|
في
السؤال الثقافي
عبد
القادر الحصني
يمتاز
السؤال الثقافي الراهن بأنه مركَّبٌ،
وسريعٌ، ومعممٌ، ويؤذِن بتجاوز ذاته، خلافاً
لما كان عليه من بساطة وبطء ومقاومة للتجاوز
قبل الربع الأخير من القرن الماضي. أملى تركيبيَّته
تطورُ مناهج التفكير وتعدُّدها وتداخلها
وتفجُّر المعلومات؛ وأملت سرعتَه وتعميمَه
ثورةُ التواصل (وسائل الاتصال) والإيقاعُ
الجديد لحضارة عالية الاستهلاك والتمثُّل،
وهيمنة القطب الواحد. أما الإيذان
بالتجاوز فمردُّه إلى حصيلة ما تقدَّم من
مميزات رسبت في جوهر السؤال متاخَمةً شديدة
بين التركيب والتفكيك، ودغمت الكينونة
بالصيرورة، بل أزاحت مركب الكينونة–الصيرورة
إلى الصيرورة المستمرة. هذا السؤال
الثقافي الموصوف بهذه المميزات فُرِضَ على
السياقات الثقافية المختلفة، أو قُلْ: دعاها
إلى الإدلاء بمداخلاتها الخاصة تمهيداً
لحوار عاجل وطارئ لنفيها. اختلفتْ
الاستجابات لهذه الدعوة، وأبدت تراخياً
وفتوراً في تناسب طردي مع الابتعاد عن مركز
التوتر الطارح للسؤال الموصَّف. وقد فُسِّر هذا
التراخي وذلك الفتور بعوامل سلبية قارَّة في
طبيعة الأطراف المستجيبة. إلا أن نظرة أعمق،
تتصدَّى لمواصفات السؤال أولاً، قمينة بأن
تكشف عن أسلوب أعمق في البؤرة المولِّدة
للسؤال، وجديرة بأن تنقل الأمر من مستوى
يفسِّر الاستجابة واللااستجابة بالتقدم
والتأخر، وبالانتصار والهزيمة، إلى مستوى
صراع البنى وممانعة الكل الموسوم بالأطراف
لهذا الطارئ الغريب. فالسؤال الثقافي
المؤسِّس لعالم جديد لا بدَّ أن يكون مطروحاً
عليه سؤالٌ فاحص عن إنسانية الإنسان؛ فهو،
على الرغم من ادِّعائه الشمول، والحركة على
مجال تعريف مفتوح، واتخاذه لَبوس السؤال
الحضاري، نراه يعزِّز استلاب الإنسان
وتسليمه وتحويله إلى كائن دِعائي تحت هيمنة
إعلامية، تخون المعلومة لمصلحة الدعاية. أما الوفرة
المادية في معقل الجهة المصدِّرة للسؤال فإنه
لا يخفِّف من وطأة التساؤل. وإريك فروم في
كتابه* To
Have or to Be يثير
مبكِّراً هذا التساؤل في هذا الجانب من جوانب
المسألة. والسؤال الثقافي
الجديد، إذ يعلن نهاية الفلسفة ونهاية
التاريخ ونهاية الإيديولوجيا، كأنه يريد
قيامة جديدة، إذ يبشِّر بإطلاق فردية الفرد
ويلوِّح بحرية لانهائية، مطروحٌ عليه السؤال
عن معنى أن تجيء البشارة في صوت خوار العجل
الذهبي، وأن يجيء التلويح بيدي يهوذا. ثم إن
القيامة لا تُصنَّع، والحالة هذه، إلا على
هيئة شتاء نووي طويل. -
"الشر لا محالة
آت." -
أجل. ولكن "ويل
لمن يأتي به هذا الشر". والسؤال الثقافي
الجديد، تبعاً لذلك، يبثُّ ولا يتلقَّى،
ويقول ولا يصغي، ويريد الآخر بوصفه زبوناً
وليس شريكاً، تحت قيمة بائسة: "أنا أستهلك،
إذن أنا موجود"، متناسياً أرواح الشعوب
وثقافاتها ومصالحها أيضاً. قد لا يتذكر
السؤال الثقافي الجديد كالِّستوس، الروحاني
البيزنطي من القرن الرابع عشر وأطروحته: "أنا
أحب، إذن أنا موجود." وقد لا يتذكر
القديس كليمنضوس الاسكندراني وأطروحته: "إذا
كنتَ لقيتَ أخاك تكون كذلك لقيتَ إلهَك." ولكن السؤال
الثقافي الجديد جدير به أن يتذكر حقاً
ليوبولد سنغور، وبابلو نيرودا، وروجيه
غارودي... فعمر هذا السؤال الثقافي الجديد
قصير، لا يحتمل التراخي في التذكُّر. ***
*** *** تنضيد:
نبيل سلامة *
تُرجِم
هذا الكتاب إلى العربية ضمن سلسلة "عالم
المعرفة" المعروفة (بعد إغفال عدد من
فصوله التي تتناول البوذية وصوفية
المعلِّم إكهرت!) بعنوان الإنسان بين
الجوهر والمظهر. [المحرر]
|
|
|