|
هندوسية، بوذية، طاوية...
أفكار
صوفية من الشرق تهدِّئ من روع الغرب
ملجأ السكينة
للإنسان الممزَّق بأهوائه وفراغه الروحيِّ
ندى
الحاج
الهندوسية،
البوذية، الطاوية... ما الذي يفرِّق بين هذه
الديانات أو العقائد، ولِمَ تتقاسم كلمات ذات
معانٍ مختلفة: دهارما، سمسارا، كارما؟ هل
يتخطَّى الجامع بينها الانجذاب إلى المسافات
الواسعة، البحث عن البطء في مجتمع سريع،
الهرب من أزمة المؤسَّسات الدينية نحو طرق
إيمانية جديدة أكثر ليونة ظاهرياً، إلى
التعاطف مع الدالاي لاما وقضية شعبه في
التيبت؟ يوجِّه
العالم الغربي أنظاره في كثافة نحو آلهة
الشرق وحكمائه، حتى إن أكثر من خمسة ملايين
فرنسي يهتمون بالبوذية أو يعتنقونها، وكثر
يمارسون اليوغا أو التايتشي تشوان في الحدائق
العامة ويصغون إلى الذبذبات السماوية، أو
يغرزون الإبر في أصداغهم. لكن هل يعرفون أن
بوذا كان الأمير النيبالي سيدهرتا غوتما، وأن
من سبقه كان أشد صرامة، ويُدعى جينَّا؟ هل
يعرفون قصة مؤسِّس الطاوية لاوتسو الذي حبلت
به أمه ثمانين عاماً وعاش مائتي عام؟ ممارسة
هذه الديانات الوافدة من الشرق تتعدَّى سحر
الشموع وروائح عيدان البخور ومزاج الـ"زِن"
إلى اكتشاف عمق الذات من خلال رحلة داخلية
بمرافقة مرشد أو غورو. على
درب بوذا
"اندفاع،
تيقظ، ضبط للنفس، نظام... بفضل هذه العناصر
يصنع الإنسان النبيه جزيرة لا يغمرها المد."
لا يسعنا اختصار تعاليم البوذية كلها بهذه
الحكمة، لكنها قد تسلِّط الضوء على الطريق
الذي يسلكه الباحث عن الحقيقة على درب البوذا، هذا الأمير النيبالي الذي ولد في
منتصف القرن السادس قبل الميلاد، والذي
تخلَّى عن حياة القصر هرباً من السمسارا، وهي
حلقة الولادة والموت المتكررة التي لا يمكن
لأي هندي تجاوزها مادام خاضعاً لقانون كارما (الكارما
هو الثمرة الأخلاقية لكلِّ كائن بشري بعد
الموت، ويستمر بالتقمص). بعد
عشرة أعوام من التشرد الروحي، وجد الأمير
الخلاص في اكتشافه اليقظة الكاملة والكلِّية، فأضحى
بوذا، أي المتنوِّر أو اليقظ، وعلَّم الدهارما (الطريق نحو الحقيقة
المطلقة والانعتاق) في شمال شرق الهند. في
عامه الثمانين دخل في "انطفاء" كبير
ومطلق. انتشرت عبادته في آسيا بدءاً من القرن
الثالث قبل الميلاد. تتلخص
رسالة بوذا في أربع حقائق نبيلة: 1.
حياتنا
مليئة بالألم؛ 2. ينبع هذا الألم من نفسية كل إنسان؛ 3. في إمكان هذا الألم أن يتوقف؛ 4. يكمن الحلُّ في اكتساب نظام معين وممارسة التأمل كي تتطور الحكمة. الأمور
التي نتعلق بها تفلت منَّا ذات حين مسبِّبة
لنا العذاب، خاصة أننا نحاول السيطرة على كل
شيء وعلى قانون الطبيعة الذي يفرض التحول.
يحدد طريق البوذية هدفه بهدم هذا الصرح
المبني على الوهم. على كل إنسان أن يتحرر من
ألمه بالعمل ذهنياً على تغيير نظرته إلى
الأمور. ولو شاء اعتناق البوذية عليه أن يضع
ثقته ويتخذ ملجأه في بوذا، وفي الطريق الذي
يعرضه عليه (الدهارما)، كما في جمعية ممارسي
البوذية (سانغها). ولكلِّ
مدرسة بوذية أسلوبها، يتَّبعه معتنق هذه
الديانة وممارسها. في التيبت أو اليابان،
مثلاً، يمنح الراغب ثقته لراهب أو معلِّم،
فيركع ويلفظ نذوره ثلاث مرات قبل أن يقتطع له
المعلِّم خصلة من شعره رمزاً للتخلِّي والزهد.
