في النص الحثي: «أيها الآلهة انظروا. لقد فرشت الطريق أمامكم بوشاح وسكبت من أجلكم إلخ. هلمُّوا إلى هذا المكان, لا تعترضنَّ مسيركم شجرة ساقطة، ولا يعرقلنَّ أقدامكم حجر إلخ. أديروا ظهوركم لبلاد الأعداء، وانظروا بعين الرضا إلى ملكنا وملكتنا إلخ.» إن الصلاة هي سليلة التعزيمة, وكلتاهما وسيلة تواصل مع القوى الماورائية؛ ولكنهما تنتميان إلى مرحلتين مختلفتين في تاريخ الدين, ومتداخلتين في الوقت نفسه. ففي كل تعزيمة شيء من الصلاة، وفي كل صلاة شيء من التعزيم.

إضافة إلى ما تقدم من أنواع الطقوس الروتينية, هناك طقوس تؤدى كلما دعت الحاجة إليها. ومثالها الطقس المعروف بطقس «غسل فم الإله» الذي يؤدى عند إقامة تمثال جديد في المعبد لأحد الآلهة, وذلك من أجل دعوة الإله للحلول في تمثاله. إن أي تمثال لا يغدو ممثلاً فعلياً للإله, ولا ينتقل من زمرة ما هو دنيوي إلى زمرة ما هو قدسي, بمجرد الانتهاء من نحته، ولا حتى بعد جلبه إلى المعبد ونصبه هناك؛ إنه قطعة حجرية لا ميزة لها عن بقية الأحجار في ورشة النحاتين، ولا عن بقية الأشكال المصورة هناك. من هنا كان لا بدَّ من القيام بطقس خاص من شأنه الاجتياز بهذه القطعة الحجرية عبر الخط الفاصل بين الدنيوي والقدسي, والعبور بها من نمط من الوجود إلى آخر. عند ذلك فقط يتحول التمثال إلى مركز تواصل بين المستوى المنظور والمستوى الغيبي, ومحوراً يعقد صلة بين السماء والأرض, ويقود إلى تجلِّي القدسي في المكان. إن تمثال الإله هو بمثابة شارة مقدسة ترمز إلى الألوهة وتجعلها حاضرة في عالم الإنسان الذي يتوسل، من خلالها، إلى الألوهة الخافية التي لا تحدُّها هيئةٌ مادية ولا تحتويها صورةٌ من الصور. والعابد الذي يجثو أمام تمثال الإله لا يتعبد لتلك القطعة الحجرية الصماء، بل إلى ما ترمز إليه وتشير, إلى ما لا يستطيع العقل التعامل معه إلا بتوسيط الرموز.

فإذا كانت الأسطورة هي ترميز للخبرة الدينية بالكلمات, والطقس هو ترميز لها بالحركات, فإن التمثال هو ترميز بالصورة المادية الماثلة أمام البصر. وقبل أن تتخذ شارة الألوهة هذه شكلاً إنسانياً, كانت مجرد هيئة مستمدة من الوسط الطبيعي: ففي بلاد الرافدين كانت شارة الألوهة عبارة عن حزمة من القصب ذات رأس ملفوف تتدلَّى منه راية؛ وفي بلاد كنعان كانت عبارة عن عمود حجري يُنصَب في المحراب. ثم تحولت هذه الهيئة الرمزية تدريجياً إلى هيئة إنسانية ذات شخصية محددة, بتأثير تراكم الأدبيات الميثولوجية, التي ترسم صوراً ذهنية للآلهة وتزودهم بتاريخ وسيرة حياة. فجاءت التماثيل بمثابة المعادل البصري للشخصيات التي تُقَصُّ عنها الأساطير. من هنا فإننا لا نرى أي سبب مقنع لتحريم التوراة (في الفقرة العاشرة من الوصايا العشر) صُنعَ صورة للإله, وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن الإله التوراتي كان أكثر آلهة الشرق القديم تشخيصاً, وكان بالإمكان رؤيته ووصفه بالعين المجردة؛ فقد رآه سبعون من شيوخ إسرائيل على جبل سيناء, كما نقرأ في سفر الخروج: «ثم صعد موسى وهرون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل, ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف, وكذات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل, فرأوا الله وأكلوا وشربوا.» (24: 8-12)؛ والسبب الثاني أن صورة الإنسان هي في الأصل صورة الخالق الذي عمد إلى خلق البشر على هيئته؛ نقرأ في الإصحاح الأول من سفر التكوين: «وقال الرب: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا, فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض [...]. فخلق الرب الإنسان على صورته, على صورة الرب خلقه ذكراً وأنثى.»

