|
الشَّيْطَانُ
الرَّضِيعُ
(المَوَاقِفُ
والمُخَاطَبَاتُ)
أسعد
الجبوري
(الليل) مَرْكبٌ
مُنفرِطٌ وجهُه، والكآبةُ
عليهِ مياهٌ بقوائمَ
من زجاجٍٍ تثبِّتُه، ولا
مسلَّةَ لحكمةٍ من جيلِ المصابيحِ. يُسبِّحُ
بشعوبِه متأسِّيًا وماؤهُ
يتأرَّقُ في سرِّي. أمسَكَني
في موقفِ الليلِ مُختالاً.../ وقال: "النظراتُ
أنهارٌ أصدافُها
خطواتي. وما
أنا إلا رضيعُ شيطانٍ ينشرُ
شهوةً على حبلٍ لا ينقطع. تشرَّبتُ
بالحمَّى حتى
سطوعِ الذئابِ في العيون." سألتُه:
"كيف السؤالُ في الوجهِ يتخندقُ، وما
من مُقيمٍ ببريدهِ غيرُ الظلام؟ وقلْ
لي: كم
يبلغُ النومُ عمقًا في الدميةِ؟" فردَّ
هامسًا: "الليالي
طوابُعُ غرقى في الحواسِّ، والعقلُ أتلفَ
مقاماتِه." (2) يخرجُ
من فانوسهِ السحريِّ مُتعقِّبًا
أرانبي بين الأزياء. سمعتُ
تغريدَهُ موصولاً بشَغَفي تربةً
مُكهربةً. تلمَّستُ
قاعَه بحَجَرٍ من ياقوتي. ويومَ
تعاظمَ رصيدُه بصدري تعلقتْ
بخصري يدُه في موقفِ الرقص.../ وأدخَلَني
في ظلِّهِ قائلاً: "ستعيدُ
الموسيقى للسِّيقانِ أبصارَها." أجبتُه
وزلزالٌ يُوجِزُ قامتي: "وأين
منِّي هوًى يشعُّ ليحرِّكَ
القرابينَ من سُكَّانِ الألبوم؟!" فردَّ
وهو يشطبُني بكمنجةٍ: "الرقصُ عيدٌ بلا
تكاليف." (3) الكتابُ
البابُ. الشهوةُ
الهواءُ. والمواليدُ
جسورٌ تحتشدُ
في القاماتِ خسائرُها. ما
من راعٍ فيهِ لخيالي. ولن
تستقيمَ حروفي إلا في آنيةِ سُطورِه. هو
موحِّدي في نارِه ووحدةٍ
جامعة. هو
قاتلُ الجفافِ في مفكِّرتي، وإعلاناتُه
تحتَ أجفاني تصخبُ. مرَّ
بأعمالي ملقيًا
مرساتَه بصوتي، صيَّرني
رَذاذًا. وحين
صادَرَ منِّي الشفتين في موقفِ الرغبة.../ ذابَ
قائلاً: "القُبَلُ
تمارينُ اللغاتِ، لا
تتركُ وثاقًا دونَ أن ينفكَّ من قاموسٍ أو
ماراثون." فأخبرتُه
عن شأنٍ يخصُّ مرآةً، كلما
مررتُ بها، وجدتُها
مكدَّسةً بأطلال. فردَّ
عليَّ هامسًا: "لا
تمرضُ القُبَلُ قبل أفولِ العاشقين. فليكنْ
فمكِ للفوانيسِ مأوًى." سألتُه: "وحيرتي
المزروعةُ صفصافةً على الطريق؟!" قال: "اتركي
العقلَ مُسجًّى تفترسُه
الريحُ." (4) من
هاويةِ الوقتِ وحتى
تلالِ الصِّفر، العدَّاءون
يقطعونَ الخداعَ الطويل. المؤلِّفون
في منامةِ الفلسفةِ حطبًا
للثرثرة. الزارعون
الغيثَ في خطواتهم يحملونَ
سككَ الحديدِ في السلال. المورِّثون
بجيناتِهم للأوراقِ آخرَ الليل، تنتفخُ
بهم بطونُ الخرائط. فيما
رأيتُه في موقفِ الباصِ منتظرًا.../ وهو
يتمتمُ بصوتٍ خفيضٍ لهُدهُدٍ من
مواليدِ النهاوند: "القدمُ
العاريةُ نسخةٌ من التِّيهِ. وما
من دابَّةٍ ستصلُ أو باص." فأبكاني
في خطوتي سريعًا، وسرَّحني
من خدمةِ الطريق. (5) يخرجُ
الصمتُ من المحبرةِ، ويبقى
الصامتُ مُعتَّقًا فيها شجرةً