وتتعدى البوذية شعار "الحب والسلام" عبر
التأمل كما هو مفهوم في الغرب، إلى ممارسة
صعبة لهذه الديانة، بغية الوصول إلى اليقظة
عبر احترام الآخر وعدم الاستسلام. كما يتم
ترويض الموت بإخماد الألم (النيرفانا)،
ويتضمن انطفاء نار الأهواء النفسية الرديئة
والشهوات والتعلقات البشرية والشخصية، فيصل
بالإنسان إلى الاستنارة والسعادة من خلال
سلام الفكر والروح. يقترب مفهوم العراك
المعنوي ضد الغرائز في البوذية من الجهاد
الداخلي لمتصوفة الإسلام ويتضمن مبدأ
اللاعنف في حقِّ أي كائن حي. كي
ينتصر على الشيخوخة، وعلى البؤس والمرض، على
البوذي أن يعيش في طريقة صحيحة، متواضعة
وكريمة، وأن يطمح إلى أن يكون قديساً، أو في
الأقل أن يدخل جمعية الرهبان. ورغم
الانقسامات التي طرأت على البوذية، ازدهرت
هذه الديانة في شبه القارة الهندية وحلَّت في
المرتبة الأولى مع بداية زمن المسيحية،
محرضَّة ردة فعل هندوسية تجديدية، انتهت
باسترجاع الهندوسية مكانتها السابقة في
الهند وبإخلاء الهند من البوذية إخلاء يكاد
يكون تاماً. الهندوسية
تُعتبَر
الهندوسية استمراراً للديانة الفيدية، وهي
توحيدية متعددة الشكل، انتشرت منذ ألفي سنة
قبل الميلاد. كانت تدعى أساساً البرهمانية،
وترتكز على كتب الفيدا الطقوسية الأربعة التي
كتبها الراؤون بالسنسكريتية، وتناقلتها
التقاليد، منظِّمة الحياة الفردية
والاجتماعية. يحافظ الرهبان البراهمة على
النصوص والطقوس المقدسة ذات البعدين الكوني
والاجتماعي والمؤدية إلى تحقيق الدهارما. براهما
هو الإله المطلق الأساسي في الهند، وهو بعيد
جداً إلى حدِّ أنه لم يبقَ له فيها معابد؛
ويؤثَر عليه الهنود شيفا، مدمِّر الأشكال
ومجدد الكون عبر رقصته الكونية. أما فيشنو فهو
رسول دائم ومستمر، حافظ الخير ومصحِّح الشر،
يتجسد على الأرض ليعيد النظام فيها إلى نصابه.
بالنسبة إلى الهندوسية، كريشنا هو الرسول
الثاني، وبوذا هو التاسع؛ أما العاشر فلا
يزال مجهولاً، لكن بعضهم يرى فيه يسوع المسيح
والبعض الآخر محمداً. فالهندوسية تستطيع أن
تدمج في ديانتها المعتقدات الدينية الخارجية، محافظة على ركنيها الأساسيين وهما:
الذبيحة والتقمص. يصحِّح
أحد الشيوخ الروحيين للهندوسية، شري شري رافي
شنكر، نظرة الغرب إلى ديانته، مؤكداً على أن
الهندوسية تعترف بإله واحد يتجسَّد في أشكال
ومراحل مختلفة من التاريخ البشري، متخذاً
أسماء ولغات وتعاليم مختلفة، تبعاً لحاجات كل
زمن، معتبراً في المقابل أن الديانات
التوحيدية الأخرى حرمت الله تنوعه وحوَّلته
إلى إله أوحد، تعسفي ومتطلِّب. ويضيف أن
الهندوسية تهب معتنقيها الحرية المطلقة في
سلوك الطريق التي يجدونها الأفضل لبلوغ الله،
من دون أن تحمِّلهم أوزار الخوف والذنب. وهي
ديانة لا تحاول أن تفرض نفسها بالقوة على
الآخرين، لأن كل ديانة تعتقد نفسها متفوقة
على سائر الديانات تتسبب بالعنف الجسدي أو
النفسي حيال الآخرين. هذا الشعور بالتفوق
ناتج من عدم معرفة الديانات الأخرى؛ إذ لكلٍّ
منها طبعه الخاص وعبقريته المطابقين لمزاج
البلد الذي نشأت فيه وثقافته وعاداته. كما
يدعو شيخ الهندوسية الروحي هذا إلى معرفة
الجوانب الصالحة من كلِّ ديانة وتقبُّل
التنوع الديني في العالم عند بداية القرن
الحادي والعشرين، ولا سيما أن في كل ديانة
مكاناً للتطور تتكيف من خلاله مع الأزمنة
المتغيرة، ذاك المكان الذي يمنع الديانات من
الجمود أو التراجع والوقوع في الأصولية التي
تقسِّم وتفرِّق وتحاكم نتيجة الجهل بالآخر. فن
الحياة
أنشأ
شري شري رافي شنكر حركة "فن الحياة" عام
1982، وهي مؤسَّسة خيرية تهدف إلى تحسين نوعية
الحياة جسدياً ومعنوياً عبر التسامي وتطوير
إمكانات الفرد الداخلية واتخاذ مواقف
اللاعنف من طريقة معرفة التنفس وأساليب أخرى