نأتي الآن إلى تفصيلات طقس غسل فم الإله الذي نعرف عنه من إشارات نصية متفرقة ومن نص طويل يحتوي على شروح طقسية لكيفية أداء غسل الفم. أكتفي، فيما يلي، بإيراد ترجمة لقسمه الأول, وذلك لإعطاء فكرة عامة عن مضمونه:

عندما يجب عليك القيام بغسل فم إله, تخيَّر يوماً مواتياً. وفي مكان ورشة النحَّات اجعل قدرين من ماء مقدس, وضع قماشاً أحمر أمام الإله وقماشاً أبيض عن جانبه. جهِّز قرباناً لإيا ومردوخ, ثم قُمْ بترتيبات غسل فم ذلك الإله، وجهِّز قرباناً من أجله. ارفع يدك واقرأ ثلاث مرات تعويذة: أنت المولود في السماء من ريح الأعالي. ثم اقرأ ثلاث مرات تعويذة: من الآن سوف تغدو في حضرة أبيك إيا. بعد ذلك خُذْ بيد الإله واجعله يسوق كبشاً، وكرِّر ثلاث مرات تعويذة: في قدومك من الغيضة، بينما تسير في ورشة النحَّات رافعاً المشاعل أمام الإله, حتى تصل إلى ضفة النهر. هناك أجلِسْه فوق الحصيرة، واجعلْ وجهَه نحو الشرق. أقم مظلة، وجهِّز القرابين من أجل إيا ومردوخ وذلك الإله إلخ.

ثم يتابع هذا الشرح الطقسي بقية الإجراءات الطويلة, مروراً بمسيرة الإله في الطريق، فعبوره بوابة المعبد، فنصبه في المكان المخصص له.[17]

الطقوس الدورية الكبرى

يرتبط هذا النوع من الطقوس بأساطير التكوين. فالطقس هنا هو الأسطورة وقد تحولت إلى سلوك يستهدف استعادة الزمن الميثولوجي البدئي عندما خلقت الآلهة العالم وابتدرت النماذج الأولى لكلِّ فعل حضاري خلاق. كما ترتبط الطقوس الدورية أيضاً بأساطير الخصب التي يجري تكرار أحداثها واستعادة دورة حياة إلهها الرئيسي تموز, من زواج، فعذابات وموت، إلى بعث جديد من العالم الأسفل، وذلك بهدف الإيحاء للطبيعة النباتية بالانبعاث بعد انقضاء الشتاء, ودفع دورة الفصول التي لا غنى عنها للحياة الزراعية.

يكرر الطقس الدوري, بشكل مرئي ومسموع, حدثاً ماضياً جرى في الأزمنة الميثولوجية الأولى, فيجعله حاضراً مرة أخرى في بضعة أيام، يخرج خلالها المحتفلون بالعيد من زمنهم الدنيوي ويعيشون في تلك الأزمان المقدسة الأولى. فإذا كان الزمان الدنيوي زماناً خطياً، يسير من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر, بطريقة لا رجعة فيها, فإن الزمن القدسي هو زمن عكوس يمكن استعادتُه وعيشُه من خلال الطقس الدوري. إنه نوع من الحاضر السرمدي الذي يمكن للإنسان الدخول فيه من أجل الرجوع إلى ما حدث في البدايات والاستعانة بقوة الأصول على تجديد الحاضر.[18] وبذلك يتحول الإنسان من راصد لصيرورة العالم إلى مشارِك في صنع هذا العالم.

