|
الشاعر
والقارئ وما بينهما*
أنسي
الحاج
تلقيت
من الآنسة حياة أبو فاضل (برمانا) الكلمة
الآتية حول ديواني الجديد ماضي الأيام
الآتية: "أجمل وأغرب ما
اخترع الإنسان: الزمن. الزمن جميل لأنه
يغيِّرنا دون أن ندري. وهو غريب لأننا دائمًا
نكتشف كم كان مؤلمًا الحاضرُ الذي أصبح
ماضيًا، بينما كنا نظنه يغصُّ بالفرح. وأنت
كتبت عن الماضي. وكل ما كتبت معمَّد بالجراح،
لكنه يعزيك لأنك تحوِّل الألم إلى شعر وتجعل
الماضي، بكلِّ ما فيه، أغاني حلوة تحبها. المرأة سبب الألم
عندك. المرأة أو: الجنس. امرأة واحدة قتلتْك
بحبِّها، فانتقمت منها، وتنتقم منها، في كلِّ
حب جديد. وماذا تصنع بكلِّ امرأة جديدة؟ تحبها، ثم تتعذب من
أجلها؛ ثم، بكلِّ بساطة،
تصنع منها شعرًا تقول لها فيه أنها ليست هي
التي تحب بل الأولى. وكم يكلفك هذا القول
عذابًا! وتفتش عن أخرى... أو تأتيك أخرى...
تختارك هي. وأنت مستعد للتجربة الجديدة
دائمًا. لكنها بالنسبة إليك ليست جديدة
تمامًا لأنك في الحقيقة تحب واحدة فقط، وهي
تحبك وتحب غيرك. للوهلة الأولى
حسبت أن الزمن في ماضي الأيام الآتية يقتل
الحب. ثم علمت: الزمن لا يقتل الحب ولا يغيِّره!
يغيِّرك أنت ويجعل حياتك أغنى كلما انتقلت من
امرأة إلى أخرى: أغنى بالذكريات. لأن الحاضر
والمستقبل يصبحان من الماضي عند كلِّ غروب.
وأنت عندما تحب أكثر من امرأة في وقت واحد لا
تشعر أنك مخطئ، لأنك ملك نفسك وحدها. أحببتُ شعرك لأنه
انفلت من قلبك بحرية. كما أنني استطعت أن
أفهمه على طريقتي، بحرية. وقد تضحكك طريقتي
لأنها قد تكون من نسج خيالي. لكن هذا لا يهم. لو
لم يدع لي شعرك فرصة فهمه كما أحب لرميت
الكتاب إلى الصخرة البنية تحت بيتنا. (كنت
وأنا صغيرة أحمل إليها لعبي المكسَّرة؛
وعندما كبرت صرت أرمي إليها الكتب التي لا
تعجبني وقناني العطور والهدايا والأصداف
والأشياء التي يموت فيها الحب.) هل يموت الحب؟ لم
يمت حبُّك لداناي، لأنك كنت تعلم، حتى وهي بين
ذراعيك، أنها ليست لك وحدك. وعندي يموت الحب
وأبكيه. وفي كل مرة يولد من جديد. قلت إن أجمل
وأغرب ما اخترع الإنسان هو الزمن. الحب أجمل
وأغرب من الزمن، وليس عندي ذرَّة شك أننا
نخترعه لنتسلَّى." تعيدني هذه
الرسالة إلى الظاهرة المزدوجة، الأليفة في كلِّ
شعر، المرافقة لكلِّ أثر فني: وهي كيفية
النظر إلى الشعر أو إلى الأثر الفني. كيف ينظر الشاعر
إلى شعره وكيف ينظر القارئ. إنهما يختلفان؛
ولا بدَّ أن يختلفا. "استطعت أن
أفهم شعرك على طريقتي، بحرية..." هذا هو حقُّ
القارئ، وهذا امتيازه. عندما أصدرت لن،
ديواني الأول (عام 1960) تألمت لأني قلت شيئًا،
ومعظم مَن أحَبَّ الديوان أحَبَّه بمفهوم
يختلف عما كنت أريد. كذلك معظم من كرهه. مازال يحدث لي
ذلك كما يحدث لغيري. فدائمًا هناك أغلبية
تفهمك كما هي تريد، لا كما أنت تريد. الشعر، ما إن
يخرج من يدي صاحبه، حتى يغدو بلا حماية. كل
قصيدة هي قاصرة تبلغ رشدها في إحساس كلِّ قارئ
على هواه وفي ذهن كلِّ قارئ على حسب غايته مما
يقرأ. الشاعر لا يستطيع شيئًا حيال ذلك. فشعره
يتمرد عليه إذ يصبح مشاعًا للعيون. وأن يفهم كلُّ
قارئ الشعر على طريقته، بحرية، هل يتيح نسج
خيوط الطريقة الفضلى لفهم هذا الشعر الفهم
الأفضل، مهما تعقدت عملية النسج ومهما
استطالت؟ هذا هو بعض أمل
الشاعر. وحياله لا يملك
إلا أن يقف أمام شعره وقارئ شعره مكموم الفم،
مربوطًا إلى شجرة التفرُّج العاجز. ***
*** *** *
كل الامتنان للصديق الشاعر جبران سعد على
استخراجه هذا النص (الذي نُشِرَ أصلاً في
عدد 5 أيلول 1965 من جريدة النهار) من بطن
كتاب أنسي الحاج كلمات كلمات كلمات.
حياة أبو فاضل التي اقتطع الحاج من رسالتها
إليه هي حاليًّا فرد في أسرة تحرير معابر.
(المحرر)
|
|
|