|
آنِّه
ماري شيمِّل
رحلة
الاستشراق والبحث الصوفي
ماهر اليوسفي غيَّب
الموتُ في أوائل العام 2003 المستشرقة
الألمانية البروفسورة آنِّه ماري شيمِّل عن
عمر يناهز الثمانين عامًا. وهي للحق قد تركت
العشرات من الدراسات والمؤلفات المختصة في
الاستشراق وتاريخ الأديان. وفي مسيرتها
الأكاديمية حازت على العديد من الجوائز
والأوسمة وتسلمت الكثير من المناصب في جامعات
عالمية. تستحق البروفسورة
الألمانية الراحلة أنِّه ماري شيمِّل أكثر من
الألقاب الأكاديمية بكثير. فهي صاحبة مشروع
ضخم وتجربة فريدة في مجال الاستشراق والتصوف
الإسلامي. وهي من المستشرقين الأوروبيين
القلائل في القرن العشرين الذين أرسوا قواعد
صحيحة في الدراسات. فقد وهبت الرؤية
الاستشراقية حقَّها، ونطقت بحقيقتها، بلا
أدنى مغالطات أو تشويه. وبعيدًا عن استعلاء
الغرب على الحضارات الأخرى، كما هو سائد لدى
العديد من المشتغلين في حقل الاستشراق،
استطاعت هذه العالمة أن تكون نموذجًا راقيًا،
وأن تؤلِّف، عبر إبحارها المعرفي، ما يفوق
الثمانين كتابًا ومجلدًا، بلغات مختلفة. وقد نالت البروفسورة شيمِّل
مؤخرًا بعضًا يسيرًا من حقِّها في المكتبة
العربية، إذ تُرجِمَ لها كتاب في القاهرة
بعنوان أنا ماري شيمِّل: نموذج مشرق
للاستشراق،*
بترجمة وتعليق ثابت عيد، الذي كان أحد طلابها، وتقديم د. محمد عمارة. يتناول الكتاب
جانبًا من سيرتها الحافلة، ويعرض لنماذج من
كتاباتها في الشأن الصوفي الإسلامي. ما
يشبه السيرة
احتفلت شيمِّل قبل حوالى
تسعة أشهر من وفاتها بعيد ميلادها الثمانين.
فقد وُلدت في 7 نيسان 1922، وتعلَّمت اللغة
العربية في سن مبكرة (الخامسة عشرة)، وحازت
على الدكتوراه الأولى في الفلسفة والدراسات
الإسلامية في سن التاسعة عشرة (جامعة برلين
1941) تحت إشراف البروفسور هارتمن. ثم نالت
الدكتوراه الثانية في تاريخ الأديان في العام
1951، وكانت رسالتها بعنوان الخليفة والقاضي
في مصر في العصور الوسطى. وفي العام 1954 زارت
أنقرة ودرَّست في جامعتها، كلية تاريخ
الأديان المقارن والفن الإسلامي، وأتقنت
اللغة التركية. عملت أستاذة ومستشارة
للدراسات الإسلامية في جامعة بون العام في
العام 1961. إلا أن شيمِّل أحبت العيش
في الشرق، وأقامت فترة طويلة في الهند
وباكستان، حيث اعتنت بتخصصها، وعملت بعدها ما
يقرب من خمسة وعشرين عامًا في جامعة هارفارد
كأستاذة كرسي لمادة "الإسلام في الهند". في التأليف
قد لا تتسع صفحات عدة لذكر
عناوين مؤلفات أنِّه ماري شيمِّل وأبحاثها
التي بلغت ثمانين مؤلفًا، بلغات مختلفة،
ومعظمها حول التصوف الإسلامي، ناهيك عن
ترجماتها الوفيرة. ففي المذهب الصوفي كتبت الأبعاد
الصوفية للإسلام (1974) باللغة الإنكليزية (ظهرت
ترجمته الألمانية العام 1985) والوردة
والعندليب الذي يتناول الأشعار الصوفية
التركية والفرنسية، ومحمد رسول الله الذي
ظهر بالألمانية العام 1981، ودراساتها عن
الإسلام في الهند، وكتابها الرائع باكستان:
قصر ذو ألف باب (1965)، وكتاب له طابع السيرة
الذاتية وذكرياتها في تركيا بعنوان أخي
إسماعيل (1990)، وكتاب عن الفن الإسلامي وفن
الخط العربي.