ففي أعياد رأس السنة يساهم المحتفلون جميعاً، من خلال مشاركتهم بالطقس، في إعادة خلق العالم وتجديده. وفي أعياد الخصب الربيعية يساهم المحتفلون في العملية الإعجازية لانبعاث الطبيعة ودفع دورة الفصول. وهنا يتداخل السحر بالدين, حيث تتحول الأسطورة إلى تعويذة, ويتخذ تمثيلُها درامياً طابع الطقس السحري. ذلك أن ما يقوم به المحتفلون من إجراءات طقسية ورقصات وأداء درامي لا يتخذ طابع العبادة، بمعنى التوسل إلى قوى علوية, بل يتخذ طابع المشاركة مع هذه القوى بالرجوع طقسياً إلى زمانها، أو باستحضار زمانها إلى الآن, من أجل حثِّها على تكرار عملياتها الخلاقة المبدعة التي أنجزتها في الأزمان الكوسموغونية الأولى. إن قراءة ملحمة التكوين البابلية في عيد رأس السنة على مسمع من المحتفلين, ثم تمثيلها درامياً، حيث يكرر المحتفلون مشاهد صراع مردوخ وتعامة والانتصار الأخير لقوى النظام على قوى الفوضى, تجعل المحتفلين يشعرون، بطريقة ما، أنهم يعملون جنباً إلى جنب مع الآلهة الخالقة على إعادة خلق وتجديد العالم الذي بلي في السنة القديمة, وإخراجه غضاً ونضراً، كشأنه عندما انبثق لأول مرة من لُجَّة الهيولى. كما يظهر هذا الطابع السحري للطقس الدوري بشكل أكثر وضوحاً في أعياد الربيع التي نجد في كلِّ ترتيب من ترتيباتها الطقسية, وكل نشيد وكل بكاء وعويل على موت الإله, وما يتبعه من صرخات الفرح والاستبشار لعودة الإله الميت من العالم الأسفل, صلة لا تخفى بالطقوس السحرية الأصلية.[19]

فيما يتعلق بتفاصيل عيد رأس السنة البابلي المدعو إكيتو, وصلنا من بابل نص طويل يحتوي على شرح طقسي كامل لكلِّ ما يجب القيام به خلال فترة الأعياد التي كانت تستمر إثني عشر يوماً ابتداءً من مطلع شهر نيسان. فقد كانت الأيام الأربعة الأولى من الاحتفال وقفاً على الكهنة الذين يقومون في معبد مردوخ المدعو إزاجِلا بطقوس شَرَحَها النص بكل دقة وتفصيل, وينشدون تراتيل وصلوات معينة أوردها النص كاملة. وكانت أسطورة التكوين البابلية تُتلى بفصولها السبعة في اليوم الثالث. وفي اليوم الرابع, هناك جانب هام من الطقس يضطلع فيه الملك بالدور الرئيسي, حيث يأتي إلى المعبد ويدخل بكل خضوع إلى قدس الأقداس, فيقوده الكهان ويُجلِسونه أمام تمثال الإله مردوخ. بعد ذلك يدخل عليه كبير الكهنة ويجرِّده من شارات السلطان, مثل التاج والصولجان والخاتم وما إليها, ويضعها عند قدمي مردوخ. ثم يعود إليه ويصفعه على خده، ويأخذه من أذنيه، فيرغمه على الركوع أمام الإله. عند ذلك يردِّد الملك دعاءً يتضمن براءته من ارتكاب أيِّ فعل يُلحِق الأذى بالبلاد. فإذا انتهى من ذلك عمد الكاهن إلى شارات السلطان فحملها وأعادها إلى الملك الذي يعرف عندها أن كبير الآلهة قد رَضِيَ عنه وأمدَّ في سلطانه على بابل عاماً آخر. وفي الأيام الباقية من العيد تأخذ الطقوس طابعاً عاماً، حيث يأخذ الملك بيد تمثال الإله ويقوده إلى الخارج على رأس موكب يسير فيه الكهنة، يتبعهم عامة الناس إلى معبد الإكيتو الذي يقع خارج مدينة بابل. وهناك تُتلى أسطورةُ التكوين مرة أخرى, ثم يجري تمثيلُها درامياً على مرأى من الجميع.

كما تشير الشروح الطقسية أيضاً إلى دراما أخرى كانت تُمثَّل في هذه المناسبة أيضاً؛ وفيها نجد مردوخ يتخذ دور الإله الذي يموت ثم يُبعَث من جديد. والتوجيهات الطقسية هنا شديدة الغموض ومليئة بالعبارات الملغزة التي لا نستطيع فهمها تماماً.[20] إلا أننا نستطيع الاستنتاج أن مردوخ الذي يلعب هنا دور إله الخصب ومجدِّد حياة الطبيعة يموت وتُطرَح جثته في الجبل. وبموته يختل نظام العالم، وتعم الفوضى والاضطرابات في المدينة, ويخرج الناس إلى الشوارع فيما يشبه الكرنفالات الصاخبة, يفعلون ما يحلو لهم وهم يلبسون أقنعة الحيوانات تعبيراً عن حالة الفوضى التي آلت إليها العلاقات الاجتماعية في غياب القوانين والضوابط. وفي هذه الأثناء يقوم موظفو القصر الملكي باختيار أحد المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، فيسوقونه إلى القصر، ويُلبِسونه ثياب الملك، ويُجلِسونه على العرش, حيث يُترَك مدة يومين كاملين ليتصرف وكأنه ملك فعلاً, فيصدر الأوامر، ويقضي بين الناس، وينام مع محظيات الملك. وفي اليوم الثالث يُقاد إلى منصة، حيث يتم قتله أمام الجماهير. ويترافق قتل هذا الملك البديل مع عودة مردوخ إلى الحياة بعد أن عثرت عليه زوجته.[21]