قديمةً للاغترابِ. سألتهُ
عن الرَّاحلِ والرَّحيلِ، فاستخرجَ
مني نزهةً له في موقفِ الكينونة.../ مستوضِحًا
جريدةَ فمي بنارِه. تخيَّلتُه
قيصرًا يخوضُ
في حروبِ الأصوات. لكنه
استدارَ نحوي لامرئيًّا وقالَ هاتفًا: "وما
جئتُكِ إلا قاطفًا لوردةِ السكونِ المهشَّمة." فأرخيتُه
على صدري رضيعًا، تتبخَّرُ
منهُ هوامشُه. آنذاك، استطالَ
نَمِرًا في أناشيدي الثقيلةِ بين
قبائلِ البرق. وكانَ
عشبي بين يديهِ يتقطَّع. (6) بلدانٌ يُقشِّرها
حلاقون. بحيراتٌ،
أنقاضٌ، والحنينُ
عَلَمٌ مجرور. عنادلُ
تحتَ السديم. فاكهةٌ
على سريرِ الإعدام، وأنا
– وكلما التجأتُ إليهِ وجدتُه
يُشعلُ نارًا في متحفِه. حولَهُ
ذئابٌ مُتجمِّدةٌ تُصغي
لرعبٍ كانَ من رأسهِ يتدلَّى. فأخذتُه
من يدِه وبسطتُها في موقفِ السِّلاح.../ سائلةً: "إلى
أي حربٍ تتَّجهُ يا حبيبي، والموتُ
صرخةٌ تبدِّد الكثافة؟" فأجابَ
بصوتٍ مُتبَّلٍ بالحشرجة: "ما
أصابعي بمزرعةٍ للمخالبِ، وليس
وقتي بحديدٍ لتُطرَقَ منهُ السيوف." (7) سؤالي
له يدٌ
مقطوعةٌ في فخٍّ. وكنتُ
أراهُ على جسرٍ يُبعثِرُ
أفلاكَهُ وأملاكي. فقطعتُ
به نفسَهُ في موقفِ الصحراء.../ مغنِّيةً: "يا
من هيَّمني بهِ الوردُ، وأراهُ
خلفَ عطرِه ماشيًا في ذبول، "كم
من المراتبِ تقطعُ في الرحيق؟" فاستدارتْ
رأسُه هاتفةً: "لا
نصرَ إلا الماء، ولنا
منه في اغترابِنا مخطوط." (8) روزنامةٌ
معلَّقةٌ تَصفَّحَها، فوقعَ
عليهِ حائطُ الخلود. دخَّنَ
بعضًا من سحرِه وصاحَ: "هو
ذا موقفُ الزمن.../. الهواءُ
ذيلٌ في نهايةِ الأرض. الحبُّ
كرسيٌّ مهجورٌ في مرآة. ونحنُ
الهديلُ الذابلُ في النوتةِ غرقى
سائحون." سألتُه: "وأين
نوحٌ ذو خصلةِ الشَّعرِ المعدنية؟" فردَّ
مُسرعًا: "السيِّدُ
في شبَّاكِ التذاكر يقطعُ الغراماتِ لنزلاءِ الطوفان." (9) الأشجارُ
المتوعِّكة آخرَ النهارِ قد
تبتسمُ للقمرِ بأهدابها. وغدًا وجدتُه
في موقفِ الفلكِ يمشي ملتجئًا.../ ومنه
أعيادُه في الغروب. أرضُه
طبقُ جَمْرٍ وعليهِ
ثمرةٌ واحدة. قطفتُها
وسألتُه عن برجه. فقال
مُتجلِّيًا: "من
عائلاتِ النخيلِ، من
عقيقِ الصَّخر وأضرحةِ العنادلِ، من
عرْي خمورٍ لا
تُطفئ مصابيحَها في الأجسادِ، من
نطفةٍ لطَّختْ ثوبَ الشيطانِ بالحبرِ، من
أرجوحةٍ طارتْ بمجهولي، فأماتَها
ملوكٌ ولدوا من أرحامِ نملٍ
وسيوف. برجي
الكهولةُ الحاكمةُ، حيث
لا مجدَ لرسالةٍ أو لرسولٍ، ولا
مهنةَ لربَّانٍ إلا في حويصلةِ طاحونة. ألم
تنظري فيلةً تخوضُ في الدماغ؟! ألم
تلمسي أرتالَ غجرٍ يُعمِرون
في الألبوم شققًا تتمزَّقُ
بهم بَعدَ الغروب؟! ألم
تهتدي للطريق الميتافيزيقي، حيث
تخلدُ التماسيحُ في المخادعِ ترقُّبًا
للَمْسَةٍ أو صيْدٍ؟ هو
ذا برجي! سكَّانُه
جَرادٌ للنسيانِ وتأوُّهاتٌ