تخفف الضغط عن أكثر من مليوني شخص موزعين على
130 بلداً في القارات الخمس. يطبق
شري رافي شنكر جوهر ديانته عملياً على الأرض،
محاولاً إصلاح شوائب الهندوسية، بدءاً
بمسكنه في بنغالور، حيث يستقبل المعتنقين
والمعلِّمين من طبقات الهند المتعددة ومختلف
الديانات، وصولاً إلى منع التجاوزات
المتطرفة من بعض الهندوسيين في حق أقلِّيات
دينية أخرى في الهند، مروراً باهتماماته
البيئية المتنوعة، ليصب كل ذلك في جوهر
رسالته التي يحددها بقدسية الحياة، داعياً
إلى الاحتفال بها والاهتمام بالقريب ومشاركة
ما نملك مع الأقل منا حظاً، لأن العالم كلَّه
ملكنا وجميعنا واحد. لو
استهوت أحدَنا هذه الدعوة وصعب عليه تطبيقها،
في إمكانه الاستعانة بمعلِّم روحي يساعده على
توسيع آفاقه ومنحها مدى مختلفاً من غير أن
يخشى فقدان حرية رأيه وتصرفاته، فيكتسب بذلك
حرية داخلية، متحرراً من كبت الأفكار
والتصرفات الموروثة ثقافياً ودينياً
وعاطفياً، متخلِّياً عن سجن الأنا في سبيل
اللقاء بالله. كي
يتم هذا اللقاء يمكن للإنسان اختيار طرق
عديدة، منها الطاوية، وهي الدرب المنطلقة من
الأزمنة قبل أصول الأزمنة والمؤدية إلى
الخلود. الطاوية
يقال
إن مؤسِّس الطاوية لاوتسو ولد في القرن
السادس قبل الميلاد في الصين الوسطى. يقال إن
والدته حبلت به 72 أو 81 عاماً (أرقام رمزية)
بعدما ابتلعت لؤلؤة من خمسة ألوان هوت من
السماء وإنه عاش نحو مائتي عام... واقع أو
أسطورة؟! ويقال أيضاً إنه كان فلكياً وأمين
محفوظات البلاط قبل أن يسأم عادات زمانه
السيئة، فيتخلَّى عن كل شيء متوجهاً نحو
الغرب على ظهر جاموس، ناشراً تعاليمه للعالم
قبل الوصول إلى الهند. وقد جُمِعَت تلك
التعاليم في الـطاو ته كنغ ("كتاب
الطريق والفضيلة")، جاعلة من كاتبها حكيماً
محترماً شديد التأثير في الثقافة الصينية،
رغم الطغيان الماوي منذ عام 1949. اكتشف الغرب
هذا الكتاب منذ ثلاثة قرون بواسطة اليسوعيين
ورغماً عنهم (إذ كانوا ينعتونه بالسحر)،
وتُرجِمَ إلى أكثر من مائتي لغة. ويتناول
الكتاب لغز الخليقة وكل شيء يتعلق بالإنسان
ومكانه في الكون. تشبه
الطاوية حبلاً حساساً ومشدوداً بواسطة توتر
قوتين متناقضتين، وهما اليِن واليانغ،
ترتجَّان في قلب الإنسان والكون بالنَفَس
ذاته qi.
وقد
استقى لاوتسو ديانته من تيارات الثقافة
السحرية الموسومة بالشمانيَّة (عبادة
الطبيعة والقوى الخفية في الصين السلفية)،
مضيفاً إليها فلسفته الخاصة التي تتوافق فيها
المعتقدات التقليدية عبر العصور والبوذية
والكونفوشية (تقول الأسطورة إن لاوتسو
وكونفوشيوس تبادلا تعلُّم الديانتين قبل أن
يختلفا). بكلمات
قليلة (خمسة آلاف)، تتوزع على رسائل مقدسة،
أشعار ونصائح إرشادية للشعب والحكام، تجلُّ
الطاوية أهمية قوى الطبيعة (من ماء، نار،
سماء، أرض، جبل، بحيرة، رعد وهواء) واتخاذ
مسافة من العالم من غير الانعزال عنه،
محاوِلة إقامة التوازن بين الأضداد في قلب
الإنسان والكون – كأن "يكون الثقيل جذر
الخفيف والسكون سيد القلق". من
قلب التناقضات تولد الحياة وتستمر. أليست أرض
الهند أكبر شاهد حيٍّ على هذا التناقض الذي
أعطى غاندي رجل السلام الأمثل وقد أُهرِقَ
دمُه على يد برهماني؟ هي الهند نفسها التي
احتمت في أرضها الأقليات على مرِّ العصور، من
يهود ومسيحيين وأرمن وتيبتيين. هي
الأرض نفسها، مُذْ وجدت، تدور حول الشمس،
ويبحث الإنسان فيها عن دوره، عن الحقيقة، عن
علاقته بالله وبالكون. هو الإنسان الخائف على
مصيره، الممزق بين أهوائه، اللاهث وراء
أوهامه وأحلامه وسعادته، يحاول أن يجد
الطمأنينة ويصغي إلى صوت السكون وسط ضحالة
المادة وفراغ الروح. أية
ديانة يختار تحت قبة الإله الواحد؟ أي طريق؟
أية فلسفة؟ هي
المحبة... وطن نهائي للنفوس. ***
*** *** عن
النهار، الأربعاء 14 آب 2002
|
|
|