بين الطقس والأسطورة

إن العروة الوثقى التي تجمع الطقس إلى الأسطورة قد جعلت الباحثين يتأملون في طبيعة الصلة بين الاثنين وأصلها. فهل تنشأ الأسطورة عن الطقس؟ أم ينشأ الطقس عن الأسطورة؟ أم أنهما تبدِّيان مختلفان لظاهرة واحدة؟

في مطلع القرن العشرين نشأت نظرية الأصل الطقسي للأسطورة, وساهم في صياغتها عددٌ من الباحثين المتأثرين بالمعطيات الجديدة لعلم الأنثروبولوجيا الناشئ. وترى هذه النظرية أن الأسطورة هي ناتج من نواتج الطقس، الأسبق عليها في تاريخ الدين. فالطقوس المؤسَّسة منذ زمن مغرق في القدم تفقد، بمرور الأيام، معناها وغاياتها، فتتحول إلى إجراءات غامضة لا يعرف ممارسوها والقيِّمون عليها مدلولاتها ومضامينها. وهنا تأتي الأسطورة لكي توضح أصل الطقس ومعناه, وتقدم تبريراً مقنعاً لتلك الإجراءات التي تتناقلها الأجيال. فأسطورة الإله آتيس، الذي خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت, ليست في تفسير أصحاب هذه النظرية إلا تبريراً لطقوس الخصاء التي كان كهنة هذا الإله يمارسونها؛ وأسطورة قيام الطياطنة بتمزيق الإله ديونيسوس حياً, وهو في هيئة الثور التي حوَّل نفسه إليها هرباً منهم, ليست إلا تبريراً للطقس الذي كان يقوم أتباعُ هذا الإله بموجبه بتمزيق ثور حيٍّ والتهامُه في ذروة الانفعال الطقسي؛ إلخ.

ظهرت بذور هذه النظرية لأول مرة في كتاب دين الساميين لمؤلفه روبرتسون سميث عام 1899. ورغم أن أفكار هذا الكتاب قد غدت بالية مع مطلع القرن العشرين, إلا أن أفكار روبرتسون سميث في نشوء الأسطورة عن الطقس قد كُتِبَ لها الاستمرار والانتشار. فقد تبناها أولاً جيمس فريزر في كتابه الغصن الذهبي الصادر عام 1911. ثم قامت مجموعة من الباحثين بعد ذلك، عُرِفَت بجماعة كامبردج, عملت على تطوير هذه النظرية ودراسة الأسطورة على أساسها.[22] وقد تركزت دراسة هؤلاء في البداية على دين الإغريق, فرأوا أن الشكل الراقي للميثولوجيا الإغريقية يقوم على طقوس قديمة ذات طابع بدائي. وعقب ذلك, ساعد اكتشاف وترجمة المزيد من المادة الميثولوجية المشرقية, من أوغاريتية وبابلية, على إعطاء مصداقية لنظرية هؤلاء البحاثة, وذلك نظراً للصلة الوثيقة التي أظهرتها الأساطير المشرقية بالطقوس. كما ساعدت نشاطات الأنثروبولوجيا الميدانية على تقديم مادة غنية في مجال الميثولوجيا والطقوس المرتبطة بها.[23]

والأمر، كما نراه, هو أننا لا نستطيع ادِّعاء أسبقية للأسطورة على الطقس, ولا لهذا على تلك، لأن كليهما ناتج عن مواقف وأفكار دينية مبدئية تتشكل لدى الإنسان من إحساسه بوجود عالم ماورائي, قائم خلف المظاهر المتبدِّية لعالم الحياة اليومية. وهو يعبِّر عن هذا الإحساس بطريقتين: الأولى سلوكية، تتبدى بالطقس، والثانية ذهنية، تتبدى بالأسطورة. ورغم العروة الوثقى التي تجمع الطقس إلى الأسطورة فإن كلاً منهما يمكن أن يقوم في معزل عن الآخر, حيث نجد طقوساً تمارَس دون مرجعية ميثولوجية, وأساطير يجري تداولها دون طقس مرافق من أي نوع. وهذا، بالطبع، لا يمنع نشوء بعض الأساطير عن طقوس معينة, ونشوء نوع من الطقوس عن أساطير معينة.