وضعت كذلك كتابًا ضخمًا
عن جلال الدين الرومي عنوانه الشمس الظافرة
(1978)، وظهرت الترجمة الألمانية بعنوان آخر.
ولها كتاب عن الحلاج، شهيد الحب الإلهي، هو الحياة
والأسطورة، وآخر عن الرومي إنِّه الريح
وأنت الغبار، تُرجِمَ أيضًا إلى الفارسية،
وكتاب عن متصوف تركي اختارته منظمة اليونيسكو
في العام 1991 كرجل العام بعنوان رحلات مع
يونس إمره، وكتاب مجموعة حكم الصوفي
ابن عطا الله السكندري الذي عاش في القرن
الثالث عشر. أما كتابها الضخم فكان حدائق
المعرفة (1982).
وقد اهتمت أنِّه ماري
شيمِّل بالشاعر والفيلسوف الهندي محمد إقبال، الأب الروحي لباكستان. وفي العام 1957،
وأثناء إقامتها في تركيا، ظهرت ترجمتها
الرائعة لأهم أعمال محمد إقبال. وفي العام 1977
أصدرت لمناسبة مئوية محمد إقبال مجموعة
منتقاة من أشعاره مترجمة إلى اللغة الألمانية
تحت عنوان رسالة الشرق، ونشرت كتابًا عن
المتصوف الهندي أسد الله غالب. تفسيرات
الصوفية
تمتاز أنِّه ماري شيمِّل
في تفسيراتها لجوهر الصوفية برؤية دقيقة،
لأنها كانت متابعة لكبار أئمة المذهب الصوفي
في الإسلام من الناحية التاريخية. وهي
القائلة: "كانت رابعة العدوية المرأة
الأولى التي تُدخِل فكرة الحب الإلهي الطاهر
في الفكر الصوفي. لقد أرادت أن تشعل في الجنة
نارًا وأن تسكب في جهنم ماء. وصار الحب لفظًا
أساسيًّا في الفكر الصوفي." (ص 84) ومعروف أن
الصوفية، كلفظ عام، يشمل كلَّ حركة باطنية
تحمل أبعادًا في جوهرها من حيث البحث في
الوجود، والتوحد مع الذات الإلهية، من طريق
الزهد. وعندما يتحول القلب إلى مرآة صافية
يمكنها استعمال النور الإلهي. فالصوفية
عمَّقت من دراسة أدق خلجات النفس في طريقة
مدهشة جديرة بالإعجاب.
وتقول شيمِّل: "تحتل
أسماء الله الحسنى مكانة خاصة لدى المتصوفة.
ولا تزال الخلوة الأربعينية القاسية الموصى
بها منذ العصور المبكرة تمارَس حتى اليوم. وفي
القرن التاسع الميلادي نسمع للمرة الأولى عن
حفلات موسيقية كانت تقود أحيانًا إلى رقص
ووَجْدٍ وجذب دائري. بيد أن المتصوفين الأكثر
حصانة ورصانة نظروا إلى ذلك بريبة." (ص 85-86).