للطوارئ." (10) مصابيحُ
غائمةٌ، شوكُ
علاماتِ الاستفهام، خيولٌ
على الجلدِ، ونباتاتٌ
تُكرِّر ثمارَها في عيونٍ سحيقة. أسئلةٌ
شاهقةٌ على الوجوهِ، ولؤلؤٌ
بِلونِ الكتابة. كنتُ
أسألُهُ في اللامكان، وكان
يصيدني في اللازمان. يبني
أيامًا بين الأدغال لينتسبَ
لرائحةِ أحلامِه بين الأصابع. هو
الذي طيَّرَ منِّي سنونواتي وأدخَلَ
رأسي في موقفِ الساعة.../ هو
الذي راحَ يجتاحُني، فمرَّ
عليَّ بأخبارِه قوافلَ تجرُّها
أحصنةٌ ممزَّقة. هو
الذي يغلقُ أزمنتي بهجراتِه. هو
الذي، إذا ما أتى، يجعل
الماءَ مقروءًا بصدري. وإذا
ما فرَّ من سبُّورتي يتركني
مِدخنةً من طابقين. (11) ارتعشتْ
– بعد توقف كبير – زواحفُه عن
النزهةِ. غطَّى
جسدي بأنفاسِه في موقفِ النوم.../ وقامَ
ساهرًا يهذي: "يا
لانومي... يا لانومي... يا
كنغرَ يَدسُّني في جيبِه، قافزًا
بي موانعَ الذئاب." فخفتُ
عليه من تبدُّدِه. صاح:
"لا! أنا
حارسُ أحلامِكِ من كلِّ افتراسٍ. فنامي
لأجلي قليلاً قبل
سقوط ستائر العيون." سألتُه: "وأين
نائمُكَ يقضي وقتَه؟" فردَّ
خافتًا: "متى
انخرطَ النومُ بالجيشِ صارَ مدفعًا يناوبُ في
الأعداء." (12) عيناهُ
الطويلتانِ خسرتُ
على حدودِهما وقوفي. كنَّا
غسقًا. وقبل
أن يُطلِعَني على مخاضٍ في
ساعتِه المُعطَّلة، هزَّني
صوتُه في موقفِ البُعدِ موضِّحًا.../: "تقدَّمي
أيامَكِ، ولا
تمشي خلفَ نعشِها. فما
من حنينٍ إلا ويَبردُ ترابُه." سألتُه: "وغيابُكَ
المنتحبُ عليك؟!" فردَّ
متمتمًا: "سيسقطُ
ذاتَ يومٍ تاجُه، وأصيرُ
من ترابِ المصابيح." (13) القطارُ
وصل. المهرِّبون
رَمَوا الحقائبَ. وخرجتُ
عليهِ بكاملِ أثاثي. فنظرَني وهو
يُكملُ إعرابي في موقفِ السرير.../ هامسًا: "كلما
مررتُ بخطِّ الاستواء، وقصصتُ
شريطًا لنبعٍ هائجٍ منكِ يخرجُ
تنينٌ ليقضي عقوبتَه في
حواسِّي." سألتُه:
"وماذا بعدُ؟" فردَّ
وهو يقرأ صحيحَ جلاتيني: "ما
أجملَ تأوُّهَ الكهرباءِ بعد
سقوطِ الأعمدةِ في الوادي العميق." (14) لم
أعرفْ رقصتَه في ذلك القفصِ. ومع
اشتعالِه هناك راسَلَ
ذاكرتي في موقفِ التاريخِ مُقوِّضًا.../ فرفعتُه
حطامَ رؤيةٍ، وأنا
أقولُ في خلدهِ: "رأيتُ
في البستان تمثالاً يُدخِّنُ أركيلةً، وصولجانٌ
في يدهِ يهشُّ
به على أساطيلِ الدَّواب." فأجابَ
مُقطَّعَ الأنفاس: "هو
ذا التاريخُ، ويصنعُ
منَّا لنارِه الكفرَ والأعلاف." فأبكاني. وقبل
أن يدخلَ في العناقيدِ، ذكَّرَني
ساخرًا: "التاريخ
لا يُمحى، بل
يُلامُ بسكرةٍ تمدُّ عنقَها في
فوهةِ التأليف." ورأيتُ
فيهِ ما لم أرَ على سبُّورتي، حيث
الغروبُ كانَ يتدلَّى، وحيثُ
الماءُ في نومِه مع شهوةِ الريحِ. (15) الاختناقُ
والذبولُ، المُقَلُ
البريَّةُ وسفنُ الظلِّ، تداعياتُ
