|
حرائق مشبوهة
وألسنة مشبوهة
جورج
ناصيف
لم
يبق قول يُرسَل في شأن الطائفية في لبنان،
جذورًا ومنبتًا وتاريخًا ومؤسَّساتٍ وبنى
وعلاقات، إلا أُرسِلَ، وعلى كل صعيد. لم
يبقَ لسان إلا نطق مقبِّحًا. لم
يبقَ منذر إلا أنذر بأبشع العواقب. لكن
المعيب في الأمر، والأكثر مدعاة للسخط، أن
الأعلى صوتًا في التقبيح هم الأكثر إشعالاً
لجمر الطائفية: السياسيون والعامة من رجال
الدين. أما
السياسيون فلا عجب أن اعتاشوا كالبوم على
الخرائب، أو اجتمعوا كالطيور الجوارح على
الجثث المتحلِّلة. وأما
رجال الدين، من كهنة ومشايخ، فهؤلاء هم من
يُشقينا ويُفجعنا أن يكونوا نافثين في أَوار
الهياج الطائفي. والأمر
يستدعي تفصيلاً. إن
الكهنة والمشايخ – وهم بالآلاف عدًّا – هم من
يقبضون اليوم على أهم منبر "إعلامي"، في
زمن اشتداد الحسِّ الطائفي، يخاطب مئات
الألوف من المواطنين، ويفعل فيهم فعل السحر،
تهدئة أو إثارة، تثقيفًا أو تجهيلاً، جلاءً
لصورة الآخر أو تشويهًا لها، حثًّا على
الوداعة والتراحم والغفران، أو حضًّا على
الكيد والانتقام والشِّقاق. إنهم،
هم، بعد السياسيين أو قبلهم، وقبل الإعلام أو
بعده، من يصنعون المزاج الشعبي العام أو
يتحكمون في نبضه. وهؤلاء،
في جلِّهم، قوم لم يصيبوا من العلم كثيرًا، أو
أصابوا منه ما يكفيهم لرعاية قرية أو حيٍّ، أو
يختلط العلم لديهم بالعصبيات أو الأساطير أو
المنافع أو التأويلات الخاصة. لذلك
ترى الكاهن منهم والشيخ، إذا اعتلى المنبر أو
وقف في الباب الملوكي، تأخذه نشوة الخطابة (ونحن
أمَّة تسكر باللفظة) وشهوة اجتذاب جمهور
المصلِّين وتكوين رصيده الشخصي من إبهار
العوام والمساكين، فيمضي في إصدار الأحكام
وتخوين من يشاء وتبرئة من يشاء وقذف من يشاء،
غير محتكم إلى الضوابط، أو ملتزم الحدود، أو
متبصِّر في فعل الكلمة متى وقعت على تربة نفوس
هي في الأساس فائرة وعكرة، بعد سنوات "سلم"
كانت أكثر نعرًا للطائفية من زمن الحرب. تحدثنا
عن "عوام" المشايخ والكهنة، ولم نأتِ على
ذكر المقامات الروحية الكبرى، لأن تجربة
لبنان، أمس واليوم، أظهرت أن هذه المقامات
أشد جنوحًا إلى السلم من السياسيين، وأكثر
استمساكًا بالاعتدال والوسطية وبناء الجسور
بين الجماعات الروحية، من أيٍّ كان. في
خطاب المقامات احتراس ويقظة، واختيار
للتعابير، ونأيٌ عن التجريح، وحرص على الكلمة
السواء، مما لا يبقى هو نفسه متى جرى على
ألسنة المشايخ والكهنة، حتى لو حسبوا أنهم
يردِّدون ما جاء في خطبة مرجعهم الروحي
الكبير. [...] *** إلامَ
نريد أن نصل؟ إلى
قول واضح: لتجتمع المرجعيات الروحية الكبرى
على كلمة بينها لا تبيح للمشايخ والكهنة
تناول الموضوعات الطائفية أو الشؤون
السياسية الاختلافية في عظاتهم، بل
تَقْصِرُها على الشؤون الدينية أو الوطنية
العامة. وهنا
دور أكيد لهيئة الحوار المسيحي–الإسلامي
التي تمثل المرجعيات الكبرى، إذا أرادت
لنفسها فعالية افتقدتها ودورًا ما زالت تفتش
عنه: العمل، لدى مرجعيَّاتها، على إنضاج حلول
سريعة تأخذ في الحسبان أن النار باتت في قلب
الدار. أما
مسؤولية الإعلام، ومسؤولية الأحزاب وقوى
التغيير، ومسؤولية السلطة في وأد الفتنة،
فلها حديث آخر. *** أمس،
كانت "الحرائق المشبوهة" تأتي على
مساحات من الأراضي الحرجية الغنية بتنوعها
البيئي. غدًا،
ستلتهم "الألسنة المشبوهة" أو الجاهلة
أراضي الجمهورية، الغنية بتنوعها الديني
والمذهبي، حتى تصير البلاد، بشجرها وبشرها،
حطبًا للنيران. ***
*** *** عن
النهار، الأربعاء 7 آب 2002
|
|
|