وعن الحلاج، شهيد الحب الإلهي، تقول: "لا
يزال شعراء العالم الإسلامي يتغنون بمصير
الحلاج، العاشق القائل بمذهب وحدة الشهود
والثائر اجتماعيًّا، الذي يدين الشعر
الألماني له، باعتباره الفراشة التي تلقي
بنفسها في اللهب لتتذوق تجربة أو معاناة "مماتي
في حياتي وحياتي في مماتي"." وتُولي شيمِّل تطور الطرق
الصوفية في القرون التالية لموت الحلاج
اهتمامًا. فهي – أي الصوفية – مشبِعة
بمظاهرها لجميع طبقات الشعب: "وجد فنانو
المدن والفلاحون وعشاق الموسيقى أو طالبو
التأمل الروحاني في التصوف وطنهم الروحاني
وراحتهم النفسية؛ وبذلك لعبت الطرق الصوفية
دورًا مهما في نشر الإسلام." (ص 87) ويعود
الفضل إلى الصوفية في أسلمة بلاد عدة مثل
الهند وأجزاء من أفريقيا. وتعتبر شيمِّل أنهم
دعوا إلى المبادئ البسيطة للإسلام بنموذج
الحب، من دون التطرق إلى مسائل معقدة ودينية
وفقهية. ولقد كان من الطبيعي أن تظهر
مؤثرات من ثقافات غير إسلامية في الفكر
الصوفي: "ففي عصر باكر، قام مفكرون صوفيون
باقتباس أفكار غنوصية وهيلينية ونظريات أخرى
من ثقافات أقدم من الإسلام لدمجها في فكرهم."
(ص 88) ونحو العام 900 كانت الصوفية قد طوَّرت
هرمية معقدة من الأولياء. وفي القرن الثاني
عشر نشأ تصوف نور دقيق Lichtmystik على المستويات الشعبية. وتوضح
شيمِّل الطريقة المتبعة آنذاك في النظر إلى
الأولياء بمرتبة القداسة، وتقول بأن أهمية
تقديس الأولياء وتقديس الأضرحة كانت في تزايد
مستمر؛ وتظهر في ذلك تأثيرات العادات
الأجنبية غير الإسلامية في الممارسات التي
تدل على أضرحة الأولياء، مما ساهم في استياء
أهل السنة من المتصوفين، "إلى حين مجيء ابن
عربي العام 1240 وإحداثه تقاليد مختلفة في
المذهب الصوفي عبر أعماله؛ فكان نموذجًا
للتصوف آنذاك، إذ صار معه لفظ "العرفان"
يُعتبَر أحسن وصف للصوفية، فشيد بذلك صرحًا
عالميًّا سيطر بسبب بساطته الظاهرية على
الفكر الصوفي في صورة شبه كلِّية. وهو يعرف
بمذهبه في "وحدة الوجود"، وقد طور نظرية
"الإنسان الكامل"." (ص 88) وفي العام 1100 تطور في
إيران نوع من وصفية الحب، اعتقد أصحابه برؤية
رونق الجمال الإلهي في إنسان محبوب، وأمسى
الحب العذري جسرًا للحب الإلهي. وشرع أدباء
المناطق الإيرانية ومتصوفوها يستخدمون لغتهم
الأم بدلاً من اللغة العربية، ونظموا فيها
أشعار غزل رقيقة. وكان شرق إيران موطن أوائل
أولئك الشعراء وأعظمهم (ص 90). ولكن أعظم شعراء الفرس في
هذا المضمار هو مولانا جلال الدين الرومي
(1207-1273) الذي هاجر مع والديه إلى الأناضول. وعن
حبه الصوفي لجوَّال غامض لُقِّب بشمس الدين
التبريزي تغنى الرومي بزهاء أربعين ألف بيت
من الشعر في ديوانه شمس تبريز. وقد بلغت
أشعاره قمة الوجد والانتشاء، وقصائده مفعمة
بالموسيقى في غاية الروعة والجمال، برغم
تلقائيتها. وقد ألف جلال الدين الرومي بعد ذلك
منظومة المثنوي الصوفية التي تبدأ
بالكلمات التالية: "أصغِ إلى الناي يحكي
ويشكو ويتعذب من ألم الفراق." والناي هنا
يتحول إلى رمز للنفس المنفصلة عن أصلها
الإلهي (ص 91). بعد ذلك، قام جلال الدين الرومي
بتطوير الرقص الصوفي المحوري أو الدائري إلى
طقس ديني مستقل، يرمز، وفق تأويله، إما إلى
رقص النجوم أو إلى الموت والنشور.