الأحلامِ والأسئلة. تركتُ
لهُ المرآةَ علبةً فارغةً، فغطَّى
بقرابيني خيالَه في موقفِ الغواية.../ مُندفعًا، وراحَ
يتلو النشيدَ تلوَ النشيدِ. فسألتُه: "أما
مررتَ على طريقِ الحريرِ؟ وهل
أتاكَ الشوقُ منِّي بسَطْوٍ مسلَّحٍ؟ ولِمَ
لا يوصَفُ الحبُّ بغير النار؟" فتجمَّعَ
كلُّه نهرَ ألماسٍ على صدري، وتمتمَ
وهو يُفْرِط في تدقيقي قائلاً: "ما
من حَطَبٍ بمجيب." (16) النهارُ حيوانٌ شعبيُّ، والظلامُ
مُصَفَّحةٌ يُحتسى فيها
الوطنُ. سألتُه: "أكان
دارْوِن جيولوجيًّا بترخيصٍ؟" فأخرجني
من كهفي في موقفِ الصِّراع.../ وقال: "لا
حيَّ في الوهمِ إلا "جوكر" الإيهام. وكلُّ
مؤدلَجٍ سينتهي بشرابِه المُسلَّح." (17) هذا
المأخوذُ من نغمتِه لأعالي البحارِ، هذا
القوتُ الميلودراميُّ، ومنه
تُستحضَرُ الأرواحُ وتُشتَقُّ الشهواتُ
لتكونَ فوق أشجارِه كرزًا. هذا
اللاجادُّ يمسحُ
سِنَّ الرُّشدِ عن منقولِ النصوصِ وثوابتِها. وجدتُ
ليلَه مُسجًّى أمامَه في موقفِ الضَّجر.../ فهرعتُ
أُفرغُه من كأسِه مُعزِّيةً: "أما
آنَ لِلَيلِكَ أن يُشفى من حمَّى الرَّجَزِ؟" فردَّ
على حماستي قائلاً: "ادخلي
قائمَ زاويتي لترجمةِ الألواحِ. فما
كلُّ ضجران آخرَ الليلِ بمتأسٍّ." (18) وحين
لمستُ هَواهُ ممدَّدًا على مرآةٍ كان
يتنفَّسُ ظلالَها، ألقيتُ
بفستاني عليهِ في موقفِ الذهول.../ فتحرَّكتْ
أركانُه هامسةً: "الهوى
أرملُ بما فيه، وله
في كلِّ يومٍ ضريحٌ جديد. فخذي
نحيبَكِ عنِّي كي
لا يستطيلَ حولَ قُبَّتي نخلاً. فما
أنا إلا وردةٌ كسرتْ
إناءَ شهوتِها لتهربَ من
مشانِقِ الغصونِ." وقد
رماني، وقد
رميتُه. ومن
قدِّنا الواحدِ توهَّجَ فانوسُ علاءِ الدين. (19) أكانَ
الطوفانُ موحِشًا؟ وأين
تُخفي القواربُ شيخوخةَ البحار؟ قال:
"انظري في موقفِ الإقامة.../." فلامستُ
وجهَه ونظرتُ خريطةً مؤلَّفةً
من صفناتٍ. مسكتُ
فيهِ حبرًا من البياضِ يفيضُ. آنذاك، انخفضتُ
في حيرتي فيهِ، وسألتُه
عن الرَّاحلِ والرَّحيلِ. فقال
لي: "كلاهما
تفاحتانِ على بابِ الجاذبية. "وأنتَ؟!"
أردفتُ. فقامَ
أمامَ الأحلامِ ذاهلاً وبكى أكواخًا مهجورةً هناك. (20) الوطنُ هُرمونٌ يجفُّ. قال
لي وهو يُخرج بلدانًا من خرائطِه في
موقفِ الحنين.../: "لِمَ
ذاك الترابُ تعلَّمَ حرقَ أصابعِنا بالأسيد؟! أهي
العادةُ أم التفنُّنُ بالتعاويذ؟ أهو
السيفُ فحسب، ومقامُه
الجماجمُ أرشيفًا وسلطاتٍ وحذاءً
في صحارى الفعلِ والقول والسَّريرِ؟" ناديتُ
عليهِ – وكان
مُجَغْرَفًا بالقطبين: "الوطنُ
منفاكَ، أم
منفاهُ أنتَ؟" فردَّ
قاطعًا: "ليس
قبلَ العراقِ، ليس
بَعدَ العراقِ غير
أوطانٍ لهجراتٍ تنتفخُ بها بطونُ
الخرائطِ والعقول." و... حيَّاني
ومشى مغدورًا فيه بين الأقاليم." ***
*** ***
|
|
|