|
الحرية
الجنسية
بين
فاغنر والحداثة
نبيل
سلامة
إن وجوب
الإيروس Eros
يتحقق في ابتلاع الوظيفة التناسلية genital
function ضمن
الطاقة، أي في الجنسية sexuality،
وبالتالي في ضمَّها إلى الكيان. وجوب الإيروس
يعني تحرير التناسلية من الشعور بالإثم
والخطيئة والكبت والحرمان والضعف الذي يحيط
بها، وبالتالي منحها حرية التعبير عن نفسها،
وذلك من خلال جنسية متوازنة. كثيرة هي السجون
التي يضع المرءُ نفسه فيها. وإحدى أكثر السجون
الداخلية شيوعًا هي تلك التي نزجُّ فيها
تناسليَّتنا، إذ ننظر إليها نظرة احتقار،
ونعتبرها قذرة ودنيئة. وهكذا ينشأ الشعور
تجاهها بالإثم ويتفاقم، ليصير شعورًا بالخوف
والرعب، فيقع المرء في مصيدة الحصر. وهكذا
تغدو جدران السجن أكثر سماكة. فللحصول على
تناسلية متوازنة لا بدَّ من التعرِّي:
التعرِّي الجسدي يعني تعرِّي تناسليَّتنا من
الأحكام المسبقة، ومن الشعور بالإثمية
والخطيئة والخوف والكبت والضعف، وبالتالي
منحها حرية التعبير عن نفسها ضمن جنسية
مُؤَنْسَنة. وهذه الأخيرة لا تبلغ غايتها
الحقيقية، أي تتأنسَن، إلا في نطاق المحبة. يمكننا تمثيل هذا
التفتُّح من خلال أربعة دوائر: في المركز تقبع
التناسلية، لتتسع في دائرة الجنسية؛ وهذه
الدائرة تضمُّها دائرة أوسع، هي نطاق المحبة؛
والمحبة تقع في دائرة الجمال، والجمال في
دائرة الحقيقة. الحرية الجنسية
الحقيقية لا تعني الإباحية، وإنما بلوغ
المحبة – الأغابي Agapè
– وفيها وحدها تجد
التناسلية قدسيَّتها، وتصبح فعلاً طاهرًا
ومقدسًا. بعبارة أخرى فإن الحرية الجنسية هي
تصعيد التناسلية من مادَّتها المتركِّزة في
الأعضاء التناسلية إلى صيرورتها طاقةً حيوية
– ليبيدو libido
–
وهذه الأخيرة إلى كينونتها محبةً وعطاءً
ووحدة مع الآخر. فكما تروي أسطورة
بروميثيوس اليونانية، ثمة شبه كبير بين مبدأ
الإيروس وزيوس، إله الأولمب الذي خلق بندورا،
وغرس فيها روح الغدر وفَطَرَها على الكذب.
كانت بندورا تحمل بين ذراعيها صندوقًا كبيرًا، فلما كشفت عن غطائه انطلقت منه جميع
المصائب الرهيبة التي كان ممتلئًا بها
وانتشرت في جميع أصقاع الأرض. والأسطورة تقول
إن هيفاستوس، إله النار والتعدين، هو الذي
صنع من الطين والماء جسد إنسان، وشاء أن يكون
له بأس شديد وصوت مثل صوت إنسان، وأن يصنع من
تلك العجينة صبية عذراء ذات جمال يأسر
الألباب، وشاء أن يكون جمالها يضاهي جمال
الإلهات الخالدات. وهكذا أغدقت جميع الآلهة
عطاياها على هذا المخلوق الجديد الذي أطلق
عليه اسم بندورا. لكن الجميل في
أسطورة بروميثيوس الذي أنقذه هرقل من معتقله
في القوقاز أنه لا يتَّخذ مكانه الدائم على
الأولمب إلا بعد أن تتم مبادلة مصيره مع
القنطور خيرون الذي كان رماه هرقل بسهم مسموم.
وهكذا التزم خيرون السماح له بالنزول إلى
الجحيم بدلاً من بروميثيوس. إذن دلالات
الأسطورة تكاد تكون واضحة إذا كنَّا نحسن
تأويل رموزها: بندورا هي الرغبة الجنسية،
إيروس هو زيوس، بروميثيوس هو الإنسان الجديد
الحر، القنطور خيرون هو الإنسان المقيَّد
بالغريزة الحيوانية، وهو الذي ينزل إلى
الجحيم. لكن ما هي قصة النزول إلى الجحيم؟ إن النزول إلى
الجحيم يعني إدراك جمال نار الشهوة التي
تشتعل في القلب، فتجعل النفس تدخل في امتحان
النار. إنه بداية المسارَرة initiation، بداية التطهُّر.
فلولا هذه النار لما عرفت النفس أن تتطهَّر من
أوحالها وزيغها وفسادها. إنها تشير إلى كل
غواية نستسلم في أحضانها، فنقايض مبدأ الروح
– أساس كل إيمان – ببضعة من الفضة، ونخرُّ
ساجدين للتجربة، للإغواء، للضياع في لعبة
الوهم، في دخان الجحيم، في سراب الشهوة
وألمها وغربتها. وعلينا، من خلال هذه
المسارَرة، أن نعود بهذه الشهوة إلى عالم
الفضيلة الذي سقطت منه، وتحويل أنينها
المختلط بالخسة والدناءة إلى أغنية سماوية.
وعندما يتم تناول اللقمة المغمَّسة بالشهوة،
تبدأ المسارَرة، ويتم الهبوط إلى عالم الجحيم
الذي يتم اختباره بخلايانا وذراتنا وأفكارنا
وأحاسيسنا، فنكابد أهواله وما تنطوي عليه من
تطهير وألم. لكن، في هذه التجربة، وفي هذا
الاستسلام، نعثر على مبدأ الإيمان نفسه الذي
يفتدينا بدمه وروحه، ويتم فعل الخلاص. لا بدَّ من مراس
وتدريب وممارسة وثبات في اختبار ألوان الجحيم
وأهواله إذا ما شئنا تطهير قلوبنا ونفوسنا. من
هنا يجب عدم رفض التجربة، بل الخوض فيها حتى
أقصاها وفي كامل أبعادها. وإذ ذاك ندخل في
اللاتجربة ونعود إلى النقاء ونحقق السلام.
فلكلِّ إنسان تجربتُه الخاصة وإغواؤه الخاص؛
وفي هذه التجربة يكمن مفتاح خلاصه. والحكيم هو
الذي ينتزع المفتاح من قلب التجربة، ويفتح
باب خلاصه، ويدخل إلى حريته الحقيقية التي لن
يعكِّر صفوها بعد شيء البتة، وذلك من خلال
الوعي الصافي. إن ما نظنُّه في
الواقع حرية جنسية إنْ هو إلا وهم ومخدِّر،
وغسيل دماغ، وفصام عن الكيان الحقيقي للإنسان.
فالحرية الجنسية التي نشاهدها اليوم ليست
أكثر من عبودية تناسلية، ليست إلا مرضًا
وسقماً واستهلاكًا تجاريًّا. يقول المحلل
النفسي الكبير اليونغي بيير داكو: لقد
تخفَّت القدرة اللوسيفرية للهوى على نحو عظيم
بالحب وانحطت إلى مستوى استثارة غرائز
ابتدائية: تناسلية من مستوى منحطٍّ مثلاً،
حيث يظهر جليًّا بأن المرء يبحث عن شيء آخر. ويقول ندره
اليازجي: إذا
كان تحقيق الدافع سبيلاً إلى التكامل
والتوازن كانت الرغبات سبيلاً إلى الانقسام
والتمزق والتجزئة. ففي التكامل تتحقق الطاقة
الروحية وتفعل بهدوء وطمأنينة، وفي الرغبات
والشهوات ينتصر "إبليس" رمز المقاومة
السالبة. ودافع الجنس يجب ألا ينحرف إلى شهوة
الجنس، والجسد يجب ألا ينحرف من "هيكل"
الله إلى مملكة إبليس. إن شحنات الخوف
والقلق والعدوانية والكراهية والحقد
والبغضاء تفعِّل اللاوعي الشخصي؛ وهذا
الأخير يجعل الأنا ضعيفة، عديمة المقاومة،
فتقع بسهولة في إسار الإيروس. من هنا فإن
تحرير التناسلية لا يعني سماحنا لها بابتلاع
الأنا، بل بتكامل الوظائف النفسية في تفتُّح
الكيان العميق للإنسان. والكيان يتفتح عندما
تتناغم الوظائف وتتكامل بعضها مع بعض، وحين
تتحد وتندمج في الإنسان الجديد، إنسان النعمة
الحرِّ من الإشراطات والانقسامات والقيود. الكيان يتفتح من
خلال التجارب والألم والوعي الذي يتخلَّل هذه
التجارب. والحكمة هي تخلُّل الوعي للتجربة
وعدم سماح لأيِّ شيء أن يعيق تفتح الكيان هذا. العفة هي حالة
واعية. هي عفة واعية تفعل فيها الطاقة الحيوية
التي هي أساس التفاعل الخيميائي في الداخل.
وبقدر ما تجري تصفية الغريزة تصفية نهائية
تفصح هذه عن الوعي وعن المحبة في داخلها.
وههنا يجري تصعيد الطاقة الحيوية – الليبيدو
– إلى مستويات الوعي والمحبة. لا نستطيع أن
نصلِّي – إذا شئنا – إلا أطهارًا، ولا نستطيع
أن نركع – إذا شئنا – إلا أطهارًا. وهذا يعني
أن نكون أعفَّاء، أنقياء، نحيا السلام الروحي، ونجعل العفة واعية.
عندئذٍ لا يلبث
التفاعل الخيميائي أن يبدأ، وتبدأ الطاقة
الحيوية تفصح عن الوعي وعن المحبة في داخلها.
وبقدر ما يجري التصعيد قُدُمًا تكون تصفية
الغريزة أكبر وتعبير المحبة أقوى. وهذا ما تعبِّر
عنه أسطورة بروميثيوس المذكورة؛ إذ يفتديه
القنطور ليحلَّ بروميثيوس في الأولمب جبل
الآلهة. وينال بروميثيوس الخلود لأن الزائل
يكون قد زال. والزائل هو الغريزة، أو هو
بالأصح الإنسان المقيَّد بالغريزة. يقترب الشيء من
طهارته عندما لا يكون غاية في ذاته؛ فالشيء في
حدِّ ذاته بريء. وإنما علاقتي معه تسبغ عليه
صفة النجاسة أو الطهارة أو البراءة. فالجنس هو
وسيلة وفعل طاهر ومقدس في ذاته؛ لكنه يتدنَّس
عندما يكون غاية في ذاته. إنه يفقد نقاءه
عندما تكون علاقتي مع الفرد من الجنس الآخر
مجرَّد ابتغاء لممارسة الفعل الجنسي معه. لكن
هذا الأخير ليس غاية في ذاته، وإنما وظيفة من
وظائف الجسد، وطاقة حيوية في النفس. نسوق على سبيل
الإيضاح حديث جوزيف كامبل في معرض شرحه على
أسطورة الحمار الذهبي لأبوليوس (القرن
الثاني بعد الميلاد). والحمار الذهبي يُعَدُّ
من أولى الروايات التي كُتِبَتْ في هذا الفن.
والشخصية المحورية أو البطل فيها كان قد
تحوَّل بسبب خضوعه للرغبة الجنسية إلى حمار،
وكان عليه أن يتحمل عددًا من المغامرات
المؤلمة والمخزية، ولم يكن له من خلاص إلا على
يد الإلهة إيزيس، حيث تظهر وبيدها وردة (رمز
للحب المقدس، وليس الرغبة الجنسية)؛ وعندما
يأكل كحمار هذه الوردة يتحول مرة ثانية إلى
رجل. لكنه أصبح الآن أكثر من رجل: لقد تحول إلى
إنسان مستنير، وبالتالي إلى قديس. لقد مرَّ
بتجربة الولادة البتولية مرة ثانية كما نرى. المرء يمر، إذن،
من الشهوانية الحيوانية، عبر الموت الروحي،
ويولد من جديد. والولادة الثانية إنما هي
تجسيد عالٍ وإعادة تكوين روحية للكيان
برمَّته. والإلهة هي التي تقوم بذلك، أي
بالولادة الثانية من خلال أمٍّ روحية. ويعلِّق كامبل: الزواج
الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من إدراك التطابق مع
الآخر، فيكون الاتحاد الجسدي بمثابة السر
المقدس الذي يشكِّل دعامة راسخة للحب. فهو لا
يبدأ بالطريقة العكسية، أي بالاهتمام
الجسدي، ثم يصبح بعد ذلك روحيًّا؛ إنه يبدأ من
تأثير الحب الروحي. أما ندره اليازجي
فيقول: الجنس
هو حب الإنسان لإنسانيته، إنه "المحبة
الجنسية" التي تتحقق على نحو اتصال عميق
بعد الزواج. ومن أوبرا بارتسيفال
للموسيقار العبقري ريتشارد فاغنر نستنتج ما
يلي: الطاقة الجنسية هي عينها الطاقة الروحية
بعد تصعيدها. يذكر د. ثروت عكاشة في معرض
تلخيصه لأحداث أوبرا بارتسيفال ما يلي: ...
غير أن امرأة فريدة الجمال في مملكة الساحر
تصدَّت له، فنسي رسالته وهوى بين أحضانها.
وسقط الرمح المقدس من يده فالتقطه كلينجسور
وطعنه في حضنه فأصابه بجرح عميق. ...
لم تكن هذه المرأة الفاتنة سوى كوندري، رمز
الغريزة الجنسية، التي سخرت من المسيح
المخلِّص وهو فوق صليبه، فحدجها بنظرة صبَّت
عليها لعنة أبدية... غير أن رغبتها في الخلاص
من لعنة المسيح لها... جعلتها تحاول التخفف من
الآثام التي ارتكبتها بتقديم الخدمات
الخالصة إلى الكأس المقدسة. واكتسبت بذلك
طبيعة مزدوجة: فكانت خادمة الساحر الشرير
كلينجسور، ورسولة الكأس المقدسة في وقت واحد. ...
نعلم أن خلاص كوندري من لعنة المسيح مرتبط
بفتى غير مدنَّس قادر على أن يقاوم سحر فتنتها. ...
تقع كوندري على الأرض وهي تصرخ، ويبتعد
بارتسيفال قائلاً لها إنه سوف ينتظرها عند
ينبوع الحياة والتوبة والغفران. ...
شهدت كوندري موت هذه الأم المحطمة القلب. وقد
كانت كوندري تحيا حياة مزدوجة؛ إذ كانت رسولة
الكأس المقدسة، وساحرة في خدمة كلينجسور في
الوقت نفسه، وكانت تعرف جوهر الأمومة معرفة
دقيقة. ومن الجدير
بالذكر أن قصة كوندري هذه، في رحلتها على صهوة
جوادها، ثم في روايتها عن موت هرزلايده، أم
بارتسيفال، حين تقول: عندما
كنت فوق صهوة الجواد رأيتها تحتضر. ولما
اقتربت منها، حمَّلتني تحياتها إليك أيها
الأبله! إنما هي إشارة
إلى للنزعة الأوديبية التي يحملها الكائن
الإنساني أول ما يحملها من خلال علاقته مع أمه.
وفي البلوغ تعبِّر هذه النزعة أول ما تعبِّر
عن تفتح الغريزة الجنسية التي تعني في هذا
السياق كوندري نفسها في حوارها مع بارتسيفال. ويتابع ثروت
عكاشة في حديثه عن الأوبرا ما يلي: ...
نرى كوندري موزَّعة بين خطيئتها وبين رغبتها
اليائسة في الخلاص. إنها المرأة التي وهبت
نفسها للخطيئة، سخرت من المسيح وهو يترنح في
طريقه إلى تل الجلجثة تحت ثقل صليبه، فقضى
عليها أن تتجرَّع ضحكاتها الزائفة إلى أن
تلقى المخلِّص مرة ثانية. لذلك فقد تمنَّت
الغفران وهي بين ذراعي ملك الكأس، على أن
تتفرغ لخدمة الكأس هذا في نفس الوقت الذي
تحاول فيه إغراء بارتسيفال بسحر جسدها.
فيتشابك ميلها إلى الخطيئة مع رغبتها في
المقاومة، حتى تلتقي حاجتها إلى الأمومة
الحانية ورغباتها الشهوانية في شخص واحد هو
بارتسيفال. ...
يعود بارتسيفال... فيرى كوندري وقد ارتدت ثوب
التقشف... ثم يقوم جورنيما بصبِّ الماء من
الينبوع على رأس بارتسيفال، بينما تغسل
كوندري قدميه، وتجفِّفهما بشعرها، وتتناول
قنينة فتعطرهما بما حوت من مسك، وكأنما هو
المسيح وهي مريم المجدلية، حتى إذا انتهت
طقوس ضمِّه إلى فرسان الكأس المقدسة، أخذ
يزاول أول مهمة له وهي تعميد كوندري بعد
خلاصها من اللعنة التي حلَّت بها عن طريق
الخطيئة. وهنا تحني كوندري رأسها وتذرف دموع
الندم والتوبة. أما في أوبرا الهولندي
الطائر فيلخِّص ثروت عكاشة أحداثها كما يلي: فما
تلبث سفينة الهولندي أن ترسو بالقرب من سفينة
النرويجي عند الشاطئ الذي لم تمسه قدماه منذ
سبعة أعوام، فيهبط إليه بحثًا عن المرأة التي
تمنحه حبَّها وتخلص له الإخلاص الذي يحرِّره
من اللعنة التي قضت عليه بركوب متن البحار إلى
الأبد. وما أكثر ما كان اليأس من لقائها يستبد
به فيصبو إلى الموت. وإلى
جانب المدفأة بمنزل دالان جلست ماري مدبِّرة
المنزل مع بعض الفتيات يغزلن الخيط، بينما
انفردت سينتا بعيدة عنهنَّ غارقة في أحلامها،
محملقة في صورة معلقة على الجدار تمثل بطل
أسطورة الهولندي الطائر الغامضة وقد ارتدى
ثياباً سوداء... تنطلق سينتا في الغناء
مردِّدة أسطورة الهولندي الذي يجسِّده
خيالها المشبوب، فتحدِّثه وتناجيه بأنها سوف
تكون المرأة التي تخلِّصه من لعنته. وهنا يدخل
خطيبها إيريك ليعلن قدوم دالان، فيفاجأ بسماع
خطيبته تغني لصورة الهولندي وعزمها على أن
تكون مخلِّصته... والذي تلقاه بصحبة دالان
فتتعرَّف فيه على بطل أحلامها... وتستأثر بها
الدهشة، حتى إذا ما خلت إليه أقسمت له أن تهبه
حياتها من أجل خلاصه. ...
وتقبل سينتا من بيت أبيها مهملة إيريك الذي
يتعقَّبها بتوسلاته لتنثني عن حبِّ
الهولندي، مذكِّرًا إياها بوعودها له. تصل
كلماته إلى سمع الهولندي، فيتحرك في قلبه
الشك في إخلاصها في حبه، ويبسط شراعه متأهبًا
للسفر. فتسرع سينتا بإلقاء نفسها في البحر
الذي تبتلعها أمواجه. وما تلبث "السفينة
الشبح" أن تغرق هي الأخرى. ثم يلمح نور من
بعيد، ويعلو طيفا سينتا والهولندي معًا، وقد
لفهما بريق عجيب. كذلك الأمر في
أوبرا تانهويزر التي تبدأ ...
بتجمُّع رهط من الحوريات والساقيات بمدينة
فينوس، ربة الحب، فينوسبُرج، يرقصن حول
الفارس الشاعر تانهويزر الذي كان قد انقاد
مستسلمًا لملذَّات الحب المحرَّم، لكنه مضى
يتوسل إلى فينوس أن تتيح له العودة إلى وطنه
على الأرض متضرِّعًا لمريم العذراء. وتستجيب
فينوس فتنفرج فينوسبُرغ. فإذا به في أحد
الوديان القريبة من فارتبورج. وتشاء الصدفة
أن يكون حاكم المدينة عائدًا ساعتها من نزهة
مع الفرسان المغنين؛ فيتعرف عليه فولفرام
ويُقبِل عليه ويرحِّب به الجميع ويصحبونه
معهم إلى المدينة. وتدخل
إليزابيت، حفيدة حاكم فارتبورج، قاعة
مباريات الغناء، وقد طوت قلبَها على حبِّ
تانهويزر وأخفته سرًّا عن الجميع... وسرعان ما
يظهر تانهويزر بصحبة فولفرام، فتنفجر الفرحة
في أعماقها إلى حدٍّ لا تستطيع معه إخفاء
مشاعرها عندما يركع عند قدميها... ثم يعلن
الحاكم أن موضوع المباراة هو الإنسان في "سطوة
الحب"، وأن جائزة الفائز هي يد إليزابيت.
ويبدأ المتبارون يأخذ كل منهم عند حلول دوره
القيثارة مرتجلين أغانيهم. ينشد
فولفرام ممجِّدًا طهارة الحب المثالية التي
يقدِّسها. ويغني فالتر للحب المتدثر بالفضيلة
الذي يستلهمه الوحي. ويشيد بيترولف بنبل
عاطفة الفروسية عند المحارب. لكن
تانهويزر يقاطعهم خلال غنائهم جميعًا،
ساخرًا بهذا الحب الذي يتغنون به، وقد اشتعلت
في نفسه ذكريات ملذَّات الحب المحرَّم،
وحرَّكت فيه نوعًا من الجنون أفقده صوابه،
حتى إذا جاء دوره تغنَّى بحبِّ الربة فينوس
نفسها. فتتدافع النساء خارجات من القاعة،
بينما يشهر الرجال سيوفهم مهدِّدين بقتل هذا
الفارس الذي يمجِّد الخطيئة. غير أن إليزابيت
تهرع نحوه وتحول بينه وبين السيوف، وتطلب إلى
الرجال الصفح عن حبيبها باسم المسيح المخلِّص.
وتحرِّك توسلاتها مشاعرهم فينحُّون سيوفهم،
بينما يخرُّ تانهويزر ساجدًا على الأرض، وقد
أحسَّ بذنبه. حينئذٍ يأمره الحاكم بأن يقصد
روما ليكفِّر فيها عن خطيئته... وتقف إليزابيت
وسط الوادي القريب من فارتبورج منتظرة عودة
تانهويزر من رحلته إلى روما، وقد مسحت التوبة
عنه آثار خطاياه. يقترب
الفارس فولفرام فيلمح إليزابيت راكعة أمام
الصليب تبثه أشجانها وشكواها. ويظل الفارس
يرقبها في صمت حتى يصل إلى سمعه صوت إنشاد
الحجاج العائدين. ويرى إليزابيت وقد نهضت
وأخذت تتفحص وجوه الحجاج الذين يمرون أمامها
واحدًا واحدًا. ولا تجد بينهم تانهويزر،
فيستولي عليها اليأس وتهب نفسها للعذراء،
وتعود إلى القصر لتنتحر فيه. وبعد قليل يعود
تانهويزر، وقد خاب أمله بعد أن رفض البابا
منحه الغفران، وأبلغه أن توبته لن تُقبَل إلا
إذا اخضرَّت عصا الصولجان التي يمسك بها
وأورقت وأزهرت. يقف
تانهويزر وسط الوادي مناديًا الربة فينوس
التي ما تلبث أن تلبِّي نداءه وتقبل نحوه في
صحبة حورياتها لاصطحابه إلى مدينتها. عندها
يصيح به فولفرام قائلاً: "عد بحقِّ
إليزابيت التي ضحَّت بحياتها من أجلك، ولا
تستسلم لفينوس." في اللحظة التي يتردَّد
فيها اسم إليزابيت تتشقق الأرض وتبتلع فينوس
وحورياتها. وحين يهلُّ موكب جنازة إليزابيت
في الصباح يسقط تانهويزر فاقداً الحياة. إذاً في أوبرا الهولندي
الطائر نجد أن من يضحِّي بنفسه هو سينتا.
أما في أوبرا تانهويزر فإن من يضحي بنفسه
هي إليزابيت. وهذا يذكِّرنا في أوبرا بارتسيفال
بكوندري التي توازي مريم المجدلية في السيرة
المسيحية. لكن الإنجيليين يروون لنا أن مريم
المجدلية كانت أول من عاين قيامة المسيح؛ كما
نتذكر في موضع آخر في الإنجيل قول يسوع: "أنا
القيامة والحياة." لقد كانت مريم المجدلية
في السيرة الإنجيلية أول من حقق هذا المبدأ،
أول من عاين هذه الرؤيا، فحُقَّ لها لقب "رسولة
القيامة". أما في بارتسيفال فإنها
رسولة الكأس المقدسة. فعندما حقَّقت مريم
المجدلية هذا المبدأ وعاينت الرؤيا فإنها كان
قيامة لها أيضًا؛ لذا فإنها تمثل أيضًا
الصليب وتضحية الأنثى، المرأة المخلِّصة في
سبيل الإيمان وخلاص الإنسان من اللعنة التي
كرَّست سينتا حياتها في الهولندي الطائر
لتخليص الإنسان منها، وكذلك إليزابيت التي
قدمت حياتها قربانًا في سبيل ذلك. إذن، فإن دور الأنثى
المخلِّصي هو ضرورة قصوى في سيرورة الإنسان
التطورية على الدرب الضيقة والصاعدة نحو
تحقيق المبدأ الأسمى والرمز الأعلى لكلِّ طهر
ونقاء. أما في أوبرا لوهينجرين
فنجد أسطورة إيروس تتشكل على نحو أغابي، أي
يحلُّ مكان شخص إيروس لوهينجرين ابن
بارتسيفال، أحد فرسان الكأس المقدسة الذي
يستقل القارب الذي يتهادى به مبتعدًا عن
الشاطئ حتى يتوارى عن الأنظار بعد كشف حقيقته.
فالأوبرا تستعرض وصول لوهينجرين ممثل الكأس
المقدسة، ثم عودته من حيث أتى، دون ذكر سبب
تركه لها أو الإشارة إلى تعرض الأعداء
الأشرار له وتعكيرهم صفو حياته. يقول فاغنر نفسه في شرح
شخصية لوهينجرين: إني
أعترف الآن بأن لوهينجرين يشبه الشخصية
التراجيدية الحقة الوحيدة التي تكتسب في
عصرنا الحالي أبعاد شخصية أنتيجوني عند
الإغريق في عصرهم. وأنتيجوني هو رمز التضحية
بالحياة المريحة في سبيل المبدأ الذي يؤمن به
المرء. إنها القائلة: "ولدت لكي أحب، لا لكي
أبغض." أما المرأة سينتا فهي التي تتعلق بها
الآمال، والتي تنبض بالأنوثة الأبدية
والوفاء، لكنها لم توجد بعد. ملاحظة أخيرة لاختتام هذه
الخواطر المتواضعة. جاء في نص مقبوس عن أحد
المراجع ما يلي: قال
الحكيم: في الإنسان سبع طاقات رئيسية. ثلاث
منها هي الدوافع البيولوجية، وتتركز في القسم
الأدنى من الجسد، كالمعدة وعضو التغوط وعضو
التناسل. وتُعتبَر هذه الطاقات الثلاث السفلى
جاذبة للإنسان إلى الأدنى، إلى المادة، إلى
الانفعال، إذا أساء استعمالها. وهناك طاقتان،
هما الدوافع النفسية في الصدر، وهما القلب
والرئتان. إنهما مركز الانفعال والعاطفة
والألم والفرح والمحبة والغبطة. القلب يخفق
والصدر بكامله يعلو ويهبط في حالات عاطفية
عديدة. وتُعتبَر هاتان الطاقتان نبيلتين
تجذبان الإنسان إلى الأعلى؛ لكنهما تجذبانه
أيضًا إلى الأسفل. ففيهما يتأرجح الإنسان بين
العقل والغريزة. وهناك طاقة تتركز في قاعدة
الدماغ ورأس النخاع الشوكي، وهي القاعدة
العقلية التي تساعد الإنسان على التفكير.
وتُعتبَر هذه الطاقة خيرًا لأنها لا تعمل إلا
في الهدوء والتأمل والتفكير؛ وفيها يكون
الإنسان فاضلاً ورصينًا. وهناك طاقة أخيرة هي
في الأماكن الحساسة العليا من الدماغ؛ وفيها
يكون الإنسان حكيمًا وروحانيًّا وسماويًّا. ***
*** *** المراجع
-
خياطة، نهاد (إعداد وعرض)، الدين
في منظور يونغ، فصلت للدراسات والترجمة
والنشر. -
داكو، بيير، من السجون إلى
الحرية، بترجمة سامي علام، دار الغربال. -
عكاشة، ثروت، موسوعة
الموسيقى: فاجنر، الوطن العربي. -
كامبل،
جوزيف، قوة الأسطورة، بترجمة ميساء وحسن
صقر، دار الكلمة. -
اليازجي،
ندره، الأعمال الكاملة، المجلدات الثاني
والرابع والخامس، دار الغربال.
|
|
|