|
حرِّية
العرب
المطران
جورج خضر
كان
لنا
الأحد الماضي في كنيستي عيدٌ من أعياد الصليب
يمكن اعتباره تكثيفًا ليوم الجمعة العظيمة،
أردنا أن نستبقها استلذاذًا وتخشعًا. أليست
الأعياد هكذا؟ والمفارقة عند أحبائِّنا
الأرثوذكسيين أنهم، هذه المرة، لم يستطيعوا
أن يغفلوا ذكر العراق، إذ أحسُّوا أن صلب
السيد لا ينحصر فيه، ولكنه يتساقط على كل
المصلوبين في الأرض. هنا وهناك، في طول البلاد
وعرضها، بدءًا من قداس البطريرك في دمشق إلى
الأساقفة والقُسُس، انتشرت العيسوية من جسد
العراق الممزَّق علينا. الأداء
الطقسي عندنا يفرض أن تضع صليبًا بين
الرياحين، وأن يطوف بها الكاهن، فيأتي
المؤمنون في طور عبادي معروف إلى تكريم
الصليب وأخذ زهرة لتقول الفرح النابع من سرِّ
الفداء المرموز إليه بهذا الطواف. العراق
كلُّه مصلوبٌ، وليس من زهرة. غير أننا نحيا
على وعود الأزاهير في أوان الرضا. أمام الدم
لا يبقى عليك إلا أن تنتظر الفرج والتعزيات.
كنتُ عقدتُ النيَّة ألا أتكلَّم على السياسة؛
وقد أمرُّ بتعابيرها، ولكن المرام ما هو
كالباقيات الصالحات. النعمة
التي نزلت علينا كمائدة من السماء أن قلوبنا
توحَّدت بلا جهد ولا حساب. ويزيَّن لي أن
انصبابنا في بوتقة واحدة – أيًّا كان الواقع
الفردي عند هذا وذاك – أتى من التراحم
والرأفات، ومشهد الموت، وكوننا في لبنان
شعبًا صغيرًا يكره الاستعلاء، وحنينُه أبدًا
إلى المستضعفين. وهذا أبقى من كل تحسُّس من
التاريخ أو من الأرض. وإذا ساغ لي أن أضع هذا
في مقولة لاهوتية مسيحية لقلت إننا واحد مع كلِّ إنسان
معذَّب، كائنة ما كانت قناعاتُه
الدينية أو انتماؤه اللغوي. نحن ننطلق من أن
كلَّ إنسان مَسَحَهُ الله بنعمته القدُّوسة
منذ الخلق الآدمي – ذلك أن الحب واحد – وأنْ
ليس من شريحة بشرية، أية كانت ديانتُها، تحظى
بالرضا الإلهي أكثر من شريحة أخرى؛ وإننا –
تاليًا – في المنطلق إخوة بالانتساب الآدمي
قبل الانتساب الإبراهيمي الذي ليس إليه كلُّ
البشر. والربُّ وحده يعرف إذا كان هذا الفرد
أقرب إليه من الفرد الآخر، وذلك بسبب الرضا
الحال عليه من فوق، وليس بسبب من أي دين. *** عندنا
نحن انضمامٌ إلى العراق بسبب من آلامه، بصرف
النظر عن ميولنا الوطنية أو القومية. نحن مع
المظلوم، أية كانت جلدته. لذلك كنَّا إلى
الشعب الأمريكي في 11 أيلول. ولا نستطيع أن
نكون مع الذين يقتلون الأطفال والنساء
والشيوخ والمدنيين بين الفرات ودجلة وما
إليهما. نحن،
أصلاً، ضد إبادة الشعوب؛ وبخاصة، نحن مع
فقراء تلك الشعوب. هذا حبٌّ إلهي فينا، يشمل
ليس فقط أبناء هذه المنطقة، ولكنه يحضن
المسحوقين في الأرض جميعًا. إنها بركات هذا
الحبِّ في الشعب العراقي هي التي تجعله حيًّا، ناهضًا في هذه المقاومة التي لا
تذهلني؛ ذلك إن وحدة هذا البلد كشفتْ أن أحدًا
لا يستطيع أن يرشوه. الذين أثبتوا أنهم قادرون
على أن يبقوا معًا بيَّنوا أن فيهم الحياة
وأنهم لمنتصرون، أنالوا النصر العسكري أم لم
ينالوه. طبعًا دعاؤنا الحارُّ والعظيم أن
يزول العدوان، وأن تنسحب الجيوش الغازية.
ولكن إن بلغ الدمار مبلغًا كبيرًا يكون أهل
العراق قد قاموا من الموت الروحي الذي هو
الخذلان أمام قوة عاتية. ماذا
ستتعلَّم الإنسانية من الكارثة؟ ما يعزِّيني
أمامها أن هناك أمريكيين كثيرين قد لعنوا
الحرب. وهؤلاء سيظلُّون هم هم، على قناعاتهم،
ولو انتصرت جيوشهم. سيكونون خميرة حبٍّ قادر
على أن يحوِّل الشعب الأمريكي – وهو أبقى من
إدارته. لقد أثبت الغرب الأوروبي المتمدِّن
أن فيه عقلاء كثيرين وأن السلام الحقيقي آتٍ.
والسلام يعني، في الدرجة الأولى، كراهية موتٍ
نُحِلُّه بالآخرين جسديًّا، ونُحِلُّه في
أنفسنا روحيًّا. في
الأهمية نفسها نهضةُ العرب إذا تعلَّموا أن
القوة ليست بالسلاح ولا بالقمع، وأنها تقوم
على ثقافة تتجدَّد لاقتباسها كلَّ ما هو
إنساني في تراثنا وتراث الآخرين؛ إذا فهموا
أن ليس ثمة غطرسة تدوم، وأن الغرب قادرٌ على
أن يتعلَّم، وقادرٌ على أن يؤمن بالقيم، ليس
ليحفظها لنفسه، ولكن ليعطيها الآخرين أيضًا.
ليس من قَدَرٍ كُتِبَ على أهل الغرب أن يكونوا
إلى الأبد فاتحين. المؤسف أن أمريكا تذوق
اليوم استعمارًا تحرَّرت منه أوروبا. أمنيتنا
ألا تسود السطحية أمريكا في السنوات المقبلة،
وأن تنزل إلى عمق "أوروبا القديمة". هي
ليست قديمة، كما قال وزير الدفاع الأمريكي
رامسفيلد؛ هي متأصِّلة. *** والتأصُّل
ليس الأصولية. فأنت لا تستطيع أن تتنكَّر
لأصولية أمريكا إن أردت لنفسك أصولية أخرى.
فالأصوليات – جميعًا – يسودها منطقٌ واحد،
وهو أن تعيش البشرية بلا حب. لا يستطيع أهلُ
دينٍ واحد أن يحبوا أنفسهم فقط. إن لم تحب أنت
كلَّ الشعوب لا تستطيع أن تحبَّ الشريحة التي
إليها تنتمي. إن تقسيم العالم مسلمين ومشركين
وكفارًا يقفون في إزائية دائمة، بحيث يكون
لهذا التقسيم ترجمةٌ عسكرية أو تأهُّب عسكري،
فهذا يعني مواجهة لا تنحصر في نطاق الفكر.
لذلك عبارة "معسكر الشر" التي يقول بها
جورج بوش تعني أنه اختلس دور الله الذي له
وحده الحق أن يحدِّد من هو شرير ومن هو بار.
وقد جاء في كتابنا أن الله "يشرق شمسه على
الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار
والظالمين" (متى 5: 46). ما
من شكٍّ في أن العرب والمسلمين مظلومون اليوم.
يا ليتهم لا يتعقَّدون من التُّهم العظيمة
التي اتَّهمتْهم بها الإدارة الأمريكية. يا
ليتهم يكتشفون النعمة الإلهية التي غَرَسَها
الله في قلوبهم، وينهضوا بكلِّ الجمالات
الروحية والثقافية الكامنة فيهم؛ وفي آنٍ
واحد يفرحون للجمالات التي وزَّعها الله
والتاريخ على الشعوب الأخرى. أنا
مؤمن أن الشعب العراقي – لو اكتملت الكارثة –
قادرٌ على أن يرى في نفسه ما جعله شعبًا
عظيمًا، ليس من طريق السياسة والسلاح – ولو
كان لا بدَّ منهما – ولكن من طريق القلب
والعقل مجتمعين. أجل لا مفرَّ لهم من
التكنولوجيا؛ ويبدو أن لا مهرب من عولمة
عاقلة يتلقُّون بها ويكيِّفونها وفق ما عندهم
من إيمان بطاقات الإنسان العربي. وهذا
يعني الغلبة على الفقر الشائع، والقضاء على
الأمية العميم؛ وهذا يعني إيقاظ العرب
والمسلمين معًا إلى القدرة الروحية، الفاعلة
وحدها في بعث الشعوب. هذا يعني أيضًا إيمانًا
كاملاً بالحرية، يرون هم كيف يعبِّرون عنها
بمشاركة العناصر المسيحية الشرقية التي عانت
من الغطرسة والاستعلاء مثلما عانى المسلمون.
فلا يبقى بيننا من يحكم الناس بناءً على دين،
ولكن تبدو عروبةٌ صافيةٌ تقوم على القيم
الإنسانية الشاملة المستلهَمة من هنا ومن
هناك. هذا
يعني سؤالاً عن الأنظمة الحاكمة عندنا، بحيث
تأتي من الشعوب الناهدة إلى المستقبل. فلا
نتنكَّر لديموقراطية لمجرَّد أن الغرب قام
بها أو اكتشفها. أنا لست مقتنعًا بأن ثمة
ديموقراطيات مختلفة. قد قالت بهذا الأنظمة
الشيوعية، فمنعتْ الحرية عن شعوبها وأخفقتْ.
أنا لست أقول بالضرورة بالليبرالية، لا
تراقبها مصلحةُ الشعوب. وهي لا تفيد بالضرورة
الرأسمالية المتوحشة التي لا يقول بها أحد
اليوم بلا استحياء، ولو مورست علنًا أو في
الخفاء. كذلك
أعرف أن الشعب العراقي العظيم توَّاق إلى
حرياته كاملة، وأعرف أن فيه علماءَ كبارًا
ومثقفين كبارًا لا يرضون من الحرية بديلاً.
وقد "يأتي الترياق من العراق"، بالضبط
بسبب من تجاوز الظلم الحالِّ فيه. لن يقبل إلا
أن يعيش في الحقِّ وفي العطاء الصادق الكبير. إذا
فهم العرب هذه الأشياء يُكتَب لهم الظفر
الحقيقي في عقل الله أولاً وفي عقولهم ثانية.
خلاص العرب في أيديهم، بعد رضا الله عنهم. وهو
يريد لهم الخير والخيرات، وأن يسهموا في بناء
الحضارة لمنفعتهم ومنفعة الإنسانية. وكما
استناروا بنور العلم والفلسفة والتصوف سوف
يستنيرون بكلِّ ذلك ويضيئون العالم. ***
*** *** عن
النهار، السبت 5 نيسان 2003
|
|
|