ولعل أفضل مثال عن العروة الوثقى التي تجمع الطقس والأسطورة هو الطقوس الدورية الكبرى. فهنا نجد أنفسنا أمام أداء كلامي وحركي متداخل ومتكامل بطريقة يصعب معها التمييز بين الطقس والأسطورة, أو ادعاء أسبقية لأيٍّ منهما على الآخر, حيث الكلام المنطوق بمثابة الصورة الذهنية للحركة الطقسية, وهذه بمثابة السلوك الحركي المعبِّر عن الصورة الذهنية.

*** *** ***


[1] راجع معابر، الإصدار الثالث، باب "أسطورة".

[2] Wallis Budge, Egyptian magic, Routledge, London, 1985, pp. ix-x.

[3] Ibid, pp. xi-xii.

[4] راجع النص الكامل ومراجعه في مؤلفي مغامرة العقل الأولى.

[5] S.H. Hooke, Babylonian and Assyrian Religion, Hutchinston, London, 1953, pp. 26-27.

[6] J.E. Harrison, Themis, University Books, New York, 1966, p. 75.

[7] A. Goets, “Hittite Rituals,” in: James Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, op. cit., pp. 351-353.

[8] راجع تفصيل نظرية فريزر في كتابه الغصن الذهبي:

James Frazer, The Golden Bough, McMillan, London, 1971, pp. 56-68.

[9] S.H. Hooke, Babylonian and Assyrian Religion, Hutchinston, London, 1953, pp. 57-58.

[10] Ibid., p. 54.

[11] انظر ترجمتي للوح الحادي عشر من الملحمة ومراجعها في مؤلَّفي جلجامش: ملحمة الرافدين الخالدة، دار علاء الدين، دمشق 1996.

[12] S. Moscatti, The World of the Phoenicians, Cardinal, London, 1973, pp. 65-66.

[13] للتوسع في موضوع علاقة الخضر ومار جرجس بذرى المرتفعات، وصلة ذلك بالطقوس السورية القديمة، راجع: حسني حداد، بعل هداد، دار أمواج، بيروت 1993، الفصل السابع.

[14] F.J. Stephens, “Sumerio-Akkadian Hymns and Prayers,” in: James Pitchard, edt., Ancient near Eastern Texts, pp. 384-385.

[15] «ذوي الرؤوس السود» تعبير استخدمه في الأصل السومريون للإشارة إلى أنفسهم، ثم استخدمه الأكاديون بعدئذٍ.

[16] يطابق النص هنا بين إله القمر سِنْ وكبير الآلهة آنو؛ وهو، إذ يصفه بـ«آنو السماوات»، إنما يرتفع به إلى أعلى مقام إلهي ويكرِّسه سيداً على الآلهة.

[17] S.H. Hooke, op. cit., pp. 116-117.

[18] راجع بهذا الصدد: مرسيا إلياد، أسطورة العَوْد الأبدي، بترجمة نهاد خياطة، دار طلاس، دمشق 1987، ولا سيما ص 97-144.

[19] سوف نخصص لعدد مقبل من معابر دراسة مستقلة لتقديم صورة شاملة عن الطقوس التموزية في الثقافة المشرقية.

[20] S.H. Hooke, op. cit., pp. 56-60, 102-111.

[21] من أجل كرنفالات رأس السنة وطقوس الملك البديل راجع:

James Frazer, op. cit., pp. 832.

[22] من أهم هؤلاء: A.B. Cook, F.M. Conford, Gilbert Murray, Jane Harrison.

[23] أنظر عرضاً وافياً لهذه النظرية في كتاب:

G.S. Kirk, Myth: Its Meaning and Function, Cambridge, 1983, pp. 8-31.

وأنظر أيضاً الدراسات التطبيقية الشاملة التي قامت بها الباحثة جين هاريسون في كتابها:

J.E. Harrison, Themis, University Books, New York, 1966.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود