|
لو نهدأ!
ضجيج
يذهب به صداه
حياة
أبو فاضل
ضجيج
صاعدٌ
كالبخار فوق ماء يغلي، فوق سائلٍ تحته نارٌ
تخضُّه، تؤرْجِحُه، فيسحبه الفضاءُ، ثم
يمحوه، ليترك مكانه لضجيج آخر في رحلة لا
تنتهي أبداً... ونخلع
على هذا الضجيج ما يزيِّنه ويجعلنا نعجب
بنسيج أفكارنا: الحرية، التغيير، القرار
المستقل، المعارضة، السلطة، الزعامة...
وتتحول الشعوب إلى ما يشبه أعضاء في نوادي كرة
قدم أو كرة سلة أو مطلق كرة. شعوبٌ تتقاتل
لتحمل متنافسين إلى مراكز سلطة تَوالى عليها
كثرٌ جاء بهم ضجيجٌ مماثل، وزالوا، وما رفعوا
زيراً من بئر، بل وقعوا في عشق صدى أصواتهم
ورحلوا. لولا
هذا الضجيج لصدرتْ جرائدُ الصباح بيضاء لا
تحمل سوى أسمائها وتواريخها، ولأقفلتْ كلُّ
وكالات الأنباء مكاتبها، ولاقتصرتْ برامجُ
التلفزيونات والإذاعات والفضائيات على بثِّ
الأغاني والمسلسلات، ولضاع علينا الفكرُ
السياسي البنَّاء النيِّر لكلِّ من جلس على
كرسي فوق هذا الكوكب، ولتوقَّفتْ الحروب،
ولعرف حتى شارون وكل قبيلته أن آخر اهتمامات
الخالق اقتطاعُ جزءٍ من الكرة الأرضية ليهديه
إلى شعب لم يخترْه، بل هو اختار نفسه عدواً
للحقِّ والخير كي تستمر لعبة الضجيج. ولولا
هذا الضجيج لما نبتَ الرئيس بوش، قائد الكوكب
اليوم، بكلِّ عمق تحليله للوجود، وبكل براعته
في قيادة الأرض إلى مزيد من الصخب الأحمق. وهكذا...
من شارون، إلى بوش، إلى آخر رئيس بلدية في آخر
قرية من لبنان أو غير لبنان، يبقى الضجيجُ
المستبد سيِّد الموقف. فهو المرافق المخلص
لكلِّ سلبيات الوجود على مرِّ التاريخ. وهو
المحرِّك الأوحد لما نسمِّيه الحياة
السياسية، حيث ينبت الإنسان العادي البسيط،
فيصعد على كتفيه أبناءُ الطموح السلطوي
ليتحوَّلوا إلى كل أصناف الحكام وأصحاب
الكراسي والنفوذ، ويبقى الزير في البئر على
مر العصور. كل
هذا الضجيج ليسير القطارُ إلى أين؟ فالتطور
البنَّاء للإنسان في مسيرته الطويلة لا يتعدى
مساحات العلوم والتكنولوجيا والفنون الجميلة.
وبقيتْ مساحةُ السياسة تحمل بدائية البدايات، ليس فقط في
لبنان، بل فوق كل بقعة أنتجتْ قبيلة، ثم مدينة، ثم
دولة، ثم إمبراطورية، زالت جميعاً، وأتى غيرُها وزال. فما
يأتي به الضجيج يذهب به الصدى... *** لو
نهدأ قليلاً ونوقف تمثيل هذا الفيلم الطويل
المضجر. نراوح مكاننا ولا ينقذنا من
سطحيَّتنا، لا ادعاؤنا الضاجُّ بعشقنا لما
نسميه الحرية، ولا أسلوبنا في السباق الراكض
للظهور على أرض المشكلة كلَّما خلقنا مشكلة.
طالت الحكاية، ومن له ذاكرة سليمة يصاب
بالقرف! العارف
يعرف أننا بنينا وطناً على رمال مصالح عائلات
طائفية إقطاعية، يموج مع تموِّج مصالحهم. لذا
لا وطن حقيقياً لنا. فكلُّ مواطن منا مظلوم
إلى أبعد من إقفال تلفزيون أو إذاعة أو جريدة
– ولسنا في حاجة إلى سرد مئات البراهين. مظلومون...
ولا يرفُّ جفنٌ لنائب أو لمسؤول. فالشعب قطيعٌ
لزعماء لا همَّ لهم سوى الحفاظ على حجم سلطتهم، وعلى تأمين موارد دائمة لثرواتهم.
ويعرفون متى يحكُّون على الجَّرَب، ويصيحون
في خبث كلما اهتزت الأرض من تحتهم، مدافعين عن
الحرية، وهُم في الحقيقة يدافعون عن مكاسبهم،
القدامى منهم والجدد. جيل
الشباب المهاجر هاربٌ من قبضتهم لأنهم قطعوا
عنه الهواء والأمل. لا مكان لسواهم على شاشات
ليتها تنطفئ، ولا نسمع سوى تصريحاتهم على
صفحات ليتها تنام – ذلك أن إنجازاتهم
السياسية لا تتخطى الظهور الإعلامي الزائف. مراهقون
في أدوار ناضجين، كلُّهم – الـ"مع" والـ"ضد"
– في وطن أحرقتْه حروبُهم ومقامراتُهم
بأرواح الناس ومستقبلهم، ويستمرون في عبثهم
الدائم بمصير شعب لا يعثر على دقيقة هدوء
واحدة يستفيق فيها من كابوسهم. قرار
إقفال الـMTV
وإذاعة الجبل ليس بكارثة، رغم كل ملابساته.
الكارثة: هذا التكرار العقيم المميت لأسلوب
لا يتبدل في ممارسة الحياة السياسية. لو
نهدأ قليلاً ونقفل كل وسائل إعلامنا إلى أجَلٍ
بعيد، وخارج سلطة جوقة السلطويين –
موالين ومعارضين بلا استثناء – نجلس ونضع
دستوراً لوطن جديد، بفكرٍ نزيه سليم، لا يحمل
جراثيم الأطماع والطائفية والنفاق. لو
نهدأ قليلاً لنستفيق... ***
*** ***
|
|
|