فكأن "عرفان" ابن
عربي و"غزل" الرومي الملتهب صاغا معالم
الفكر الصوفي في العصور اللاحقة. ولا يمكن
تصور الأشعار الفارسية من دون الجرعة المنعشة
من الأفكار الصوفية، والمعنى المزدوج لكلِّ
بيت هو الذي يجعله جذابًا منيرًا. والسؤال: هل
كان ينبغي فهم حافظ الشيرازي كشاعر دنيوي أو
كشاعر ديني؟ مطروح منذ قرون طويلة (ص 92). ولكن
بالنسبة إلى المتخصص، فإن كلا المستويين صحيح.
فالاستعارة جسر أو معبر للحقيقة، والأرضي رمز
إلى السماوي. كان للمذهب الصوفي أثر كبير في
ثقافة العالم الإسلامي. فالصوفية عمقت
الرسالة الأساسية للإسلام بالدفء والمشاعر
الإنسانية وفتحت القلوب للجمال الإلهي. ونجد
لدى مولانا جلال الدين الرومي أبسط وأجمل
تعريف للصوفية: "ما هو التصوف؟" قال: "إحساس
القلب بالسعادة حين يدنو وقت الحزن." الجوائز
والمناصب التي تقلَّدتها شيمل حازت أنِّه ماري شيمِّل
على العديد من الجوائز والأوسمة، وفيها 15
جائزة تقديرية من جامعات ودول، كمصر والأردن
وتركيا والباكستان والكويت والنمسا والسويد
والولايات المتحدة، وجائزة مجلس السلام في
ألمانيا. وفي العام 1965 حصلت على جائزة فردريك
رويكرت لترجمتها الأشعار الشرقية، ثم جائزة
يوحنا هاينرش فوس للشعر التي تمنحها
الأكاديمية الألمانية، وجائزة ليفي ويلافيدا
من جامعة كاليفورنيا العام 1987، وجائزة نجم
القائد الأعظم من الباكستان، وجائزة هلال
الامتياز، وهو أرفع وسام تمنحه الحكومة
الباكستانية العام 1989. وفي العام 1993 فازت
شيمِّل بميدالية لوكاس التي تمنحها جامعة
توبنغن، تقديرًا لأعمالها التي تدعم الفهم
الصحيح للديانات الأخرى، إلى شهادات
الدكتوراه الفخرية التي تحملها وإحداها من
جامعة أوبسالا، السويد، العام 1989.
وقد ترأست شيمِّل من 1970 إلى 1990
الجمعية الدولية لعلم الأديان المقارن،
وعُيِّنت رئيسة للمنتدى الألماني
الباكستاني، ورئيسة لجمعية إقبال الأوروبية،
وكانت عضوة فخرية في الجمعية الألمانية
الشرقية، والجمعية الأمريكية لدراسات الشرق
الأوسط، والجمعية الأوروبية للدراسات
الإيرانية. وقد التقت شيمِّل العديد من
الشخصيات والمفكرين والمؤرخين عبر مشوارها
الاستشراقي ومنهم: مرشيا إلياده، مؤرخ
الأديان الروماني المعاصر، ورودولف بانغيتس
الفيلسوف الألماني المعاصر، والكاتب
الألماني هيرمان هيسِّه، حامل جائزة نوبل
للأدب. وكانت بناظير بوتو إحدى طالباتها في
جامعة هارفارد. وأصدرت، بمشاركة ألبرت تايله،
مجلة فكر وفن الممتازة باللغتين العربية
والألمانية منذ العام 1962. ***
*** *** *
آنا ماري شيمِّل: نموذج مشرق للاستشراق، بترجمة وتعليق ثابت عيد، تقديم محمد
عمارة، دار الرشاد، القاهرة 1998.
|
|
|